رحلة سبستياني

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي

رحلة سبستياني

المؤلف:

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٦

وفي اليوم التالي وصلنا الى قومجصار (١) Coccessar ، وهي مدينة كبيرة قائمة في السهل ، في الجهة المقابلة لماردين. هناك يرى الزائر اربعة اديرة كبيرة لكنها متهدمة ، وتستخدم الان كمساجد وقد احتفل المسلمون هنا بحلول نهاية رمضان (عيد الفطر) فاخذوا يلعبون ويتسابقون ويرمون الرماح الطويلة وهم يطاردون الريح على خيولهم ، ثم يتناولون الرماح من الارض وهم راكضين.

مكثنا هناك يومين ، اذ كنا ننتظر بغالا محملة بالبضائع متجهة الى ماردين ، وحدث في تلك الاثناء ان مات تحت انظارنا احد افراد القافلة ، وكان ارمنيا ، لكننا لم نكتشف نصرانيته الا وبعد وفاته ...

اتفقت مع احد المسافرين ، وكان ارمنيا ، ان نسافر سوية الى بغداد بواسطة النهر وذلك بعد ان نبلغ الموصل ، واسم الارمني اراكيل (٢) Arachel وهو من قرية جلوسانوفا (؟) Ciolsanova وكان شابا طري العود ، غنيا ، وكان يقصد اغره Agra في الهند (٣) يرافقه رجل ارمني اخر ، حلبي الموطن يدعى مرادAmurat كان يطيب له ان يسير برفقتنا ، وفي كثير من الاحيان كان يترك خيمته ليأتي عندنا ويحاول التحدث معنا ، اذ كان يرغب في تعلم اللغة الايطالية تكلما وقراءة ، وقد اظهر اجتهادا ملحوظا واستفاد من اختلاطه معنا ...

كانت المحطة التالية قره دره Caradera (٤) ومن ثم نصيبين Nisibi وموقع هذه المدينة جميل ، هناك رأينا كنيسة للارمن جميلة البناء ، فيها ضريح

__________________

(١) قوج حصار ذكرها الحموي في معجم البلدان ٢ / ٦١٢ قال «.. من نواحي الجزيرة قرب ماردين بينهما فرسخان ..»

(٢) الاسم ارمني تفسيره (المبعوث» ، ولا يزال الارمن يتخذونه اسما.

(٣) مدينة في الهند على نهر جمنة معروفة بثقافتها الاسلامية ، فيها جامع تاج محل الشهير.

(٤) هكذا وردت التسمية في «نشوة المدام في العودة الى مدينة السلام» لابي الثناء شهاب الدين محمود الالوسي ص ١١ (بغداد ١٢٩٣).

٢١

كبير من الرخام الابيض ، قيل لنا ، انه يضم رفاق القديس يعقوب النصيبي (١) ورأينا كتبا مقدسة ، لكن الدود كان قد عبث بها فخرمها. ولم تكن تقام المراسيم الطقسية في الكنيسة على الدوام ، وكان الارمن واليعاقبة يتناوبون في اقامة الطقوس فيها. وفي فناء الكنيسة قبور لثلاثة مرسلين (اوروبيين) توفاهم الله اثناء مرورهم بهذه المدينة.

ان مياه هذه المدينة غير مستساغة ، بالرغم من ان جداول عديدة تمر في أراضيها وتسقي حقولها ومزارعها.

في الثامن والعشرين من تموز مررنا ب «ملالي» Malali وفي التاسع والعشرين قدمنا الى قنجا (؟) Cangia وفي اليوم التالي نزلنا في البرية ، وكان الماء قد شح ، وهذا القليل كان عفنا فقد جمعناه من حفر آسنة ، فحاولنا تصفيته ... في صباح اليوم التالي مررنا بقلعة متهدمة ، اسمها ـ ان لم تخنني الذاكرة ـ هيرناجيوني (؟) Hernagioni وكان الماء هناك غزيرا.

لقد حاول مصرف دار الاغا ان يبتز المال منا ، فتمصلت من إلحاحه متذرعا بمختلف الحجج ، خوفا من ان يقتدي به الخدام الاخرون ، ثم فكرت انه من الاحسن ان اقدم له خمسة غروش ، لانه اخذ يهدد ويتوعد ...

وبينما كنا نسير في الليلة التالية بانت امام اعيننا معالم مدينة الموصل القديمة ومحلاتها المطلة على دجلة. ولما انبلج الصبح دخلت المدينة مع قافلة اخرى كانت تنتظر قرب المدينة. فتركت «الخزنة» واصحابها في القلعة.

اما نحن والارمن وبعض انفار القافلة فقد ذهبنا الى خان كان يتولى امره رجل يعقوبي ، قدم لنا خدمات مشكورة.

__________________

(١) راجع الملحق رقم (٤).

٢٢

الفصل الثالث عشر

مكوثنا في مدينة الموصل وسفرنا الى بغداد

يمر نهر جدلة بسور هذه المدينة من جهتها الشمالية ، والنهر عريض لكنه ضحل وقد نقصت مياهه في هذا الموسم ، لانه فصل الجفاف ، ولهذا السبب لم يكن بالامكان السفر الى بغداد عن طريق النهر ، لا بالقارب ولا بالطواف (الكلك) ، ويصنع الكلك من اعواد متماسكة تشد فوق قرب مليئة بالهواء مربوطة الى بعضها بعضا.

عبر افراد القافلة المرافقون للخزنة نهر جدلة واكملوا طريقهم الى بغداد مساء اليوم التالي لوصولنا ، بينما بقيت انا في الموصل تلبية لرغبة رفيق السفر الارمني لكنني ، والحق يقال ، ندمت فيما بعد لتأخري عن تلك القافلة ، وتكبدت من جراء ذلك بعض الاضرار ، بينما استفاد الارمني لكونه تمول ببضائع كثيرة فهبطت تكاليف سفره في طريق البر.

ان الموصل مدينة كبيرة ، لكنها لا تقاس عظمة بالنسبة الى نينوى القديمة ، التي كانت ، حسبما يروون ، في الجهة الثانية من النهر ، هناك حل الشباب التقي طوبيا (١) وقد اصابها الخراب (يعني مدينة الموصل) كما اصاب مختلف المدن العثمانية ، والحقيقة المؤسفة هي ، ان الحكم العثماني اتى الى العالم لا ليبني بل ليهدم ، وقد لمست لمس اليد هذا الواقع في كل الاصقاع التي مررت بها خلال سفري ، فلم اجد مدينة تستحق الاعتبار ، الا حلب ، ويرجع الفضل في كون حلب لا تزال جميلة ومنظمة الى وجود الفرنج فيها.

__________________

(١) يشير الكاتب الى قصة طوبيا كما جاءت في الكتاب المقدس (العهد القديم ـ سفر طوبيا).

٢٣

زرت في الموصل كنيسة لليعاقبة (١) ويبلغ عددهم ٥٠٠ (نفس) (٢).

وكان مطران الجماعة الكاثوليكية غائبا عن المدينة ، فقد حدثت بينه وبين افراد ملته مناقشات ، ترك على اثرها المدينة وذهب الى ماردين.

رأيت كنيسة النساطرة (٣) ، وهي صغيرة جدا ويبلغ عدد النساطرة في الموصل نحو ١٠٠٠ نسمة. لكنهم يعدون بكثرة في الجبال القريبة من المدينة ، اذ يبلغ عددهم هناك نحو اربعين الفا ، يعيشون في مختلف القرى الجبلية ، وبالامكان اعادتهم الى احضان الكنيسة المقدسة بجهود بعض المرسلين الغيورين ، لكن ابليسا اللعين استطاع ، لسبب تافه لا يذكر ، ان يبعد الاباء الكبوشيين (٤) الذين كانوا في هذه المدينة من اجل تلك الغاية ...

كان المناخ حارا لا يحتمل ليلا ونهارا ، فالخان عبارة عن بناء مغلق ، وليس للغرفة نوافذ ، ارسلت فاستدعيت بعض اقارب سليمان وابنه ، اما سليمان هذا (٥) فقد كان احد مرافقي الاب برنارد ديستل P.Bernnardo

__________________

(١) لم يذكر المؤلف اسم الكنيسة التي زارها ، فلليعاقبة اكثر من كنيسة في الموصل.

انظر : سليمان الصائغ (المطران) : تاريخ المصول ج ٣ ص ٨٨٠٠٠ الخ.

Fiey : MOssoul Chretienne P. ٦٣١ SS.

(٢) لا نعلم ايشير المؤلف الى عدد الأنفس ام الى عدد الاسر ، المرجح هو عدد الانفس.

(٣) للنساطرة اكثر من كنيسة مهمة واثرية في الموصل ، لا تزال قائمة الى اليوم اقرأ عنها في المرجعين المذكورين اعلاه.

(٤) الرهبان الكبوشيون هم من مريدي طريقة القديس فرنسيس الاسيزي. وجاء اسمهم من القلنسوة التي تغطي رؤوسهم (Cappuccio كابوشيو) ، وقد قدم بعضهم الى الموصل نحو سنة ١٦٣٦ ثم اضطروا الى تركها (نصري : ذخيرة الاذهان ج ٢ ص ١٩٦) ، ثم عادوا الى الموصل سنة ١٦٦٢ ـ ١٦٦٤ كما ذكر الرحالة تيفنو الفرنسي (مع الشكر للصديق الكريم الاب منصور ليكونت الدومنيكي الذي نقل الينا هذه الملاحظة) ، وبارحوها نهائيا نحو سنة ١٧٢٥.

(٥) رجل موصلي من عائلة البناء التقى به سبستياني في نابولي (الرحلة ص ١١).

سافر اكثر من مرة الى روما ، وتوفي في القدس الشريف في نهاية سنة ١٦٦٩ انظر الهامش ٢ و ٦ ص ٧٨ من كتاب :

٢٤

Diestel (١) واستفسرت منهم عن الرجل ، فاجابوني ان اخباره قد انقطعت عنهم ، فساورني القلق بخصوصه وخفت عليه ، اذ كان من المفروض ان يصل الى المدينة قبلي ، نظرا لكوني مكثت في مالطة وحلب نحو ثلاثة اشهر.

في ٤ آب (١٦٥٦) تركت الموصل ، نحو الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، برفقة قافلة كبيرة ، فسرنا بمحاذاة دجلة في اماكن غير مأهولة ، وقد انتابني في تلك الليلة شعور الوحدة والقلق ، وفي الصباح توقفنا قرب النهر في منطقة تكثر فيها الحمامات وآبار القار الاسود ، ومياه تلك الحمامات حارة جدا لانها في غليان مستمر (٢).

في تلك الليلة مررنا بجهينة (٣) Gena وهي مدينة قديمة جدا واسعة الاطراف ، لكنها حاليا متهدمة خربة من اساساتها ، ولم يبق فيها بيت قائم. ووجدنا في طريقنا كميات كبيرة من القار ، مما اوجب علينا السير بحذر ، ثم انزلنا الرحال قرب دجلة ، فلمحنا وحشا ، لكنه هرب للحال.

ولما عاودنا السير مررنا بسلسلة من التلال تقع بمحاذاة مجرى النهر ، وهنا ايضا كان علينا ان نتقدم بحذر واناة كي نبعد عنا خطر الانزلاق والسقوط في الماء. ثم توغلنا في بقعة واسعة هي الموضع الذي لاقى فيه اربعون من العسكر الانكشاري حتفهم قبل ايام ، فرأينا عظامهم وبقايا جثثهم ، فتألمنا جدا لهذا المنظر المروع الذي

__________________

(١٩٦٦ ـ A. Lampart : Ein Martyrer der Union mit Rom : Joseph I Einsiedeln

ـ

(١) كاهن من اتباع الجمعية اليسوعية ، ارسل الى الصين نحو سنة ١٦٥٨ / (رباط : الوثائق الخطية ١ / ٤٨) التقى به سبستياني في نابولي وكان يرافقه الاب جيوفاني كوليل وسليمان البناء وساعاتي الماثي كانوا في طريقهم الى فارس (الرحلة ص ١١).

(٢) راجع الملحق رقم (٥).

(٣) جهينة «قرية كبيرة من نواحي الموصل على دجلة وهي اول منزل لمن يريد بغداد من الموصل وعندها مرج يقال له مرج جهينة له ذكر ...» معجم البلدان ٢ / ١٦٨ وجاء في منية الادباء «.. واهلها مسلمون عرب» (ص ١٤٠) واضاف محقق الكتاب «ولم تزل خرائبها واسعة وبقربها قرية حديثة باسمها».

٢٥

يفتت الاكباد ، وما كان سبب تلك المأساة الا الحر الشديد وقلة الماء.

واصلنا السير فمررنا ببقعة جميلة تقع الى جانب مياه غزيرة تفرعت عن دجلة ، ثم وصلنا الى مدينة تكريت القديمة الواسعة ، لكن حالتها الحاضرة تدعو الى الرثاء هذا ما آلت اليه بغداد الثانية.

في الليلة التالية عبرنا دجلة ، وكان متاعنا قد قل ، وكاد ان ينفد ما حملنا من زوادة من الموصل ، ولم نجد محلا نشتري منه زادا. لكن اراكيل قدم لنا شيئا قليلا في اليوم التالي ، وكنا لا نزال بالقرب من ضفة الشطر ، ثم اكملنا سيرنا في المساء ، وعند الصباح وصلنا الى مدينة تركها اهلها كلهم بسبب شحة المياه (١) ولو ارادوا اعادة الحياة الى هذه المنطقة ، التي يمكن ان نعتبرها بغداد السفلى ، لا مكن ذلك بجر المياه اليها ، وهذا العمل يكلفهم نحو ٨٠ الف قرش.

اكملنا سيرنا حتى عثرنا على بعض الآبار ، وقد جربنا حظنا بالصيد لنقتات به ، وبالرغم من القيظ الشديد فقد مضينا على الطريق بسرعة على امل الوصول الى بغداد في اليوم الثاني. وقد كان بعض الاعراب يختبئون في وسط الخربات ليهاجموا القوافل والمسافرين ، حتى بالقرب من بغداد ، لكننا كنا حذرين للغاية.

ان بابل الاولى القديمة بعيدة نحو ٦٠ ميلا ، وتقع على الفرات ، وهي في الوقت الحاضر خراب كلي ، فقد تلاشت تلك المملكة التي كانت تلقي الرعب في اسيا كلها ، ولم يبق منها الا ذكريات مشينة عن سميراميس ونبوخذنصر وغيرهما من الطغاة (٢) بينما قارعت الاجيال ذكرى عطرة عن الفتيان الثلاثة «والنبي» دانيال (٣).

منذ بزوع الشمس دخلنا قرية كبيرة تقع في صدر بغداد (٤) فأرسلنا التحية

__________________

(١) لعل صاحبنا يلمح الى سامراء.

(٢) لا نعلم سبب تحامل المؤلف على سميراميس ونبوخذنصر!؟

(٣) يلمح المؤلف الى قصة ورد ذكرها في الكتاب المقدس (العهد القديم) نبوءة دانيال الفصل الثالث والفصل الرابع عشر.

(٤) ربما يريد المؤلف موقع الكاظمية.

٢٦

المتعارف عليها بين القوافل عند وصولها الى مدن مهمة ، وهي اطلاق عيارات نارية. ثم اتينا الى الجسر المقام فوق قوارب ، وهناك التقينا بثلة من العسكر الخيالة ، كانت في طريقها الى المدينة لتسلّم الرواتب (نظرا الى ان الخزنة وصلت الى بغداد قبلنا بيومين) فافسحنا لهم في الطريق.

كان على الجسر اربعة من الجنود الانكشاريين مسلحين بهراوات غليظة ، وكانت معاملتهم سيئة للغاية ، فقد اعتدى احدهم على اراكيل المسكين فضربه وجر شعر لحيته ، وسبب كل ذلك ان بغال اراكيل كانت خمسة ، لكن الجندي اصر على اعتبارها ثمانية ، وارغمه على دفع الرسوم عن ثمانية احمال وبعد كلام كثير اقنعناه بقرشين ونصف القرش ، ثم واصلنا الطريق الى بوابة المدينة حيث رأينا جمعا غفيرا من الناس ، فصعب علينا السير ، وحاولنا اختراق الصفوف مستعملين العصي تارة ، وصارخين تارة اخرى ، ليفسحوا في المجال للحصان ، اخيرا دخلنا المدينة ، فاذا بجندي يهرول في اعقابنا صارخا ومزمجرا طالبا قرشا اخر ، وما تركنا الا بعد ان ارغمني على دفع ذلك القرش ، لقد رأيت في صورة هذا الجندي حقيقة سمعته السيئة وقد تجسمت فيه.

وجدت عند ابواب بغداد حراسا متزمتين ، اما هياج الشعب وصياحه فحدث عنه ولا حرج ، كما رأيت جشعا لا يشبع! اما موظفو الكمرك فكانوا ارمن (١) وهم اكثر تهذيبا واحتراما في معاملتهم ، فبعد ان القوا نظرة على امتعتنا ، صرفونا وارسلوا معنا خادما ليدلنا على بيت الاباء الكبوشيين (٢) حيث التقينا ببعض البرتغاليين ، وبراهب فرنسيسكاني هناك في طريق ايابه من الهند قاصدا اوروبا ، وكانوا هناك منذ نحو شهر ، فبعد وصولنا بيومين تركونا وسافروا مع قافلة سائرة الى ديار بكر.

__________________

(١) للمرحوم يعقوب سركيس نبذة عن الكمرك في بغداد فذكر ان موظفيه كانوا أرمن.

انظر مقاله : كمرك بغداد في عهد السلطان مراد الرابع وخلفه السلطان ابراهيم في مباحث عراقية ج ٢ ص ٢٣١ ـ ٢٤٢.

(٢) راجع الملحق رقم (٦)

٢٧
٢٨

الفصل الرابع عشر

مكوثنا في بغداد وسفرنا إلى البصرة

لو قابلنا مدينة بغداد بمدن أوروبا ، فانها ليست ذات شأن ، لكننا لو وضعناها مقابل مدن اسيا الصغرى ، فعندئذ تظهر مكانتها وتكبر قيمتها. ان ابنيتها وتحصيناتها هي أحقر بكثير من اصغر مدننا [في اوروبا] ، لكنها في نظر الفرس والاتراك درع عروشهم المتين ، ولذا تتصارع المملكتان عليها ، وتستوليان عليها بالتناوب ، فيعمدون إلى تقوية حصونها ويدافعون عنها بكل قواهم ، ومختصر القول ان المدينة ليست بتلك العظمة التي اشتهرت بها ...

ان اسيا الصغرى بصورة عامة ، وجميع الولايات الكبيرة الخاضعة للحكم العثماني ، تفتقر الى الجنود ، كما ان نسبة السكان هي في هبوط تدريجي ، بسبب الحرب مع «جمهورية» البندقية (١) اني شاهد عيان لما اكتبه ...

... تباع الخيول في بغداد باسعار بخسة نظرا لكثرتها ، ولذلك عرف بان شراءها هنا يعود بفائدة اكبر نظرا لرخص اثمانها ، عما في حلب. ويمكن بيعها من ثم في حلب ...

ذهبت لزيارة سراي الباشا (٢) ، انه بناء جميل جدا ، تتوفر فيه المياه ، وفيه حدائق غناء مليئة بالاشجار المثمرة ، ويحتفظ الباشا بأسد في حدائقه (٣) ، وله

__________________

(١) راجع الملحق رقم (٧)

(٢) كان والي بغداد انذاك اق محمد باشا (محمد باشا الابيض) ١٠٦٥ ـ ١٠٦٧ ه‍ (١٦٥٤ ـ ١٦٥٦ م).

(٣) كانت الأسود كثيرة الوجود في العراق كما يظهر من الآثار الآشورية القديمة ، ويظهر انها كانت لا تزال في عهد سبستياني. وقد ذكرها رحالة اخرون امثال تافرنيه

٢٩

مجموعة من الجياد الاصيلة ، وشاهدت الشرطة الخيالة وهي تتمرن على سباق رمي الرماح ، ثم رأيت الباشا نفسه يمارس هذا السباق مع جنوده (١).

يجري عند خروج الوالي من السراي استعراض فخم ، فيسير الموكب على صوت الابواق والطبول ، مع ثلة من العسكر الخيالة الرفيعة ، ويلبس العسكر وكبار الموظفين ازياء غريبة متنوعة خاصة جلود النمور الرائعة وقماش الاطلس الجميل.

كان الباشا بوسني Bosnese (٢) انكشاريا ، اعني ابن نصارى. ويتألف معظم افراد حرسه الخاص من ابناء مسقط راسه ، وكان الباشا يكن للاباء الكبوشيين احتراما كبيرا ، لان احدهم كان طبيبا ماهرا ، وقد عالجه فشفاه من مرض كان قد ابتلي به (٣) ، ولذا اخذ الوالي يرسل لهم يوميا صدقة طيبة ، وكان قاضي «بغداد» ورئيس الانكشاريين والمفتي يقتدون به «في تقديم الهبات» ولما تراكمت الصدقات وفاضت عن حاجة الاباء اخذوا يوزعونها على فقراء المسيحيين. ويبلغ عدد المسيحيين الكاثوليك في بغداد نحو ٣٠ او ٤٠ (نفسا؟

__________________

ـ (العراق في القرن السابع عشر ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد (بغداد ١٩٤٤) ص ٧٢) وكذلك تيفنو (وقد شرعنا بترجمة رحلته الى العربية) ، اما الان فلا نسمع بوجود الأسود في العراق.

(١) «... وصار يمارس الصيد ويقضي اوقاته بالنزهة هنا وهناك» كلشن خلفا ص ٢٥٠ ، «وكان اذا أبل من مرضه خرج الى الصيد وركوب الخيل وما الى ذلك من وسائل الرياضة البرائية. وكان ذا حظ كبير في الشجاعة المعنوية ...» كوك : بغداد مدينة السلام ج ٢ ص ٤٦ ـ ٤٧ ، عباس العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين ج ٥ ص ٥٤.

(٢) مقاطعة جبلية في البلقان ، سكانها صقالبة. خضعت فترة طويلة للحكم العثماني حتى سنة ١٨٧٨ ، وهي الآن احدى جمهوريات يوغسلافيا المتحدة.

(٣) اجمع المؤرخون على ان الوالي ابتلي بامراض مختلفة ، جاء في كلشن خلفا ص ٢٥٠ «من سوء طالعه ... انه قضى النصف الاول من مدة حكمه بالامراض». وكذلك كوك المرجع السابق ، ولونكريك : اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ص ١١١. اما شفاؤه فان مؤلف كلشن خلفا ينسبه الى درويش صوفي اسمه مصطفى دده الخراباتي ، وهذا ما يقوله ايضا العزاوي : المرجع المذكور ص ٥٢ ـ ٥٣.

٣٠

اسرة؟) وقد «توسط الاباء لدى الوالي» فانقذوا المسيحيين من دفع ضريبة كبيرة كان الباشا نفسه قد امرهم سابقا بتأديتها (١).

تتألف الجماعات المسيحية الاخرى في هذه المدينة ، من ارمن ويعاقبه ونساطرة ، وهم باجمعهم لا يتعدون ٢٠٠ «نفس» ، وكثيرا ما يذهبون الى مصلى الاباء الكبوشيين ، الواقع داخل حرم ديرهم.

يطرق باب الدير يوميا عدد كبير من المرضى يطلبون العلاج ، اذ ليس للاتراك اطباء .. عندما حل يوم عيد انتقال العذراء (٢) احتفلنا منذ عشية العيد بفرح وسرور ، بالرغم من شدة الحر وفي اليوم الثامن عشر «من اب سنة ١٦٥٦» تركنا بغداد ، واستقللنا دانكا (٣) تمخر في دجلة ، وكانت وجهتنا البصرة املين العثور على مركب يبحر الى الهند (٤) ونظرا الى ان شوقي كان عظيما للوصول الى هدفي في اسرع وقت. لذلك عدلت عن خطتي السابقة ، فقررت ان ازور فارس في طريق العودة.

ذهبت لالقي السلام على اراكيل ، فاستمهلني يومين حتى نسافر سوية ، ومن ثم استقل مركبا اخر ، لكن هذا التريث سيؤخر سفري «الى الهند» عدة اشهر.

__________________

(١) يذكر لونكريك ان التساهل الديني في عهد الوالي اق محمد باشا كان منتشرا ، فكنيسة النساطرة مفتوحة ، والارساليات الاجنبية حرة في تصرفاتها ، (المرجع المذكور ص ١١٣).

(٢) يقع هذا العيد في الخامس عشر من شهر اب من كل عام

(٣) الدانك ضرب من السفن الشراعية ، يجمع على دوانبك ودوانيج (بباء بعد النون) وجاء ذكر الكلمة بصورة دونيج وجمعها دوانيج في كتاب عجائب الهند لبزرك بن شهريار الناخذاه المتوفي في المائة الرابعة للهجرة. (عن يعقوب سركين : العمارة والكوت في مجلة لغة العرب ٨ (١٩٣٠) ص ٥٠٤) انظر ايضا حبيب زيات : المراكب والسفن في الاسلام «دونيج وردت في احسن التقاسيم (٣٢) وفي كتاب عجائب الهند (٢٩) قال : رموا بانفسهم في الماء وتعلقوا بالقوارب والدوانيج» مجلة المشرق ١٩٤٩ ص ٣٣٤.

(٤) لان غاية الرحلة هي الوصول الى الهند.

٣١

٣٢

لقد جاد من اوصى بي خيرا عند ربان الدانك ، وانا بدوري حاولت كسب رضاه ، فاعطيته المال الذي طلبه مني. ولذا اصبح مهذبا جدا في علاقته معي. ومن ناحية اخرى ، كان للاباء المذكورين براءة سلطانية ، ومنها نسخة طبق الاصل مصدق على صحتها من قبل والي بغداد ، لذا طلبتها منهم ، ووعدتهم باعادتها اليهم من البصرة في فرصة سانحة وكانت البراءة المذكورة جزيلة الفائدة لنا.

كان معنا على ظهر الدانك اتراك كثيرون ، ودراويش وتجار وجنود انكشاريون ، وجماعة من البدو والهنود ، وقسيس نسطوري واخر يعقوبي ، وكاهنان أرمنيان ، تقدم احدهما منا منذ بدء السفر ليكون ضيفا علينا بحجة واحدة من عادات البلد «اعني الضيافة الشرقية!». وكان القسيس ياتي عندنا احيانا ، ليطلب بلباقة ما يحتاج اليه.

في الايام الثلاثة الاولى كان تقدمنا بطيئا ، وكنا نسير بمحاذاة الشاطىء ، فرأينا قرى عديدة ، وكان الربان رجلا عربيا متعجرفا جدا ، ويدعي في غطرسته انه الشخص الوحيد الذي يملك سر فن قيادة المراكب ، ولكن لم يمر وقت طويل حتى ظهر جهله المطبق في هذا المضمار ، فقد كان التيار يسيره ، وكان يصطدم من وقت الى اخر بضفة النهر او باليابسة ، وما اكثر ما كان الكوثل (١) يتحول الى الامام!

وفي اليوم السادس من سفرنا اصطدم الدانك بمرتفع رملي ، فدعا الربان جميع المسافرين لمساعدته ولما تململ بعضهم ، اضطر جنديان الى ضرب المسافرين وارغامهم على النزول الى النهر لتخليص المركب : وطلبوا مني ان انزل أنا ايضا لكنني امتنعت لاني كنت مريضا ، فقد كنت اشعر بالم حاد في الكلى والمعدة ، فاسرع الربان نفسه لنجدتي ، فبقيت انا ورفاقي فوق المركب ، وذهبت الجهود التي ابداها القوم ادراج الرياح ، فكان من الضروري ان ننتقل الى دانك اخر ، فحولوا الامتعة والاموال ، وانتقلت انا وزملائي الى المركب

__________________

(١) الكوثل : مؤخرة السفينة.

٣٣

٣٤

الجديد مع نساء بدويات عديدات ، وفي هذه الاثناء سقطت عليّ خشبة غليظة فضربت جنبي الايمن فآلمتني جدا ، وفي المكان الجديد اصبحنا دون غطاء يقينا الحر ، فاحرقتنا الشمس اذ كانت في كبد السماء.

اكملنا انحدارنا بدانكنا الجديد ، حتى استطاع الاخرون تخليص الدانك الاول ، وفي طريقه الينا عاد فاصطدم من جديد بجزيرة صغيرة تكونت على اثر تحول مجرى النهر قليلا ليعود من ثم الى مجراه الاول. وهكذا توقفنا مرة اخرى وقد ملأ السأم والغضب قلوبنا. ويرجع السبب في بطء سير الدانك الى ان اخشابه قديمة جدا وبناءه بدائي ، كما ان عدد الركاب كان كبيرا.

لقد كان للدانك مجذافان فقط ، يتكون كل واحد منهما من ثلاث قطع ، اما الصارية فمن تسع قطع او عشر ، وهكذا القلوع ، اما الدفة فمن ست او سبع!! وكان محملا بالاتراك والجنود والاعراب واخرين ، بلغ عددهم نحو مئة نفر ، ولذا كنت اطلق على الدانك اسم «قارب شارون» (١) Barca di Caronte لكثرة عدد المسافرين وضجيجهم. اما القتال فيما بينهم فحدث عنه ولا حرج ، وكم من مرة ادى عراكهم الى اسالة الدماء!

في اليوم السابع من سفرنا دفعتنا الريح الى ضفة النهر اليمنى ، فرأينا بدوا كثيرين وقد اختبأوا وراء الاعشاب والادغال التي نبتت بكثرة على ضفاف النهر ، وكانوا قد اعدوا اسلحتهم ، فتأهبنا لمناجزتهم واعددنا اسلحتنا ، فلما لاحظوا استعدادنا لمجابهتهم ، ورأوا افواه البنادق موجهة نحوهم ، لم يهجموا علينا بل تقدموا نحونا والقوا علينا السلام ، فابعدناهم خوفا من تفاهم مسبق ومكر مبطن بينهم وبين البدويين الراكبين معنا ، قد ينتج عندها ما لا تحمد عقباه.

كنا نمر باراض شاشعة لا حياة فيها ، وفي اليوم العاشر مررنا بقرية

__________________

(١) ان «شارون» في الاساطير اليونانية القديمة ، هو ربان المركب الذي يحمل الهالكين الى جهنم النار ، وكان يتقاضى من كل مركب شيئا. ومن هناك كان الاقدمون يدسون في فم موتاهم قطعة نقدية قبل ان يواروهم الثرى ، ليكونوا على استعداد عند ملاقاتهم بشارون! كما ان شارون كان يرفض نقل ارواح لم تدفن اجسادهم باحترام ...

٣٥

مأهولة بالسكان فاشترينا منها متاعا. وبعد مسافة انقسم النهر الى فرعين.

اما الفرع الاول فكان يفقد مياهه اذ تتبدد في الاراضي الواسعة ، فيمسي بعد مسافة جدولا صغيرا تتكاثر في وسطه الجزيرات ، واخيرا يعود ليلتقي بالفرع الثاني في القرنة ويجتمع بالفرات قبل ذلك بقليل.

كان خادمنا موسى قد خبأ في اليوم التالي محفظة احد رفاقي وفيها ٣٠ قرشا ، وكان في نيّته ان يصرفها في شؤونه الخاصة. فاعتقدوا ان احد الركاب قد سرقها ، فاخبرنا الربان وطلبنا من الجنود ان يحاولوا العثور عليها ، ففتشوا بتدقيق كبير ، مستعملين التهديد والوعيد. اخيرا اقر موسى بانه هو الذي اخذ المحفظة ليلقن الاب (حسب قوله) درسا في كيفية المحافظة على النقود! فشعرت اني في ورطة عظيمة ، فاذا اعلنت اسم السارق فاني سأعرضه الى خطر جسيم ، ففضلت ملازمة الصمت ، وفكرت بانه من الاحسن ان يكملوا التفتيش حتى ييأسوا.

لكن الامور اخذت تتعقد بالاكثر ، فقد بدأ الراكبون يتراشقون تهمة السرقة ، فوقفت في الوسط لاعلن باني اعتقد ان الركاب جميعهم شرفاء ، واني اشك في كون المحفظة قد سقطت في الماء ، ولذا اود ان يكفوا عن التفتيش ، واذا حدث وان عثر احد عليها فليأخذ منها خمسة قروش ويضعها من ثم في محلها اثناء الليل ، وعلى اثر ذلك ، اخذ الركاب يستفسرون منا في الايام الثلاثة التالية عما حدث في المحفظة ، فكانت اجوبتنا مبهمة لا نعطي فرصة للتشكيك بأحد ، واخذوا يراقبون مجلسنا ليروا كل من يتوجه اليه ، وكنت اريد ان ابعد انظارهم عنا ، او ان في حوزتنا كمية من المال (والمال ، والحق يقال ، ضروري جدا اثناء السفر في تلك الاصقاع). وكان بامكاننا ان نقترض المال عند الحاجة ، لان للقوم فكرة طيبة عن الافرنج وثقة كبيرة بالرهبان ، وعلى اثر هذا الحادث اصبح الجند اكثر تهذبا معنا ، بينما اخذوا ينظرون نظرة شك وارتياب الى الاخرين لانهم فرحوا بفقداننا المحفظة. وكان هذا الموقف الجديد مفيدا لنا. وكان هناك عسكري انكشاري من بوسنة ، يطيب له تفقدنا ، وكان يجالسنا ، بالرغم من عدم تمكننا من التفاهم معه بسبب جهلنا اللغة.

٣٦

الفصل الخامس عشر

معاكسات البدو

في اليوم التاسع العشرين (من آب ١٦٥٦) مررنا بقريتين كبيرتين هما العمارة Elemara والمنصورية Mansuria وفي اليوم التالي هبت ريح قوية فاقتربنا من ضفة النهر. وكانت هناك خيام للاعراب ، فاذا بهم يجتمعون ويتجهون نحو النهر ، فشككنا بنواياهم ، لذا اعددنا السلاح واتخذنا اماكن الدفاع. وفي هذه الاثناء ارتطم المركب بالقعر ، فاضطر المسافرون الى النزول الى الارض ، اما الذين تباطأوا في النزول فقد ارغموا على الاسراع بقوة العصي ... اما انا فقد ذهبت الى مكان قصي ، وجلست في ظل بعض الشجيرات. فاكتشف وجودي نساء بدويات كن مستلقيات في الظل ، فاخذن يصرخن صراخا مزعجا كأن الجن قد مسهن ، وعلا عويلهن ، وحاولت تهدئدتهن بايماءات ، لكنهن ازددن صراخا ، فانسحبن للحال. وقد حدث لزملائي ما حدث لي فاسرعوا بالعودة الى المركب. ثم ارسلنا خادمنا ليستفسر عن سبب العويل ، فكان الجواب ، انهن صرخن طالبات النجدة ، وانهن ظنن اننا سنسرق اساورهن الفضية ، وقد اردن بصراخهن ان يسمعن ازواجهن فيهبوا للدفاع عنهن ويمزقونا اربا اربا!

عدنا الى المركب ، فسار بنا فترة من الوقت في وسط النهر ثم توقف في الليل ، وقد ارسل قائد مركبنا هدايا لشيخ الاعراب في تلك المنطقة ليتفادى شره ، وبالرغم من ذلك فقد كنا حذرين طوال الليل ، واعددنا اسلحتنا للطوارىء وفي نحو الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ظهر الاعراب على شاطىء النهر وبانت مشاعلهم ، فتهيأنا لمجابهتهم والدفاع عن انفسنا ، لكنهم صرخوا قائلين ان شيخهم أرسلهم للمحافظة علينا ، فاطمأننا قليلا وقبل بزوع

٣٧

الشمس سمعنا صراخا وعويلا ، فنهضنا فزعين معتقدين ان مركبنا وقع لقمة سائغة في ايدي الاعراب ، ثم فهمنا ان النساء البدويات المسافرات معنا كن مصدر الصراخ ، وسبب عويلهن ان الرجل اليعقوبي اقترب من محلهن ليسترجع عمامته وبعض امتعته التي سرقتها احدى النساء! هدأ الصراخ موقتا ، ثم عاد بعد فترة قصيرة اكثر حدة ، فقد صعدت المراة البدوية فوق مؤخرة السفينة وبدأت عويلا طويلا واخذت تصرخ وتدعو زوجها الذي كان قد نزل الى اليابسة مساء اليوم الاسبق ، طالبة النجدة والثأر متهمة الشاب بالاعتداء على شرفها. ولم يكن بالامكان تهدئتها ، فقد كانت تزداد صراخا وعويلا.

واذا بالاعراب المتمركزين عند الشاطىء اخذوا يزحفون للقتال ، فقد طلب زوج تلك المرأة النجدة من شيخ تلك المنطقة ليهب للدفاع عنه وعن شرف زوجته.

فصوبوا الينا بنادقهم ووجهوا نحونا سهامهم ، واذا بتاجر مسلم اسمه يوسف ، رجل شهم ووقور ، قام من مجلسه ورمى بنفسه الى الماء محاولا تهدئتهم ، متعهدا بان يقدم اي شيء لترضيتهم ، ثم صعد الربان الى المركب ، وقال باسم شيخ العرب ، بانه يأمر بحضور البدوية والشاب اليعقوبي الى مجلسه ليحاكمهما ، نظرا لكون الجريمة وقعت في منطقته ، والا فان الاعراب سيقضون علينا ، وعندئذ احاط الاعراب بنا من كل الجهات ...

عندئذ هبط ربان الدانك مع بعض انفار العسكر فقادوا الشخصين المتخاصمين ، وتبعهم مسافرون كثيرون بعد ان اقترب الدانك من شاطىء النهر.

اما نحن فقد لزمنا موضعنا والسلاح في ايدينا وتأهبنا للدفاع ... وقد ارسل الشيخ ابنه ورجلا من اتباعه ، فاتوا على خيولهم الى حيث تجمع الاعراب لتهدئتهم ومنعهم من الهجوم.

نزل بعض الراكبين الى الساحل ، وفي نزولهم فقد احدهم عمامته ، بينما اضاع واحد اخر سيفه ، فعلا الضحك والاستهزاء وعمت الفوضى ، وبعد محاكمة شكلية ، حكم الشيخ الظالم على الشاب بانه مذنب ، وهذا ما يحدث

٣٨

غالبا ، كما يقول المثل «اللاتيني» : «يذنب الواحد ويتهم الآخر» فأمره الشيخ بدفع غرامة قدرها سبعة قروش نقدا ، وثلاثة قروش هدية ، اضافة الى اشياء اخرى يقدمها الى الاعراب البارزين في القبيلة. وكان من الضروري ان يصعد اربعة من رجال الشيخ الى المركب باسم سيدهم ، ليعيدوا الهدوء والامن ويسكتوا الاعراب المتجمعين على ضفتي النهر. لقد افهمنا هذا الحادث فداحة الخطر الذي كنا فيه يوم امس عندما صرخت البدويات علينا!

لقد وعد كبير القوم بني قومه «أو طائفته» لانهم كانوا يحملون شعارا ، اعتادوا على اخذه خلال اسفارهم ، والشعار هو عبارة عن قطعة من النحاس مزخرفة وقد نقش عليها اسما «الله ومحمد» ، والقطعة المذكورة مثبتة على بيرق ، فحيثما ينزلون الرحال ينصبون البيرق عاليا ، ويقدمونه للتقبيل والتبرك ، ويؤكدون ان المؤمنين ينالون به الشفاء من الامراض والجنون ...

عادت البدويات في اليوم التالي الى الصراخ ، لان اليعقوبي نزل من جديد الى مجلسهن ، ليسترجع بعض البطيخ «الرقي» الذي سرقته المرأة نفسها ، انها والحق يقال تشبه الباشق والمسخ! وتحول المركب من جديد الى هرج ومرج ، وتراشق الطرفان التهم والمسبات فغضب الاخوان الانكشاريان وهجما على الشاب واشبعاه ضربا ولكما وتشتيما ، ولم يتخليا عنه الا بعد ان تركا اثرا للحادثة على عينه! وكانا يلحان عليه كي يعلن اسلامه ، لانه اعتدى على احدى نسائهم ... وكان المسكين يدافع عن براءته وينفي نفيا قاطعا كونه اقترف الاثم المذكور ، وهنا دافع عنه ، للمرة الثانية التاجر يوسف وخلصه.

وعلى اثر هذا الحادث امتنع الجميع عن مخالطته او التحدث معه او حتى النظر اليه ، واخذوا يتهمونه بسرقة محفظتنا. فاخذنا نرسل اليه ما يقتات به ، ودعوناه للجلوس معنا ، عطفا عليه ومن اجل ابعاد شبهة السرقة عنه.

في اليوم الثاني ، دعا القسيس النسطوري ذاك الشاب اليعقوبي ، لانه كان في خدمته ، وحثه على تقديم هدية للتاجر الذي دافع عنه اعترافا منه بجميله ، ورضي الرجل بشيء قليل رمزي ، لكن المسافرين الاخرين تدخلوا واقنعوا التاجر ان لا يقبل باقل من خمسة قروش ، واخيرا ارتضى بقرشين قدمهما

٣٩

الشاب مع الف شكر وتقبيل الايادي ، ليس يد التاجر فحسب ، بل ايادي الجنديين الانكشاريين اللذين ضرباه ، فاكمل المسكين هذه المراسيم ولسان حاله يردد المثل «أقبل ايادي اتمنى بترها»!

٤٠