رحلة سبستياني

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي

رحلة سبستياني

المؤلف:

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٦

الفصل السادس عشر

تكملة السفرة الى البصرة

في الايام الاولى من شهر ايلول مررنا بقريتين هما : المجر Maggiar وقصر (؟) Casser. وحدث هنا ان اقترب منا مركب قوي مزود باسلحة على متنه تاجر ارمني حلبي الاصل ، قادم من اسطنبول وقبلته البصرة ، وكانت غاية سفره استعادة مقدار من المال يبلغ مائتي الف قرش من والي البصرة كان قد اقترضها من اخيه. فدعا احد التجار الذين كانوا معنا ، وهو تاجر مسلم حلبي ايضا اسمه جبريل (او عبد الجبار؟ (Agebrail) فتمنيت ان انضم اليهم لاصل البصرة باسرع وقت ، لاني كنت اخشى ان اتأخر فلا اجد سفينة تقلني الى الهند. لكن صاحب المركب اعتذر متذرعا بان لا مكان عنده على المركب ، فبقيت حيث انا اتألم من الضجر والكسل والفوضى ، وتكرر ارتطام مركبنا يوما بعد يوم وكان الركاب يضطرون الى دفعه. ولذا كانوا يتذمرون ، واخذوا يجاهرون بانهم لن يدفعوا اجور السفر لانهم عوضوا عنها بأتعابهم ، وكادوا ان يعلنوا العصيان على ربان الدانك وعلى العسكريين.

ولما قاربنا منطقة البصرة ، لاحظنا تأثير المد والجزر في النهر ، بالرغم من بعدنا عن البحر اكثر من مئة ميل (فالاراضي العربية في تلك المنطقة منخفضة جدا). وكان اصحابي قد نزلوا الى اليابسة لارتطام الدانك من جديد ، وباءت المحاولات المتكررة لدفعه بالفشل (كما حدث سابقا اكثر من مرة).

وبعد مدة دفع تيار الماء الدانك الى مكان بعيد في الضفة الثانية ، فاضطر الركاب الى خلع ثيابهم وعاموا في النهر مع بعض الاعراب بعد ان تعلقوا بقطعة من الخشب ، وذهبوا الى حيث كان الدانك ، وكانت حركتهم بطيئة بسبب انحسار الماء على اثر الجزر ، وكانت الارض هناك طينية.

٤١

ان نهر دجلة بعد ان يتلاشى ويضمحل جدا .. يعود ليسترجع قواه الضائعة وانحداره الجارف ، فيسير متبخترا وسط صفوف من النخيل والاشجار المثمرة المختلفة ، وتقوم على جانبيه قرى صغيرة وقلاع متناثرة شيدت باللبن ، من هذه القرى (١) : بني (خالد؟) Beini والدكة Dechi و (؟) Amma والمنصورية (او بني منصور؟) والقلاع Cala او مدينة محمد بن السلطان (لعلها ديار بني محمد!) Mametto figlio del Soldano والمدينة Medina وتقابلها الفتحية او الفتحة Elfataia واخيرا القرنة Gorna حيث يلتقي دجلة بالفرات ، بعد ان يخلفا بحيرات (اهوارا؟) واسعة على طريقهما ، واخيرا يتنازلان عن اسميهما ، ليتخذ النهر الجديد المتكون من اتحادهما اسما جديدا هو حسبما يذكر حزقيال نهر «كوبار» (٢) في شط العرب ، وهو بالحقيقة نهر عظيم ، وجدير بالملاحظة ان هذا النهر في انحداره نحو البحر يحافظ على مياه دجلة عن يساره وعلى مياه الفرات عن يمينه.

قرر القبطان ان يتقدم الى البصرة ليدفع ضريبة المكس عن البضائع التي يحملها في قاربه ، وعن الاخرين ، لكن الرياح هبت بقوة فمزقت الشراع من اعلاه الى اسفله ودفعتنا بعيدا ، فجاء رجال الكمرك هناك ليستوفوا الرسوم ، ولم يلقوا نظرة الى امتعتنا ، فقد اعتبرونا دراويش فرنجيين ،) وهذه عادة الكمارك العثمانية في معاملتها رجال الدين).

تحيط القرنة اسوار شيدت باعتناء بالغ (٣) ، لكنها ليست ذات شأن لأنها

__________________

(١) ان هذه القرى هي الجزائر المتكونة من سواعد شط العرب : علي ظريف الاعظمي : تاريخ البصرة ص ١٣٠ في الهامش ، علي الشرقي : الجزائر : لغة العرب ٤ (١٩٢٧) ٥٢٦.

(٢) يلمح المؤلف الى نبوءة حزقيال ١ : ١ في الكتاب المقدس حيث قال «في السنة الثلاثين ... وانا بين الجلاء على نهر كبار ...».

(٣) يقول الاعظمي في سياق كلامه على الحرب بين حسين باشا والي البصرة ومرتضى باشا والي بغداد سنة ١٠٦٣ ـ ١٠٦٤ ه‍ «فاستعد (حسين باشا) للحرب وحصن القلاع خصوصا قلعة القورنة» المرجع نفسه ص ١٣١.

٤٢

من الطين ، والقرنة بلدة كبيرة على ما تظهر ، وموقعها مهم نظرا لكونها مشيدة امام هذا النهر الواسع العظيم ، والى يسارها فرع كبير من دجلة اذ يلتقي هناك من جديد ...

عند الاصيل نشرت الاشرعة على الصواري ، فعاد الدانك يمخر عباب النهر ، ولم يكن النهار صحوا ، فقد هبت عاصفة ، ظننتها في اول الامر كالضباب الكثيف ، ثم ظهرت على حقيقتها ، فاذا بها عاصفة رملية (وهذا امر عادي في ضواحي البصرة خلال اشهر الصيف). اما الليل فقد كان هادئا جدا ، وكان بامكاننا ان نرى على ضوء القمر حركات غريبة كان يقوم بها درويش هرم تدل على انحراف في مسلكه ...

لقد لاحظت المسلمين خلال مدة سفري كلها ، ابتداء بمدينة طرابلس والى البصرة انهم يؤدون الصلاة يوميا ، منذ الصباح الباكر عند نهوضهم ، ثم في منتصف النهار ، وفي المساء عند الغروب ، وهم يصلون بسجدات وركعات وانحناءات متكررة ولم يتأخروا عن موعد اداء الصلاة ، فكانوا ينزلون عن الخيل ويتركون كل عمل اخر من اجل القيام بالصلاة ... وللمسلمين ادعية كثيرة واوراد يرددونها دائما ونحن في المركب ، يطلبون السفر الميمون الموفق ...

اخيرا مررنا بقرية «العين» Lain الصغيرة ، وبجزيرة يقوم عليها بستان الوالي ، فرأينا عن بعد والفرح يغمر قلوبنا ، مراكب الافرنج ، ثم وصلنا الى اسوار جديدة جميلة ، لكنها من الطين ايضا.

ويعتقد امير البلدة (واليها) ان بامكانه ادارة البصرة والدفاع عنها بواسطة هذه الاسوار ، وهو يقيم في قلعة كردلان (١) وهي حصن لا باس به.

وبعد ان وزعنا الحلوان (البخشيش) حسب العادة ، استقللنا قاربا صغيرا ، سار بنا في القناة لان المدينة لا تزال بعيدة نحو ميل ، وهكذا بعد سفر

__________________

(١) لا تزال معروفة وتعني ارض التل او مأوى التل. وتقع قرية كردلان في الجانب الشرقي من شط العرب في مقاطعة تنومة وهي تجاه البصرة تماما.

٤٣

نهري استغرق ٢١ يوما ، وصلنا الى البصرة في السابع من ايلول ، وهو عشية عيد ولادة سيدتنا مريم عليها افخر السلام ... فاستقبلنا الرهبان (١) بفرح لا يوصف.

__________________

(١) يتكلم عن الرهبان الكرمليين ، انظر الملحق رقم ٨.

٤٤

الفصل السابع عشر

مكوثنا في البصرة

قدم لزيارتنا في الدير ، كثيرون من المسيحيين الجدد ، الذين اقتبلوا العماد في كنيستنا ، وهم من نصارى القديس يوحنا (١) ويكثر هؤلاء في تلك المناطق. وليس لهم اسرار مقدسة ولا شريعة دينية ، بل يعيشون على الفطرة ، وقد ملأت الاساطير والخرافات عقولهم ....

تقع البصرة في بلاد العرب الصحراوية Arabia deserta وهي مدينة كبيرة ، لكنها ليست جميلة ، وهي غنية بالبضائع التي تردها من بلاد العرب ومن اوروبا وايران والهند (٢) وتكثر فيها الفواكه على انواعها ، والحمضيات بصورة خاصة ، ويسكنها شعب من مختلف الاقوام والجنسيات ...

ان حاكم البصرة «أي الوالي» هو في الواقع ملك مستقل اكثر من باشا عادي خاضع للسلطان. فقد اصبح دست الولاية وراثيا ، ولذا فانه يدير شؤون المنطقة حسب هواه. ونظرا الى ان جيشه لم يكن قويا عدة وعددا ، كما ان ولايته واقعة بين مملكتين جبارتين اعني العثمانية والفارسية ، فلكي يكسب رضا الطرفين وصداقتهما ، ولكي يهرع لنجدته احدهما اذا ما حاربه الطرف الاخر (٣) ، لذا كان يدفع جزية الى الطرفين ، وفي الوقت نفسه كان يجتهد في

__________________

(١) يريد الصابئة المندائيين وسيعود الى الكلام عليهم في الفصول اللاحقة ، وهو يعتبرهم فرقة نصرانية ، وهذا وهم وقع فيه هو وبعض معاصريه كتافرنيه (انظر رحلته ص ١٠٠)

(٢) ذكر الاب غودنيهو اليسوعي عن البصرة ١٦٦٢ انها «اعظم سوق تجاري في هذه البحار» عن لو نكريك : اربعة قرون ص ١٤٢.

(٣) جاء في كلشن خلفا عن حسين باشا والي البصرة انه اعتمد اكثر من مرة على

٤٥

تعزيز مركزه ويحصن مدينته ويقيم علاقات جيدة مع الافرنج ليتخلص من «ضغط» المملكتين (١).

وكان الرجل يكن للرهبان احتراما وحبا ، ويتحدث معهم كاصدقاء. وكان تجار البلدة من مسلمين وهراطقة (٢) وغرباء يزورون الدير ويطلبون مساعدة الرهبان لتمشية امورهم عند الوالي ، وحدث قبل فترة وجيزة من وصولنا اننا ربحنا دعوى بواسطته ضد الاتراك انفسهم ، فقد شيدوا مسجدا بالقرب من كنيستنا وعندما فرغوا من بنائه طلبوا هدم الكنيسة ، بحجة ان الشريعة تأمر بذلك ، ولهم مسجد اخر خارج المدينة باسم عيسى ومريم لان المسلمين يكنون احتراما عظيما للمسيح ولأمه مريم كما ورد في القرآن.

قبل مدة قصيرة ، مرت من هناك قافلة مؤلفة من عدد كبير من الابل والخيول ، تقصد مكة ، ان المسلمين يعتقدون ان من يقضي نحبه وهو في طريق الحج يعد سعيدا ، ومن يصل الى هدفه فانه يتقدس وطوبى لمن يموت وهو في مكة. كثيرون هم الذين يأتون كل سنة الى الحج من مختلف الأمصار : من اسيا وافريقيا وحتى من بعض جهات اوروبا ...

عندما قدمنا الى البصرة ، وجدنا في الميناء سفية هولندية جميلة تستعد للاقلاع ، واسمها فليخلاند Flichland وكانت وجهتها سورات (٣) Suratte

__________________

ـ الايرانيين لمقاومة السلطة العثمانية (المرجع المذكور ص ٢٤٩ و ٢٦٥ ـ ٢٦٦ و ٢٧٢).

(١) قال لو نكريك ان الوالي كان متساهلا مع الاقليات النصرانية الضعيفة (المرجع نفسه ص ١٣٩).

(٢) الهراطقة في رأي المؤلف هم نصارى غير كاثوليك من ارثوذكس وبروتستانت ، والكلمة في اليونانيةHeresis.

(٣) سورات من موانىء الهند ، اول مكان استولت عليه شركة الهند الشرقية الانكليزية في القارة الاسيوية واتخذته مقرا لها ومنطلقا لتوسعها ، وقد انتزعته من ايدي البرتغاليين بعد معركة دامية سنة ١٦١٢ ، وفي السنة التالية حصلت الشركة من حاكم الميناء على اذن بانشاء معمل للحرير.

٤٦

فقررت السفر بها دون تأجيل الى فرصة اخرى (كما كان يحاول اقناعي بعض رفاقي بحجة الاستراحة من وعثاء الطريق). لكنني كنت اقول لهم «ان السفر ضروري ، اما الحياة فلا». فاتصلنا بقبطان السفينة وبموظفيها الهولانديين ، ودعوناهم الى زيارة الدير ، فاظهروا استعدادهم لتسفيري.

وكانت في حوزتي امانة القنصل الانكليزي «في حلب» وهي قطع ثلاثة من الزمرد. فسلمتها الى الاب مدبر الدير ليرسلها الى ايران ، وهكذا تخلصت منها ، لاني كنت طول الطريق خائفا عليها من الفقدان ، وكنت قد ضممتها مع دراهمي والكتب الرسمية بكل عناية ، وكنت اغير مخبأها من وقت الى اخر خوفا من وقوعها بيد الغرباء ، فقد اقتل اذا ما اطلع احدهم عليها ، لاني كنت احمل كتابا الى شاه فارس وهو عدو السلطان العثماني ، ولي كتاب موجه الى ملك المغول وهذا بدوره عدو الشاه الفارسي!

اتخذت خادما جديدا ملباريا يدعى نيقولا ، وكان منذ اربع عشرة سنة عند الاباء الرهبان ، منذ ان حرروه من الرق واعادوا اليه حريته ، اما موسى فقد تركته ليعود الى اهله لانه لا يفيدني في السفر الجديد وقد اعطيته ما يسره ثم ابدلت ثيابي التركية وارتديت الثوب الرهباني.

في اليوم الحادي عشر اخذني رفاقي في زورق الى حيث كان الهولنديون ، وكان يتبعنا عن كثب قارب عليه مسلمون ايرانيون يقرعون الطبول ويزمرون على الناي ، فذهبنا من المدينة الى السفينة ، وبعد ان صعدنا اليها ، بلغنا سلام زورقنا وقارب الايرانيين ، وهو عبارة عن طلقات نارية توديعية.

٤٧
٤٨

الفصل الثامن عشر

الإبحار الى كومبرو في فارس والتوجه الى سورات في الهند

رافقنا كثيرون الى المركب ، منهم الاب كازميرو الكرملي ، احد رهبان ديرنا (في البصرة) وكان عالما فاهما يتقن لغات عديدة ، وهو هولندي الاصل ، وكان الهولنديون يكنون له احتراما كبيرا ، وقد اخلوا السبيل قبل ايام عن احد البحارة الذي كان مسجونا عندهم ، نزولا عند طلبه.

في اصيل ذلك اليوم نشرت الاشرعة للريح ، فسارت السفينة تمخر عباب الماء حسب اشارات بعض الادلاء الذين كانوا يسيرون امامها ليتحسسوا قاع النهر.

صباح اليوم التالي توفي احد البحارة اذ كان مريضا ، فدفن في احدى الجزر الصغيرة ، وهذه الجزر تقسم النهر الى اربعة فروع ، فدخلت الخليج الذي يبعد عن البصرة نحو اربعين ميلا ، السفينة في احد هذه الفروع ، ونحو الظهيرة ولجنا ثم عبرنا جزيرة يعقوب (ويزعمون ان يعقوب ـ عليه‌السلام ـ كان هنا) فسرنا الى الامام ، حتى وصلنا في اليوم التالي الى جزيرة خرق (؟) (Carrach) وهناك تركنا الادلاء لمصيرنا وعادوا ادراجهم ، وقد رأينا جزرا عديدة حتى وصلنا الى ميناء كومبرو «بندر عباس» ، وهو ميناء يقوم على اليابسة يبعد نحو فرسخ عن هرمز ... فاطلقت سفينتنا طلقات التحية للقلعة الجاثمة هناك فجاءنا الجواب على التحية من مركب انكليزي كان راسيا هناك ، وقد نظرت من السفينة الى «جزيرة» هرمز (١) التي كانت حتى فترة قريبة بيد البرتغاليين ،

__________________

(١) جزيرة تقع في الخليج العربي ، عند المضيق المسمى باسمها ، احتلها البرتغاليون في مطلع القرن السادس عشر. وعندما قويت شركة الاسطول الانكليزي اخذ يتحرش

٤٩

وموقعها مهم جدا ، بل هي اشهر منطقة تجارية في العالم ، وقد قالوا عنها «لو اعتبرنا العالم خاتما ، فهرمز هي حجرته الكريمة». وقد استولى العاهل الفارسي عليها بمساعدة الانكليز ، فقلت على اثر ذلك اهميتها وفقدت شهرتها ، وقد كان هناك حصن قوي يحيط به خندق مليء بالماء ، وكان في السابق مجهزا بنحو ٣٠٠ مدفع ، فأصبح اليوم بسلاح قليل ، اذ نقل السلاح القديم الى اصفهان مع النواقيس الكبيرة التي «اشتراها؟» الاباء الاغسطينيون (١). وكان الانكليز قد علقوا آمالا عريضة على هذا الموقع عندما ساعدوا الشاه الايراني في الاستيلاء عليه ، فخابت آمالهم ، ونعم ما حدث! لذلك ندموا كثيرا على ما فعلوا وعلى اثر استيلاء الفرس على هرمز انتقلت الحركة التجارية الى كامبرو (بندر عباس) ، لكن شتان بين هذا الموقع وذاك. فهذا مكان متهدم ضيق ، ومناخه حار جدا والجفاف فيه كبير .. «وذاك بالعكس».

__________________

بالبرتغاليين ، ثم رأى الشاه عباس الاول ان احتلال البرتغاليين للجزيرة يقلل من هيبته ، فطلب من الانكليز ان يساعدوه ضد البرتغاليين ، فبدأت المناوشات سنة ١٦٢٠ ـ ١٦٢١ وفي ١٨ / ٢ / ١٦٢٢ حاصروا الجزيرة الى ان سقطت في ١ ايار. وعلى اثر ذلك تحول البرتغاليون الى مسقط فبنوا القلاع والحصون.

Wilson : op. cit. p. ١٠١ ss.

(١) اتباع رهبنة كاثوليكية غربية ، قدموا الى فارس من الهند بامر البابا اقليميس السابع ، وحلوا في مدينة اصفهان سنة ١٦١٦ (نقاشة : عناية الرحمان ص ١٨).

٥٠

الفصل التاسع عشر

اخبار متفرقة عن فارس

... في السنة الماضية سقط الاب كازميرو (١) في البصرة فريسة المرض ، ولم يمهله طويلا ، اذ توفاه الله. وكان بالقرب منه في ساعاته الاخيرة بطرس جويريده وهو ابن اخي السيدة معاني (٢) التي كانت زوجة ديللا فاله (٣) ... وقد كان «بطرس جويريده» في البصرة ترجمانا للهولنديين ...

وقد استفسرت عما فعل الدهر بالشاب جيوفاني فيريس (٤) Giovanni Vieres الذي كنت قد نصرته عندما مررت بهذه المدينة في سفرتي السابقة ، فعلمت انه انتقل الى شيراز بعد وفاة سيده ، ليعيش هناك تحت انظار الاباء. وكان يعيش من المساعدات التي كانت تغدقها عليه السيدة الكريمة اسميكان Ismikan اخت السيدة معاني المذكورة ، وهي عمة السيد بطرس جويريدة ...

فكرت بالذهاب الى اصفهان لاقدم للشاه كتابا وجهه اليه قداسة سيدنا

__________________

(١) سبق ذكره في الفصل الثامن عشر من الكتاب الاول من الرحلة.

(٢) انظر بحث يعقوب سركيس عن هذه الأسرة لعلاقتها بالسائح الايطالي المشهور ديللافاله في مجلة النور البغدادية ١ (١٩٥٠) عدد ٨ ص ٩.

Ettore Rossi : Poesie inedited in Persiano di Pietro della Valle.) RSO, XXVIII .. (١١٧ ـ ١٠٨. ، ١٩٥٣)

مع الشكر الجزيل للاستاذ كوركيس عواد الذي افادنا في ذكر هذا المرجع عن الست معاني جويريدة)

(٣) انظر الملحق رقم (٩).

(٤) هو شاب هندي من الملبار ، كان وثنيا فتنصر ، ذكره سبستياني في ف ١٨ من الكتاب الاول ج ١ ص ٦٤).

٥١

البابا (١) ... لكن القيظ الشديد منعني اضافة الى اني سمعت بان الملك المذكور هو حاليا خارج المدينة على راس جيش لجب ، يستعد للهجوم على بغداد (ثم ظهر فيما بعد انه لا صحة لهذا الخبر) فغيرت رأيي خوفا من ان امنع بعدئذ من الدخول الى الاراضي التركية ، لذا قررت السفر الى البصرة.

__________________

(١) هو البابا اسكندر السابع ، وتاريخ الرسالة ١٨ / ٢ / ١٦٥٦ تجد نصها في :

A Chronicle ـ ـ op. cit., vol. I, p. ٣٦٣.

٥٢

الفصل العشرون

الوصول الى البصرة ... واخبار عن الصابئة

... في مطلع شهر آب (١٦٥٨) وصلنا الى البصرة ، فعلمت ان مبعوث السلطان العثماني (١) كان قد وصل قبل فترة وجيزة الى المدينة ، فذهبت لزيارته يرافقني ترجمان يهودي ، وقدمت له لوحة جميلة تمثل شجرة الاناناس ، وهي شجرة مثمرة معروفة في الهند وكان قد طلبها مني اذ كان برفقتي على السفينة «عمادي Amadi» ، فاعجب بها ، لقد رايت الرجل مضطربا ، واخذ يستفسر مني عن اخبار حلب واسطنبول ، وكان خائفا جزعا. وقد سمعت عنه انه ذهب في منتصف الليل بصورة متخفية ودون حرس الى بيت احد الافرنج ليستشيره ... ثم زاره قبطان السفينة «عمادي» وقائدها ، فقدم لهما هدايا حسنة : رداء من الاطلس المطرز الجميل ، وقطعا من الديباج المقصب من عمل احمد اباد ، ومناديل اسطنبولية منقوشة ...

قبل مدة قصيرة قام الباشا بزيارة ديرنا في تلك المدينة ، وقد دخل الكنيسة ... ثم البستان فراها يابسة ، فاستفسر عن السبب ، فقيل له : قلة الماء ، فامر في اليوم التالي ان تشق على نفقته ترعة من النهر الى داخل البستان مباشرة فتم العمل في فترة وجيزة ، كما انه سمح للاب منصور ، الذي كان صديقه ، ان يشيد غرفا جديدة ، من اجل راحته ، ولفائدة الدير ، وهذا ما حدث فعلا.

ان جد هذا الوالي يدعى شاهر او قاه Ka وهو اول من اغتصب الولاية وجعلها وراثية (٢).

__________________

(١). راجع الملحق رقم (١٠).

(٢). راجع الملحق رقم (١١) حيث الكلام عن آل افراسياب.

٥٣

فخلفه ابنه علي (١) ، ثم جلس بعده حفيده المدعو حسين (٢) Osen ولما كان الرجل قد طعن في السن ، فقد سلم الباشوية الى ابنه محمد (٣) ، محتفظا بحقوق الحكم الشرعية ، ورغم تقدمه بالسن فقد كانت اخلاقه فاسدة ، وبالرغم من علو مقامه ، [فقد قام باعمال لا تليق بمركزه](٤).

عندما زار هذا الوالي ديرنا ، وقع نظره على شاب روسي الاصل كان يخدم هناك فشغف به ، وكان الفتى طريفا وخلوقا ، فطلبه الباشا من مدير الدير ، وقدم ثمنا له ٧٠٠ قرش ... فاجابه الكاهن بانه يفضل ان يقطع اربا اربا على ان يسلم ذاك الشاب المسكين ... وعلى اثر ذلك طلب الاب المدبر مني ان اصطحب الصبي الى ايطاليا لان حياته باتت في خطر في تلك الاصقاع ، فقبلت المهمة عن طيب خاطر ، وكان الشاب يتقن العربية والفارسية والتركية وله المام بالبرتغالية. وكان اسمه يوسف وقد استرقه الاتراك اذ كان طفلا مع امه على حدود روسيا فقادوهما الى اسطنبول ، وهناك اشتراهما رجل ارمني فتحنن الرجل على الطفل فاودعه الى عناية الاباء الكبوشيين الذين ارسلوه الى ديرنا ، وكان الفتى في تلك الاثناء عليلا.

وكان في الدير غلام اخر اسمه اسكندر واصله من بروت في روسيا ، اختطفه التتر وباعوه الى الجركس الذين عادوا فباعوه الى وزير من سادة بلاط اصفهان ، ومن هناك هرب بمساعدة رهباننا ثم جاء الى ديرنا. واذ كان في اصفهان اشهر اسلامه واختتن ... فطلب الاب المدبر اصطحاب الشاب الى اوروبا ...

__________________

(١) (٢) راجع الملحق رقم (١١) حيث الكلام عن آل افراسياب.

(١) (٢) راجع الملحق رقم (١١) حيث الكلام عن آل افراسياب.

(٣) هل كان محمد هذا ابن حسين وخليفته ام بالاحرى هو محمد بن فداغ نائب حسين الذي قتل على ايدي الرعاع عند نشوب الحرب بين حسين وابراهيم باشا الذي قدم الى البصرة على رأس جيش جرار نظرا لاستبداد حسين في الادارة (الاعظمي : المرجع المذكور ص ١٣٢ ـ ١٣٣) ام هو محمد باشا ابن علي باشا مير ميران الاحساء؟؟ (لو نكريك : المرجع المذكور ص ١٤٠).

(٤) قال الاعظمي «حسين باشا ... اساء السيرة والتدبير وظلم الاهلين حتى كرهوه ونقموا عليه ...» (المرجع المذكور ص ١٣٠ ـ ١٣٤)

٥٤

الفصل الحادي والعشرون

السفر الى بغداد

منذ اشهر عديدة وانا اقاسي آلاما مبرحة بسبب مرض في خصري ، ظهر عندما كنت في مسقط فبدأت بمعالجته هنا [في البصرة]. ثم توقفت عن المعالجة خوفا من ان اصبح اتعس حالا ، وكان الحر شديدا ، وقد استغرب من هذا الحر خادمنا ابلحد نفسه (١) [وهو من سكان البلاد].

صعدنا الى السفينة في ١٦ آب (١٦٥٨) ومعنا كل من اسكندر ويوسف خادمينا ، وقد اطلقنا عليهما اسمين فرنجيين وهما الكسندرو وكارلو.

ولما كان التونيون يسيرون ضد التيار ، فان دانكنا كان يتقدم ببطء ، وبعد ان عبرنا القرنة وكوي Coi والمدينتين due Medine والتركية؟ الساقية Saghe قدمنا في اليوم السادس الى الجزائر ، Gezzael فالتقينا هناك بالفرنسيين والجنود الذين تركوا البصرة منذ شهر ، فاتوا للحال للسلام علينا واستقبلونا بفرح عظيم ، واخذوا يرددون علينا كيف مات قبل ايام اكبر الجنود سنا في الساقية ودفن هناك ....

يكثر نصارى مار يوحنا في اطراف الجزائر Gezzael وقد اظهروا نحونا لطفا كبيرا. وقد توغلنا في نهر الفرات فمررنا بالشالوشية (Salucia) وكوت معمر Cutimarmer ومسافر Musafar واخيرا العرجة Arge ) وهذه قرية لا

__________________

(١) ان هذه التسمة مختزلة من «عبد الاحد» ، والاسم نصراني حديث ، وجد حسب اعتقادنا على اثر دخول الرهبان الدومنيكيين الى الشرق ، وهو تعريب اسم دومينيكو Domenico.

(٢) كوت معمر قرية بين سوق الشيوخ والناصرية على ساحل الفرات من جهة الشامية ،

٥٥

بأس بها ، يسكنها عدد من الصابئين ، وقد اعطونا مقدارا من الحليب ، وكانوا يشيرون الى واحد منهم كان قد اعتنق الاسلام قبل مدة ، فلما شعر بان الكلام يدور عليه استشاط غضبا فاخذ يصرخ ويسب ورفع قبضته مهددا.

بعد ان عبرنا قرية العرجة تحرش بنا بعض الاعراب نحو منتصف الليل ، ولما كنا على استعداد لمناجزتهم ، فانهم لم يتمكنوا من مباغتتنا او ان يلحقوا بنا اذية. كما استطعنا النجاة من خطر اخر اشد ، فقد مر بنا اسد هائج ، وكاد ان يهجم علينا اما الخطر الاقوى فكان القيظ الشديد ...

وصلنا الى السماوة Samauat وهي قرية كبيرة ، فمكثنا فيها يومين ، وحدث هناك ان ربان دانكنا غضب على غلام كان يداعبه ، وفي سورة غضبه كاد ان يقضي عليهما اذ رماهما من الدانك ، لا لشيء الا ليتخلص من دفع الرسوم عنهما .. وكان الربان يعاقر الخمرة فتجده ثملا معظم الوقت ..

بعد تركنا السماوة مررنا ونحن في النهر في مناطق تكثر عليها الخيام ، وفي التاسع من شهر ايلول ، شاهدنا في احدى الخيام ، صبايا عربيات وهن يرقصن. وكان الرقص يجري بأن تقف الفتيات اثنتين اثنتين ، تقوم الواحدة واقفة فوق كتفي رفيقتها وكان شعر رؤوسهن منثورا ، وفيه زينة «حلي؟» كثيرة.

اما ثيابهن فقد كانت بسيطة وطويلة ولها اكمام عريضة ، وكن يقفن ويتراقصن ويغنين فرحات جذلات ويؤدين العابا جميلة ، وكان ذلك بمناسبة الاحتفال بعيد الاضحية الذي يدوم ثلاثة ايام. ففي هذا اليوم يقوم الاتراك «المسلمون» بنحر الاغنام والكباش في المدينة (المنورة) ، اما الايرانيون فانهم ينحرون الابل.

وبعد ان يضحوا ، يدخلون لزيارة قبر النبي والتبرك به.

كان احد الركاب الفرنسيين قد اصيب بالزحار (الديزنطري) منذ بضعة ايام. وقد ناولناه الادوية التي كانت في حوزتنا في ظروف كهذه ، لكنه لم

__________________

ـ اما العرجاء او العرجة فتقع شمالي الناصرية بنحو ثلاثة كيلو مترات (يعقوب سركيس : مباحث عراقية ٢ / ٣٧٤ ، علي الشرقي : الجزائر في مجلة لغة العرب ٤ (١٩٢٧) ص ٥٢٦ ـ ٥٣٠.

٥٦

يستفد كثيرا ، فانهارت صحته بالاكثر ، واخذ يدنو من شفا الموت ، فاستسلم الرجل لمصيره واستعد بهدوء كبير ... وكان علينا ان نهتم بامتعته ، فقد جرت العادة «في تلك البلاد» ان يرث الباشا او الشابندر (١) او الامير اموال المسافرين المتوفين. فهم يدعون بانهم اسياد الاخرين وكل شيء يعود اليهم.

استدعينا الربان ، وبعد ان لاطفناه بالكلام ، اقترح علينا «حلا للمشكل» ان ندعو المسافرين المسلمين ، قبل أن يموت الفرنسي ، فيقر امامهم بانه كان قبطانا فرنسيا تاه في الهند ، ولذا فليس له امتعة خاصة به ، الا ثيابه وعشرين عباسية (٢) فقط ، ثم يعرضها امامهم. وقبل ان نجري بالفعل ما أقترحه علينا الربان ، وضعنا امتعة الرجل عند مساعده الذي كان فقيرا ومحتاجا.

في اليوم الثاني عشر من ايلول (١٦٥٨) وصلنا الى الرماحية Romaia ... فازدادت آلام الفرنسي وساءت صحته ، فدعا زميله ومساعده فاعتذر اليه عن سيئاته نحوه ، وترك له برضاه كل ما كان له من امتعة واذ كنا نتلو الصلوات من اجله اسلم روحه ...

كان صاحبنا هذا شابا لا يزيد عمره عن ٢٢ سنة ، وكان تقيا فاضلا ، وهو من نبلاء مقاطعة بريتانا «في فرنسا» ... ذهب رباننا ليحيط القاضي علما بوفاة الرجل ، فارسل للحال من يتأكد الخبر ويفحص الجثة ويضع جردا لامتعة المتوفى ، فلما علم ان ليس للميت ارثا يذكر ، واطلع على وصيته بشهادة المسلمين الحاضرين ، قفل راجعا الى محله ، تاركا الارث للملازم الذي اضطر فيما بعد ان يقاسم القبطان تلك الامتعة.

__________________

(١) الشابندر او الشاهبندر هو المسؤول عن الموانىء ، وهو حسب سبستياني موظف الكمرك.

(٢) من النقود التي كانت منتشرة في العراق ، ونسبتها الى الشاه عباس الكبير (١٥٨٨ ـ ١٦٢٩) «وغالبها من فضة ونحاس قليل منها كان من ذهب» العزاوي : تاريخ النقود العراقية ص ١٧١ ، ذكرها الرحالة تيفنو ج ٣ ص ٢١٢ و ٢١٣ وذلك سنة ١٦٦٤ فقال : «العباسي يعادل شاهين ونصف شاهي» (سركيس مباحث ٢ / ١٧٣ ـ ١٧٤).

٥٧

بعد ان وارينا الميت الثرى ، وتلونا على روحه الصلاة ، طلبنا من القبطان ان يزودنا بخيول تحملنا الى بغداد ، كما كنا قد اتفقنا ، لكنه اصر ان نكمل السفر الى بغداد بقارب صغير ، لان تكاليف القارب ارخص بكثير. وقد اعدت الطلب بإلحاح ، لان الايام كانت تمضي بسرعة ، وكنت لا ازال اعاني من الالم لاصابتي بالزحار ، لان مياه الفرات لم تكن توافقني ، لكن الرجل عنيد في قوله ، فسلمنا امرنا لله وبقينا على مضض.

ذهبنا من الرماحية الى الكوفة (؟) Cufcus فسمعنا هناك ان الاسود هجمت في الليلة السابقة على القرية فافترست بقرة ، لكن الاهالي اتهموا النواتي بسرقتها. فاتخذوا من ذلك حجة ليهجموا علينا. فنشب شجار كدنا نذهب ضحية له ، ثم هدأ الطرفان في الآخر.

التقينا قبل ايام ونحن في الفرات ، برجل داخل سلة مطلية بالقار (القفة) ، ومعه حمامتان وكان متجها نحو الجنوب في طريق البصرة ، وقد ارسل للاستفسار عن سفينتنا ، فصعد اليها وكتب بطاقتين ، ربطهما تحت جناحي الحمامتين واطلقهما فحلقتا قليلا فوقنا ، ثم اسرعتا في الطيران الى الامام ، لتصلا الى عشيهما حيث تركتا الافراخ وهناك يأخذهما صاحبهما فيطلع على الخبر الذي يريد معرفته.

ذهبنا من الكوفة الى الحلة (ILe) وكنا نسير بمحاذاة شاطىء جميل يقوم عليه نخيل كثير والمنطقة مأهولة بالسكان ، لكن الذباب كان كثيرا ولم يدعنا ننام ، فقد كان يهجم علينا ، ويتسلل تحت اغطيتنا وألحفتنا وداخل ملابسنا.

تقع بابل الاثرية الشهيرة هنا في الحلة ، وهذا القول يستنتج من دراسة الموقع على الفرات ، وكل القرائن تدل على ذلك ، كاعتدال الهواء ونقاء الدم وقرب البرج : ذاك البرج الذي يطلق عليه اسم برج (نمرود Nembrod بالرغم من ان البعض يزعم ان بابل هي تلك الاطلال الواقعة بالقرب من بغداد) (١) والاثار التي تشاهد هنا عظيمة.

__________________

(١) لعله يشير الى اثار عقرقوف؟

٥٨

لقد لقينا احتراما في مراكز الكمرك التي مررنا بها. وقد كنا نقول للموظفين بانّا من جماعة طوبجي باشي اعني قائد المدفعية في دمشق وبغداد ، وهو مسيحي من كريت ، يكن له القوم احتراما عميقا ويهابون جانبه في مختلف انحاء البلاد. كان هذا الرجل في الجيش العثماني مع شخص آخر اسمه جيوفاني البندقي ، في الحرب التي خاضها العثمانيون لاسترجاع بغداد (١) وقد عقد لهم اكليل النصر ، ويرجع الفضل الاكبر في النصر الى المدفع ، فجازى السلطان جيوفاني ، خير مجازاة ثم ميخائيل ايضا ، واقتطع لهما قرى كثيرة.

لم نذهب لمشاهدة البرج بسبب وقاحة كارلو ، ولان تلك الجهات كانت مليئة بالاعراب ، وقد هجموا قبل ايام على قافلة مرت من هناك فضربوا افرادها بقساوة ضارية وقتلوا بعضهم وكان رئيس قطاع الطرق ابن شيخ تلك المنطقة ، فاضطررنا إلى البقاء في تلك البقعة يومين بانتظار قافلة من الايرانيين العائدين من الزيارة Gezzara حيث ذهبوا للتبرك في جسد احد اوليائهم (٢).

حاول رباننا بمختلف الوسائل والحيل ، ان يبتز دراهمنا ، وكان يتمنى ان لا يترك لنا شيئا ، لولا خوفه من ميخائيل طوبجي اذ كان يعتقد انه في بغداد ، وكنا قد لمحنا اثناء حديثنا ، اننا كتبنا اليه ، بواسطة الانكليز ، نخبره باننا على متن هذه السفينة.

خرجنا من الحلة مساء فعبرنا الفرات على جسر من القوارب ، وقد امضى الغلامان ليلتهما في المدينة ، فقلقنا عليهما ، لكنهما عادا مع تباشير الصباح ، فعاودنا السفر ، وبعد نحو خمسة عشر ميلا من المدينة لاحظنا اعرابا يتجمعون ويتمركزون على مسافة ليهاجمونا. وللحال اتخذنا نحن ايضا مواقع للدفاع ، دون ان نتوقف عن السير ، بل بالعكس ، فقد اسرعنا في سيرنا ، فلما لاحظوا كثرة عددنا ، وانطلت عليهم حيلة التجأنا اليها ، وهي ، اننا وضعنا بين

__________________

(١) انظر الملحق رقم (١٢).

(٢) في النص يتكلم عن احد «انبيائهم» ، وهذا خطأ.

٥٩

بندقية واخرى عصا طويلة تظهر من بعيد وكانها بندقية ، خافوا منا ، فمررنا على مسافة رمية بندقية دون ان يتحركوا.

قضينا نهارا وليلة في خان جميل جدا ، كالذي يشاهد في فارس ، وهناك ابتعنا ما يروي عطشنا ، خاصة مشروبا حارا حلو المذاق ، كان جزيل الفائدة للمعدة.

امتطينا خيولنا منذ الصباح الباكر ، وسرنا بسرعة ، دون التوقف في الخانات التي مررنا بها.

ولما قاربنا بغداد التقينا بعسكري انكشاري كان سفيها وقحا ، فدفع له قبطاننا الرسوم المفروضة علينا ، وعندما بلغنا الجسر ، اذا بانكشاريين يهمون بالقبض علينا ، معتقدين اننا قادمون من حلب : فقد كانوا ينتظرون بعض الفرنسيين القادمين من تلك الجهات ليلقوا القبض عليهم حال وصولهم بامر الوالي نفسه ، لكن قبطاننا افهمهم حقيقة امرنا ، فدخلنا الى المدينة ، وبعد ان فحص رجال الكمرك امتعتنا ، ذهبنا الى بيت الكبوشيين ، الذين استقبلونا بحب وترحاب.

٦٠