رحلة سبستياني

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي

رحلة سبستياني

المؤلف:

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٦

الفصل الثاني والعشرون

كلمة عن النساطرة

لم يكن قد مضى زمن طويل منذ ان تبوأ وال جديد مدينة بغداد وهو صهر السلطان (١). وحدث ذلك على اثر مضي الوالي السابق (٢) ، الذي كان ، والحق يقال ، يكن للاباء الكبوشيين احتراما وتقديرا ، وما ان قدم الباشا الجديد ، حتى ذهب بعض ضعاف النفوس المتحاملين على الاباء فوشوا بهم

__________________

(١) كان والي بغداد آنذاك محمد باشا الخاصكي الذي تعين في نهاية سنة ١٦٥٦ (١٠٦٧ ه‍) ، وكان فيما مضى واليا على مصر ودمشق. وبقي في بغداد الى اواخر صيف ١٦٥٩ (١٠٧٠ ه‍) وهو الذي تربى تحت رعاية السلطان وفي كنفة «(كلشن خلفا ص ٢٥١) لكنه لم يكن صهر السلطان بحصر المعنى كما يذكر سبستياني. والخاصكي «استملك بعض كنائس النصارى المجاورة لمساجد المسلمين ... واتخذ منها مسجدا ومعبدا لاهل الهداية» (المرجع نفسه ص ٢٥٥).

قال العزاوي «في ايام هذا الوزير كان بعض الرهبان بنى كنيسة بقرب مرقد الشيخ محمد الازهري ... في حين ان النصارى لم يبنوا في بغداد من ابتداء عمارتها ديرا (كذا) فلما سمع الوزير بذلك خرب الكنيسة وبنى موضعها جامعا ... وعرف بجامع محمد باشا السلحدار ثم شاع باسم (جامع الخاصكي) ..» تاريخ العراق بين احتلالين ٥ / ص ٦٤ راجع ايضا رزوق عيسى : كنائس النصارى في بغداد في نشرة الاحد ٤ (١٩٢٥) ص ٦٧٩ ـ ٦٨١ حيث قال «في سنة ١٦٣١ م اشترى الاب جوست الكبوشي الباريزي دارا في الزوراء واتخذها مسكنا ومصلى يقيم هو وجماعته فيها فروضهم الدينية وفي عام ١٦٣٧ م سجلت الدار باسم ملك فرنسا لويس الثالث عشر (وكان مجاورا لدير الرهبان) قبر الشيخ محمد الازهري ...»

(٢) الباشا السابق هو محمد باشا الابيض (اق محمد باشا) ١٠٦٥ ـ ١٠٦٧ ه‍ (١٦٥٤ ـ ١٦٥٦ م).

٦١

عنده ، فاضطهدهم ووضع يده على ديرهم ، وهدم بيعتهم ، واقام مكانها مسجدا ، ثم كبلهم بالحديد واوقفهم «امرهم بالاقامة الجبرية» في بيت احد المسيحيين ومنعهم من الخروج ، فعاشوا فترة من الزمن حياة تعيسة ، وقاسوا الامرين ، لكن «الباشا» بعد ان بحث عن الحقيقة ، ظهرت له براءتهم وبانت نقاوة سيرتهم ، فاشترى بيتا جديدا ، احسن من السابق ، وجعل من الطابق الارضي معبدا وسلمهم اياه ، فعادوا الى البيت فرحين.

ولما كانت بغداد مركزا لاتباع نسطور (١) ، فلا بد من ان انوه عنهم بكلمة (٢) ... ولا يزال اتباعه الى يومنا هذا ، ولو ان عددهم ليس كبيرا في هذه المدينة ، لكنهم كثيرون في اطراف الموصل ، اذ يبلغ عددهم هناك نحو اربعين الف ...

ان الاكليروس والعلمانيين الانقياء يتناولون القربان بايديهم ، ويشربون من الكأس ايضا ، اما سائر المؤمنين ، فانهم يتناولون القربان من يد القسيس ، بعد ان يبلل الخبز بالخمر ...

ينتخبون اساقفتهم وبطاركتهم من بين الرهبان فقط ، ويقوم البطريرك على اثر تعيينه من قبل سلفه بشرط ان يكون قد امتنع كليا عن اكل اللحم.

يعتبرون انفسهم كاثوليك فيطلقون هذه الكنية عليهم ، ويلقبون أنفسهم بالبابليين ، ويقولون بانهم يؤمنون بكل ما علمه الحواريون. يعيشون في جهل مطبق ...

لهم بطريرك يقيم في القوش Alcus بالقرب من الموصل ...

زارنا كثيرون من اتباع الوالي وعبيدة (بينهم عدد كبير من اصل نصراني) فواحد من مالطة ، والاخر من باليرمو والثالث من سيراكوزه (ايطالية) او من اسبانيا وفرنسا ... واظهروا لطفا كبيرا نحونا ...

__________________

(١) هو بطريرك القسطنطينية (٤٢٨ ـ ٤٣٠) له مذهب ديني خاص لا يوافقه الكاثوليك عليه.

(٢) يذكر المؤلف شيئا عن حياة نسطور وبعض تعاليمه الايمانية التي لا حاجة بنا اليها.

٦٢

ناولت «القربان» الى نساء عديدات من اهل البلد ، ولهن عادة التقرب وهن واقفات ، اذ يعتبرون الوقوف علامة اكرام وتبجيل.

لا حظت عادة اخرى عن الاتراك انهم يحيون باليد اليسرى! ...

لقد ظهر لي ان الامبراطورية العثمانية كلها في حالة من الفوضى لا تحسد عليها ، فانتصارات اهل البندقية المتتالية ، اولئك الذين اصبح لهم قوة كبيرة يحسب لها الف حساب ، من جهة اخرى كان حسن باشا (١) والي حلب واغا التركمان قد اعلنا العصيان واتفقا مع والي دمشق والقدس ، ومع رؤساء اخرين ، فجمعوا جيشا عرمرما مؤلفا من جنود مدربين ، وزحفوا على اسطنبول مهددين قاعدة المملكة بالخراب. عندئذ اصدر الباب العالي امرا الى جميع الولاة (الباشوات) ليجمعوا عساكرهم لمجابهة ذلك الجيش ، وأن يجتهدوا ليحولوا دون اتفاق اولئك «العصاة» مع الشاه الايراني ، اذ كانوا يعتقدون «هناك في الباب العالي» بوجود اتفاق بين المتمردين والعاهل الايراني. وكان مرتضى باشا قد وصل الى حدود الموصل على راس جيش قوامه ثلاثة عشر الف جندي ، دون نظام ، وكان جيش الثوار من الطراز نفسه ، وكانوا «اعني جنود مرتضى» يهاجمون القرى الآمنة والمسافرين ، والقوافل ايضا ، فيسلبون ويقتلون.

ان هذه الاحوال المضطربة حملتني على ترك طريق ما بين النهرين والسير في طريق الصحراء مع دليل وبرفقة جنود وخادمين اثنين ، بصحبة القس الياس (٢) ، الذي كان نسطوريا فتكثلك ، وهو ابن اخي بطريرك تلك الطائفة (٣) وقد

__________________

(١) «كان قد تمرد حسن اباظة باشا في الاناضول واستشرى فساده ، فصدرت الاوامر الى مرتضى باشا بالسفر الى هناك لقمع الفتنة ، والحق به بعض الميرميران والقواد من العساكر ، ولما وصل قرب قونية عبأ قواته وهجم على العدو قبل ان يعد العدة ويهيىء جنوده للحرب ، وبعد كر وفر وطعن وضرب دارت الدائرة عليه وارتد مخذولا نحو جهة حلب .. ثم جمع اشتاته ، وراح يستعد لا عادة الكرة ثم سار نحو خصمه ..» كلشن خلفا ص ٢٥٧.

(٢) بخصوص القس الياس انظر الملحق رقم (١٣).

(٣) انظر الملحق (١٤).

٦٣

اخبرني القسيس انه يقصد السفر الى روما للتبرك ، ولاجل امور خاصة به ، وقد اوصتني عليه امه بدموع غزيرة كما اوصانا عليه اخوته والاباء والكبوشيون.

اتخذنا لنا دليلا يعرف الطريق ، ندفع له ثلاثة وثلاثين قرشا ، ثم اشترينا الخيول وأعددنا ضروريات الطريق ، وقبل ان نبدأ السفر انتشر خبر مفاده ، ان الباشا امر بالقبض على الافرنج القادمين من حلب ، فتخوف «الشاطر» اعني الدليل وعدل عن السفر ، فوجدنا دليلا ثانيا ، ندفع له اربعين قرشا ، وهذا بدوره غير فكره وامتنع عن السفر. فاضطررنا إلى الانتظار ريثما يصل الافرنج مع القافلة القادمة ، فما ان دخلوا بغداد حتى تم القاء القبض عليهم وزجوا في اسطبل احد الاغوات الكبار.

كان هؤلاء الافرنج الماركيز درفيل Dereville ، ورفيقه المدعو ميركانتي Merchanti وكانوا يقولون انهم في طريقهم الى الهند عن طريق البصرة ، ولم يكن معهم من المال الا اليسير ، اضافة الى ساعة ، يقدر ثمنها بثمانين قرشا ، وبعض الاسلحة ومجموعة من الرسائل. فصادرت السلطة هذه الاشياء كلها للحال ، لكن هؤلاء كانوا اوسع حيلة وابعد نظرا اذ كانوا يتوقعون هذه الاحداث ، لذلك كانوا قد وضعوا الاغراض المهمة والثمينة امانة عند بعد الارمن الذين كانوا معهم في القافلة ، وقد قدم هؤلاء ـ الارمن ـ شهادة حسنة بحق الافرنج اثناء الاستجواب.

ارسل الوالي في طلب رئيس الاباء الكبوشيين وامره ان يترجم بكل امانة تلك الرسائل المصادرة الى اللغة التركية ، كما امر ان يحضر معه مملوكه الفرنسي عمر. فتعاونا لتكميل ارادة الباشا ، لكنهما اتفقا على ان يغضا النظر عن كل ما في الرسائل من امور قد تثير الشكوك ، ولم يكن في بغداد غيرهما من يتقن اللغة الفرنسية ، لكن الوالي كان قد عرف بان أحد الافرنج هو سفير البندقية الى شاه ايران جاء بمهمة خاصة وهي ان يحثه على مهاجمة بغداد ، لذلك قرر ان لا يطلق سراحهم ، بل وضعهم في مكان ارحب وانظف من الاسطبل! وسمح لعبيده الافرنج بان يذهبوا لزيارتهم ويقدموا لهم المساعدة اثناء الطعام للاطلاع على اشياء كثيرة.

٦٤

كان اثنان من الارمن ، من اصدقاء الماركيز المذكور ، قد هجم عليهما اعراب الصحراء ، فضربوهما في الرأس وفي الساعد الايسر ، بالرغم من انهما كانا في عداد افراد القافلة المؤلفة من اكثر من مئة مسافر ، لذا كانا يقولان لنا ، انكم ان سافرتم بطريق الصحراء فستلاقون حتفكم من كل بد ، وهذا ما اكده سباهي (١) الوالي ، وهو فرنجي الاصل من مدينة تريفزو (٢) ، الذي عاد من اطراف الموصل ، وقد جرح جرحا مؤلما في كتفه اليمنى ، وكان يردد انه متى ما تم اخضاع الاعراب ، فمن الضروري التوجه لاخضاع التركمان الذي كانوا يتجولون في جهات حلب.

كان كارلو (خادمنا) سبب نفوق احسن خيولي ثم تمرض حصان آخر ، واصبح كارلو واسكندر اكثر وقاحة مما كانا عليه من قبل. ولم نتمكن من العثور على دليل جديد ، وحدث في تلك الايام ان قافلة بارحت بغداد متوجهة الى ايران ، فما ان عبرت باب المدينة حتى هوجمت ، وتبلبل افرادها شذر مذر ، وكانت الخسارة نحو ٥٠٠٠ قرش اضافة الى موت بعض المسافرين! وقيل ان اللصوص هم من اتباع الوالي المقربين!

ان هذه الحوادث المتتالية حفزتنا على السفر باسرع ما يمكن في طريق الصحراء مهما كان الخطر فاجتمعنا للمشاورة ، لكننا لم نصل الى قرار ، واجمعت اراء الاكثرية على العودة الى البصرة ، او الذهاب الى اصفهان ، فينتظر اياما احسن وفرصا مواتية في السنة القادمة ، او ان نرجع من جديد الى الهند.

اخيرا ، رأينا ان نقدم خدمة لله تعالى مع ما فيها من خطر على حياتنا ، فقررنا ان نقوم بها.

فوجدنا دليلا يمكن الركون اليه ، رغم افتقاره الى الخبرة الكافية في

__________________

(١) لفظة تركية فارسية «سباه» تعني الجندي الخيال ، والنسبة اليها سباهي ، وكان الاقطاعيون يقدمون هؤلاء الجنود لخدمة مؤقتة.

(٢) مدينة في ايطاليا ، من ضمن مقاطعة البندقية.

٦٥

الطرق ، قبل ان يرافقنا لقاء مكافأة قدرها اربعون قرشا ، فاشترينا حصانا ليحل محل الحصان النافق ، وكان الحصان الثاني المريض قد تعافى ، فاستعددنا للسفر ، كما اشترينا خبزا وزبيبا لاكلنا ، ولم ناخذ الا الاغراض الضرورية ، وتركنا بقية الامتعة امانة عند الاباء الكبوشيين ليرسلوها مع اول قافلة تتجه الى حلب.

بعد اتخاذي هذا القرار ، شعرت بالغم يهاجمني ، كما ساورني شعور داخلي بقرب اجلي ، فسيطر على الارق ، وفي الفترات القليلة التي كنت انام فيها ، كانت الاحلام المزعجة تقضي على منامي ، فكنت اراني مثخنا بالجراح في قلب الصحراء ومنازعا اودع الحياة! ...

ارسلت عمر وبعض الخدم الاخرين الى درفيل (السجين الافرنجي) لا حيطه علما بسفرنا ، فطلب منا ان نخبر القنصل بيكيت في حلب بما حدث له ، ليهتم بكل الطرق والوسائل من اجل اطلاق سبيله.

اما الخادم جابيلان فقد احب البقاء في خدمة الاباء الكبوشيين ، فاخذنا عوضه شابا سوريا حلبي الاصل ، لاننا اردنا ان يزدادد عددنا ، فاشترى الرجل حصانا ، وهكذا صار عددنا تسعة انفار ، اعني : الاب رفيقي وانا ، الجنديان ، الخادمان اسكندر وكارلو ، القس الياس ، الشاطر (اي الدليل) واسمه الحاج بركات (حاجي بركاتي Agi Paracati والشاب السوري.

تركنا بغداد في العاشر من تشرين الاول (١٦٥٨) قبل هبوط الظلام ، بعد عشرين يوما من الاقامة فيها ، فخرجنا من باب المدينة ، ولم نلق اذية عند البوابة او عند عبورنا الجسر ، نظرا لوجود شاب من بطانة الوالي اسمه مصطفى رافقنا الى الباب مع كاهنين كبوشيين ، ولكن ما إن تركونا ، حتى ركض في اثرنا عسكري انكشاري ، لم يتجاسر على الكلام امام مودعينا ، فطلب منا رسوما ، فكان لا بد من ان نلبي طلبه ، وكان كارلو يتبعنا عن بعد ، فاقترب منه العسكري وطلب الرسوم ، واذ لم يكن معنا عندما دفعناها ، فقد اداها من جديد كاملة عن الجميع! ..

٦٦

الفصل الثالث والعشرون

سفر خطر الى حلب

امتطينا خيولنا وسرنا طوال الليل ، لكننا ضللنا الطريق ، وتوغلنا في ارض سبخة ، ثم التقينا برعاة ارشدونا الى الطريق الصحيح ، وبقينا نسير تلك الليلة وفى اليوم التالي دون التوقف للاستراحة ، وكنا نتجنب الدروب المطروقة ، والاماكن المأهولة التي كنا نراها من بعيد ، لنتوقى شر الاعراب فلا نعطيهم فرصة لمباغتتنا ، فالمعروف عنهم ، انهم ينتشرون في البادية ، فاذا ما لمح احدهم المسافرين او احدى القوافل ، يسرع فيخبر جماعته ، فيجتمعون للاجهاز على القافلة.

وبعد ان سرنا في فيافي قاحلة لا نهاية لها ، دخلنا في منطقة كلسية وعرة المسالك ، لنبتعد عن قطاع الطرق ، فقد نشعر بقربهم منا ، بالرغم من عدم رؤيتنا لهم ، وعندما اقتربنا من الفرات ، توقفنا لنريح الخيول بعد تعب طويل ، واعتدنا ان نستريح مرة واحدة كل اربع وعشرين ساعة فقط ، لنأكل لقمة يابسة والتمر والزبيب ، ولم نكن ننام الا نحو ساعتين من الزمن ، نتناوب خلالها الحراسة ... ان الجنديين اللذين رافقانا كانا على طرفي نقيض في طباعهما ، احدهما سريع الى الغضب ، اما الاخر فمسكين ، يفتقر الى الشخصية ، يتذمر اكثر الوقت ، تارة من السفر المضني وتارة من مرض خيالي يتصوره ، وتارة اخرى من اخطار السفر ، ولذلك كان يبكي احيانا ، ويرمي نفسه على الارض فيتمرغ بالتراب ويطلب العودة ، فكان يبتعد عن باقي المسافرين ، رغم ما في الابتعاد عن الاخرين من اخطار ، ولذلك كنا نحثه على السير ، وكنا نهمز حصانه من وقت الى اخر ليسرع بالسير.

اما الشاب السوري الذي اتخذناه خادما بناء على توصية الاباء

٦٧

الكبوشيين ، فقد ظهر المسكين ناقص العقل وغريب الاطوار ، فنسي انه يرافقنا من اجل تقديم الخدمة لنا ، وكان في صراع متواصل مع الدليل يطلب منه بإلحاح ان يخدمه!.

في اليوم الثالث من سفرنا فقدنا ما كان معنا من الماء ، فعطشت الخيول ، وعند المساء مررنا بالنهر ، فشربت وأكملنا المسير ، ومررنا بطريق خطرة ، فكنا نسير بصمت تام ، فقد حرم الدليل علينا الكلام بل العطسة ايضا! وفي الصباح غلبنا نعاس ثقيل فسقطنا كلنا عن خيولنا ، لذلك سمح لنا المرشد ان نستريح مدة ساعة ولما امتطينا الخيول عاد النعاس يداعب اجفاننا ... وبعد مدة وصلنا الى عانة الواقعة على الفرات ، وكان اليوم الرابع من سفرنا ، بينما لو كنا في ركب قافلة كبيرة لما وصلنا الى هذه المدينة في اقل من عشرة ايام.

كان الحاج بركات من اهل عانة ، لذلك اخذنا الى بيته ، وهناك تناولنا الطعام على الطريقة العربية وكان تمرا وسمنا ، ودفعنا رسوم المرور قرشين عن كل نفر اضافة الى ما دفعناه من قبل عند عبورنا النهر.

ان دليلا قادما من حلب ، اخذ يروي لنا عن كثرة اللصوص وانتشارهم في الطرقات ، ففكرنا باصطحاب دليل اخر اكثر جرأة واوسع خبرة من مرشدنا. فوجدنا شابا اعرابيا مقداما ، ثم قيل لنا انه خائن وهو على علاقة بقطاع الطرق ، ومن جهتنا فاننا والحق يقال لم نركن اليه ولم نرتح ، اذ كان يزورنا دائما ويجلس الينا ، ويضرب على آلات الطرب بطريقة تثير الازعاج.

مرت ايام ثلاثة ولم نعثر على ضالتنا ... وكانت الخيول قد استراحت من تعب الطريق ، فقررنا السفر ، واذ كنا في وسط المدينة (وجدير بالذكر ان مدينة عانة طويلة جدا ، وتقع بين التلول من جهة والنهر من الجهة الثانية) ، تصدى لنا عربي متسربل بالسواد من اعلى كتفيه الى اخمص قدميه ، وعلى راسه عمامة حمراء ، وله مسدسان على حقويه ، وخنجر كبير في وسطه ، فقال لنا : الى اين انتم ذاهبون؟ اتسيرون الى الموت؟ الا تعلمون ان الطرق كلها مليئة باللصوص في ارجاء الصحراء؟ اني والله لولا مخافة ربي لتركتكم تسيرون الى حتفكم ، لانكم وايم الحق تستحقون الموت بسبب تهوركم ،

٦٨

لكنني اشفق عليكم ، اني من اتباع الافرنج ، ولذا اريد ان ارافقكم وارشدكم في طرق سليمة ، كما فعلت مع اخرين من قبلكم ، واعطوني كما ترتاؤون. واذ كان الحاج بركات رعديدا ، وقليل الخبرة في الطرق البعيدة ، فقد ألح علينا كي نقبل الرجل ، واكد انه يعرفه شخصيا وانه جدير بالثقة. فاتفقنا على اثني عشر قرشا ، فقادنا الرجل الى بيته ، واحسن ضيافتنا ، فلما حل الظلام عدنا الى الطريق كما اننا كنا نسير في النهار ايضا وتابعنا السير في الليلة التالية.

ثم علمنا اننا سنقترب من قافلة ميخائيل طوبجي الذي كان عائدا من دمشق متوجها الى بغداد ، كما كان يفعل كل سنة ، فيمكث هناك الى نهاية كانون الثاني (١) ، فتمنينا ان نراه ولذلك اخذنا ننصت في الليل الى وقع حوافر خيول قافلته ، فعلمنا انه قريب ، فذهبنا للقياه وتقديم احترامنا له.

كان يسير في ركابه عدد كبير من الجنود ، معهم طبول وبيارق خفاقة ، وراية مقدسة محمولة على جمل. فلما اخبروه بقدومنا وتعرف علينا ضرب ركبته بيمناه قائلا ، وا ويلاه ، اتذهبون الى نهايتكم؟ انه والله تهور فظيع! لقد رأينا اليوم بأم اعيننا ستين واحدا من قطاع الطرق يعبرون الفرات ، فبينت له ضرورة السفر ، كما قلت له ان ثقتي بعناية الله عظيمة ، عندئذ اطلق عيارا ناريا من بندقيته فاتى للحال ابنه «بولس اغا» وكان شابا له من العمر نحو ست عشرة سنة ، فامره ان يكتب لي جوازا ، يبين فيه انني من اقاربه ، او بالاحرى ابن اخيه ، ويشهد انه قد ارسلني الى الباب العالي ، لامور مهمة ، يجب ان ابحثها مع السلطان نفسه ، ووقع عليها بختمه الخاص (وهو خاتمه الخاص).

عندئذ اخبرته عن اعتقال الماركيز ، وطلبت منه ان يسعى لاطلاق سراحه فوعدني خيرا ، ثم اردف : على ان لا يكون ذاك الشخص الذي التقى به في

__________________

(١) ذكرنا في فصل سابق قول دي لاموت لامبيرت ان ميخائيل طوبجي هذا «يترك اراضيه الواقعة ... في طرابلس .. ليذهب الى بغداد ... ويكون سفره في ابعد الاوقات بعد ١٥ تشرين الاول ..» وهذا يطابق قول صاحبنا فقد لاقاه في الطريق قبل ٢٣ تشرين الاول.

٦٩

دمشق فأتعبه كثيرا ، وقد ادعى انه ذاهب الى ايران لامور خاصة به ، وقد نصحه بالعدول عن السفر ، ثم عاد اليه عشية سفره ، واذ لم يلتق به في البيت ، فقد كتب على جدار بيته «لا تكمل الطريق فسينفضح امرك» ، ثم قال لي أمورا عديدة لا اتمكن من نشرها ، وروى لنا عن جيش حسن باشا العظيم ، وعن اعتقال سفير فرنسا في اسطنبول وعن احداث اخرى ، انتشرت فيما بعد في العالم كله ، وبعد ان ابدينا شكرنا الجزيل لحسن ملاقاته وكرم ضيافته ودعناه بسلام ، وقد اوصى بنا كثيرا الى المرشدين ، فعاودنا السفر وهو بدوره اكمل طريقه.

وصلنا في منتصف النهار الى بعض الخيام ، فاذا بامارات الضعف والجبن تظهر على دليلنا الجديد ، ذاك الفارس المغوار ، واسمه رجب Recepe اذ قرر تركنا! ولما ابتعدنا عن تلك الخيام ، رأينا خمسة اشخاص يركضون نحونا ، وقد اطلقوا لخيولهم العنان ، فتولانا الخوف ، وشككنا في امرهم ، لكننا فهمنا من احدهم انهم عبيد وقد وجدوا فرصة مؤاتية لاسترجاع حريتهم فهربوا!

ظهرت عن اليمن (؟) Sciaras وعن اليسار (؟) Masciati ثم (؟) Zaban وهي قرى صغيرة تقوم في وسط البطحاء. اما نحن فقد اهملنا طريق Masuati بالرغم من انه الدرب المسلوك عادة ، لكن الامان فيه قليل ، وسرنا في طريق تقودنا الى النهر ، وقد لمحنا عن بعد ظلال (رجال؟) وللحال اطلق رجب الشجاع حصانه للريح دون ان ينبس ببنت شفة ، فلم نسر في اثره ... وعملنا بموجب خطة اقترحها علينا الحاج بركات ، اذ اكملنا السير بعد ان استعددنا للقتال ، وقررنا عدم الافتراق الواحد عن الاخر ، وفي حالة الهجوم ، علينا ان ننزل حالا الى الارض ، ونستغل الخيل كموانع للدفاع ، فنمسك اعنتها باليد اليسرى ، ونحارب باليمنى. وبينما كنا نضع هذه الخطة ، كنا نستحث الخيل ونبتعد شيئا فشيئا دون ان نظهر ضعفا ، فتلاشت الظلال عن نظرنا ، وابتعد الاعراب عنا ، وبعد سويعات رأينا ذاك الجندي المقدام (رجب) مختبئا بين الادغال فظهر للعيان ضعفه وبانت خيانته ، لكنه بدأ يدافع عن نفسه ملفقا

٧٠

الاكاذيب ، مدعيا بانه سبقنا ليجد اماكن حصينة ، وليطلع على عدد المهاجمين وجنسيهم (اي الى أي قبيلة ينتمون). وقد اخذ الخدم يضحكون ويستهزئون من الفارس العظيم ، فحاولنا جهدنا تهدئتهم ، خوفا من نشوب العراك فيما بينهم.

عند حلول المساء ، اقترح القس الياس ، انه ليس من باب الفطنة ان نعرض جواز السفر الذي زودني به ميخائيل طوبجي ، فالرجل مشهور ومعروف عند الجميع بانه نصراني ، وقد كتب في الجواز اني ابن اخيه ، وهكذا اعلن عن نصرانيتي ، وقد يستنتج قراؤه ان كل افراد القافلة نصارى ، فتكون العاقبة وخيمة ، وكان الدليلان من رأي القس الياس ، ثم اقترحوا ان يقال ـ عند الحاجة ـ باني تتري (١) مرسل باسم والي بغداد السلطان ، لقد قرروا كل ذلك دون علمي ، وعلى اثر قرارهم ، ذهب الجندي مرافقنا الى خيام غريبة ليعلن عن قرب وصولنا ، ففرشوا الابسطة وصفوا الوسائد لنتكىء عليها ، واستقبلونا والحق يقال باحترام بالغ ، وبعد سويعات قدموا لنا خبزا مصنوعا من القمح كبير الحجم ، لكنه كان ملوثا بالفحم والرماد ، ووضعوا امامنا شاة مطبوخة في وعاء كبير من الطين.

كنا في حالة من الجوع لا توصف ، وكان اليوم نهار السبت ، فاردت الامتناع عن تناول الطعام (٢) ، لكني خفت ان يعطي صيامي مجالا للشك عند الاعراب ، فطلبت منهم شيئا من اللبن ، مدعيا باني وزميلي الاخر نشعر بألم في المعدة ، فاحضروا اللبن في الحال مع دهن حار ، فاكلنا ، وسمحت لمرافقينا المسيحيين ان يتناولوا اللحم ... وعند شروق الشمس سافرنا من هناك ، فوصلنا في اليوم التالي الى بلدة كبيرة يحيطها سور ، اسمها الدير Der

__________________

(١) التتر او التتار تعني سعاة البريد ، ويكتبها البعض «ططر» ، وكانوا يستخدمون لنقل البريد في ارجاء الامبراطورية واشتهروا بسرعة الجري.

(٢) ان قانون الرهبان الكرمليين القديم يحرم عليهم اكل اللحم. خاصة يوم السبت ، تعبدا وتقربا.

٧١

فذهبنا الى مضارب البدو ... فاستقبلونا بحرارة ، واجلسوني في صدر ديوانهم ... واجتمع القوم بنا ... وكان الجميع ينهضون وينحنون امامي كلما نهضت او هممت بالدخول الى احدى الغرف ... ان بساطتهم تثير الاعجاب العميق.

كاد هذا المجلس الطيب ان يتحول الى مأساة مريرة ، عندما وصل رجال يهود ، فاخذوا يتفحصوننا جيدا ، ثم صرحوا باننا من الافرنجة ، لكن الدليلين انكرا ذلك ، اما الجندي فقد انتهز الفرصة لعله يجني ربحا دنيئا ، فاقنع الحاج بركات وهكذا اعترفا بالحقيقة الى حارس الديوان ، وانتشر الخبر بين الجالسين كانتشار النار في الهشيم ، فاذا بشاب يرتدي جبة من الحرير الاطلس قام في وسط المجلس وبيده هراوة غليظة ، وقال انه شاهبندر البلدة ، ولذا فهو يطالب بالرسوم (... وبعد اخذ ورد ...) ارضيناهم بقرش عن كل واحد من المرافقين ... ثم ما لبثت ان رأيتهم يتقاسمون المبلغ ...

تمرض احسن حصان كان عندنا ، وكان متعبا وجريحا ، ولما اردنا تبديل نعاله ، طلبوا قرشا لكل مسمار ... وكانت مؤونتنا قد نفدت ... اما المملوكان فكانا في نقاش مستمر ، وقد اراد كارلو التخلي عنا ... وقد فحص احد الاشخاص الخبيرين بالخيول حصاننا المريض فقال ان السير السريع يفيده ... وبعد ان اشترينا زادا لنا ، وعلفا لحيواناتنا ، وبعد ان هدأت الحال بين خدامنا ، قررنا السفر ، وقد تقدم رجل من اهل المنطقة ليرافقنا في السفر الى حلب ، وكان مزودا بالسلاح ، فبعد ان اتفق مع دليلنا ، تركنا بلدة الدير في مساء اليوم الثالث من وصولنا ، فجبنا الفيافي طوال الليل ، ولم نسترح الا في فترات قصيرة ، حتى وصلنا الى منطقة هي اخطر المناطق في بلاد العرب كلها ، وهناك كان خيالنا يصور لنا وجود اللصوص في كل خطوة ووراء كل اكمة! ...

خلال اسفاري في آسيا ، في طريق الذهاب وبطريق الاياب ، لم تمطر السماء ابدا ، وحدث في ذلك اليوم ان تلبدت السماء بالغيوم ، وانهمر المطر علينا مدرارا ... فصرنا نسير في وسط الوحول ، وفي منتصف النهار توقفنا

٧٢

قرب ابار عميقة الغور ، كان ماؤها اجاجا ، يشوبه طعم الكبريت ، وفي اخر النهار ، وجدنا بئرا ماؤها عذب.

كثيرا ما كنا نسير في دروب مطروقة من القوافل ، لذا اخذنا نهتم بمراقبة النجوم ... وكنا بحاجة ماسة الى الماء ... انقضى يوم اخر ، وكنا نسير في الطريق المؤدي الى عين طيبة Taiba وهي موطن ابينا المعظم ايليا (١) (حسبما يؤكد بعض المؤرخين). فاقترح الجندي علي ان نتزود هناك بالطعام. ولكننا لم نتوقف لان تلك البقعة كانت مليئة باللصوص ، ولان دراهمنا كانت قليلة ، فاكملنا مسيرتنا ... مضينا الى قرية سيبيلا Sibilla وهناك لحق بنا السوري دون حصان ، واخبرنا قائلا بان حصانه لم يعد يتمكن من مواصلة السير ، واستضافنا شيخ القرية معتقدا اننا تتر فاحسن وفادتنا ، وارسل الشيخ رجاله ليحضروا حصان السوري ، ثم سرنا من هناك ، بعد ان ابقينا الحصان العليل عند الشيخ كي يعالجه ، كما بقي عندهم اسكندر والشاب السوري كي يستريحا هما ايضا من تعب الطريق ، على ان يلحقا قافلتنا متى ما تعافى الحصان ليكملا طريقهما الى حلب ... وقد مررنا بقرى عديدة ، وفي منتصف اليوم التالي بانت مدينة حلب من بعيد ، فغمر قلوبنا فرح لا يوصف ورفعنا نشيد الشكر لله ، واكملنا طريقنا الى باب المدينة فدخلناها مغتبطين.

وعند وصولنا الى محلة الافرنج (٢) سقط احد الجنود عن حصانه ، وبقيت رجله متعلقة بالركاب ، فجره الحصان بضعة امتار فوق ارض حجرية صلبة ، وبالرغم من الحادث الخطر فقد قام الرجل سالما ولم تحدث له

__________________

(١) احد انبياء العهد القديم ، له ذكر في الكتاب المقدس ، ولد في المائة العاشرة قبل المسيح ، وعاش على عهد اخيه الملك وازابيل ، وقاوم العبادات الوثنية متحملا الاضطهاد ، واصله من (تشبة) وليس طيبة ، ولذا سمي في المراجع الكنسية الكلدانية وايليا التشبيثي» (انستاس الكرملي : مختصر ترجمة مار الياس الحي) في نشرة الاحد ٥ (١٩٢٦) عدد ١٤ ص ٤٤٨ وفي الاعداد التالية ص ٤٧٤ و ٤٩٦.

(٢) يطلق على هذه المحلة اسم «الجديدة» وكانت غالبية سكانها من الافرنجة والمسيحيين.

٧٣

كسور ، فكانت معجزة من السماء! اما الحاج بركات فلما رأى نفسه قد وصل سالما الى حلب قرر ان يكمل نذرا كان قد قطعه على نفسه ، وهو توزيع لحم كبش على الفقراء مع كمية من الرز ، فاسرع ليكمل نذره.

٧٤

الفصل الرابع والعشرون

مكوثنا في حلب ، واخبار متفرقة (١)

ما ان بلغ خبر وصولنا الى الاب برونو (٢) Bruno ، حتى خف لاستقبالنا مع لفيف الرهبان الاخرين ، وخرجوا للقيانا الى ظاهر المدينة.

وارسل القنصل الفرنسي بيكيت ممثلا عنه ليبلغنا تحياته ، وقد انتظرنا مجي الشاهبندر ليفحص امتعتنا ، فتأخر قليلا ، وعندما وصل ، استغرب لقلة اغراضنا وتفاهتها ، وساورته الشكوك في أمرنا خاصة بعد ان علم اننا كنا في الهند ، فاخذ يضغط علينا بمختلف الطرق ...

صباح اليوم الذي وصلنا فيه الى حلب ، سافر ثلاثة كهنة من رهبانيتنا الكرملية مع اثنين كبوشيين الى ايران ، برفقة قافلة متوجهة الى الموصل ...

مكثت انا ورفيقي الكرملي والخدام في حلب ننتظر اول سفية تمر بميناء الاسكندرونة لنعود الى بلادنا ...

كان القنصل الفرنسي رجلا غيورا هماما ، مستعدا على الدوام لمد يد العون الى الجميع من اجل خير النفوس (٣) وقد استطاع بطريقة او باخرى

__________________

* ليس في هذا الفصل ما يخص العراق مباشرة لكننا اقدمنا على ترجمة شي منه لانه يمس ببعض الطوائف المسيحية الموجودة في العراق.

(١) الاب برونو من الرهبنة الكرملية ، فرنسي الاصل. كان دمث الاخلاق وطيب المعشر فاحبه سكان حلب على اختلاف مللهم ، بحيث ان سبستياني اراد اصطحابه الى الهند فاجتمع سكان حلب من كاثوليك وارثوذكس ومسلمين واحتجوا على ذلك (الرحلة : المجلد الاول ٣٤ ـ ٣٥) كذلك رباط : الوثائق الخطية ١ / ٤٣٦ رحلة فرافنشنو ص ٦٢ وقد بدأنا بترجمتها الى العربية).

(٢) عن هذا الفصل راجع الملحق رقم (١).

٧٥

اكتساب ثقة بطريرك اليعاقبة ، الذي ، كان مستعدا لتلبية طلبات القنصل نظرا لافضاله عليه ، ولما كان كرسي حلب الاسقفي لليعاقبة شاغرا ، فقد انتهز الفرصة وحث البطريرك على تعيين اسقف وهو شخص اسمه اندراوس من طائفته نفسها (لكنه كان متشبعا بالتعليم الكاثوليكي نظرا لاحتكاكه بالاباء ـ الكرمليين وكان رجلا ورعا) ، كما طلب من البطريرك بان تجري رسامة اندراوس الاسقفية على يد بطريرك الموارنة في جبل لبنان ، لان اندراوس المذكور كان موجودا هناك. فوعد البطريرك واعطى كلمته ، معتقدا انه لن يكون لوعده انعكاسات او تأثر على المدى البعيد ، وان باستطاعته ان يوقف المطران متى ما يشاء. لكن الاحداث اخذت تجري بسرعة لم يكن يتوقعها ، فهرب من حلب بعد ان امر المؤمنين بان لا يستقبلوا المطران الجديد ابدا ، وكان القنصل المذكور على علاقة طيبة بالباشا وقد سبق ان كسب عطفه ، لذلك طلب منه ان يامر بعودة البطريرك الهارب من ملجئه ويأمره بعد وصوله ان يكتب الى الشعب ليخرج امام المطران اندراوس ، وحصل على كتاب «براءة» للمطران من الوالي (١) ، وعلى كتاب اخر من الباب العالي ...

__________________

(١) انظر الملحق رقم ١٥.

٧٦

الفصل الخامس والعشرون

إلمامة عامة عن الامبراطورية العثمانية

كانت مدينة حلب هادئة جدا ، بالرغم من الثورات العديدة المنتشرة انذاك في اسيا ، وكان يحكم المدينة انذاك نائب باشا (اي بالوكالة) (١) ، وكانت الاضطرابات المتفشية في الامبراطورية العثمانية المنهارة مدار حديث القاصي والداني ، فالجميع يتوقعون خرابها القريب ، وقد تناقلت الالسنة خبرا مفاده ان مياه النهر عندما انحسرت ، ظهرت قطعة من الرخام كتب عليها بحروف قديمة ان سقوط الامبراطورية العثمانية قريب!.

عندما القي القبض على السفير في اسطنبول بتهمة التجسس لحساب اهل البندقية (٢) ، قيل انذك ان مفتي العاصمة الاكبر اقترح في ديوان القضاء ان يقتل جميع الافرنج القاطنين في الامبراطورية لانهم جواسيس. لكن اعضاء دار الافتاء كانوا اكثر تعقلا ودراية ، فعارضوا الاقتراح ، بالرغم من اقتناعهم بصحة

__________________

(١) لربما يشير المؤلف الى قوناقجي علي باشا الذي وضعه السردار مرتضى باشا على حلب بعد ان سحق فتنة اباظة حسن باشا (الغزي : نهر الذهب في تاريخ حلب ٣ / ٢٨٧).

(٢) ان المؤلف ينوه بالسفير الفرنسي دي لاهاي M.de la Haye وابنه السيد دي فانتيلدMr.De Vantelet فقد اوقفا وضربا بسبب كتاب سري كان قائد الاسطول البندقي قد ارسله الى السفير بواسطة شخص اسمه فيرمون Vertmont ليسلمه الى السكرتير البندقي Ballerino فوقعت الرسالة في يد الصدر الاعظم وكانت عاقبتها وخيمة على السفير دي لاهاي وعلى ابنه ...

F. Billacois : LEmpireduGrand Turevupar unsujetd uLouis XIVJ. Therenot. ١٠. (١٩٦٥ ـ Paris)

٧٧

التهمة الملصقة بالافرنج ، لكنهم لا يريدون جلب نقمة عظيمة على الامبراطورية قد تكون الحرب احدى نتائجها.

لو كانت الامبراطورية العثمانية مأهولة بالسكان عامرة بهم ، كما كانت عليه في عهد ملوكها ، الروم ، لاصبحت قوة لا تقهر ، تخيف العالم كله ، نظرا لاتساع رقعتها وعظمة هيبتها ... وبالرغم من تلك العظمة فان وارداتها لا تتعدى ثمانية ملايين قطعة من الذهب ، وليس بامكانها جمع جيوش كبيرة كما كانت تفعل في السابق ، اما عن عدد سكانها فهو في تراجع مطرد ، ومعظم اراضيها غير مزروعة ، وقد نقصت وارداتها كثيرا ، وبالرغم من ذلك كله ، فهي لا تزال تحارب البندقية ...

... تركنا حلب الى الاسكندرونة في ٣ تشرين الثاني (١٦٥٨) بعد ان مكثنا في الفيحاء ثمانية ايام ... صعد معنا الى السفية القس الياس ، ولكن قبل ان تبحر السفينة ارسل القنصل الفرنسي في حلب في طلبه ، ثم سافر فيما بعد على حسابه (حساب القنصل) الى مرسيلية ... ومن هناك ذهب الى روما ...

٧٨

الفصل السادس والعشرون

الإبحار الى البندقية

اقلعت السفينة من اسكندرونة في الثامن من تشرين الثاني (...) وفي الثاني عشر من كانون الاول وصلنا البندقية ، فانتظرنا فترة في الميناء حتى تمكنت السفينة من الرسو ... وفي الحادي والعشرين من الشهر نفسه ادخلونا المحجر الصحي القديم ... وصلنا روما في ٢٢ من شباط (١٦٥٩) وهو اليوم ذاته الذي تركنا فيه المدينة الخالدة قبل ثلاث سنوات ... وقد زرت قداسة البابا ... وقدمت باسم المطران اندراوس خضوعه للسدة الرسولية ... وقد وافق مجمع انتشار الايمان (بروبغندا) على رسامة المطران المذكور (١) .. وقرر ان يرسل له مساعدة سنوية.

اما القس الياس فكان من جملة الفقراء على مائدة قداسة البابا (٢) يوم خميس الفصح (٣) ، وقد تأثر جدا من المثال الصالح الذي اظهره نائب المسيح ، وقال انه يريد ان يذيع هذا الخبر في وسط هراطقة بلاده جميعهم وينقله الى البطريرك عمه ، وقد نال لاخيه عبد المسيح اركزيا قونيه كنيسة بغداد ، وحظى ايضا بمعونة نقدية معتبرة الى بيته من المجمع المقدس المذكور (٤).

__________________

(١) تاريخ البراءة البابوية التي تؤيد رسامة المطران اندراوس ٢٨ كانون الثاني سنة ١٦٥٩ (راجع : عناية الرحمان ص ٤٥ ، رباط ن المرجع المذكور ١ / ٤٥٥).

(٢) هو البابا اسكندر السابع (١٦٥٥ ـ ١٦٦٧).

(٣) جرت العادة ان يقوم البابا بخدمة مائدة الفقراء ، او يغسل اقدامهم يوم خميس الفصح ، اقتداء بما فعل السيد المسيح قبل موته. كما جاء في الانجيل الشريف (يوحنا ١٣ / ٤ ـ ١٧)

(٤) لقد ترجمنا من الفصلين الاخيرين ما رايناه مفيدا ، للعراق او لتاريخ الطوائف المسيحية من اهل العراق.

٧٩
٨٠