رحلة سبستياني

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي

رحلة سبستياني

المؤلف:

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٦

١

٢

٣
٤

كلمة المعرب

تضم كتب الرحلات فوائد ومعلومات تاريخية واجتماعية وتراثية عديدة. لذلك فقد اخذنا منذ فترة من الزمن بالبحث عن تلك الكتب لمطالعتها ، ومن ثم تقديمها الى القارىء ، وغايتنا في ذلك اسداء خدمة لأبناء وطننا العربي.

وقد نقلنا الكتاب الذي نقدمه اليوم عن الايطالية وعنوانه «ايفادات الى الهند الشرقية للمونسنيور سبستياني» Speditioni All\'\'lndie Orientali di. Monsignor SEBASTIANI ويقع الكتاب في مجلدين ، في الاول وصف للرحلة الاولى ، وقد طبع في روما سنة ١٦٦٦ ، بينما يضم الجزء الثاني حوادث الرحلة الثانية ، وقد طبع في روما ايضا سنة ١٦٧٢.

ولما كان الكتاب يصف الرحلتين من ايطاليا الى الهند فقد اقتصرنا على ترجمة القسم الخاص بالعراق. وجدير بالذكر ان سبستياني مر بالعراق اربع مرات ، اعني في ذهابه الى الهند سنة ١٦٥٦ وفي طريق عودته الى اوروبا بعد سنتين ، ثم في البعثة الثانية سنة ١٦٦٠ وفي ايابه سنة ١٦٦٤.

وقد نقلنا ما جاء في الرحلة بامانة دون ما تغيير او تحوير ، وزيادة بالفائدة ترجمنا بعض الشيء من رحلته قبل دخوله العراق ، اعني منذ خروجه من حلب ، ثم ترجمنا شيئا من الاخبار عند مبارحته العراق ، لان لتلك الاماكن علاقة وطيدة بالعراق ، وهي اجزاء من الوطن العربي ، ففي ترجمتها فائدة اوسع.

وتمسكا بالاصل ، فقد احتفظنا بارقام الفصول كما في الكتاب ، فكان

٥

اول ما ترجمناه «الفصل الثاني عشر من الكتاب الاول» حيث يغادر صاحبنا حلب قاصدا الموصل. اما عناوين الفصول ففيها شيء من الاختصار ، دون الاخلال بالمعنى.

وقد اطلعنا على طبعة ثانية للرحلة الاولى ، طبعت في البندقية سنة ١٦٨٣ ، فقابلناها مع الطبعة الاولى التي اعتمدنا عليها ، فوجدنا شيئا يسيرا من الاضافات ، ادخلناها الى الترجمة واشرنا الى ذلك.

ثم عثرنا على رحلة الاب فنشنسو ، رفيق سبستياني في ايفاده الاول ، فقابلناها مع رحلتنا ثم باشرنا بنقلها الى العربية.

* * *

كانت غاية سبستياني من سفره الوصول الى الهند ، لذلك نلاحظ انه لا يهتم كثيرا بالبلدان التي يمر بها ، كما نجد في وصفه قفزات غريبة. فبينما يتكلم عن نصيبين ، اذا به في سطور قليلة يصل الى الموصل ، مكتفيا بذكر اسم قريتين لا اهمية لهما.

وقد جابهتنا في اثناء الترجمة مشاكل وصعوبات بالنسبة الى اسماء الاعلام والقرى ، لان صاحبنا يذكر هذه الاسماء بصورة مصحفة او مغلوطة ، والرجل معذور لانه يجهل اللغات الشرقية كما يعترف في مقدمته ، وهو يسمع اسماء تلك الاماكن من افواه العامة ، وقد حاولنا قدر استطاعتنا ايجاد الاسم الصحيح لتلك المناطق فافلحنا تارة ، واخفقنا تارة اخرى ، لذا وضعنا الاسماء بالفرنجية كما وردت في الاصل ، لعل هناك من يستطيع ان يجد الاسم الصحيح.

نلاحظ ان المؤلف لم يضع تعليقات او هوامش وله شروح قليلة ادخلها في المتن ، لذلك قررنا بعد ان فرغنا من الترجمة ، ان نعلق على بعض ما جاء في الكتاب لازالة الالتباس او زيادة في الايضاح ، وقد اتسعنا في بعض تلك التعليقات ، ففصلناها وجعلناها «ملاحق» ادرجناها باخر الكتاب ، اخيرا وضعنا فهارس للكتاب لنسهل على القارىء مراجعة فصوله ومعرفة محتوياته.

٦

استلفتت البلدان العربية وسائر اقطار الشرق الاوسط ، انظار الرحالة الغربيين منذ قديم الزمان ، فاخذوا يرتادونها ، ويدونون مشاهداتهم ، وانطباعاتهم عنها. وقد كانت الدوافع الى تلك الرحلات كثيرة متفاوتة ، يدخل فيها العلم والسياسة والدين والتجارة.

اننا نجد بين اولئك الرحالين : الباحث الآثاري ، والمستكشف الجغرافي المحب للاسفار ، ومنهم من استرعت اهتمامه معادن هذه الاقطار وسائر خيراتها وفيهم رجل الدين ، والتاجر ، والسياسي والطبيب والمتتبع لاحوال الشعوب ، والمتطلع الى شؤون اخرى في هذا العالم الشرقي المترامي الاطراف ، الذي يحوي كل ما تصبو اليه نفوس الغربيين.

وقد كان ما كتبه اولئك الرواد ، في شتى الاغراض التي جاءوا من اجلها الى هذه الديار ، شيئا يفوق الحصر ، ولا نجانب الصواب حين نقول ان عدد الرحلات الاجنبية التي وصفت العراق او تطرقت لذكره ، قد يزيد على ثلاثمائة رحلة ، كتبت بلغات شتى : الانكليزية ، الفرنسية ، اللاتينية ، الايطالية ، الاسبانية ، البرتغالية ، الالمانية ، الهولندية ، التركية ، الفارسية ، وغيرها من لغات الغرب والشرق. وقد طبع جانب غير قليل منها في اثناء القرون الاربعة الاخيرة ، على ان معظم طبعات تلك الرحلات ، قد اصبح اليوم عزيزا في حكم النادر.

واحس ابناء العراق بقيمة هذه الرحلات من الوجهة التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية ، فأخذ غير واحد منهم يحاول الوقوف عليها والاقتباس من فوائدها. وعمد رهط منهم الى امهات تلك الرحلات ، فنقلها الى العربية ونشرها بالطبع تعميما لفوائدها. وكان من بينها رحلات كل من : تافرنيه ، نيبور ، لانزا ، ريج ، فريزر ، بكنكهام ، بج ، ديولافوا ، الليدي دراور ، فانيس ، هي ، ويكرام ، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.

وما هذه الرحلات المنقولة الى اللغة العربية. الا حلقات من سلسلة طويلة ، نرجو ان يأخذ بعضها برقاب بعض فتتكامل على مر الزمن. فاذا تم نقلها الى العربية ، اتيح لابناء الضاد ان يطلعوا عليها ويمحصوها بالنقد

٧

والتصويب وينهلوا من فوائدها الجمة. فتتسع بذلك مراجعنا عن تاريخ العراق خاصة ، والشرق عامة ، خلال القرون الاربعة الاخيرة.

ومن نفائس ما يذكر في هذا الباب ، رحلتان واسعتان قام بهما رجل ايطالي ، يقال له هيرونيموس سبستياني ، انتمى في مطلع شبابه الى الرهبنة الكرملية ، فصار يعرف بالاب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي ، وتوفي عام ١٦٨٩ م. وصنف رحلته باللغة الايطالية ، وطبعت في روما سنة ١٦٦٦ ـ ١٦٧٢ م في مجلدين اصبحا من نوادر المطبوعات في عصرنا.

وما من شك ، في ان هذه الرحلات الغربية ، كلما تقادم زمنها ، صعب على المترجم نقلها الى العربية لما يعتورها من تصحيف وتحريف في اعلام الاشخاص والامكنة ، ولما تتضمنه من اوهام واقاويل لا تقوى امام البحث والتحقيق في عصرنا.

٨

سبستياني

وهو الاب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي ١٦٢٣ ـ ١٦٨٩

Fr.Giuseppe di S.Maria O.C.D. (SEBASTIANI)

ولد هيرونيموس سبستياني في بلدة كابرارولا (Caprarola) في ايطاليا في ٢١ شباط سنة ١٦٢٣. ولما شب عن الطوق انخرط في السلك الرهباني لدى الآباء الكرمليين الحفاة ، واعلن نذوره الرهبانية في ٣ اذار ١٦٤١ في روما متخذا اسما جديدا عرف في التاريخ وهو «الاخ جوزيبه دي سانتا ماريا».

ارسل فترة من الزمن الى المانيا كما يقول في مقدمة كتابه «قضيت زهرة ايامي في المانيا» ، ثم عاد الى ايطاليا واخذ يدرس الرهبان التعاليم الدينية او اللاهوت.

انتدبته الرئاسة الكنسية للذهاب في مهمة رسمية الى الهند ، بصفة مفتش رسولي (Commissarius) لدراسة احوال النصارى في منطقة الملبار ، وهي ولاية كيرالا حاليا ، فبارح روما في ٢٢ شباط ١٦٥٦ وشد عصا الرحال الى الشرق ، وهو لا يعرف اية لغة شرقية ، كما يعترف هو نفسه غير مرة في كتابه. ورافقه رهبان من ديره. وبعد ان اكمل المهمة التي اسندت اليه عاد الى اوروبا في نهاية سنة ١٦٥٨. ثم سيم اسقفا على ابرشية هيرابوليس شرفا (Hierapolis) بتاريخ ١٥ كانون الاول ١٦٥٩ (ج ٢ ـ ص ٣) وعاد الى الشرق ثانية لمعالجة المعضلة التي سبق له دراستها عن كثب ، فترك روما في ٧ شباط ١٦٦٠ ، وفي منتصف تلك السنة مر بالعراق وواصل سيره الى الهند ، وحاول قدر استطاعته ان يشد عرى الوفاق بين المسيحيين ورؤسائهم الدينيين هناك.

وحدث ان استولى الهولنديون على منطقة كوشين حيث كان صاحبنا فاضطر الى الانتقال من مكان الى اخر حتى ارغم على الخروج نهائيا ، فقرر العودة الى اوروبا ، وفي طريق العودة مر بالعراق ايضا.

٩

نقلت خدماته الى جزر في بحر ايجه ، ثم الى ايطاليا في مدينة بيزينيانو في كالابريا (Bisignano in Calabria) وذلك في ٢٢ آب ١٦٦٧ ، وبعد بضعة اعوام نقل الى جيتا دي كاستيللو في مقاطعة اورمبرياCitta di Castello in Umbria وذلك بتاريخ ٨ تشرين الاول ١٦٧٢ ، وهناك وافته المنية في ١٥ تشرين ١٦٨٩ تاركا ذكرا صالحا واسما عطرا بين ابناء شعبه ومعارفه.

له الى جانب الرحلة التي نقلنا منها القسم الخاص بالعراق ، مؤلفات اخرى لم تر النور تتعلق مواضيعها بالمهمة التي اسندت اليه في الملبار ، فهي على شبه تقارير رفعها الى المراجع الدينية الرسمية وهذه هي :

١ ـ رحلته في مجلدين.

٢ ـ تقرير عن زيارته للملبار وضعه سنة ١٦٥٧.

٣ ـ تعليمات للمؤمنين سنة ١٦٥٧.

٤ ـ وصف لحالة المسيحيين في الملبار سنة ١٦٥٩.

٥ ـ تعليمات المجمع المقدس وتعليقاته عليها سنة ١٦٥٩.

٦ ـ وصف للحوادث سنة ١٦٥٩.

تكاد معظم الكتب التاريخية التي تبحث عن الرهبانية الكرملية تنوه به وتتطرق الى نشاطاته ، منها :

١٠

كتاب الرحلة :

تتكون رحلة سبستياني من مجلدين ، طبع المجلد الاول في روما سنة ١٦٦٦ ، وفيه اخبار الرحلة الاولى ، اما المجلد الثاني فقد طبع في روما ايضا سنة ١٦٧٢ ويضم حوادث الرحلة الثانية.

ويتكون المجلد الاول من ثلاثة كتب ، ويقسم كل كتاب الى فصول متعددة ، وهكذا المجلد الثاني.

وقد وضع المؤلف في مطلع المجلد الثاني معجما للكلمات والتعابير الغريبة عن القارىء الاوروبي (الكلمات العربية والفارسية والتركية والهندية) ، وهذا المعجم مفيد بالرغم من قلة مادته.

الطبعة قديمة ، والاخطاء المطبعية عديدة ، كما يعترف صاحب الرحلة نفسه في المقدمة ، وتصعب القراءة في بعض الحالات نظرا لطريقة الطبع القديمة ، اذ لا تميز حرف عن وكذلك وفينشأ من جرّاء ذلك بعض الالتباس ، خاصة في اسماء الاعلام.

ان لغة سبستياني ، بصورة عامة ، ليست متينة البناء ، ولعل سبب ذلك يرجع الى كونه قضى فترة من حياته في المانيا ، وهو من دعاة استعمال الاسلوب اللغوي القديم في الكتابة ، كما يصرح هو نفسه في مقدمة المجلد الثاني.

غاية الرحلة :

كانت غاية سبستياني في رحلاته المتعددة الذهاب الى الهند ، لزيارة

١١

الجماعة المسيحية المنتشرة في اقليم الملبار (ولاية كيرالا حاليا) اذ كان موفدا من قبل الكنيسة الكاثوليكية في روما.

كان الوفد الذي ترأسه سبستياني مكونا من اشخاص ثلاثة آخرين هم الاب فنشنسو مارية دي سانتا كاترينة دي سيينا ، وهو ايطالي ، وقد الف كتابا وصف فيه احداث هذه السفرة (١) كما رافقه الاب رفائيل دي سان الكسيوس ، لكنه لم يواصل السفر الى الهند ، بل بقي في جبل الكرمل بفلسطين (٢) ولويس دي سان فرنشسكو ، وكان من هواة الرسم ، وهو فرنسي الاصل (٣).

اما الرحلة الثانية فكانت للغاية نفسها ، وقد تبع طريق الرحلة الاولى ، مع تغييرات حتمتها الضرورة. ورافقه في هذه المرة : انجلو دي سانتا مارية ، لكنه مرض ومات في ١٣ كانون الثاني ١٦٦٠ (٤). وجيوفاني تاديو دي سانتا بريجيدة والاب كوتيفريدو دي سانت اندريا ، الذي كان يتقن لغات عديدة (٥) وشاب اسمه فالنتينو كيوسي ، ولما مرّ الوفد بلبنان اراد اصطحاب قسيسين ليجيدا اللغة السريانية في الهند واذ لم يجد ، اصطحب مترجما مارونيا (٦).

بقي الوفد فترة في الهند ، لكن المشاحنات السياسية والتكالب الاستعماري بين البرتغاليين والهولنديين اثرت في مجاري الامور ، فاضطر سبستياني الى ترك الهند عائدا الى اوروبا.

ما ان عاد صاحبنا الى بلاده حتى وضع ذكريات رحلته ، ونشرها فيما بعد «نزولا عند طلب بعض الاصدقاء والحاحهم» (٧).

__________________

(١) نقلنا هذه الرحلة الى العربية ، ونشرنا القسم الاول منها في مجلة مجمع اللغة السريانية. بغداد ١٩٧٥ ص ١٧٩ ـ ٢٠٣.

(٢) المجلد الاول ص ٢٢ من الرحلة.

(٣) المجلد الاول ص ١ ـ ١١.

(٤) المجلد الثاني من الرحلة ص ٣٣ ـ ٣٥.

(٥) المرجع نفسه ص ٣.

(٦) المرجع نفسه ص ١٩.

(٧) مقدمة المجلد الثاني.

١٢

لاحظنا ان المهتمين بشؤون التاريخ العراقي لم يذكروا هذه الرحلة : فللاستاذ كوركيس عواد مقالة ضافية عنوانها «المعرب من كتب الرحلات الاجنبية الى العراق» (١) ألحقها بقائمة الرحالة ، ولم يذكر سبستياني ، كما لم يفعل قبله لدنكريك في كتابه «اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» بالرغم من ذكره اسماء رحالة كثيرين ، ولم ينوه بهذه الرحلة الا الاستاذ يعقوب سركيس (٢).

كلمة اخيرة في الرحلة :

كتاب سبستياني ليس رحلة استطلاعية ، بل هو مجموعة ذكريات لذلك فهو لا يذكر من مشاهداته الا النزر القليل. ويتسم الكتاب بنظرة دينية او صوفية للامور ، فهو يستنتج من الاحداث المختلفة فكرة لتأمله الروحي ، فالحر الشديد ، ـ على سبيل المثال ـ يجره الى التفكير بعذاب النار في جهنم فيستغفر ربه ، ويتحمل الحر في الحياة الدنيا كي لا يراه بعد الموت! وخراب المدن التي يمر بها يجعله يفكر بزوال العالم ومجده!.

ولسبستياني نظرة فيها ترفع قومي ، وتزمت طائفي احيانا ، فمدينة بغداد ـ مثلا ـ هي لا شيء حسب قوله بالنسبة الى مدن اوروبا ... وله زلات وشطحات بالنسبة الى الطوائف التي من غير طائفته ، ولا نستغرب ذلك عند ما نضع الامور في اطارها الزمني.

__________________

(١) مجلة الاقلام ١ (١٩٦٤) العدد الاول ص ٥٤ ـ ٧٤.

(٢) مباحث عراقية (بغداد ١٩٤٨) ج ١ ص ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(بغداد ١٩٥٥) ج ٢ ص ٣٦.

١٣
١٤

الرحلة الاولى

الفصل الثاني عشر (من الكتاب الاول) (١)

الاستعدادات للسفر الى بغداد عن طريق الموصل (٢)

٤١ (٣) كان يسيطر على المناطق العربية «القريبة من حلب» في ذلك الحين اميران احدهما مغتصب ظالم والثاني امير شرعي (٤) وكان القتال بينهما سجالا ، وكانا يلحقان الاذى بالمسافرين ، الذين كانوا يضطرون إلى دفع الاتاوة للطرفين. لقد رأيت احدهما وقد نصب خيامه في ضواحي حلب ، فظهرت وكانها مدينة ثانية في جوار حلب ... ومن عادات الاعراب البدو ان يرتبوا كل شيء في خيامهم على نمط واحد ، والخيام هي محل سكناهم ، لكنها مدن متنقلة ...

جرت العادة ان تسافر (الخزنة) (Casne) في شهر رمضان الى بغداد. والخزنة هي عبارة عن الاموال اللازمة لدفع الرواتب الى الجنود. وقد وقع شهر رمضان في هذه السنة في شهر حزيران (١٦٥٦). فانتهزت هذه الفرصة لا سافر مع قافلة الخزنة ، وتأهبت للرحيل ، فاشتريت اربعة خيول ، واتخذت

__________________

* ابتدأنا بتعريف الرحلة من هذا الفصل حيث يبدأ الكلام عن دخول العراق.

* اعتاد سبستياني ان يسمي الموصل نينوى ، وبغداد بابل ، وهذه عادة نجدها في اغلب الرحلات الغربية. ففضلنا ان نسمي المدن العراقية باسمائها المعروفة ، الا عند ما يدور الكلام على نينوى القديمة او بابل الحقيقية.

(١) ابتدأنا الترجمة من صفحة ٤١ ، لان ما قبلها يتكلم عن بدء سفره من اوروبا الى حلب.

(٢) ان المؤلف يشير الى الحرب التي نشبت على اثر تعيين احمد باشا واليا لحلب ، فرفضه الحلبيون لجوره وبطشه فقدم الى المدينة وحاصرها ، بينما كان مصطفى باشا والي حلب يدافع عنها. الغزي : نهر الذهب في تاريخ حلب ج ٣ ص ٢٨٥.

١٥

لي خادما مارونيا اسمه «موسى» ، كان يفهم اللغة ، كما اقتنيت ألبسة وسلاحا وكل ما هو ضروري للسفر.

وحدث قبل السفر بايام قليلة اني اصبت بحمى قوية (هي حسب قول بعضهم ضريبة لا بد ان يؤديها كل زائر لحلب!) وتخلصت منها بعد ثلاثة ايام بفضل العقاقير التي تناولتها ، لكنها تركتني ضعيفا ذابلا ، فاعتقد الجميع اني سأعدل عن السفر بسبب الوهن الذي استحوذ عليّ ، ولشدة الحر في ذلك الشهر ، لكني عزمت على السفر ، نظرا الى اهمية الرسالة التي انيطت بي. فسلمت نفسي الى عناية الرحمان ووضعت في يده الكريمة صحتي وحياتي.

وقد طلبت من القنصل الفرنسي ان يوصي بي خيرا لدى الاغا (١) الذي يرأس القافلة ، فقدم له قطعة من القماش ، وهذا ما فعله القنصل الانكليزي ايضا ، وقمت بدوري فذهبت لزيارة الاغا وقدمت له جبة طويلة مصنوعة من قماش الاطلس الاخضر الفاخر ، وغايتي ان يذود عني في السفر ويخلصني من المآزق التي تجابه المسافرين وخاصة المسافر المسيحي المسكين ، فوعدني الرجل خيرا ، وقال انه سيضعني في مكان الصدارة في قافلته ويعتبرني من رفاقه المقربين.

ذهبت لاقرأ السلام على القنصل الانكليزي قبل سفري واشكره على حسن صنيعه نحوي ، فطلب مني ان احمل معي الى البصرة او الى اصفهان ثلاث قطع من الزمرد النادر الثمين ، يقدر ثمنها بنحو ثلاثة الاف قرش (٢) ، فقبلت عن طيبة خاطر تأدية هذه الخدمة له. وقد اهداني صحنا مليئا بالحلويات فقبلتها بسرور ، وقد افادتني كثيرا في اثناء السفر.

ثم ذهبت لاودع الاخوة الرهبان ، ورؤساء الافرنج ، خاصة قنصل فرنسا (٣) (الذي ودعني قائلا : اسأل الله ان اسمع انك وصلت بغداد مريضا!

__________________

(١) اغا (تركية) تعني السيد او الموظف ، وقد يكون عسكريا او مدنيا او مستخدما.

(٢) يستعمل المؤلف كلمة بياستراPiastra وقد ترجمناها بكلمة قرش.

(٣) راجع الملحق رقم (١) عن القنصل الفرنسي فرنسوا بيكيه.

١٦

لقد اراد ان يفهمني ان الوصول الى بغداد في هذا الموسم والخلاص من موت محتم يعد نعمة من الله).

عند وصولنا الى باب المدينة ، انا ورفاق السفر ، ابدلنا ثيابنا ، فارتدينا الزي المحلي. وامتطيت الحصان واسرعت لاكون مع جماعة المسافرين وكانوا لا يزالون بالقرب من المدينة.

وللمرة الثانية جاء اثنان من قبل القنصل الفرنسي واعادا التوصية بحقي عند الاغا ، ثم عادا الى المدينة فجدد الاغا وعده بانه سيحامي عني ، واوصاني ان اكون قريبا منه دائما اثناء الرحيل وعند النزول في (القوناق) (١) محطات الاستراحة.

بدانا السفر اصيل اليوم الثاني من تموز (١٦٥٦) .. وكنا نسير بسرعة. نحو عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة يوميّا. يبدأ السير نحو الساعة الثامنة مساء ويدوم الى الساعة العاشرة صباحا وكان سفرنا ليلا للتخلص من حر النهار المحرق ...

توقفنا اولا في طاطكوTatcu وهي قرية الانكليزي فسلمني رسائل الى البصرة والى كومبروCombru ) ... في اليوم التالي وصلنا الفرات فعبرناه مع عدد غفير من الجنود كانوا هناك ولهم قوارب تعلوها رايات مرفرفة. توقفنا عند البيره Elbir ) (وهي بيريا القديمة Berea) الواقعة الى الجانب الثاني من

__________________

(١) القوناق : كلمة تركية تعني محط الرحال حيث يستريح المسافرون ، او المرحلة بعد قطع مسافة معينة.

(٢) كومبروCombru والاصح غومبرون Combrun هو الاسم الذي اعتاد الغربيون اطلاقه على ميناء بندر عباس الذي بناه الشاه عباس الاول ليضاهي ميناء هرمز ، استولى عليه البرتغاليون سنة ١٦١٤ لكن الايرانيين استعادوه بعد سنتين ، راجع : Wilson : The Persian Gulf P. ٢٤١ ss.

(٣) البيرة مدينة على الفرات تسمى اليم بيره جك ، ذكرها الحموي في معجم البلدان ١ / ٧٨٧ الغزي : نهر الذهب ١ / ٥٧١ ـ ٥٧٢.

١٧

نهر الفرات. وكان عليّ ان ادفع «سكنا» واحدا Zecchino ) عن كل نفر اذا لم يعترف الاغا بنا اننا من اتباعه. وبالفعل فان الاتراك Mori ) لاحظوا حالا انني من الافرنج بالرغم من ارتدائي ألبستهم. وهكذا عبرنا سوريا Soria الى ما بين النهرين Mesopotamia.

لقد افقدني الحر الشديد والسير الحثيث المتواصل اثنين من خيولي ، فقد مرضا على اثر التعب والحر ، فلم يعودا يقدمان خدمة تذكر ، مما اضطرني الى تبديلهما بحصانين آخرين.

توقفنا في جار ملك Ciarmelic ثم سرنا في ممرات ضيقة بين الجبال ، وفي وديان مليئة بالحجارة ... فوصلنا الى اورفا Orfa التي يعتقد الكثيرون انها اور الكلدانيين القديمة ، موطن ابينا ابراهيم ، لكنهم على خطأ ، فالحقيقة التي لا يشوبها شك انها مدينة الرها القديمة Edessa مملكة ابجر (٣) (ذاك الذي خص السيد المسيح باعجوبة ، فارسل له رسمه الكريم ، وهي مدينة بلدوين في عهد السيطرة النصرانية) (٤). وفي المدينة موضع تقوم عليه كنيسة حيث عاش القديس الكسيوسي (٥) S.Alessio والكنيسة حاليا بيد الارمن.

__________________

(١) راجع الملحق رقم (٢).

(٢) كلمةMoro اطلقها الاوروبيون على المسلمين بصورة عامة وعلى الاتراك بنوع اخص.

(٣) عن «ابجر» راجع الملحق رقم ٣.

(٤) «بلدوين» اسم خمسة امراء حكموا الرها على اثر الحروب الصليبية واسسوا «امارة الرها» ، اشهرهم بلدوين الاول (١٠٩٨ ـ ١١٠٠) وهو من زعماء النرمنديين الفرنسيين «سار الى الرها فشارك اميرها توروس الارمني في حكمها ثم ما لبث ان استقل بها ، مؤسسا فيها امارة لاتينية حاول زيادة العنصر اللاتيني لموازنة العنصر الارمني» راجع : اعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ، ترجمة الدكتور حسن حبشي (القاهرة ١٩٥٨» ص ٨.

Rene Grousset : LEpopee des Croisades, Ed. PlonPariss ٢٦٩١, Paissim

(٥) من اولياء الله ، عاش متوحدا في نهاية القرن الرابع ، ومات نحو سنة ٤١٢ ،

١٨

هناك حوض كبير مليء بالماء القراح ، يطلق عليه الاهلون اسم حوض ابراهيم بينما يسميه البعض حوض يعقوب (١) كما يوجد ضريح الشهداء المعظمين شاموني وكوريا وحبيب (٢) الذين ذاع اسمهم على اثر معجزة جرت بشفاعتهم لشابة من اهالي تلك المنطقة ... (٣)

يكثر الثلج في هذه المنطقة حتى في فصل الصيف. كما تكثر الاشجار المثمرة ، خاصة الاعناب ولليعاقبة (٤) كروم خاصة بهم. لكن الخمر سيئة ، لان رائحة الانية المطلية بالقار التي يحفظون الخمر فيها تؤثر في الخمر فتغير مذاقها.

... وصلنا الى جلاب (٥) Giulap ، وفي صباح اليوم التالي وصلنا الى تل قوران Telcoran ثم تابعنا السير مساء فمشينا طوال الليل. فلما انبلج الصبح راينا اننا قد ظللنا الطريق ، فكان علينا ان نفتش عن دليل يعيدنا الى السراط السوي ، وبعد جهد عظيم وصلنا الى كفر سوري Gaursuri وهي قرية مقفرة كانت سابقا للارمن. وهناك بئر ماؤها زلال ، وبالقرب من البئر خيام للبدو ، فاشترينا منهم لبنا له طعم بين الحامض والحلو. ويكثر في تلك الاصقاع وهو مفيد جدا اثناء السفر.

ويعود الفضل اليه في بقائي حيا ومتمتعا بصحة جيدة.

في تلك الفترة ، كانت ثلة من الجنود الانكشاريين (٦) قوامها ستون نفرا ،

__________________

ـ خصصت الكنيسة الكاثوليكية يوما لذكراه في ١٧ تموز من كل عام.

(١) يعود المؤلف الى ذكر هذا الحوض في السفرة الثانية وتعطي شرحا اوفى.

(٢) من شهداء الكنيسة المشرقية. بيجان : سيرة الشهداء والقديسين (بالكلدانية) ج ١ ص ١٣١ ـ ١٤٣ وكذلك ادي شير : اشهر شهداء المشرق ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٠٢ (الموصل ١٩٠٠).

(٣) لا حاجة لذكر دقائق تلك المعجزة فهي من التقاليد الشعبية المتواترة.

(٤) هم السريان الارثوذكس ، وقد ابقينا التسمية كما هي لورودها في الاصل.

* جلاب بضم اولها ، مذكورة في المسالك والممالك ص ٩٦.

(٥) الانكشارية : محرفة عن التركية «ينجري» وتعني «الجند الجديد»

١٩

في طريقها من بغداد الى الموصل : واذ كان المناخ حارا لا يحتمل والرياح قوية ، فقد مات منهم اربعون جنديا ، لم يوار التراب منهم سوى اثنين ، بينما بقيت جثث الاخرين دون دفن ، فتكالبت الوحوش عليها (١) في ذلك اليوم نفسه مات رجلان وامرأة من قافلتنا ، فكان لموتهم المفجع تأثير في افراد القافلة كلهم ...

لقد كنا ، انا ورفاق السفر ، غارقين الوقت كله بعرقنا ، منذ خروجنا من حلب حتى وصولنا الى بغداد. وقد تهب الريح احيانا فتنشف العرق عن اجسامنا ، لكنها كانت ريحا مزعجة للغاية فهي محملة بهواء حار كلهيب النار ... ولقد اصبحنا اكثر من مرة في الرمق الاخير. وهكذا كفرت عن خطاياي امام الرب ، وفكرت في اعماق نفسي بجهنم ... وظهر الموت حلوا لنخلص من العذاب الذي كنت فيه ...

في اليوم الثاني حللنا في مره كثري (؟) Caragheisie وهي قرية للارمن ايضا ، وتقع على هضبة في وسط ارض مقفار جدباء لا نهاية لها ، وقد احرقتها الشمس.

لم نتقدم كثيرا في ذلك اليوم ، لان دليلنا تركنا في ظلام الليل الدامس وهرب. فلما حل المساء عاودنا السفر. ونحو الساعة الثالثة تعالت صراخات حارس مؤخرة القافلة ، يدعونا الى حمل السلاح ، فاوقع الذعر في نفس الاغا ، فاجتمع هو وحراس مقدمة القافلة بالقرب من الخزينة ، والتجأت بدوري بالقرب منهم ... واذا بالقادمين جماعة من البدو كانوا يريدون الانضمام الى قافلتنا ولم يكونوا لصوصا ...

__________________

. ويكتبها الاتراك «يكجري» ويلفظو الكاف نونا ، وهم جنود مشاة في الجيش العثماني ، دام امر هذا الجيش من القرن الرابع عشر للميلاد إلى أن اباده السلطان محمود الثاني سنة ١٨٢٦. وأصل هذا الجيش من الاولاد المسيحيين الذين كانوا يؤخذون كجزية او يؤسرون في الحرب ، فيدربون تدريبا عسكريا ويتشبعون بروح النضال من اجل السلطان.

(١) حدثت هذه المأساة في طريق الموصل ـ بغداد كما سيذكر المؤلف في الفصل التالي.

٢٠