رحلة ابن بطوطة - ج ١

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ١

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-007-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٤٣١

خريطة مسالك الحجاز

٣٤١

٣٤٢

[إلى الحجاز]

... ولما استهل شوال من السنة المذكورة (١) خرج الركب الحجازي إلى خارج دمشق ونزلوا القرية المعروفة بالكسوة (٢) فأخذت في الحركة معهم ، وكان أمير الركب سيف الدين الجوبان من كبار الأمراء (٣) ، وقاضيه شرف الدين الأذرعىّ الحوراني (٤) ، وحج في تلك السنة مدرس المالكية صدر الدين الغماري (٥) ، وكان سفري مع طائفة من العرب تدعى العجارمة (٦) ، أميرهم محمد بن رافع (٧) كبير القدر في الأمراء ، وارتحلنا من الكسوة إلى قرية تعرف بالصّنمين (٨) عظيمة ، ثم ارتحلنا منها إلى بلدة زرعة (٩) ، وهي صغيرة من بلاد

__________________

(١) يوافق أول شتنبر ١٣٢٦

(٢) تقع الكسوة الحالية على النّهر الأعوج على بعد نحو خمسة عشر كيلوميترا جنوب دمشق ، المرحلة الأولى للحجاج ، ويذكر أنها سمّيت بذلك لأن غسان قتلت بها رسل ملك الروم لما أتوا إليهم لأخذ الجزية منهم واقتسمت كسوتهم! ياقوت : معجم البلدان.

(٣) كان الجوبان المنصوري من مماليك الأشرف وأمّره ثم أمّره النّاصر بدمشق ... وبعد عودة قصيرة للقاهرة أعيد إلى دمشق، وقد أدركه أجله في صفر ٧٢٨ ـ يناير ١٣٢٨. الدرر الكامنة ٢ ، ٧٩.

(٤) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الأذرعىّ الأصل ثم الدمشقي المصري كان حسن الخلق والخلق ، ناب في الحكم وحج غير ما مرة اسمع ابنته مريم ... أدركه أجله بالقاهرة في ٢٥ شعبان عام ٧٤١ ـ يبراير ١٣٤١. الدرر ج ١ ص ٢٥٥.

(٥) لم نقف على ترجمة صحيحة للغماري هذا ويفترض گيب أن يكون هو يوسف بن أحمد الاسكندري المالكي الملقب بصدر الدّين بن غنّوم الذي كتب التوقيع للقضاة بالثعر ـ الدرر ٥ ، ص ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٦) العجارمة (العكارمة) فرقة من الفضل ، تقيم في الجولان أحد أقضية محافظة دمشق وتعد ٥٠ خيمة ، ويذكر كذلك أن العجارمة قسم من قبيلة الرشابدة. عمر رضا كحالة : معجم قبائل العرب ، ج ٢ ص ٧٥٥ ـ المطبعة الهاشمية ، دمشق ١٣٦٨ ـ ١٩٤٩.

(٧) هل القصد إلى ابن رافع الذي ترجم له ابن حجر في الدرر الكامنة فلقّبه بتقي الدين وكناه بأبي المعالي وقال عنه : إنه كان ممن أجازت له فاطمة بنت البطائحي وفاطمة بنت سليمان وغيرهما ، حج مرارا ، ولد في ذي القعدة ٧٠٤ ـ يونيه ١٣٠٥ ، وأدركه أجله بدمشق يوم ١٨ جمادى الأولى ، عام ٧٧٤ ـ نونبر ١٣٧٢ الدرر ٤ ، ٥٩ ـ ٦٠.

(٨) تقع قرية الصّنمين على بعد ثلاثين كيلومترا تقريبا جنوب الكسوة على الطريق الحالي الذي يربط دمشق بعمان وعلى مقربتها الموقع الجغرافي الذي يحمل اسم (جاسم) الذي عناه الشاعر الأموي عدي بن الرقاع العاملي في شعره الجميل :

لولا الحياء وأن رأسي قد عفا

فيه المشيب لزرت أم القاسم

فكأنها بين النساء أعارها

عينيه احور من جئاذر جاسم!

(٩) زراعة هي إزرا الحالية على حدود الجنوب في المنطقة البركانية المسماه اللّجاة (ياقوت) وحوران هي اليوم بلاد الدروز.

٣٤٣

حوران نزلنا بالقرب منها ، ثم ارتحلنا إلى مدينة بصرى وهي صغيرة (١٠) ، ومن عادة الركب أن يقيم بها أربعا ليلحق بهم من تخلف بدمشق لقضاء مأربه ، وإلى بصرى وصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعث في تجارة خديجة ، وبها مبرك ناقته ، قد بني عليه مسجد عظيم ، ويجتمع أهل حوران لهذه المدينة ويتزود الحاج منها ، ثم يرحلون إلى بركة زيزة (١١) ويقيمون عليها يوما ثم يرحلون إلى اللّجون (١٢) وبها الماء الجاري ، ثم يرحلون إلى حصن الكرك (١٣) ، وهو من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها ويسمى بحصن الغراب ، والوادي يطيف به من جميع جهاته ، وله باب واحد قد نحت المدخل اليه في الحجر الصلد ، ومدخل دهليزه كذلك وبهذا الحصن يتحصّن الملوك ، وإليه يلجأون في النوايب ، وله لجأ الملك الناصر (١٤) لأنه ولي الملك وهو صغير السنّ فإستولى على التدبير مملوكه سلار (١٥) النايب عنه فأظهر الملك الناصر أنه يريد الحج ووافقه الأمراء على ذلك فتوجه إلى الحج فلما وصل عقبة أيلة (١٦) لجأ إلى الحصن وأقام به أعواما إلى أن قصده أمراء الشام واجتمعت عليه المماليك.

__________________

(١٠) تقع بصرى ESKISHAM على بعد ستين كيلومترا جنوب شرقي (زرعة) ، كانت مدينة رومانية قديمة عاصمة لبلاد حوران ، وكانت القوافل المكيّة تنتهي عندها وقد اقترن ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديث عن" بصرى الشام" التي التقى فيها بالراهب بحيرا الذي توسم فيه أنه سيكون نبيّا. أنظر دائرة المعارف الإسلامية مادة بحيراBAHIRA

(١١) زيزة ورد ذكر هذا العلم الجغرافي عند ياقوت في مادة زيزاء وقال : إنها من قرى البلقاء يزورها الحجاج ويقام لهم سوق وفيها بركة عظيمة ، وأصل كلمة زيزاء في اللغة : المكان المرتفع وهي محطة الجيزة الحالية وتقع جنوب عمان على بعد ثلاثين كيلومترا ، في المنطقة التي يوجد فيها مطار الملكة علياء الدولي لقد دخل ابن بطوطة منطقة عمان الحالية عاصمة المملكة الأردينة.

(١٢) يقع اللّجون على بعد ثلاثين كيلومثرا شمال غربي حصن الكرك.

(١٣) بنى حصن الكرك عام ٥٤٠ ـ ١١٤٥ من لدن الصّليبيين ، تحت اسم (Krak des moabites) ، واستولى عليه الأيوبيون عام ٥٨٣ ـ ١١٨٨ ، وانشئت به إمارة أصبحت فيما بعد إقليما على حدة ، وقد زرته مرارا ويقع شمال (مؤتة) حيث شيده جامعة عظيمة هناك ...

(١٤) يتعلق الأمر بترك الملك الناصر للحكم للمرة الثانية في شعبان ٧٠٨ ـ يناير ١٣٠٩ ، كان في عمر الملك أربع وعشرون سنة ، وقد عاد عودة ظافرة للحكم في شعبان ٧٠٩ ـ يناير ١٣١٠. وكانت سلطنته الثالثة والأخيرة بتدبير حاكم حلب قراسنقر ...

الدرر ٣ ، ٣٣١ ـ د ، التازي : رسالة بن صلاح الدين إلى المنصور الموحدي بحث قدم للمؤتمر السادس لتاريخ بلاد الشام ونشر بمجلة أكاديمية المملكة المغربية ، العدد ١١ سنة ١٩٩٤.

(١٥) أصبح سالار نائبا للملك طوال مملكة الناصر الثانية ، وأرغم على أن يمارس نفس الوظيفة مع الملك الذي عوّض الناصر ، وقد سمى حاكما لحصن الكرك عند عودة الملك الناصر ومات في السجن.

(١٦) عقبة أيلة التي استمد منها ميناء أيلة اسمه الحالي هي بالضبط الممرّ الذي يقع شمال المدينة من العقبة إلى معان. هذا ونظرا لما عرفت به العقبة كطريق للحجاج فقد اكتشفت مؤخرا بها مجموعة من النقود الذّهبية ضربت بسجلماسة تعود لأحد الحجاج المغاربة ـ جريدة الدستور الأردنية ٣١ / ٨ / ١٩٩٢

٣٤٤

٣٤٥

وكان قد ولى الملك في تلك المدة بيبرس الشّشنكير (١٧) ، وهو أمير الطعام ، وتسمى بالملك المظفر ، وهو الذي بنا الخانقاه البيبرسية (١٨) بمقربة من خانقاه سعيد السعداء التي بناها صلاح الدين ابن أيوب ، فقصده الملك الناصر بالعساكر ففرّ بيبرس إلى الصحراء فتبعه العساكر وقبض عليه وأوتي به إلى الملك الناصر فأمر بقتله فقتل وقبض على سلار وحبس في جبّ حتى مات جوعا ، ويقال : إنه أكل خفيه من الجوع ، نعوذ بالله من ذلك!

وأقام الركب بخارج الكرك أربعة أيام بموضع يقال له الثنيّة (١٩) وتجهزوا لدخول البرية ، ثم ارتحلنا إلى معان (٢٠) وهو آخر بلاد الشام ، ونزلنا من عقبة الصوّان (٢١) إلى الصحراء التي يقال فيها : داخلها مفقود وخارجها مولود ، وبعد مسيرة يومين نزلنا ذات حجّ (٢٢) ، وهي حسيان لا عمارة بها ، ثم إلى وادي بلدح (٢٣) ولا ماء به.

ثم إلى تبوك (٢٤) وهو الموضع الذي غزاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيها عين تبضّ بشيء من الماء ، فلما نزلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوضأ منها جادت بالماء المعين ، ولم تزل إلى هذا العهد ببركة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١٧) الكلمة في الأصل من الفارسية (شاشطا / نيگير (Chashta ـ nigir وتعني الشخص الذي يذوق الطعام الذي يقدم للعاهل (أمير الطعام) ، وهو أي بيبرس سلطان مملوك ، نصب فيما بين المملكة الثانية والثالثة للملك الناصر، معروف تحت اسم بيبرس الثاني وقد أعدم في شهر في القعدة ٧٠٩ ـ أبريل ١٣١٠.

الدرر الكامنة ٢ ، ٣٦ وما بعدها ـ صبح الأعشى ج ٤ ص ٤١ لغةنامه تأليف علي أكبر دهخدا ـ جامعة تهران.

(١٨) بنيت هذه الخانقاة في المكان الذي توجد فيه قصور الوزراء الفاطميين جنوب باب النصر ، والحديث على سالار يقترن دائما باخبار الناصر ـ النعيمي : الدارس ، ج ١ ، ٥٥٤ هذا وقد اعتمدنا معظم النسخ ومنها النسخة المحفوظة بالخزانة الملكية التي يوجد فيها خفّيه (مثنى خف) بدل جيفة ...

MAX VAN BERCHEM, Materiaux pour un corpus Arabicarum Paris ـ ٤٩٨١.

(١٩) توجد (الثنية) على بعد ثلاث كيلوميترات جنوب شرقي الكرك ، وهي الثنية الحالية ، (تثنية مدران). أنظر معجم البلدان لياقوت.

(٢٠) معان : تقع جنوب الأردن على مقربة من مدينة الأنباط الشهيرة ، البتراء زرناها ١٣ / ١٢ / ١٩٩٦ مع الأكاديمية ويتحدث السفير ابن عثمان في رحلته عام ١٢٠١ م عن عيون معان وبساتينها وعنبها ورمّانها ...

(٢١) عقبة الصوّان تقع على بعد ستين كيلوميترا جنوب معان وتسمى اليوم محطة عقبة الحجاز ..

(٢٢) ذات حج ، محطة تقع في المملكة العربية السعودية الحالية ، تقع على خط ٥٠ ، ٢٩ شمالا الخط ٨ ، ٣٦ شرقا ـ والحسيان : جمع حسى : السهل من الأرض

(٢٣) بلدح : موقع شمال الحجاز ، به واد البزواء انظر ياقوت

Musil ,Alois : The Northern Hegaz ,New York ٦٢٩١.

(٢٤) واحة شمال الحجاز تعتبر محطة بارزة من محطات الحجيج وخاصة للذين يردون من بلاد الشام ، اشتهرت بالغزوة العظيمة التي قام بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام تسع من الهجرة ـ ٦٣١ م وقد زرناها ونحن في الطريق إلى مدائن صالح ـ يناير ١٩٧٩.

٣٤٦

ومن عادة حجاج الشام إذا وصلوا منزل تبوك أخذوا أسلحتهم وجرّدوا سيوفهم وحملوا على المنزل وضربوا النخيل بسيوفهم ، ويقولون : هكذا دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروى منها جميعهم ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك.

ومن عادة السقّائين أنهم ينزلون على جوانب هذه العين ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس كالصهاريج الضخام يسقون منها الجمال ويملأون الرّوايا والقرب (٢٥) ، ولكل أمير أو كبير حوض يسقي منه جماله وجمال أصحابه ويملأ رواياهم ، وسواهم من النّاس يتّفق مع السقّائين على سقي جمله وملء قربته بشيء معلوم من الدراهم ، ثم يرحل الركب من تبوك ويجدّون السير ليلا ونهارا خوفا من هذه البرّيّة ، وفي سطها الوادي الأخيضر (٢٦) كأنه وادي جهنم أعادنا الله منها ، وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السّموم التي تهبّ فانتشفت المياه ، وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ، ومات مشتريها وبائعها ، وكتب ذلك في بعض صخر الوادي!

ومن هنالك ينزلون بركة المعظّم (٢٧) وهي ضخمة نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب ويجتمع بهاء ماء المطر في بعض السنين ، وربما جفّ في بعضها ، وفي الخامس من

__________________

(٢٥) يتحدث ابن بطوطة هنا عن طريقة فريدة لإرواء المطايا فعندما تجد القافلة نفسها بجانب عيون لا تساعد الجمال والسائمة على أن تستفيد منها إما لضيق مسالكها وإما لصعوبة الأخذ منها مباشرة ، فإنها ، أي القافلة ، تعمد إلى نصب صهاريج صناعية تخيطها من جلد الجواميس ... وتحضر الابل للشرب والإرواء ... وتتزود القرب والرّوايا (ج راوية) بالماء ، وتستعمل هذه الأحواض كذلك في النزهات الكبرى خارج المدينة لإرواء الضيوف بالربّ والجلّاب ونحوهما ...

وقد كانت هذه العادة معروفة أيضا في الصحراء المغربية عندنا ممّا يعرف باسم الحوض عند ما تحدث المؤرخون عن آلاف القرب التي صنعها المنصور الذهبي وهو يستعدّ للزخف على امبراطورية سنغاي ... أشاروا إلى مثل هذه الصهاريج الاصطناعية التي لا تختلف اليوم عن التي تباع اليوم لتنصب في الحدائق لسباحة الأطفال ...

(٢٦) الأخيضر أو الأخضر : منزل قرب تبوك في واد عميق ذي حمم فابن بطوطة معه الحق في تشبيهه بوادي جهنم ولهذا فان تسميته بالوادي الأخيضر تسمية لا تخلو من نكتة. يقع الأخيضر على الخط ٠٨ ، ٢٨ شمالا و ٠٨ ، ٣٧ شرقا.

(٢٧) سمّيت بالمعظم على اسم المعظم عيسى سلطان دمشق وابن أخي صلاح الدين ـ ١٢١٨ ـ ١٢٢٧ ٦١٤ ـ ٦٢٤.

٣٤٧

أيام رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر (٢٨) حجر ثمود (٢٩) ، وهي كثيرة الماء ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم اقتداء بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث مر بها في غزوة تبوك فأسرع براحلته وأمر أن لا يسقى منها أحد ، ومن عجن به أطعمه الجمال.

وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الاحمر منحوتة لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة ، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت ، إن في ذلك لعبرة. ومبرك ناقة صالح عليه‌السلام بين جبلين هنالك وبينهما أثر مسجد يصلي الناس فيه ، وبين الحجر والعلا (٣٠) نصف يوم أو دونه ، والعلا قرية كبيرة حسنة لها بساتين النخل والمياه المعينة يقيم بها الحجاج أربعا ، ويتزودون ويغسلون ثيابهم ويودعون بها ما يكون عندهم من فضل زاد ويستصحبون قدر الكفاية.

وأهل هذه القرية أصحاب أمانة. وإليها ينتهي تجار نصارى الشام لا يتعدونها (٣١) ويبايعون الحجاج بها الزاد وسواه ، ثم يرحل الركب من العلا فينزلون في غد رحيلهم الوادي المعروف بالعطاس(٣٢) ، وهو شديد الحر تهب فيه السموم المهلكة ، هبّت في بعض السنين على الركب فلم يخلص منهم إلا اليسير ، وتعرف تلك السنة سنة الأمير الجالقي (٣٣) ، ومنه ينزلون هديّة (٣٤) وهي حسيان ماء بواد يحفرون به فيخرج الماء وهو زعاق ، وفي اليوم الثالث ينزلون بظاهر البلد المقدس الكريم الشريف.

__________________

(٢٨) بئر الحجر : اسم لمرحلة كانت تنزل بها القوافل القديمة بين اليمن وسوريا وقد ورد ذكرها عند بلين (Pline) تحت اسم (HEGRA)

(٢٩) حجر ثمود يسمى اليوم مدائن صالح التي زرناها بمناسبة مؤتمر الرياض حول جغرافية الجزيرة العربية يناير ١٩٧٩ وتوجد إشارات لقبيلة ثمود في المصادر الاغريقية والآشورية وبخاصة في القرآن الكريم ، السورة الحادية عشر ، الآية ٦١ / ٦٨ ، هذا وردا على ما يذكر في الأساطير عن أجسام آل ثمود لاحظ ابن خلدون أن ديارهم وأبوابها صغيرة!! أنظر المقدمة حول مبالغات المؤرخين ...

(٣٠) العلا تقع على بعد أربعين كيلومترا ، جنوب مدائن صالح ...

(٣١) يلاحظ هنا تحديد منطقة الحرم حيث لا يجوز تجاوزها بالنسبة للذين لا يعتنقون الإسلام ، وما تزال هذه الحدود اليوم هي التي كانت عليها بالأمس ...

(٣٢) العطاس لم نهتد لتحديده ، فهل له صلة بالعطاش (بالشين)؟ أسعد سليمان عبده : معجم الأسماء الجغرافية ١٤٠٤ ـ ١٩٨٤ ص ٣٢٥.

(٣٣) القصد إلى قطلقتمر صهر الجالق الذي ولى نيابة غزّه قبل الجاولي وقد توفي سنة بضع عشرة وسبعمائة ـ ١٣١٧.

(٣٤) هدية : (بضم الهاء) محطة تقع على الخط ٣٢ ، ٢٥ شمالا و ٤٧ ، ٣٨ شرقا.

٣٤٨

طيبة (٣٥) مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرم

وفي عشىّ ذلك اليوم دخلنا الحرم الشريف وانتهينا إلى المسجد الكريم فوقفنا بباب السلام(٣٦) مسلّمين وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم ، واستلمنا القطعة الباقية من الجذع (٣٧) الذي حنّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة ، وأدينا حق السلام على سيد الأولين والآخرين ، وشفيع العصاة والمذنبين ، الرّسول النبي الهاشمي الأبطحي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما وشرف وكرم ، وحقّ السلام على ضجيعيه وصاحبيه : أبي بكر الصديق (٣٨) وأبي حفص عمر الفاروق رضي‌الله‌عنهما ، وانصرفنا إلى رحلنا مسرورين بهذه النعمة العظمى ، مستبشرين بنيل هذه المنة الكبرى ، حامدين لله تعالى على البلوغ إلى معاهد رسوله الشريفة ، ومشاهده العظيمة المنيفة داعين أن لا يجعل ذلك آخر عهدنا بها وأن يجعلنا ممن قبلت زيارته ، وكتبت في سبيل الله سفرته.

ذكر مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروضته الشريفة

المسجد المعظم مستطيل تحفّه من جهاته الاربع ، بلاطات دائرة به ووسطه صحن مفروش بالحصى والرمل ، ويدور بالمسجد الشريف شارع مبلّط بالحجر المنحوتة ، والرّوضة المقدسة (٣٩) صلوات الله وسلامه على ساكنها ، في الجهة القبلية مما يلي الشرق من المسجد الكريم ، وشكلها عجيب لا يتأتى تمثيله ، وهي مؤزّرة بالرخام البديع النحت ، الرائق النعت ، قد علاها تضميخ المسك والطيب مع طول الأزمان ، وفي الصفحة القبلية منها مسمار فضة هو قبالة الوجه الكريم ، وهناك يقف الناس للسلام مستقبلين الوجه الكريم ، مستدبرين القبلة

__________________

(٣٥) طيبة : اسم أطلق بعد ظهور الإسلام على مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما يثرب فاسم قديم.

(٣٦) يبتدئ الحجاج زيارتهم للمسجد من باب السلام وهو مدخل يقع قريبا من الزاوية الجنوبية للجدار الغربي قبالة القبر النبوي.

(٣٧) لم يبق أثر اليوم لهذا الجذع.

(٣٨) أبو بكر : صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخليفته ، معروف بلقب الصّدّيق ، وقد كان عمر كذلك صهرا وخليفة لأبي بكر وكان يلقب بالفاروق ، وكلاهما دفن إلى جانب قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد وقفنا على ذلك داخل الروضة الشريفة التي تحتضن جدث الرسول عليه الصلوات ضمن الوفد الرسمي الذي أدّى مناسك الحج عام ١٣٧٨ ه‍ (١٩٥٩ م).

(٣٩) هذه معلومات مقتبسة باختصار من ابن جبير إنما يلاحظ أن المسجد الأول الذي كتب عنه ابن جبير تهدم في أعقاب حريق مدمر عام ٦٥٤ ه‍ ـ ١٢٥٦ ، هذا ونلاحظ أن معظم مخطوطات ابن بطوطة ومنها مخطوطة الخزانة الملكية بالمغرب كتب (مؤزّرة) عوض مدورة ...

٣٤٩

٣٥٠

فيسلمون وينصرفون يمينا إلى وجه أبي بكر الصديق ، ورأس أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، عند قدمي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ينصرفون إلى عمر بن الخطاب ، ورأس عمر عند كتفي أبي بكر رضي‌الله‌عنهما.

وفي الجوفى من الروضة المقدسة زادها الله طيبا حوض صغير مرخّم في قبلته شكل محراب يقال إنه كان بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ويقال أيضا هو قبرها ، والله أعلم (٤٠).

وفي وسط المسجد الكريم دفة مطبقة على وجه الأرض مقفلة على سرداب له درج" يفضى إلى دار أبي بكر رضي‌الله‌عنه خارج المسجد ، وعلى ذلك السرداب كان طريق بنته عايشة أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها إلى داره ، ولا شكّ أنه هو الخوخة التي ورد ذكرها في الحديث ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما بإبقائها وسدّ ما سواها ، وبإزاء دار أبي بكر رضي‌الله‌عنه دار عمر ودار ابنه عبد الله بن عمر (٤١) رضي‌الله‌عنهما وبشرقي المسجد الكريم دار إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس (٤٢) رضي‌الله‌عنه وبمقربة من باب السلام سقاية ينزل إليها على درج ماؤها معين. وتعرف بالعين الزرقاء.

ذكر ابتداء بناء المسجد الكريم

قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما المدينة الشريفة دار الهجرة يوم الاثنين الثالث عشر من شهر ربيع الأول (٤٣) فنزل على بني عمرو بن عوف (٤٤) وأقام عندهم اثنتين وعشرين ليلة ، وقيل أربع عشرة ليلة وقيل أربع ليال ، ثم توجه إلى المدينة فنزل على بني النّجار

__________________

(٤٠) المنقول عن العلماء أن قبر فاطمة يوجد بالبقيع ... هذا وقد توفيت فاطمة حسرة على والدها بعد خمسة وسبعين يوما من وفاته ويعتقد البعض أن قبرها يوجد إلى جنب والدها ... وقد لقبت : «أمّ أبيها»

(٤١) عبد الله بن عمر بن الخطاب صحابي من أعزّ بيوتات قريش في الجاهلية ، غزا إفريقية مرتين ، آخر من توفى بمكة من الصحابة أدركه أجله عام ٧٣ ـ ٦٩٣.

(٤٢) مالك بن أنس مؤسس المذهب المالكي ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، سأله المنصور العباسي أن يضع له كتابا للناس يحملهم على العمل به فصنّف" الموطّأ" الذي يظل عمدة يرجع اليها المالكية ... أدركه أجله بالمدينة سنة ١٧٩ ـ ٧٩٥. وقد ورد ذكره كذلك في رحلة ابن جبير تعبيرا من الرّحالتين المغربيين عن اهتمامهما بالمذهب المالكي.

(٤٣) تبتدىء الهجرة مع مغادرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكة يوم الجمعة أول المحرم ١٥ يوليه ٦٢٢ ، وقد وصل إلى المدينة بتاريخ ثامن ربيع الأول : الموافق يوم ٢٠ شتنبر ٦٢٢.

(٤٤) تكوّن قبيلة الأوس مع قبيلة الخزرج وهما من أعظم قبائل المدينة ما أصبح معروفا في التاريخ الاسلامي باسم الأنصار.

٣٥١

(٤٥) بدار أبي أيوب الأنصاري (٤٦) رضي‌الله‌عنه وأقام عنده سبعة أشهر حتى بنى مساكنه ومسجده.

وكان موضع المسجد مربدا لسهل وسهيل ابنى رافع بن أبي عمر بن عاند بن ثعلبة بن غنم ابن ملك بن النّجار وهما يتيمان في حجر أسعد بن زرارة رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، وقيل كانا في حجر أبي أيوب رضي‌الله‌عنه فابتاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، ذلك المربد ، وقيل بل أرضاهما أبو أيوب عنه ، وقيل إنهما وهباه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، فبنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما المسجد وعمل فيه مع أصحابه وجعل عليه حائطا ولم يجعل له سقفا ولا أساطين ، وجعله مربّعا طوله مائة ذراع ، وعرضه مثل ذلك ، وقيل : إن عرضه كان دون ذلك ، وجعل ارتفاع حائطه قدر القامة ، فلما اشتد الحر تكلم أصحابه في تسقيفه فأقام له أساطين من جذوع النخل ، وجعل سقفه من جريدها فلما أمطرت السماء وكف المسجد ، فكلم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمله بالطين فقال : كلّا! عريش كعريش موسى أو ظلّة كظلّة موسى ، والأمر أقرب من ذلك ، قيل : وما ظلّة موسى؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان إذا قام أصاب السقف رأسه ، وجعل للمسجد ثلاثة أبواب ثم سدّ الجنوبي منها حين حولت القبلة (٤٧) ، وبقى المسجد على ذلك حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما وحياة أبي بكر رضي‌الله‌عنه.

فلما كانت أيام عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه زاد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما وقال : لو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما يقول : ينبغي أن نزيد في المسجد ما زدت فيه ، فانزل أساطين الخشب وجعل مكانها أساطين اللّبن ، وجعل الأساس حجارة إلى القامة وجعل الابواب ستة ، منها في كلّ جهة ما عدا القبلة ، بابان وقال في باب منها : ينبغي أن يترك هذا للنّساء ، فما رىء فيه حتى لقى الله عزوجل ، وقال :

__________________

(٤٥) بنو النجار فخذة من الخزرج ...

(٤٦) أبو أيوب ، خالد بن زيد ، من مشاهير صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أدركه أجله أثناء حصار القسطنطينية العظمى عام ٥٢ ـ ٦٧٢ لما غزا يزيد عاصمة البيزنطيين في خلافة أبيه معاوية ، دفن في أصل حصن القسطنطينية ، وقد اكتشف قبره عند ما احتلت المدينة عام ٨٥٧ ـ ١٤٥٣ من قبل آل عثمان ، ويعتبر قبره إلى اليوم مزارة مقصودة تحت اسم (أيوب) مما أوهم بعض الناس أنه قبر نبي الله أيوب الذي يوجد في سوريا على ما نعرف.

(٤٧) من المعلوم أن القبلة كانت أول الأمر في اتجاه بيت المقدس ، ولكنها لم تلبث أن غيّرت إلى مكة في السنة الثانية من الهجرة ويعلّق بلاشير بأن ذلك التحوّل تم لما يئس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استمالة اليهود!

٣٥٢

لو زدنا في هذا المسجد حتى يبلغ الجبّانة لم يزل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليما.

وأراد عمر أن يدخل في المسجد موضعا للعباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ورضي عنهما فمنعه منه وكان فيه ميزاب يصبّ في المسجد ، فنزعه عمر وقال : إنه يؤذي الناس ، فنازعه العباس وحكّما بينهما أبي بن كعب رضي‌الله‌عنهما فأتيا داره فلم يؤذن لهما إلا بعد ساعة ، ثم دخلا إليه فقال كانت جارتي تغسل رأسي ، فذهب عمر ليتكلّم فقال له أبي : دع أبا الفضل يتكلّم لمكانه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، فقال العباس : خطّة خطها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما وبنيتها معه وما وضعت الميزاب إلا ورجلاي على عاتقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء عمر فطرحه وأراد إدخالها في المسجد. فقال أبي : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما يقول : أراد داوود عليه‌السلام أن يبني بيت الله المقدس وكان فيه بيت ليتيمين فراودهما على البيع فأبيا ثم أرادهما فباعاه ، ثم قاما بالغبن فردّ البيع واشتراه منهما ، ثم ردّاه كذلك فاستعظم داود الثمن ، فأوحى الله إليه : إن كنت تعطى من شيء هو لك فأنت أعلم ، وإن كنت تعطيهما من رزقنا فأعطهما حتى يرضيا ، وان أغنى البيوت عن مظلمة بيت هو لي ، وقد حرمت عليك بناءه ، قال يا رب فأعطه سليمان ، فأعطاه سليمان عليه‌السلام. فقال عمر من يشهد لي بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما قاله؟ فخرج أبي إلى قوم من الأنصار فأثبتوا له ذلك ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : أما إني لو لم أجد غيرك أخذت قولك ، ولكني أحببت أن أثبت ، ثم قال للعباس رضي‌الله‌عنه ، والله لا تردّ الميزاب إلا وقدماك على عاتقيّ ، ففعل العباس ذلك ثم قال : أما إذ أثبتت لي فهي صدقة لله ، فهدمها عمر وأدخلها في المسجد ، ثم زاد فيه عثمان رضي‌الله‌عنه وبناه بقوة وباشره بنفسه ، فكان يظل فيه نهاره وبيّضه وأتقن محله بالحجارة المنقوشة ، ووسعه من جهاته إلا جهة الشرق منها وجعل له سواري حجارة مثبتة بأعمدة الحديد والرصاص وسقفه بالسّاج ، وصنع له محرابا وقيل إن مروان هو أول من بنى المحراب ، وقيل : عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد.

ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك ، تولّى ذلك عمر بن عبد العزيز فوسعه وحسّنه وبالغ في إتقانه وعمله بالرخام والساج المذهب (٤٨) ، وكان الوليد بعث إلى ملك الروم : إني أريد أن

__________________

(٤٨) مروان بن الحكم ، أدركه أجله سنة ٦٥ ـ ٦٨٤ ـ عبد الملك بن مروان أدركه أجله عام ٨٦ ـ ٧٠٥ ، والوليد بن عبد الملك ت ١٧٩ ـ ٧٩٥ وعمر بن عبد العزيز توفى ١٠١ ـ ٧٢٠ ، وكلّ هؤلاء خلفاء أمويون. عمر بن عبد العزيز كان واليا بالمدينة وهو الذي قام بتوسعة مسجد الرسول مستعينا بالخبرة البيزنطية. على ما سنرى د. التازي : المسجد في المأثور الاسلامي ص ٣٢٤ مصدر سابق.

Gibb : ARAB ـ Byzantin Relations Dumbarton oaks papers XII ـ ٨٥٩١

٣٥٣

أبني مسجد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما فأعنّي فيه. فبعث إليه الفعلة وثمانين ألف مثقال من الذهب (٤٩) ، وأمر الوليد بإدخال حجر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، فاشترى عمر من الدور ما زاده في ثلاث جهات من المسجد ، فلما صار إلى القبلة امتنع عبيد الله بن عبد الله ابن عمر من بيع دار حفصة ، وطال بينهما الكلام حتى ابتاعها عمر على أن لهم ما بقى منها ، وعلى أن يخرجوا من باقيها طريقا إلى المسجد وهي الخوخة التي في المسجد.

وجعل عمر للمسجد أربع صوامع في أربعة أركانه : إحداهما مطلّة على دار مروان فلما حج سليمان بن عبد الملك نزل بها فأطل عليه المؤذن حين الآذان فأمر بهدمها (٥٠).

وجعل عمر للمسجد محرابا ويقال : هو أوّل من أحدث المحراب ، ثم زاد فيه المهدي (٥١) ابن أبي جعفر المنصور ، وكان أبوه هم بذلك ولم يقض له ، وكتب اليه الحسن بن زيد (٥٢) يرغّبه في الزيادة فيه من جهة الشرق ، ويقول : إنه إن زيد في شرقية توسطت الروضة الكريمة المسجد الكريم ، فاتّهمه أبو جعفر بأنه أراد هدم دار عثمان رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه : إني قد عرفت الذي أردت فاكفف عن دار الشيخ عثمان. وأمر أبو جعفر أن يظلّل الصّحن أيام القيظ بستور تنشر على حبال ممدودة على خشب تكون في الصحن لتكنّ المصلين من الحر (٥٣).

وكان طول المسجد في بناء الوليد مائتي ذراع ، فبلّغه المهدي إلى ثلاثمائة ذراع وسوّى المقصورة بالأرض وكانت مرتفعة عنها بمقدار ذراعين ، وكتب اسمه على مواضع من المسجد.

ثم أمر الملك المنصور قلاوون ببناء دار للوضوء عند باب السلام فتولى بناءها الأمير الصالح علاء الدين المعروف بالأقمر ، وأقامها متسعة الفناء تستدير بها البيوت ، وأجرى إليها

__________________

(٤٩) يلاحظ اهتمام ابن بطوطة بالتاريخ الدولي الاسلامي منذ التاريخ المبكّر ... وفي موضوع طلب خبرة البيزنطيين في بناء مسجد الرسول راجع الذهب المسبوك لتقي الدين المقريزي ، تحقيق جمال الدين الشيال ـ القاهرة ١٩٥٥ ، ص ٣٠ ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. د. التازي : التعليق السابق.

(٥٠) سليمان أخ للوليد وخلفه وفي عهده فتحت جرجان وطبرستان ، أدركه أجله عام ٩٩ ـ ٧١٧.

(٥١) المهديّ بالله الخليفة العباسي ، هو محمد بن عبد الله المنصور ، أدركه أجله على دابته في الصيد ، وكان يجلس للمظالم، أول من لعب بالصوالجة في الإسلام دفن بجامع الرصافة عام ١٦٩ ـ ٧٨٥ وقد انمحى أثر تربته بعد ذلك.

(٥٢) الحسن بن زيد بن علي ، كان حاكما على المدينة من بضع سنوات ... ويلاحظ من خلال هذا درجة الاحتكاك بين أنصار علي وبين أنصار عثمان الذي انتخب خليفة عوض الإمام عليّ كما هو معلوم ، أدركه أجله عام ١٦٨ ـ ٧٨٤.

(٥٣) حول تكييف صحون المساجد يراجع تاريخي لجامع القرويين ج ١ ص ٧٤.

٣٥٤

الماء ، وأراد أن يبنى بمكة شرفها الله تعالى مثل ذلك ، فلم يتمّ له ، فبناه ابنه الملك الناصر بين الصّفا والمروة ، وسيذكر إن شاء الله.

وقبلة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما قبلة قطع لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما أقامها ، وقيل أقامها جبريل عليه‌السلام ، وقيل كان جبريل يشير له إلى سمتها وهو يقيمها ، وروي أن جبريل ، عليه‌السلام ، أشار إلى الجبال فتواضعت فتنحّت حتى بدت الكعبة ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما يبني وهو ينظر إليها عيانا ، وبكل اعتبار فهي قبلة قطع ، وكانت القبلة أول ورود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما المدينة إلى بيت المقدس ، ثم حوّلت إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرا ، وقيل بعد سبعة عشر شهرا.

ذكر المنبر الكريم.

وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، كان يخطب إلى جذع نخلة بالمسجد فلما صنع له المنبر وتحوّل إليه ، حنّ الجذع حنين الناقة إلى حوارها ، وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما نزل إليه فإلتزمه فسكن ، وقال : لو لم ألتزمه لحن إلى يوم القيامة.

واختلفت الروايات فيمن صنع المنبر الكريم فروى أن تميم الدّاري (٥٤) رضي‌الله‌عنه هو الذي صنعه، وقيل : إن غلاما للعباس رضي‌الله‌عنه صنعه ، وقيل غلام لامرأة من الانصار ، وورد ذلك في الحديث الصحيح ، وصنع من طرفاء الغابة ، وقيل من الأثل (٥٥) ، وكان له ثلاث درجات فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما يقعد على علياهن ، ويضع رجليه الكريمتين في وسطاهن ، فلما ولى أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه قعد على وسطاهن ، وجعل رجليه على أولاهن ، فلما ولى عمر رضي‌الله‌عنه جلس على أولاهن وجعل رجليه على الأرض ، وفعل ذلك عثمان رضي‌الله‌عنه صدرا من خلافته ثم ترقى إلى الثالثة.

ولما أن صار الأمر إلى معاوية رضي‌الله‌عنه أراد نقل المنبر إلى الشام فضجّ المسلمون وعصفت ريح شديدة وخسفت الشمس وبدت النجوم نهارا وأظلمت الأرض فكان الرجل يصادم الرجل ولا يتبيّن مسلكه ، فلما رأى ذلك معاوية تركه وزاد فيه ستّ درجات من أسفله فبلغ تسع درجات(٥٦).

__________________

(٥٤) نسبة إلى قبيلة الدار على الحدود السورية التي التحقت بركب الاسلام عام ٩ ـ ٦٣١ ـ رضا كحالة : معجم قبائل العرب ، ج ١ ، ص ٣٧٠.

(٥٥) قريب من هذا ذكره الهروي في كتابه الإشارات إلى معرفة الزيارات مصدر سابق.

(٥٦) احترق هذا المنبر عام ٦٥٤ ـ ١٢٥٦ بين فترة زيارة ابن جبير وفترة زيارة ابن بطوطة على ما عرفنا.

٣٥٥

ذكر الخطيب والامام بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما

وكان الامام بالمسجد الشريف في عهد دخولي إلى المدينة بهاء الدين بن سلامة (٥٧) من كبار أهل مصر ، وينوب عنه العالم الصالح الزاهد بغية المشايخ عز الدين الواسطي (٥٨) ، نفع الله به ، وكان يخطب قبله ويقضي بالمدينة الشريفة سراج الدين عمر المصري (٥٩).

حكاية [سراج الدين وحلمه]

يذكر أن سراج الدّين هذا أقام في خطة القضاء بالمدينة والخطابة بها نحو أربعين سنة ، ثم إنه أراد الخروج بعد ذلك إلى مصر فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما في النوم ثلاث مرات ، في كلّ مرة ينهاه عن الخروج منها ، وأخبره باقتراب أجله فلم ينته عن ذلك ، وخرج فمات بموضع يقال له السويس على مسيرة ثلاث من مصر قبل أن يصل اليها ، نعوذ بالله من سوء الخاتمة ، وكان ينوب عنه الفقيه عبد الله محمد بن فرحون ، رحمه‌الله وابناؤه الآن بالمدينة الشريفة : أبو محمد عبد الله مدرّس المالكية ، ونائب الحكم ، وأبو عبد الله محمد ، وأصلهم من مدينة تونس ، ولهم بها حسب وأصالة (٦٠). وتولى الخطابة والقضاء بالمدينة الشريفة بعد ذلك جمال الدين الأسيوطي (٦١) من أهل مصر وكان قبل ذلك قاضيا بحصن الكرك.

__________________

(٥٧) القصد إلى موسى بن عبد الرحمن بن سلامة المدلجى ، بهاء الدين ولد سنة ٦٦٥ ـ ١٢٦٧ وتعاطى الخط الحسن ، وكتب عدة ختمات ، ثم ولى خطابة المدينة عام ٧٢٦ ـ ١٣٢٦ وقد أدركه أجله يوم ١٨ رجب ٧٤٤ ـ ١٣٤٣. الدرر الكامنة ج ٥ ص ١٤٦.

(٥٨) الحسن بن علي بن اسماعيل بن ابراهيم الواسطي عز الدين ، ولد ببغداد عام ٦٥٤ ـ ١٢٥٦ وقد قدم مصر فسمع عن الدمياطي ، وحج مرات وناب عن الإمام بالمسجد النبوي ، ومات في شعبان ـ ١٣٤١ ٧٤١. الدرر الكامنة ج ٢ ، ١٠٣.

(٥٩) عمر بن أحمد بن الخضر بن ظافر ... الأنصاري المصري الخطيب سراج الدين القاضي المدني ... برع في الفقه والاصول ولّاه المنصور قلاون الخطابة بالمدينة المنورة نحو أربعين عاما فقدمها عام ١٢٨٣ ٦٨٢ ـ فانتزعها من أيدي الرافضة ... أدركه أجله بالسويس محرم ٧٢٦ ـ ١٣٢٦ ـ وصلّى عليه نجم الدّين الاصفوني الدرر الكامنة ، ٣ ، ٢٢٤

(٦٠) هنا ثلاثة من أسرة ابن فرحون : الوالد الذي يحمل اسم محمد وكنية أبو محمد وهو الذي تحدث عنه ابن بطوطة قائلا رحمه‌الله بمعنى أنه لم يدركه ... وهناك أبناؤه : الأول عبد الله الملقب بدر الدّين والمكنّى بأبي محمد ، وهذا الذي ناب في الحكم .... وحج نيفا وأربعين حجة ولم يخرج منذ سكن المدينة إلا إلى مكة وقد توفي في رجب ٧٦٩ ـ ١٣٦٧ ، وهناك أخوه محمد المتوفى سنة ٧٥٥ ـ ١٣٥٤. ولهما أخ ثالث هو علي المتوفى سنة ٧٤٦ ـ ١٣٤٥. ـ الدرر ٢ ، ٤٠٧.

(٦١) جمال الدّين الأسيوطي أو الأميوطي (أميوط : بلدة من اقليم الغربية بالديار المصرية) والده هو عزّ الدّين محمد بن أحمد بن ابراهيم بن يحيى الذي كان من جلة العلماء بالمشرق ولي قضاء الكرك مدة طويلة نحو ثلاثين سنة وتوفي في شعبان سنة ٧٢٥ غشت ١٣٢٥. قال الذهبي : وهو والد شيخنا بالإجازة جمال الدّين ابراهيم نزيل مكة. الدرر ٣ ، ٣٩٦.

٣٥٦

ذكر خدام المسجد الشريف والمؤذنين به.

وخدام هذا المسجد الشريف وسدنته فتيان من الأحابيش وسواهم ، وهم على هيأت حسان وصور نظاف ، وملابس ظراف ، وكبيرهم يعرف بشيخ الخدام ، وهو في هيأة الأمراء الكبار، ولهم المرتبات بديار مصر والشام ، ويوتي إليهم بها في كل سنة.

ورئيس المؤذنين بالحرم الشريف الإمام المحدث الفاضل جمال الدين المطري (٦٢) من مطرية قرية بمصر ، وولده الفاضل عفيف الدين عبد الله ، والشيخ المجاور الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد الغرناطي المعروف بالتّرّاس (٦٣) ، قديم المجاورة وهو الذي جبّ نفسه خوفا من الفتنة!

حكاية [هذا الشيخ الذي جب نفسه]

يذكر أن أبا عبد الله الغرناطي كان خديما لشيخ يسمى عبد الحميد العجمي ، وكان الشيخ حسن الظن به يطمئن إليه بأهله وماله ، ويتركه ، متى سافر ، بداره ، فسافر مرة وتركه على عادته بمنزله فعلقت به زوجة الشيخ عبد الحميد وراودته عن نفسه فقال : إني أخاف الله ولا أخون من ائتمنني على أهله وماله! فلم تزل تراوده وتعارضه ، حتى خاف على نفسه الفتنة وجبّ نفسه وغشى عليه ووجده الناس على تلك الحالة فعالجوه حتى برىء ، وصار من خدام المسجد الكريم ومؤذنا به ورأس الطائفتين وهو باق بقيد الحياة إلى هذا العهد.

ذكر بعض المجاورين بالمدينة الشريفة.

منهم الشيخ الصالح الفاضل أبو العباس أحمد بن محمد بن مرزوق (٦٤) كثير العبادة

__________________

(٦٢) محمد بن أحمد بن عيسى بن عامر ... الأنصاري السعدي جمال الدين المطري المدني ... كان أحد رؤساء المؤذنين بالمسجد النبوي ومن أحسن الناس صوتا وصنّف تاريخا مقيّدا ، وكانت له مشاركة في الفنون وناب في الحكم وفي الخطابة وكانت المدينة خالية من عارف بالميقات فندب من مصر ثلاثة وكان ولده أحدهم فلما مات أبوه استقر عوضه وبقيت في يد آله. أدركه أجله بالمدينة يوم ١٧ ربيع الآخر ٧٦١ ـ ١٣٤٠ ، الدرر ج ٣ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٦٣) الغرناطي محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري الغرناطي ، قال ابن الخطيب : كان حسن الخلق عارفا بالطب ، تصدر ببلاده ثم حج وعظم صيته ، وصار أمينا على الخدام بالمدينة المنورة ، جرت له حادثة فجب ذكره وسقطت لحيته ، مات بعد سنة ٧٥٠ ـ ١٣٥٠ ونذكر بالمناسبة أن بعض المتصوفة كسر أسنانه حتى لا ينعم بلذائذ الطعام! ابن الخطيب : الاحاطة في أخبار غرناطة تحقيق محمد عبد الله عنان ج ٣ ص ٢٣٣ مكتبة الخانجي مصر ١٩٧٥ ـ الكتاني : سلوة الأنفاس ج ، ص ٢١٨.

(٦٤) أحمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق التلمساني المالكي حج بعد العشرين وجاور بمكة ثم عاد إلى بلده ثم حج فسكن بالمدينة مدة ومات بمكة عام ٧٤٠ ـ ١٣٤٠ ، الدرر ١ ، ٣١٢ ـ المسند لابن مرزوق ، تحقيق : مارية خيسوس بيغيرا (الجزائر) ١٤٠١ ـ ١٩٨١.

٣٥٧

والصوم والصلاة بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما صابر محتسب وكان ربما جاور بمكة المعظمة ، رأيته بها سنة ثمان وعشرين وهو أكثر الناس طوافا وكنت أعجب من ملازمته الطواف مع شدة الحرّ بالمطاف ، والمطاف مفروش بالحجارة السود وتصير بحر الشمس كأنها الصفائح المحماة ، ولقد رأيت السقائين يصبّون الماء عليها فما يجاوز الموضع الذي يصبّ فيه إلا ويلتهب من حينه!

وأكثر الطائفين في ذلك الوقت يلبسون الجوارب ، وكان أبو العباس بن مرزوق يطوف حافي القدمين ، ورأيته يوما يطوف فأحببت أن أطوف معه فوصلت المطاف وأردت استلام الحجر الأسود فلحقني لهب تلك الحجارة وأردت الرجوع بعد تقبيل الحجر فما وصلته إلا بعد جهد عظيم! ورجعت فلم أطف ، وكنت أجعل سجادتي (٦٥) على الأرض وأمشي عليه حتى بلغت الرّواق.

وكان في ذلك العهد بمكة وزير غرناطة وكبيرها أبو القاسم محمد بن محمد ابن الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك الأزدي (٦٦) ، وكان يطوف كل يوم سبعين أسبوعا (٦٧) ، ولم يكن يطوف في وقت القائلة لشدة الحر ، وكان ابن مرزوق يطوف في شدة القائلة زيادة عليه.

ومن المجاورين بالمدينة ، كرّمها الله ، الشيخ الصالح العابد سعيد المراكشي الكفيف ، ومنهم الشيخ أبو مهدي عيسى بن حرزوز (٦٨) المكناسي.

__________________

(٦٥) معظم النسخ تذكر (سجادتي) ولا أدري عن اجتهاد الناشرين لجعل البجاد بدل السجادة.

(٦٦) أبو القاسم ابن الوزير ابي عبد الله ، وهو بلقبه اشهر ، محمد بن محمد بن سهل الأزدي الأندلسي الغرناطي ، قال ابن كثير في البداية والنهاية (١٤ / ١٤٩) : إنه كان بارعا في معرفة الاصطرلاب وكان وافر الجلالة يكثر التصدق بما يأتيه من املاكه بالمغرب ... كان يولي الملوك ويعزلهم! وقد كان له علم بالفقه والتاريخ ، أدركه أجله بالقاهرة عام ٧٣٠ ـ ١٣٣٦ وهو عائد من الحج ... ـ الدرر ٤ ، ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٦٧) الأسبوع من الطواف : سبعة أشواط ، يقال طاف بالبيت أسبوعا أي سبع مرات ، ومعنى هذا أن الوزير أبا القاسم كان يقوم بعملية الطواف عشر مرات في اليوم ، وفي كلّ مرة ينهي سبعة أشواط فمجموع الدورات إذن سبعون! ، وذلك لعمري ، دليل يعبّر عن مدى إغراق الناس في عبادة ربّهم ، ولعلّ بعض الناشرين للرحلة استعظم أن يقوم أبو القاسم بالطواف بالبيت كلّ هذه الدورات ، ومن غير أن يرجع ذلك الناشر لقراءة ما سبق قبل سطرين من أخبار الذين كانوا يكثرون من الطواف بالرغم من شدة الحر ... أقول استعظموا ذلك فعمدوا إلى الاقتصار على ما في مخطوطة حذفت فيها كلمة سبعين!!. وهكذا عدلوا عن عبارة (كل يوم سبعين أسبوعا) إلى عبارة كل أسبوع سبعين طوافا)! ... بدّلوا فتبعهم من نقل عنهم ...!!

(٦٨) القصد إلى أسرة بني حرزوز الذين أشار إليهم الشيخ ابن غازي (ت ٩١٩ ه‍ ـ ١٥١٣ م) في كتابه" الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون" ، وقد رسم الاسم هكذا حزرون في النسخة البارزية اعتمادا على المخطوط رقم ١٢٨٩ ، بينما سائر النسخ تطبق على حرزور ، بما فيها مخطوطة الأمير مولاي العباس الذي استوقفته هذه المعلومة المتعلقة بمكناس!

ـ الروض الهتون : مطبوعات القصر الملكي ، الرباط ١٣٨٤ ـ ١٩٦٤.

ـ ابن زيدان : الاتحاف ج ٣ ، ص ٥٩٧.

٣٥٨

حكاية [شيخ تاه في الجبال]

جاور الشيخ أبو مهدي بمكة سنة ثمان وعشرين وخرج إلى جبل حراء مع جماعة من المجاورين فلما صعدوا الجبل وصلّوا بمتعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، ونزلوا عنه تأخر أبو مهدي عن الجماعة ورأى طريقا في الجبل فظنه قاصدا فسلك عليه ووصل الصحابة إلى أسفل الجبل فانتظروه فلم يأت فتطلّعوا فيما حولهم فلم يروا له أثرا فظنوا أنه سبقهم فمضوا إلى مكة ، شرفها الله تعالى ، ومرّ عيسى على طريقه فأفضى به إلى جبل آخر وتاه عن الطريق ، وأجهده العطش والحرّ وتمزّقت نعله فكان يقطع من ثيابه ويلفّ على رجليه إلى أن ضعف عن المشي واستظلّ بشجرة أن غيلان ، فبعث الله أعرابيا على جمل حتّى وقف عليه ، فاعلمه بحاله فأركبه وأوصله إلى مكة ، وكان على وسطه هميان (٦٩) فيه ذهب فسلّمه إليه ، وأقام نحو شهر لا يستطيع القيام على قدميه ، وذهبت جلدتهما ونبتت لهما جلدة أخرى وقد جرا مثل ذلك لصاحب لي اذكره ان شاء الله.

ومن المجاورين بالمدينة الشريفة أبو محمد السّروي (٧٠) من القراء المحسنين ، وجاور بمكة في السنة المذكورة ، وكان يقرأ بها كتاب الشفاء للقاضي عياض (٧١) بعد صلاة الظهر وأمّ في التراويح بها ، ومن المجاورين الفقيه أبو العباس الفاسي مدرس المالكية بها ، وتزوّج ببنت الشيخ الصالح شهاب الدين الزّرندى.

حكاية [المرتكب الصّعب]

يذكر أن أبا العباس الفاسي تكلّم يوما مع بعض الناس فانتهى به الكلام إلى أن تكلم بعظيمة ارتكب فيها بسبب جهله بعلم النسب وعدم حفظه للسانه مرتكبا صعبا عفا الله عنه ،

__________________

(٦٩) معنى الهميان بكسر الهاء الكيس الذي يجعل فيه الإنسان نقوده التي يحتاجها لنفقته ويشده إلى وسطه أو ساقه وزنده ... وهي من المفردات الحضارية الجديرة بالاستعمال اليوم بالنسبة للمسافرين الذين يهمهم الحفاظ على نقودهم! لفظ فارسي معرب يقول لسان العرب.

(٧٠) السروي نسبة إلى بلدة سارية بطبرستان ، والنسبة اليها سروى كما في معجم البلدان ، نقلا عن المقدسي واليها ينسب الشاعر السروي وقد رسم في مخطوطة مولاي العباس السروني بالنون؟

(٧١) عياض بن موسى بن عياض ... السبتي عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته ، ولى قضاء سبتة ثم غرناطة وتوفى بمراكش ، من تصانيفه الدائعة الصيت (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) وترتيب كتاب المدارك ... في معرفة أعلام مذهب الامام مالك ، أدركه أجله عام ٥٤٤ ـ ١١٤٩ وقد جمع المقري سيرته وأخباره في كتاب" أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" أعيد طبعه في المغرب من لدن صندوق احياء التراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة ١٣٩٨ ـ ١٩٧٨.

٣٥٩

فقال : إن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام لم يعقّب ، فبلغ كلامه إلى أمير المدينة طفيل بن منصور بن جمّاز الحسيني (٧٢) فأنكر كلامه ، ويحقّ إنكاره ، وأراد قتله ، فكلّم فيه فنفاه عن المدينة، ويذكر أنه بعث من اغتاله ، وإلى الآن لم يظهر له أثر نعوذ بالله من عثرات اللسان وزلله!

ذكر أمير المدينة الشريفة

كان أمير المدينة كبيش بن منصور ابن جماز (٧٣) ، وكان قد قتل عمه مقبلا ، ويقال إنه توضأ بدمه ثم إن كبيشا خرج سنة سبع وعشرين ، إلى الفلاة في شدة الحر ومعه أصحابه ، فأدركتهم القائلة في بعض الأيام فتفرقوا تحت ظلال الأشجار فما راعهم إلا وأبناء مقبل في جماعة من عبيدهم ينادون : يا لثارات مقبل! فقتلوا كبيش بن منصور صبرا ولعقوا دمه! وتولى بعده أخوه طفيل بن منصور الذي ذكرنا أنه نفى أبا العبّاس الفاسي.

ذكر بعض المشاهد الكريمة بخارج المدينة الشريفة

فمنها بقيع الغرقد ، وهو بشرقي المدينة المكرمة ويخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع ، فأول ما يلقى الخارج إليه ، على يساره عند خروجه من الباب قبر صفية بنت عبد المطلب ،رضي‌الله‌عنهما ، وهي عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، وأم الزّبير بن العوّام (٧٤) رضي‌الله‌عنه ، وأمامها قبر إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي‌الله‌عنه وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء ، وأمامه قبر السّلالة الطاهرة المقدسة النبوية الكريمة

__________________

(٧٢) رسمت الكلمة في معظم النسخ : الحسني (بفتح الحاء) وعليه اعتمد الناشران الفرنسيان والصواب الحسيني على ما يوجد في المخطوطات المعتمدة لدينا وفيها الخزانة الملكية ، وهو ما يناسبه المقام سيما وقد ورد في ترجمة طفيل بن منصور هذا أنه من ذرية الحسين (بضم الحاء) بن علي بن أبي طالب ... وكان أميرا على المدينة في الأيام الناصرية : مات في رمضان ٧٥٢ ـ نونبر ١٣٥١ ... وتذكر هذه الحادثة فيما روى عن المقري الجد وهو في مجلس أبي عنان ... النفح ١٨٢ ,V الدرر,٥٢٣ ,٤٢٣ ,II ج III ، ص ٣٤٨ ج IV ص ١٨٠.

(٧٣) كبيش بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنّا الحسيني ، أخو طفيل سالف الذكر ، ولي الإمارة استقلالا في شهر رمضان ٧٢٥ ـ ١٣٢٥ ولكنه قتل في رجب ٧٢٨ يونيه ١٣٢٨ على ما في الدرر (جزءIII ص ٣٤٨) وليس عام ٧٢٧ كما عند ابن بطوطة وإلى هؤلاء ، الأشراف الحسينيين ينتسب أبو غرّة الذي سكن أخوه قاسم في غرناطة واستشهد بوادي كرة على ما سنرى في التعليق ١٥ من الفصل الآتي.

(٧٤) الزبير بن العوام صحابي شجاع ، أحد العشرة المبشرين بالجنة شهد غزوة بدر وأحد وغيرهما وشهد الجابية مع عمر بن الخطاب ، قتل يوم وقعة الجمل عام ٣٦ ـ ٦٥٦. هذا ويلاحظ أن بعض هذه الفقرات مقتبس من رحلة ابن جبير (ص ١٥٤ ـ ١٥٥).

٣٦٠