رحلة ابن بطوطة - ج ١

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ١

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-007-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٤٣١

الدين الحويزاءي ، والحويزاء (١٥٣) على مسيرة ثلاثة من البصرة ومنهم نقيب الأشراف بديار مصر السيّد الشريف المعظم بدر الدين الحسيني (١٥٤) من كبار الصالحين ومنهم وكيل بيت المال المدرس بقبة الامام الشافعي مجد الدين بن حرمي (١٥٥) ، ومنهم المحتسب بمصر نجم الدين السهرتي (١٥٦) من كبار الفقهاء وله بمصر رياسة عظيمة وجاه.

ذكر يوم المحمل بمصر

وهو يوم دوران المحمل (١٥٧) يوم مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب قضاة القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب ، وقد ذكرنا جميعهم ، ويركب معهم أعلام الفقهاء ، وأمناء الرؤساء ، وأرباب الدولة ويقصدون جميعا باب القلعة : دار الملك الناصر فيخرج إليهم المحمل على جمل وأمامه الأمير (١٥٨) المعين لسفر الحجاز في تلك السنة ، معه عسكره والسقاءون على جمالهم ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء ، ثم يطوفون بالمحمل وجميع من ذكرنا معه بمدينتي القاهرة ومصر ، والحداة يحدون أمامهم ويكون ذلك في رجب فعند ذلك تهيج العزمات وتنبعث الأشواق وتتحرك البواعث ويلقى الله تعالى العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده ، فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد (١٥٩).

__________________

(١٥٣) كان جمال الدين الحويزائي شيخا لزاوية سعيد السّعداء ... وسيرد ذكره عند ابن بطوطة عند ما يصل إلى مدينة الحويزاء ... بعد أن يذكر زاوية سعيد السّعداء عند حديثه عن سماعه بدمشق ومن أجازه بها.

(١٥٤) هو الحسن بن أحمد ، بن محمد بن عبد الرحمن ... الحسيني الملقب بدر الدين حدّث هو وأبوه وجدّه وولوا كلهم نقابة الأشراف بمصر ، توفي في جمادى الأولى ٧٤٣ ـ ١٣٤٢. ـ الدرر ٢ ، ٢٣.

(١٥٥) هو حرمي بن هاشم بن يوسف الفلاقوسي العامري الفقيه الشافعي مجد الدين ، وكيل بيت المال ، مهر في الفقه ، كان مبذول الجاه لكل من يقصده وكان قد درس بقبّة الشافعي ... كان يلازم الاشتغال مع الشيخوخة ، توفي ثاني ذي الحجة ٧٣٤ ـ غشت ١٣٣٤ ، الدرر الكامنة ٢ ، ٨٨.

(١٥٦) السّهرتي محمد بن الحسين بن علي ، من أصل تركي ، عين محتسبا للقاهرة عام ٧٢٠ ـ ١٣٢٠ وتوفي في الوظيفة عام ٧٣٦ ـ ١٣٣٦. يلاحظ اختفاء وظيفة المحتسب بمصر منذ زمن ...

(١٥٧) عبارة عن محفة شبه الهودج ، ذات قمّة هرمية ، كسيت بثوب مزخرف يصحب ركب الحاج إلى مكة.

(١٥٨) كما هو الشأن في المغرب ـ على ما أسلفنا ـ فإن مصر كانت تعرف وظيفة أمير ركب الحاج ، وكانت من الوظائف السامية ... ومن واجب هذا الأمير أن يسهر على سلامة وأمن القافلة التي تقصد البقاع المقدسة علاوة على مهامه الدبلوماسية والسياسية ...

(١٥٩) يظهر أن ابن بطّوطة إنما كان يحكى عما يجري عادة لأنه ـ كما يبدو ـ لم يحضر هو هذا المشهد وأيضا فإنه عند العودة عام ٧٤٩ ـ ١٣٤٨ يدقق بأنه عند الوصول إلى القاهرة وجد أن قافلة رجب كانت قد ذهبت فعلا ...

Gibb, l, ٨٥ ـ ٩٥ ـ IV / AN HRBEK : THE CHRONOGY OF IBN BATTUTA\'S TRAVELS ARCHIV ORIENTALNI ٢٦٩١ p. ١٢٤.

٢٢١

٢٢٢

ثم كان سفري من مصر على طريق الصعيد برسم الحجاز الشريف ، فبت ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير الطين (١٦٠) وهو رباط عظيم بناه على مفاخر عظيمة ، وآثار كريمة ، أودعها فيه ، وهي قصعة من قطعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والميل الذي كان يكتحل به ، والدّرفش وهو الأشفى الذي كان يخصف به نعله ، ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط يده رضي‌الله‌عنه. ويقال إن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة الف درهم وبنى الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة ، نفعه الله تعالى بقصده المبارك.

ثم خرجت من الرباط المذكور ومررت بمنية القائد (١٦١) ، وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل ، ثم سرت منها إلى مدينة بوش (١٦٢) ، وضبطها بضم الباء الموحدة وأخرها شين معجم ، وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتانا ومنها يجلب إلى سائر الديار المصرية وإلى إفريقية. ثم سافرت منها فوصلت إلى مدينة دلاص (١٦٣) ، وضبط اسمها بفتح الدال المهمل وآخره صاد مهمل ، وهذه المدينة كثيرة الكتان أيضا كمثل الذي ذكرنا قبلها ويحمل أيضا منها إلى ديار مصر وإفريقية. ثم سافرت منها إلى مدينة ببا (١٦٤) ، وضبط اسمها بباءين موحدتين أولاهما

__________________

(١٦٠) دير الطين : قرية توجد دائما على الساحل الأيمن للنيل على بعد خمسة كيلوميترات جنوب القاهرة القديمة ، هذا وإن أول ما عرف عن تلك الآثار المشار إليها أنها كانت عند بني ابراهيم بالينبوع ، واستفاض أنها بقيت موروثة عندهم من الواحد إلى الواحد إلى رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم ، ثم اشتراها في القرن السابع الهجري أحد بني حنّا الوزراء الأماثل ، ونقلها إلى مصر وبني لها رباطا على النيل عرف برباط الآثار وهو المعروف الآن بجامع أثر النبي ، وقد تحدث عن هذا الرباط المقريزي في خططه ... وسماه ابن دقماق بالرباط الصاحبي التاجي ... واستطرد ابن كثير في البداية والنهاية بذكر بعض تلك الآثار ... وذكره القلقشندي عند كلامه على الرّبط التي بالفسطاط ... وذكره البرهان الحلبي في حاشيته نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس ... وها نحن نرى ابن بطوطة يخصص للرباط هذه الفقرات الدالة ... وقد عرّف العلّامة أحمد تيمور بباني الرباط تعريفا جيّدا ... في الحلقة الثانية من بحثه حول الآثار النبوية الذي نشرته مجلة الهداية الاسلامية ج ١٢ / م ١ القاهرة جمادى الأولى ١٣٤٨ (أكتوبر ١٩٢٩) ، يراجع تعليق سابق رقم ١٦٠ حول ترجمة الصاحب تاج الدّين بن حناء ...

(١٦١) منية القائد توجد في الجيزة على الساحل الشمالي للنيل ، ربما كانت هي المعروفة اليوم تحت اسم منى الأمير.

(١٦٢) توجد مدينة بوش بين مدينة الواسطة وبين مدينة (بني سويف) في منطقة الفيّوم.

(١٦٣) تقع دلاص في نفس موقع بوش ، وقد ورد ذكرها في (نزهة المشتاق) للإدريسي الذي يتحدث عن قيام صناعة الحديد بها في زمانه ، وإليها تنسب اللجم الدلاصية ...

(١٦٤) تقع ببا على نحو من عشرين كيلوميترا جنوب بني سويف ، وتسمى أيضا ببا الكبرى ...

٢٢٣

مكسورة ، ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسة (١٦٥) ، وهي مدينة كبيرة وبساتينها كثيرة ، وضبط اسمها بفتح الموحدة واسكان الهاء وفتح النون والسين ، وتصنع بهذه المدينة ثياب الصوف الجيدة.

وممن لقيته بها قاضيها العالم شرف الدين ، وهو كريم النفس فاضل ، ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر العجمي ، ونزلت عنده وأضافني ، ثم سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب ، وهي مدينة كبيرة الساحة ، متسعة المساحة ، مبنية على شاطىء النّيل (١٦٦) ، وحقيق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل ، بها المدارس والمشاهد والزوايا ، والمساجد ، وكانت في القديم منية لخصيب عامل مصر (١٦٧).

حكاية خصيب

يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي‌الله‌عنهم غضب على أهل مصر فآلى أن يولى عليهم أحقر عبيده وأصغرهم شأنا قاصدا لإرذالهم والتنكّل ، وكان خصيب أحقرهم اذ كان يتولى تسخين الحمام (١٦٨) ، فخلع عليه وأمّره على مصر ، وظنّه أنه يسير فيهم سيرة سوء ويقصدهم بالإذاية حسبما هو المعهود ممن ولى عن غير عهد بالعز ، فلما استقر خصيب بمصر سار في أهلها أحسن سيرة ، وشهر بالكرم والإيثار فكان أقارب الخلفاء وسواهم يقصدونه فيجزل العطاء لهم ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم.

وإن الخليفة افتقد بعض العبّاسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه فسأله عن مغيبه ، فأخبره أنه قصد خصيبا ، وذكر له ما أعطاه خصيب ، وكان عطاء جزيلا ، فغضب الخليفة وأمر بسمل عيني خصيب وإخراجه من مصر إلى بغداد ، وأن يطرح في أسواقها ، فلما ورد الامر بالقبض

__________________

(١٦٥) البهنسة من مدن الفيوم ويتحدث ابن حوقل عن الستور والبسط والمضارب والفساطيط الكبار المستعملة بها وكذا الطّرف السلطانية ، ويقال : إنّها الرّبوة التي أوى إليها المسيح.

(١٦٦) منية ابن خصيب هي بالذات المنيا الحالية التي ورد ذكرها كمدينة ذات أهمية من لدن الرحالة بن جبير ... ثم من لدن كذلك ابن الوزّان في كتابه (وصف إفريقيا) ، تقع في منتصف الطريق بين بني سويف وبين أسيوط ... انظر ابن دقماق ...

(١٦٧) الخصيب بن عبد الحميد المتحدث عنه ينتسب لأسرة فارسية ، كان محاسبا لمصر عام ١٨٧ ـ ٨٠٣ في عهد هارون الرشيد ...

(١٦٨) كانت هذه المهنة بمصر من المهن الحقيرة ، ويذكر أنه عند فقدان الأخشاب والأعواد فإن على المسخّن أن يستعمل أرواث البقر لضمان سير الحمام ...

٢٢٤

عليه حيل بينه وبين دخول منزله ، وكانت بيده ياقوته عظيمة فخبّأها عنده وخاطها في ثوب له ليلا ، وسملت عيناه وطرح في أسواق بغداد ، فمر به بعض الشعراء ، فقال له : يا خصيب ، إني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحا لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها وأحب أن تسمعها، فقال كيف بسماعها وأنا على ما تراه؟ فقال إنما قصدي سماعك لها ، وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيرا قال : فافعل فأنشده :

أنت الخصيب وهذه مصر

فتدفّقا ، فكلاكما بحر! (١٦٩)

فلما أتى على أخرها قال له : افتق هذه الخياطة ، ففعل ذلك ، فقال له : خذ الياقوتة فأبى فأقسم عليه أن ياخذها فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين ، فلما عرضها عليهم ، قالوا له : إن هذه لا تصلح إلا للخليفة ، فرفعوا أمرها إلى الخليفة ، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة فأخبره بخبرها فتأسف على ما فعله بخصيب ، وأمر بمثوله بين يديه وأجزل له العطاء وحكّمه فيما يريد فرغب أن يعطيه هذه المنية ، ففعل ذلك وسكنها خصيب إلى أن توفى وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا.

وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النّويري المالكي وواليها شمس الدين أمير خيّر كريم ، دخلت يوما الحمام بهذه البلدة فرأيت الناس بها لا يستترون فعظم ذلك علي ، وأتيته فأعلمته بذلك فأمرني أن لا أبرح وأمر بإحضار المكتريين للحمامات وكتب عليهم العقود أنه متى دخل أحد الحمام دون ميزر فإنهم يؤاخذون على ذلك واشتد عليهم أعظم الاشتداد ، ثم انصرفت عنه.

وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي (١٧٠) وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلين من النيل ، وضبط اسمها بفتح الميم واسكان النون وفتح اللام وكسر الواو ، وقاضيها الفقيه شرف الدين الدّميري بفتح الدال المهمل وكسر الميم الشافعي ، وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعا انفق فيه صميم ماله. وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيرا من دخول معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة

__________________

(١٦٩) هذا البيت مطلع لقصيدة لأبي نواس قالها في الخصيب حينما قدم إليه وهو أمير مصر ... ومن أبياتها :

في مجلس ضحك السّرور به

عن ناجدية وحلّت الخمر!

ديوان أبي نواس ، تحقيق فاغر ، القاهرة ١٩٥٨ ص ٢٢٦.

(١٧٠) هي ملّاوي (MALLAWI) الحالية ، انظر ابن دقماق.

٢٢٥

الحارة فيطرحها في القدر التي يطبخ فيها السكر ثم يخرجها وقد امتلأت سكرا فينصرف بها.

وسافرت من منلوي المذكورة إلى مدينة منفلوط (١٧١) وهي مدينة حسن رواؤها ، مؤنق بناؤها ، على ضفة النيل ، شهيرة البركة ، وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم اللام وآخرها طاء مهمل.

حكاية [منبر ملك الناصر]

أخبرني أهل هذه المدينة أن الملك الناصر رحمه‌الله أمر بعمل منبر عظيم محكم الصنعة بديع الإنشاء برسم المسجد الحرام زاده الله شرفا وتعظيما ، فلما تم عمله أمر أن يصعد به في النيل ليجاز إلى بحر جدة ، ثم إلى مكة شرفها الله ، فلما وصل المركب الذي احتمله إلى منفلوط وحاذى مسجدها الجامع وقف وامتنع من الجري مع مساعدة الريح ، فعجب الناس من شأنه أشد العجب وأقاموا أياما لا ينهض بهم المركب فكتبوا بخبره إلى الملك الناصر رحمه‌الله ، فأمر أن يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط ففعل ذلك ، وقد عاينته بها.

ويصنع بهذه المدينة شبه العسل يستخرجونه من القمح ويسمونه النّيدا (١٧٢) يباع بأسواق مصر.

وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط (١٧٣) وهي مدينة رفيعة ، أسواقها بديعة ، وضبط اسمها بفتح الهمزة والسين المهملة والياء آخر الحروف وواو وطاء مهملة ، وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب" بحاصل ما ثمّ" لقب شهر به ، وأصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لابناء السبيل فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد

__________________

(١٧١) تقع منفلوط على نحو عشرين كيلوميتر شمال أسيوط ، عرف بها ابن الوزّان وذكر أنه لا تزال بها أعمدة غليظة ومرتفعة وبوابات كتبت عليها أشعار باللغة المصرية ، ويعثر السكان فيها على مداليات تحمل على الوجه الواحد حروفا مصرية وعلى الوجه الآخر صورا لملوك قدامي ... ولا يوجد في الصعيد ما يضاهيها على حدّ تعبير ابن جبير.

(١٧٢) النّيدا عبارة عن قمح ينقع في الماء لبضعة أيام ييبّسونه ويسحقونه ويطبخونه ...

(١٧٣) كانت أسيوط مقر إقامة الحاكم العام لمصر العليا على ما يقوله ابن دقماق ، وسنرى أن ابن بطوطة يجعل مدينة قوص هي مقر الحاكم ، وقد تحدث ابن جبير عن أسوارها ، وبعد ذلك ذكر ياقوت أن بها نحوا من خمسة وسبعين كنيسة ...

٢٢٦

القاضي بها فيعطيه ما قدر له ، فكان هذا القاضي إذا أتى الفقير يقول له : (حاصل ما ثم)(١٧٤)! أي لم يبق من المال الحاصل شيء ، فلقّب بذلك ولزمه.

وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين بن الصباغ ، أضافني بزاويته ، وسافرت منها إلى مدينة إخميم (١٧٥) وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان ، عجيبة الشأن بها البربي المعروف باسمها ، وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابة للأوائل ، لا تفهم في هذا العهد وصور الأفلاك والكواكب ، ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج العقرب ، وبها صور الحيوانات وسواها ، وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج عليها.

وكان بإخميم رجل يعرف بالخطيب أمر على هدم بعض هذه البرابي وابتنى بحجارتها مدرسة ، وهو رجل موسر معروف بالإيثار ، ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده من المال من ملازمته لهذه البربى. ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي العباس بن عبد الظاهر ، (١٧٦) وبها تربة جدّه عبد الظاهر ، وله من الاخوة ناصر الدين ومجد الدين وواحد الدين ، ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعا بعد صلاة الجمعة ومعهم الخطيب نور الدين المذكور وأولاده وقاضي المدينة الفقيه مخلص وسائر وجوه أهلها فيختمون القرآن ويذكرون الله إلى صلاة العصر ، فإذا صلوها قرأوا سورة الكهف ثم انصرفوا.

وسافرت من إخميم إلى مدينة (هو) (١٧٧) مدينة كبيرة بساحل النيل ، وضبطها بضم الهاء، نزلت منها بمدرسة تقي الدين ابن السراج ورأيتهم يقرءون بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزبا من القرآن ثم يقرءون أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي وحزب البحر وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله الحسنى من كبار الصالحين.

__________________

(١٧٤) اسم لا يخلو من طرافة : أي لا يوجد شيء يمكن أن يطمع فيه! وسمعت العراقيين يقولون : " حاصل ماكو" أي لا يوجد محصول!!

(١٧٥) تقع على النيل غير بعيدة عن سوهاج ، كان ابن بطوطة دقيقا في وصف إخميم (PANOPOLIS) أو (KHEMMIS) وكان صادقا عندما تحدث عن كتابات الأوائل التي لم تفهم في عهده ... وقد أتيح لي أن أزورها رفقة الأميرة على ما أسلفت وأشاهد صور الأفلاك والكواكب بها ... والنسر الطائر : مجموعة من النجوم معروفة بمشابهتها للنسر ... ويلاحظ أن ابن بطوطة لم يذكر غير هذا المعبد حتى ولو معبد الأقصر!

(١٧٦) أبو العباس بن عبد الظاهر بن عبد الوالي من ذرية جعفر أخي علي بن أبي طالب Gibb T.I p ـ ـ ـ ـ ـ ٥٦ Note ٤٠٢

(١٧٧) مدينة هو (DIOSPOLIS PARVA)) HIW (: تقع على النّيل منتصف الطريق بين جيرگا وقنا ...

٢٢٧

كرامة له

دخلت إلى هذا الشريف متبركا برؤيته والسلام عليه فسألني عن قصدي ، فأخبرته ، إني أريد حج البيت الحرام على طريق جدة ، فقال لي : لا يحصل لك هذا في هذا الوقت فارجع وإنما تحج أول حجة على الدرب الشامي فانصرفت عنه ولم اعمل على كلامه ومضيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب فلم يتمكن لي السفر فعدت راجعا إلى مصر ثم إلى الشام ، وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي حسبما أخبرني الشريف نفع الله به.

ثم سافرت إلى مدينة قنا وهي صغيرة حسنة الاسواق ، واسمها بقاف مكسورة ونون ، وبها قبر الشريف الصالح الوالي صاحب البراهين العجيبة ، والكرامات الشهيرة عبد الرحيم القناوي رحمة الله عليه (١٧٨) ، ورأيت بالمدرسة السّيفية منها حفيده شهاب الدين أحمد.

وسافرت من هذا البلد إلى مدينة قوص (١٧٩) وهي بضم القاف مدينة عظيمة ، لها خيرات عميمة ، بساتينها مورقة وأسواقها مونقة ، ولها المساجد الكثيرة ، والمدارس الأثيرة ، وهي منزل ولاة الصعيد ، وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين ابن عبد الغفار ، وزاوية الأفرم ، وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة ، ومن علمائها القاضي بها جمال الدين بن السديد (١٨٠) ، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد (١٨١) أحد الفصحاء البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك ، لم أر من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري ، وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين المشاطي وسيقع ذكرهما ، ومنهم

__________________

(١٧٨) لعلّ القصد إلى الشيخ عبد الرحيم بن أحمد بن حجون بن محمد القنائي المتوفى عام ٥٩٢ ـ ١١٩٦ ، من كبار النساك ، مغربي الأصل ولد في إحدى قرى سبتة ، أقام بمكة سبع سنين واستقر في قنا ... الأعلام ، الزركلي ٤ ، ١١٨.

(١٧٩) قوص (QUS) حسب ابن دقماق فإنها كانت مقرّ القيادة العسكرية في مصر العليا ، وفي أيام ابن جبير كانت قوص نقطة انطلاق القوافل نحو عيذاب ...

(١٨٠) القصد إلى محمد بن عبد الوهاب بن علي الأسنائي جمال الدين ابن السديد ، درس الفقه على البهاء القفطي وأجازه بالفتوى وأخذ بالقاهرة عن الدمياطي وابن دقيق العيد وابن جماعة وأبي حيان ، ولى العقود بالقاهرة وناب في الحكم ، ثم قسّم الجلال القزويني عمل قوص بينه وبين القمولي ، توفي عام ١٣٣٩ ٧٣٩ ـ الدرر الكامنة ٤ ، ١٥٥.

(١٨١) القصد إلى محمد بن عثمان بن علي بن وهب بن دقيق العيد ، ويلقب بجلال الدين (لا فتح الدين كما عند ابن بطوطة) سمع من جده ومن الدمياطي واشتغل في المذهبين ، وكان ابن جماعة يكرمه ويبره وكتب له بتدريس دار الحديث بقوص ، أدركه أجله بالقاهرة سنة ٧٢٦ ـ ١٣٢٦ ـ ١٣٢٧. ـ ابن حجر : الدرر ٤ ، ١٦٢.

٢٢٨

الفقيه بهاء الدين بن عبد العزيز المدرس بمدرسة المالكية ، ومنهم الفقيه برهان الدين ابراهيم الأندلسي له زاوية عالية.

ثم سافرت إلى مدينة الأقصر (١٨٢) وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل ، وهي صغيرة حسنة وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصرى (١٨٣) وعليه زاوية ، وسافرت منها إلى مدينة أرمنت ، (١٨٤) وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء معلوة، وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النّيل ، أضافني قاضيها وأنسيت اسمه ، ثم سافرت منها إلى مدينة أسنا (١٨٥) وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين المهمل ونون ، مدينة عظيمة متسعة الشوارع ، ضخمة المنافع ، كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع ، لها أسواق حسان وبساتين ذات أفنان ، قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين بن مسكين ، أضافني وأكرمني وكتب إلى نوابه بإكرامي ، وبها من الفضلاء الشيخ الصالح نور الدين علي والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي وهو على هذا العهد صاحب زاوية بقوص.

ثم سافرت منها إلى مدينة أدفو وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الدال المهمل وضم الفاء. وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في صحراء. ثم جزنا النيل من مدينة أدفوا إلى مدينة العطواني ، (١٨٧) ومنها اكترينا الجمال ، وسافرنا مع طائفة من العرب تعرف بدغيم ، بالغين المعجمة ، في صحراء لا عمارة بها إلا أنها آمنة السبل ، وفي بعض

__________________

(١٨٢) الأقصر (LUXOR) تعني كما هو معلوم جمع قصر حيث معبد الكرنك ... وقد زرتها مرارا وتكرارا ...

(١٨٣) لعلّ القصد إلى يوسف بن عبد الرحيم بن عربي القرشي المهدوي الأقصري ، من كبار الصوفية في عصره المتوفى عام ٦٤٢ ـ ١٢٤٤ كان من تلامذة الجزولي ، ولا يزال قبره موجودا في قلب معبد أمينوفيس الثالث Gibb T.١ p.٧٦ Note ٢١٢. (AMENOPHIS III) الزركلي : الاعلام ٩ ص ٣١٤.

(١٨٤) أرمنت (ARMANT) تقع على نفس خط عرض مدينة الأقصر على الساحل المقابل في النيل وقد وصفها ابن دقماق بتفصيل.

(١٨٥) هي بالذات إسنا الحالية ، وقد تحدت ابن دقماق عن إنتاجها الزراعي ، وقال عنها ابن الوزان إن سكانها أثرياء بالحبوب وبالمواشي وبالعملة النقدية لانهم يزاولون التجارة مع النّوبة عن طريق الصحراء وبواسطة النيل ... وفيها معابد وقبور تحمل كتابات بحروف مصرية ...

(١٨٦) القصد إلى أدفو الحالية ذات لمشاهد الأثرية الرائعة ... وقد سجلت هنا مذكرات عن الأدلّاء المتخصصين الذين كانوا يقدمون معلومات موثوقة للأميرة المغربية لالة مريم بمناسبة زيارتها الدراسية للمنطقة ..

(١٨٧) يقول محمد رمزي في تأليف : القاموس الجغرافي للبلاد المصرية : " لا يزال اسم العطواني معروفا إلى اليوم بنجع العطواني ، وهو من توابع ناحية الرديسية بحرى ، بمركز أدفو بمديرية أسوان" وهكذا فإن افتراضات المعلّقين الأجانب تبقى في ذمّتهم ، وقد دققت الأمر مع الزميل محمد مستجاب ونحن في شرعم الشيخ أثناء زيارة أعضاء مجمع اللغة العربية لمحافظة جنوب سيناء يوم ٥ أبريل ١٩٩٥.

٢٢٩

منازلها (١٨٨) نزلنا (حميثرا) حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي ، وقد ذكرنا كرامته في إخباره أنه يموت بها ، وأرضها كثيرة الضباغ ، ولم نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع ، ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت عدلا كان به واجترّت منه جراب تمر وذهبت به ، فوجدناه لما أصبحنا ممزقا مأكولا معظم ما كان فيه.

ثم لما سرنا خمسة عشر يوما وصلنا إلى مدينة عيذاب (١٨٩) وهي مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن ويحمل اليها الزرع والتمر من صعيد مصر ، وأهلها البجاة (١٩٠) وهم سود الألوان يلتحفون ملاحف صفرا ويشدون على رؤوسهم عصايب يكون عرض العصابة منها أصبعا وهم لا يورّثون البنات ، وطعامهم ألبان الإبل ويركبون المهاري (١٩١) ويسمونها الصّهب ، وثلث المدينة للملك الناصر وثلثاها لملك البجاة وهو يعرف بالحدربي (١٩٢) بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء ، وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني (١٩٣) شهير البركة رأيته وتبركت به ، وبها الشيخ الصالح موسى ، والشيخ المسن محمد

__________________

(١٨٨) كانت دغيم تتولّى حماية المسلك الرابط بين قوص ـ وهي مركز تجاري وعلمي متميز ـ وميناء عيذاب الهام جدا ... وقد أسهب التجيبي في الحديث عن أمانتهم وحسن صوتهم في الحداء. مستفاد الرحلة والاغتراب مصدر سابق ٠٤,I.

(١٨٩) كان ميناء عيذاب ابتداء من القرن الخامس الهجري إلى القرن الثامن الميناء الأخير الذي يربط مع اليمن وبلاد الهند، وكان يمثل أهمية كبرى ، لكنه لم يلبث أن خرّب من لدن ملك مصر عام ٨٢٩ ـ ١٤٢٦ وتولى مكانته ميناء سواكن ... على بعد ١٢ ميلا شمال حلايب وبالضبط بين درجة ٢٢ ـ ٢٠ شمالا و ٣٢ ٣٦ ـ شرقا ... ، وإنما جاء ابن بطوطة على طريق الصعيد لأنه أراد أن يسلك في حجه طريق صحراء عيذاب كما سلكها قبله ابن جبير والتّجيبي ، لكن لم يتيسر الحج منها بسبب الحرب القائمة في المنطقة بين المماليك وبين البجاة الآتي ذكرهم ، حيث اضطر للعودة من حيث أتى للحج على درب الشام ...

(١٩٠) يقول التجيبي الذي مرّ بعيذاب قبل ابن بطوطة بنحو ثلاثين سنة : «وبهذه البلدة عامل من قبل ملك الديار المصرية والشامية وأخر من قبل ملك البجاة الساكن بجزيرة سواكن ... يقتسمان جبايتها نصفين ... وسنرى أن ابن بطوطة يتحدث عن أن القسمة في عهده تغيرت.Encycl.Beja.

(١٩١) الإبل المنسوبة إلى مهرة بن جيدان من عرب اليمن ، وهي مشهورة بسرعتها ، والصهب منها (الحمراء البيضاء) هي التي تعرف باسم البشاري.

(١٩٢) الحدربي نسبة إلى قبيلة حدرب التي يذكر أنها من أصل عربي وهي تعيش في ضواحي عيذاب وكانت عاصمتهم في هذه الضواحي على البحر الأحمر ويجمع على حدارب على نحو حضارم.

(١٩٣) يتحدث التّجيبي وهو في حميثراء عن الشيخ قطب الدّين القسطلاني مؤلف كتاب (ارتقاء الرتبة باللباس والصحبة) الذي تحدث فيه عن أبي الحسن الشاذلي الذي صحبه. لعله قطب الدّين المتوفى بالقاهرةGibb T.IP.٩٦ Note ٣٣٢.٧٨٢١ ـ ٦٨٦

٢٣٠

المراكشي زعم أنه ابن المرتضى (١٩٤) ملك مراكش وان سنه خمس وتسعون سنة. ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب الأتراك ، (١٩٥) وقد خرق المراكب وهرب الترك أمامه، فتعذر سفرنا في البحر فبعنا ما كنا أعدادناه من الزاد وعدنا مع العرب الذين اكترينا الجمال منهم إلى صعيد مصر فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها.

وانحدرنا منها في النيل وكان أوان مده فوصلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر فبت بمصر ليلة واحدة ... وقصدت بلاد الشام وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين ، (١٩٦) فوصلت إلى مدينة بلبيس (١٩٧) ، وضبط اسمها بفتح الموحدة الأولى وفتح الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهمل وهي مدينة كبيرة ، ذات بساتين كثيرة ، ولم ألق بها من نحبّ ذكره(١٩٨) ،

ثم وصلت إلى الصالحية (١٩٩) ، ومنها دخلنا الرمال ، ونزلنا منازلها : مثل السّوادة

__________________

(١٩٤) من المعروف أن أبناء الخليفة الموحّدي المرتضى قصدوا بعد مصرع والدهم (٦٦٥ ـ ١٢٦٦) على مقربة من أزمور مولاي بو شعيب ، قصدوا ديار الأندلس ومكثوا بإشبيلية في ضيافة ألفونس عدة أعوام قبل أن ينتقلوا إلى جهات أخرى ...

د. التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ، ج ٦ ص ١٤٨.

(١٩٥) يستعمل ابن بطوطة كلمة الاتراك ويعني بهم جنود الجيش المملوكي الذي يرجع رجاله ـ بالفعل ـ إلى أصل تركي ، وهذه الاصطدامات بين سلطان البجاة وملك مصر سمعنا بها من خلال هذه الإفادة لشاهد عيان هو الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي تهيّب امتطاء المراكب كما أشرنا بعد أن بلغه في عين المكان أن طريق البحر الأحمر أمسى غير آمن ... وهنا قرر أن يعود على مثل طريقه ليختار خطّا آخر هو بلاد الشام الذي يوصله إلى البقاع المقدسة. هذا ويلاحظ هربيك (HRBEK) أن ابن بطوطة وصل عيذاب حوالي ١٥ يونيه ١٣٢٦ وأنه عاد للقاهرة حوالي ١٦ يوليه ـ يلاحظ إهمال الباحثة السودانية آمال ابراهيم محمد لهذه الفقرة الهامة من تاريخ الصّراع الدولي حول البحر الأحمر ـ مركز الدراسات والبحوث ـ صنعاء ١٩٩٣.

(١٩٦) كان ذلك يوافق منتصف يوليه ١٣٢٦.

(١٩٧) بلبيس : مدينة معروفة جدا على بعد ثلاثة وثلاثين ميلا ، شمال شرقي القاهرة ، وكانت في تلك الظروف عاصمة اقليم الشرقية وكانت مقرا للقيادة العسكرية ، وبها أقام الإمام البوصيري (ت ٦٦٥ ه‍)

(١٩٨) يلاحظ السير هاميلتون گيب أن هذه العبارة (نحبّ) من التعابير المغربية الصميمة ، وقد كانت من أوائل الكلمات ذات الطابع المغربي مما يستعمله الرحالة المغربي.

هذا ويوجد في بعض النسخ كلمة (يجب) عوض (نحبّ)

(١٩٩) أسست الصالحية من لدن السلطان الأيوبي الملك الصالح (ت ٦٤٧ ـ ١٢٤٩) على أن تكون حصنا على حدود المملكة ...

٢٣١

والورّادة والمطيلب والعريش والخروبة (٢٠٠) وبكل منزل منها فندق ، وهم يسمونه الخان ينزله المسافرون بدوابهم ، وبخارج كل خان سانية للسبيل ، وحانوت يشتري منها المسافر ما يحتاجه لنفسه ودابته. ومن منازلها قطيا (٢٠١) المشهورة وهي بفتح القاف وسكون الطاء وياء آخر الحروف مفتوحة والف والناس يبدّلون ألفها هاء تانيث ، وبها توخذ الزكاة من التجار (٢٠٢) وتفتش أمتعتهم ويبحث عما لديهم أشد البحث ، وفيها الدواوين والعمال والكتاب والشهود ، ومجباها في كل يوم الف دينار من الذهب ولا يجوز عليها أحد من (٢٠٣) الشام إلا ببراءة من مصر ولا إلى مصر الا ببراءة من الشام احتياطا على أموال الناس وتوقيا من الجواسيس العراقيين (٢٠٤).

وطريقها في ضمان العرب قد وكلوا بحفظه ، فإذا كان الليل مسحوا على الرمل لا يبقى به أثر ثم ياتي الامير صباحا فينظر إلى الرمل فإن وجد به أثرا طلب العرب بإحضار مؤثره فيذهبون في طلبه فلا يفوتهم فيأتون به الأمير فيعاقبه بما شاء ، وكان بها في عهد

__________________

(٢٠٠) يقصد بالرمّال منطقة الحدود بين مصر وسوريا ، هذا والترتيب الصحيح لهذه المنازل هو قطيا ثم المطيلب ثم السوادة ثم الورّادة ثم العريش تم الخروبة وغزة هي الأخيرة وهذه الحدود هي التي أقرت في عهد المملوك بيبرس عند ما ترد الرسائل والبضائع ـ وفيها الثلج ...

J. SAUVAGET : La poste au chevaux dans I\'empire des Mamelouks, Paris, ١٤٩١.

(٢٠١) قطيا هي التي تحمل إلى اليوم اسم قطيا على بعد نحو خمسة وأربعين كيلومترا شرق قناة السويس ويصفها ياقوت الحموي كموقع ، وسط الرمال ، يحتوي على عدد من الديار وهي على مقربة من الفرما (PELUSIUM) ويلاحظ هنا وجود الفنادق بما تحتويه من مرافق لايواء البضائع واستراحة المطايا ، والتزوّد بالماء من السواني ... أنظر صبح الأعشى ص ٤٦١.

(٢٠٢) المبلغ الذي تتقاضاه الديوانة حسب القاعدة الفقهية هو خمسة في المائة على الذهب والفضة الذي يدخل لمصر ، هذا إلى بعض الواجبات الإضافية ، وتعتبر (قطيا) من أبرز المدن التي ترتفع فيها المبالغ المتحصلة للدولة ... والبراءة هنا في الاصطلاح عند ابن بطّوطة تعني جواز السّفر.

(٢٠٣) ويبدوا أن (من) في تعبير ابن بطوطة أحد من الشام" ينبغي أن تبدل بكلمة (إلى).

(٢٠٤) لقطة تاريخية هامة فيما يتصل بالعلاقات السياسية بين المماليك وبين الإيلخان (المغول) حكام العراق وفارس على ذلك العهد ... وهي تعبّر عن مدى اليقظة الدائمة مما قد يحصل ... وقد لاحظنا وسنلاحظ أن ابن بطوطة يعتبر من مراجع التاريخ الدولي للمنطقة ...

٢٣٢

وصولي اليها عز الدين استاذ (٢٠٥) الدار أقماري ، من خيار الأمراء ، أضافني وأكرمني وأباح الجواز(٢٠٥) لمن كان معي ، وبين يديه عبد الجليل المغربي الوقاف ، وهو يعرف المغاربة وبلادهم ، فيسأل من ورد منهم من أي البلاد؟ لئيلا يلبّس عليهم فإنّ المغاربة لا يعترضون في جوازهم على (قطيا).

__________________

(٢٠٥) حول أستاذ الدار ترك لنا ابن فضل الله العمري حديثا جيّدا عنه ، إنه الحاجب الملكي وهو يحتفظ بالتوصية التي ينبغي لهذا" الأستاذ" أن يسلكها من تفقد أحوال الحاشية على اختلاف طوائفها وأنواع وظائفها ، ليرتبها في الخدمة على ما يجب ، وينظر في أمورها نظرا لا يخفى معه شيء مما هم عليه ولا يحتجب ، إلى آخر الوصية الهامة التي تحدد اختصاصات هذا" الحاجب" وياما أكثرها ..!

التعريف بالمصطلح الشريف للعمري تحقيق د. سمير الدروبي ، منشورات جامعة مؤته ـ الأردن ١٤١٣ ـ و ١٩٩٢ ص ١٢٧ ـ ١٢٨ ـ ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٢٠٦) الجواز : يعني المرور ، ويمكن أن يكون القصد إلى (البراءة) أي رخصة المرور ، وأصل الجواز ما يقدم من الماء للمسافر من لدن القبيلة التي يمر على أراضيها إيذانا له بالأمان والحماية ... إلى أن يغادر أرضها ويتسلم (جوازا) آخر من أعيان القبيلة الأخرى. ويجمع على أجوزة ...

٢٣٣

٢٣٤

الفصل الثالث

الشام وفلسطين

من غزة إلى القدس فعسقلان

من عسقلان إلى حلب

مدينة حلب

من حلب إلى جبلة

من اللاذقية إلى دمشق

مدينة دمشق والجامع الأموي

ضواحي دمشق

الأوقاف في دمشق ومجيز وابن بطوطة بها.

٢٣٥
٢٣٦

٢٣٧
٢٣٨

ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة (١) ، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر متسعة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة ولا سور عليها ، وكان بها مسجد جامع حسن ، والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي (٢) ، وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض ، وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوراني ، ومدرسها علم الدين بن سالم ، وبنو سالم كبراء هذه المدينة ، ومنهم شمس الدين قاضي القدس.

ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل (٣) صلى الله على نبيّنا وعليه وسلم تسليما ، وهي مدينة صغيرة الساحة ، كبيرة المقدار ، مشرقة الأنوار حسنة المنظر ، عجيبة المخبر ، في بطن واد ، ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع (٤) مبني بالصخر المنحوت ، في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرا. ويقال : إن سليمان عليه‌السلام أمر الجن ببنائه (٥)، وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس ، فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، صلوات الله على نبينا وعليهم ، ويقابلها قبور ثلاثة : هي قبور أزواجهم ، وعن يمين المنبر بلصق جدار القبلة موضع يهبط منه على درج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام فيها صور القبور الثلاثة ، ويقال : إنها

__________________

(١) كانت غزة سابقا بلدة بسيطة تابعة لإقليم الرّملة لكنها لم تلبث أن أصبحت مركزا حكوميا في عهد الملك الناصر .... وقد استعادت ذكرها اليوم بعد اتفاقية أوصلو ١٣ / ٩ / ١٩٩٣ بين الرئيس عرفات وبين الرئيس بريز (إسحاق رابين).

(٢) القصد إلى سنجر بن عبد الله الجاولي كان من مماليك (جاول) أحد أمراء الظاهر بيبرس. وولي نيابة غزة وبنى عدة مساجد منها هذا المسجد الذي بناه سنة ٧١٤ كما تفيده وثيقة التأسيس توفي بالقاهرة ٧٤٥ ـ ١٣٤٥ والمسجد الآن خراب ومنعزل عن العمران. سليم عرفات البيضي : البنايات الأثرية في غزة وقطاعها. نجدد الشكر للسيد عبد السلام سيناصر رئيس مكتب الاتصال بغزة على «فاكساته» المفيدة.

(٣) الخليل لقب سيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، وهذه المدينة هي التي تحمل اسم حبرون (HEBRON) ويتحدث الهروي عن زيارته لمدينة الخليل بالمدينة في عهد بودوان عام ٥١٣ ه‍ ... الإشارات ـ دمشق ١٩٥٣ ص ٣١.

(٤) يذكر أن هذا المسجد أيضا بني محل كنيسة شيدت على أثر روماني قديم ...

(٥) " ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ... يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات ... السورة ٣٤ ، الآية ١٣.

٢٣٩

٢٤٠