رحلة ابن بطوطة - ج ١

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ١

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-007-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٤٣١

١٢١

 

١٢٢

الدراسات النقدية

١٢٣
١٢٤

الدراسات النقدية ...

ولقد بقيت رحلة ابن بطوطة بعيدة عن كل نقد وعن كلّ تعليق ـ عدا ما حكيناه عن ابن الخطيب وابن مرزوق وابن خلدون ـ حتى قيض الله لها من بعض المستشرقين من قام بمتابعتها وتعقبها ، وقد ابتدأت الدراسات النقدية في الواقع منذ اليوم الذي نشرت فيه الأطراف الأولى من الرحلة في بعض البلاد الأروبية.

ومن أشهر من تناولها بالنقد ـ بعد الناشرين الفرنسيين ـ السير هاميلتون گيب والعلّامة التشيكي إيفان هربك (١) والباحثان الفرنسيان فانسان مونطي وصطيفان ييرازيموس ، وروس دان الاستاذ بجامعة ولاية سان دييگو واخرون غير هؤلاء

وهكذا توفّرنا على دراسات نقدية أثرت رحلة ابن بطوطة وأثارت انتباه الباحثين اليها من سائر جهات المعمور وبكل لسان.

لقد تتبّعوا تلك المذكّرات من خلال عدد من المقاييس والمعايير ، مثلا ضبط التّواريخ التي يوردها مقارنة بأسماء الأيام التي يذكرها : يوم الاثنين مثلا ، وهل بالفعل يتطابق مع تاريخ اليوم السابع عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة الذي ذكر تاريخا لميلاده؟

وهناك حديث ابن بطوطة عن شدّة البرد في شهر قمري : (شوال مثلا) في حين أن هذا الشهر كان يوافق يونيه أو يوليه الذي نعتاد فيه الحر.

وهم يتقّفون أثره وهو يجتاز بعض البلاد مثلا فلا يذكر تاريخا ليوم ولا لشهر ولا لسنة ، وبذلك يتركنا في غموض من أمر التسلسل الزمني.

وقد حاسبوه على ذكر بعض الأحداث في غير محلّها ، وأنه يحكى في الرحلة السابقة ما حصل له في الرحلة اللاحقة. على نحو ما حكاه عن الشريف أبي غرة وهو في النجف بينما سيسمع الحكاية عنه وهو في الهند ، وما حكاه في زيارته الأولى عن الطاعون بدمشق.

وقد حاسبوه فيما روى عن بعض الشخصيات واتّصاله بها في حين كان يستحيل عليه ذلك! هذا إلى إهماله لذكر أسماء الحكام في بعض الجهات التي زارها مع أن عادته جرت على أن يعطي الأولوية لزيارة المتنفّذين والمسؤولين عن البلاد. ولم يتردد بعضهم في اتهام ابن بطوطة بأنه كان أحيانا" يصطنع" الرحلات ويتقمص شخصيات أخرى فينسب له ما كان لتلك الشخصيات ... كل هذا إلى إهماله لذكر بعض المشاهد والمزارات التي كان من المفروض أن تكون مقصودة من لدنه ، مثلا إغفاله لذكر مزارة الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد!

__________________

(١) يعتبر هربك أهمّ باحث دقّق مع ابن بطوطة في يومياتهIVAN HRBEK: THE CHRONOLOGY of IBN BATTUTA\'S TRAVELS, ARCHIV ORIENTALNI ـ PRAHA ٢٦٩١.

١٢٥

وقد كان في صدر ما أثار انتباهنا حقا تلك الطّفرات والقفزات التي سجلت على الرجل في بعض المناطق التي كنا نصحبه فيها مرحلة مرحلة. كنا نشعر في بعض الأحيان وكأنه ركب طائرة ليحلّق فيها من محطة إلى أخرى بعيدا عن الأنظار ، وكم بذلنا من جهد حتى نتعرف على خطوط سيره!!

لقد انشغل عن تعداد المراحل عند ما انتقل من بغداد إلى تبريز عاصمة الإيلخان ، ولعل مصاحبته للسلطان أبي سعيد كانت وراء اختفاء شخصيته ، فانشغل بغيره عن نفسه ، وكثيرا ما يحدث هذا ولا ينبّئك مثل خبير! وكذا كان حاله فيما بين ماردين وبغداد ...

ومن الوثبات المحيّرة التي لم نعرف لها طريقا الوثبة التي كانت له من جنوب الروسيا إلى شمال تركيا. هل وصل صحبة الخاتون عبر الصحراء أو عبر الدانوب؟ لقد اختفت شخصيته رفقة الاميرة أيضا. ومن ميلاس غربا جنوب الأناضول إلى قونية شرقي شمالها ، ثم من أرز الرّوم شرقا إلى برگي غربا ، لم نستطع تقفي أثاره ، وهو في شرق إفريقيا أيضا ، لم نستطع مصاحبته وهو يتحرك من كلوة إلى ظفار بحرا. (٢)

وفي طريق ابن بطوطة من مكة صحبة الأمير البهلوان عن طريق المدينة حتى يصل للعراق عن طريق حصن فيد ـ وهو الحائل ـ انشغل أيضا عن تناول القلم والورق على نحو ما كان منه وهو يرافق ركب السلطان أبي سعيد من بغداد إلى تبريز ، وركب الخاتون إلى القسطنطينية العظمى.

وهو في الأردن سلك طريقه من الجيزة إلى بصرى الشام ، وهو طريق غير مسلوك اليوم. ولو أنه سافر على الطريق المألوف لكان عليه أن يجتاز على عمان قصبة البلقاء ، عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية حاليا على ما يؤكده الزميل الأستاذ الدكتور ناصر الدّين الأسد في بحثه المقدم إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورة ١٩٩٦.

وقد لاحظ زميلنا الراحل السفير خليل الله خليلي وهو يتحدث عن ابن بطوطة في أفغانستان طفرة الرحالة من بلخ إلى أن وصل إلى هرات وتساءل أيّ طريق سلكه؟ هذا علاوة على وثبة بسطام إلى قندوز وبغلان (٣).

وعند ما عبر نهر السند مع علاء الملك إلى العاصمة لاهري من الحدود الشمالية الحالية وفي اتجاه جنوب البلاد ، هناك لم يستوعب المحطات النّهرية التي كان يمر بها. وهو في شرق

__________________

(٢) تحفة الأعيان II ، ٣٥٨

(٣) ابن بطوطة في افغانستان ص ٥٦ ـ ٥٧.

١٢٦

الصّين ابتداء من مضيق فرموزة وعبر النهر الأعظم والنهر الأصفر وآب حياة ... كان كسولا في تتبع محطات سيره ولكأنما كانت الصين صحراء قفراء. لا ذكر لبعض الأطعمة الصينية وأشربتها وفي صدرها الشاي الذي كان انتشر على ذلك العهد (٤). لكن الوثبات الكبرى هي التي سجلت عليه وقد قرر أن يعود إلى بلاده المغرب عندما أنهى زيارته للصين ورجع من حيث أتى دون تدقيق ولا تفصيل. فمن مدينة الزيتون حيث عشرات الجنوك ... عبر الجاوة ثم طوالسى وسمطره حيث حضر أعراس الأمير ولد الملك الظاهر في الجاوة ، ثم إلى ظفار ، وفارس والعراق ، ثم الحج السادس والأخير قبل أن يعود إلى المغرب ... كان يمر سريعا وكأن وراءه ما يمنعه عن الاسترسال في الحديث.

وقد لاحظ گيب ومعه هربك أن أمير شيراز لا يمكن أن يكون عام ٧٢٧ ـ ١٣٢٧ هو أبا إسحاق ابن محمد الذي إنما حكم من عام ١٣٤٣ إلى عام ١٣٥٧. وهكذا نجد مرة أخرى أن الرحالة المغربي يمزج مشاهداته عند الذهاب بمشاهداته عند الإياب ...!

وعند ما يذكر ابن بطوطة أنه زار هرمز عام ٧٣١ ـ ١٣٣١ يعقّب هربك أيضا بأن الرحالة المغربي إنما زار هرمز عند عودته من الهند والصين عام ١٣٤٧!

وعند ما وصل ابن بطوطة لمدينة (العلايا) أول بلاد الروم أمسك هربك بتلابيبه وضبط بالعدّ والحساب أنه زار ٢٩ محلة في انطالية انطلاقا من العلايا حوالي فاتح ربيع الثاني ٢٠ ٧٣٣ ـ دجنبر ١٣٣٢. وقد حاول العالم التشيكي أن يقوم هو بإعادة تمثيل خط السير فاصطدم بمصاعب وتناقضات ...!!

وعند ما تحدث ابن بطوطة عن استشهاد الأمير عمر بك ابن سلطان يزمير ، عقّب گيب على ذلك بأن الأمير قام بغزوته الأولى في الدردنيل عام ٧٣٢ ـ ١٣٣٢ ، وقد لقي حتفه في شهر مايه ١٣٤٨ ـ محرم ٧٤٩ ، وهكذا فإن ابن بطوطة لم يمكنه أن يعلم باستشهاده الّا عند العودة من سفره ...

وقد بيّن هربك أن ابن بطوطة ـ وهو في سوريا ـ ذكر أنه زار أكثر من عشرين موقعا خلال شعبان ورمضان ٧٢٦ يوليه ، غشت ١٣٢٦ ... وهذا غير مقبول ، ولا معقول! وهو الأمر الذي يؤكد أن الرحالة المغربي كان يخلط بين زياراته للأماكن في المرة الأولى والثانية.

وقد حاول بعض الباحثين أن يشكّك في أمر وصول ابن بطّوطة إلى اصطنبول لكن

__________________

(٤) R. Laussert : le the : un monde de civilisation RAM ـ MAGAZINE Nov. ٤٩٩١.

١٢٧

معظم الذين اشتغلوا بالرحلة لا يرتابون إطلاقا في وصول الرحالة المغربي للقسطنطينية العظمى.

وعلى نحو ذلك شكك بعضهم ، من أمثال الدبلوماسي الشهير كابرييل قيران ، في زيارة ابن بطوطة للصين ، إلا أن كثيرا ممّن عالجوا هذا الموضوع كانوا مقتنعين بأن الرجل زار فعلا تلك الدّيار ، (٥) وأن الصينيين أنفسهم لا يشكون في ذلك. وخلال المحاضرة التي ألقيتها هناك في جامعة پكين ، قسم الدراسات الشرقية. صيف ١٩٨٨ كنت أشعر بأنني أمام عدد من المثقفين الذين كانوا يدينون للرحالة المغربي بالكثير من المعلومات الأصيلة التي انفرد بها عما سواه ممن تحدثوا عن تاريخ الصين وأسطول الصين بمن في أولئك ماركوبّولو! وقد وضعوا خرائط لزيارته لبلادهم وهم يرددون اسمه على أنه رائد من روّاد الصّين الكبار ...

وتبقى هناك ـ مع هذا ـ بعض المواخذات التي تستوقفنا حقّا :

الأولى : قضية حضور ابن بطوطة لمجلس تقيّ الدّين ابن تيمية وهو بدمشق بعد أن كان وصلها يوم الخميس ٩ رمضان ٧٢٦ ـ ٩ غشت ١٣٢٦ فقد أخبر أولا عن سجن ابن تيمية وإطلاق سراحه ، ثم أخبر أنه وقع منه مثل ما استوجب سجنه أولا فسجن مرة ثانية وقال : إنه حضر يوم الجمعة وشاهد ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم ، وإنّ من جملة كلامه : أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء إلى آخر الحكاية ... مع العلم أن ابن تيمية أودع في السجن منذ سادس شعبان ... أي قبل وصول الرحالة إلى دمشق (٦)!!

فكيف يصحّ قول ابن بطوطة هذا مع تلك الفقرة التي نسبها لشيخ الإسلام في تفسيره لحديث النزول بما هو من قول المجسّمة المخالف لمذهب السلف الذي يعد ابن تيمية قطبا من أقطابهم؟

ونعتقد أن أحسن ما يمكن الجواب به عن هذا الانتقاد ما عقب به زميلنا الراحل الأستاذ عبد الله كنون رحمه‌الله من أن الخبر وقع فيه تزيّد من خصوم ابن تيمية فرواه رحالتنا على علاته ... ولم يخف الأستاذ گنون شكوكه في صنيع الكاتب ابن جزي الذي يجوز

__________________

(٥) IBN BATOUTA le Voyageur de l\'ISLAM ٤٠٣١ ـ ٩٦٣١ Par HERMAN F. Jansens ٨٤٩١ P ٢٠١.

(٦) محمد بهجت البيطار : حياة شيخ الاسلام ابن تيمية ، منشورات المكتب الاسلامي للطباعة والنشر ١٩٦١ ١٣٨٠ ـ ابراهيم بن أحمد الفياني : ناحية من حياة شيخ الاسلام ابن تيمية تحقيق محب الدين الخطيب ، طبعة ثانية ١٣٩٩.

(٧) مجلة مجمع دمشق ، يوليه ١٩٦٥ ـ ربيع الأول ١٣٨٥.

١٢٨

أنه توهم حضور ابن بطوطة للواقعة المزعومة (٧).

وقد وقفت في كتاب نيل الديباج لأحمد بابا السوداني (ت ١٠٣٢ ـ ١٦٢٣) عند ترجمة أبي زيد عبد الرحمن وترجمة أخيه ابي موسى عيسى ابنى الإمام البرشكي أنهما رحلا إلى المشرق وناظرا تقي الدين ابن تيمية الذي كانت له مقالات يحمل فيها حديث النزول على ظاهره ، وقوله فيه" كنزولي هذا" ، قال صاحب الديباج وهذه الزيادة أعني قول" كنزولي هذا" اثبتها ابن بطوطة في رحلته ... (٨)

الثانية : هي تلك التي أثارت الكثير من التعاليق : وهو سفره إلى مدينة بلغار التي سمع بها وهو بحضرة السلطان محمد أوزبك خان حتى يرى ما ذكر له عنها من تناهي قصر الليل بها وقصر النهار أيضا في الفصل المعاكس ، وانه طلب إلى السلطان مساعدته للوصول إليها وكان بينها وبين محلة السّلطان مسيرة عشرة أيام.

إن المسافة بين الموقعين ألف وثلاثمائة كيلوميتر ، فكيف يصل إليها المرء في عشرة أيام؟ ولم يشفع لابن بطوطة ما نعرفه عن الإمكانات المادية للسلطان والتي من شأنها ، كما خبرنا ذلك ، أن تتجاوز المعروف عند الإنسان العادي ، ولهذا أصر المعلقون على أن هذه المعلومة تحتاج إلى ما يدعمها ...

أما المؤاخذات الأخرى الباقية فكانت تتصل ببعض الحكايات التي تتسم بالمبالغات التي لا يقبلها العقل ، ونذكر على سبيل المثال حكاية ابن بطوطة عن الغواصين الذين يبحثون عن اللؤلؤ في الخليج فيما بين ميناء سيراف والبحرين. فقد ذكر أن في الغواصين من يصبر الساعة والساعتين في الماء ... مع العلم أنه لا يمكن تجاوز سبعين إلى مائة ثانية ... وقد كان زميلي الراحل الشيخ عبد الله الأنصاري القطري يحكي لي ـ وهو ممّن زاولوا الغوص ـ أن الغواصين كانوا يتنافسون في مدى التحمّل وقد نبّهني إلى أن قصد ابن بطوطة ليس هو الغوص تحت الماء طوال تلك المدة ولكن القصد إلى أنّ عملية النزول إلى عمق البحر والصعود منه تستمر تلك المدة. وهذا ما وجدته في بعض الترجمات الجديرة بالثقة ، وهو ما تؤيده شهادة السيدين ، جمعة الماجد وسيف الغرير ، وكانا أيضا من رجال الغوص ...

ولا بد أن نذكّر هنا بأن ابن بطوطة هو الذي كان بين الفينة والأخرى يشعر بأن بعض ما يرويه قد لا يقبل من لدن بعض العقول فيقول مثلا ـ وهو يتحدث عن مزاعم الناس حول شجرة (درخت روان) ـ «ولهم في شأنها أكاذيب يحيلها العقل» وقال عن مزاعمهم حول

__________________

(٨) ابن مرزوق : المسند الصحيح تحقيق د. مارية خيسوس بيغيرا ـ الجزائر ١٩٨١ ، القاعدة المراكشية لشيخ الاسلام بن تيمية نشر سراج الحق ضمن الكتاب الذي صدر عن مؤسسة بريل Brill عام ١٩٦٥ ليدن ص. ٢٢٣ ، أحمد بابا التكروري التنبكتي : كتاب نيل الابتهاج الطبعة الحجرية بفاس ص ١٣٢ ـ ١٤٠.

١٢٩

مفعول أوراقها ـ وهي شجرة في سرنديب : " قالوا إن من تناولها عاد له الشباب وهو باطل!! وقال ، وقد سمع الناس يتناقلون حديثا غريبا" لم أذكره خيفة مكذّب به". وقد سخر بعضهم من روايته لرؤية بعض النساء بثدي واحد بينما طالعتنا صور الأحداث اليوم بوجود إنات لهن ثلاثة اثداء!!

ملاحظة أخيرة : كنا نشعر بوجوده في مكان ما من الأمكنة لكنه لسبب أو آخر يفقد قلمه ويعطل ذاكرته فلا يحفل بما كان ينبغي له أن يحفل به على ما أشرنا ، وهكذا ففي أثناء وجوده بمصر أهمل ذكر جامع ابن طولون الذي تحدث عنه معظم الرحالة المغاربة ولا سيما وقد كان للمغاربة فيه" مأوى يسكنونه ويحلقون فيه حيث تجري النفقات عليهم في كل شهر" على حدّ تعبير ابن جبير ...

هذا إلى اهمال ذكر رواق المغاربة في الأزهر الشريف. ورواقهم ـ وهذا مهم ـ في القدس ، وقد تحدث عنه علوي في كتابه (سفرنامه) ، ولم يتحدث وهو في سلا عن الجامع الأعظم في الوقت الذي تحدث فيه عن حسان التي لم يصعدها على نحو ما فعل في الكتبية. وابن بطّوطة الذي تحدث عن الزيتونة والأزهر لم يلفت نظره جامع القرويين الذي كان كعبة لكبار العلماء وكذا عيون الطلاب الذين كانوا يسكنون في المدارس التي تحف به : مدرسة الصفارين والعطارين والمصباحية علاوة على إهماله البيمارستان الذي يسهر على علاج الناس والذي كان موجودا بفاس على ذلك العهد.

وابن بطوطة في الأندلس أهمل ذكر الجامع الأعظم في رندة التي كانت عاصمة الأمير أبي مالك ابن السلطان أبي الحسن ...

لكنّ الحقيقة التي ينبغي أن نجعلها نصب أعيننا ونحن نتتبع تلك التعقيبات هي أن تلك" التقييدات" التي جمعها ابن بطوطة قرابة ثلاثين سنة قام ابن جزي" بتلخيصها" في أقلّ من ثلاثة شهور. ومتى كانت ثلاثة شهور كافية لتغطية تلك الأعوام واستيعاب ذلك العدد من الأسماء الجغرافية والأعلام الشخصية التي مرت بذاكرة الرحالة عبر تلك الأحقاب؟! يقوم أحدنا في العصر الحاضر برحلة في أمد معروف البداية والنهاية ولا يذكر بعد مرور بضعة أسابيع من رحلته بعض الأسماء التي مرت به فيأخذ في الاستنجاد برفاقه في الطريق!!

وأعتقد أن ابن جزي كان مستعجلا أكثر مما ينبغي في أداء مهمته ، وربما كان مشغولا بمشكل صحي طارئ عليه وهو الأمر الذي عرّضه للتصرّف ، ودفع به إلى الاستغناء كلية عن بعض" التقاييد. ولا ندري هل كان ابن بطوطة يجلس إلى جانب ابن جزي ليراجع هذا" التلخيص" بعد تحريره ليعطي رأيه فيه؟ مهما يكن فإن بعض التّبعة تقع على الظرف القصير الذي حدد للقيام بالمهمة ...

وإذا ما أضفنا إلى استعجال ابن جزي عنصرا ثانيا قرأناه في أثناء الرحلة ، وهو

١٣٠

الحسرة الجارحة التي كانت تحزّ في ابن بطوطة وهو يتحدث عن السّطو الذي تعرض له في الجزيرة الصغرى التي تقع بين هنور وفاكنور حيث سلبه القراصنة جميع ما عنده من جواهر ويواقيت ، حتى الثياب والزّوادات ، وبالرغم من القيمة المادية الهائلة لما افتقده في هذه الحادثة ، فإنه نسى كلّ تلك الثروات وكلّ تلك التحف ولم يبق عالقا بذاكرته إلا" التقييدات" التي كان يودع فيها معلومات عن الشخصيات التي تعرف عليها وعن التصانيف التي ألفتها تلك الشخصيات! ولم ينتظر للتعبير عن حزنه على ضياع تلك المذكرات الظرف الزمني الذي وقع فيه الحادث ، ولكنه. والمذكرات امر ذو بال يشغله ـ استعجل بذكر ذلك عند ما كان يتحدث عن علماء بخارى على ما سنرى ...

وينبغي أن نضيف إلى كل هذا أيضا مشاكل الترجمة التي لم يفته هو التنصيص على بعض أخطائها ، فقد كان يتلقى أخبارا من المترجمين والمرشدين الذين يجدهم أمامه ليستعين بهم فيما يطلب من معلومات كان يرويها كما سمعها. فلقد قيل له ـ وهو في بيزنطة ـ عن النبي إلياس الذي ينطق به عندهم Elie فظنه عليّ ... واستغرب هو من ذلك!!

ولكن المهم بعد هذا وقبل هذا أن سائر الذين ، تعقبوه وانتقدوا بعض مقاطعه وفقراته أجمعوا على إكباره وتقديره ، وعلى براعته في طريقته لجلب القراء بما كان يختاره من بديع النكتة ودقة التعبير ، وبما كان يتخذه شعارا له من الصراحة في القول مما قد لا يجرؤ أحدنا اليوم على الجهر به. فهو يواجه الأمراء بما قد لا يرضيهم ، وهو ينصف المستحقين منهم ولو أنه كان بعيدا عنهم ، وهو في الأخير متحفظ فيما يرويه إذا لم يكن مقتنعا به حيث نجده «يخرج عن العهدة بما يشعر من الألفاظ بذلك» على حدّ تعبير ابن جزى الذي عرفه حقّ المعرفة. لقد كانوا جميعا يتفقون على أن ابن بطوطة هو الرحالة الأمين الذي كانت مذكراته تتميّز عن غيرها بما يحسه القراء ولا يستطيعون التعبير عنه سواء أكانوا يعيشون في أروپا أو آسيا أو إفريقيا.

١٣١

النقوش كمصدر لابن بطوطة

وأحب أن أثير الانتباه هنا إلى عنصر في الرحلة كاف وحده للتأكيد على جدّيتها وصدق أخبارها ، ويتعلق الأمر بالنقوش التي كان يقف عليها مكتوبة على لوحة خشبية أو قطعة من حجر أو رخام ، فكان يسجلها ويحفظها ، وقد أمست بالنسبة إلينا اليوم بمثابة وثيقة حية تؤكد ما كان يرويه الرجل قبل نحو من سبعة قرون!

فإن المؤرخ قد يتأثر بما حواليه وبمن حواليه بينما تبقى الوثيقة المعاصرة أمينة شاخصة. ولقد لذّ لي أن أهتم بهذا الجانب من الرحلة وأن أقف بنفسي على مروياتها باعتبارها ، كما قلت ، دليلا لا يقبل الطعن سيما وبعض تلك النقوش ما يزال شاخصا للعيان. وهكذا فقد قرأ ابن بطوطة على شاهد قبر الشيخ أبي الحسن الشاذلي اسمه ونسبه متصلا إلى الحسن بن علي وفاطمة الزهراءعليهما‌السلام.

وقد كان فيما اكتشفه من خطوط ما قرأه على قبرية فاطمة بنت الحسين بن علي : " هذا قبر أمّ سلمة فاطمة بنت الحسين رضي‌الله‌عنه" بينما قرأ في لوح آخر : " صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر" وتحت ذلك ثلاثة أبيات ...

وعند ما زار ابن بطوطة قبر النبي هود عليه‌السلام شرقيّ مدينة تريم في حضرموت لاحظ أن القبر مكتوب عليه : " هذا قبر هود بن عابر صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ، وهو ما يعتمده الحضارمة إلى اليوم.

وفي هذا الإطار ما قرأه على قبرية سعد بن عبادة ، وما سجله وهو بمكة عن معالمها التاريخية مما يعتبر فيه ابن بطوطة حجة ، سيّما بعد اختفاء تلك الآثار ، هذا إلى ما علق بذاكرة الرّحالة مما قرأه في دمشق وفي عسقلان ومدينة البصرة وبغداد وسوريا.

ومن المهمّ أن نسمع ابن بطوطة ـ وهو الحريص على توثيق تلك المنقوشات ـ نسمعه يتحسر لضياع مذكّراته على نحو ما وقع بالنسبة لمقيّدات الهروي أثناء احتلال الروم للأراضي المقدسة (١)!

ويخبرنا بأنه كتب على قبر البخاري : " هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب" كذا وكذا ... وكذلك كتبت على قبور علماء بخاري أسماؤهم وأسماء تصانيفهم." وكنت قيدت من ذلك كثيرا ـ يقول ابن بطوطة ـ وضاع مني في جملة ما ضاع لمّا

__________________

(١) أبو الحسن الهروي : كتاب الاشارات إلى معرفة الزيارات ـ دمشق ١٩٥٣ ص ٣٠.

١٣٢

سلبني كفار الهند في البحر ..." وقد اهتم ـ وهو في بلاد السند والهند ـ بتقصي المنقوشات باعتبارها الرائد الذي لا يكذب أهله ، فأخبرنا بأنه قرأ على مقصورة الجامع في ملتان التي أمر السلطان غياث الدّين تغلق شاه بعملها ، قرأ : " إني قاتلت التتر تسعا وعشرين مرة فهزمتهم فحينئذ سميت بالملك الغازي (٢) " وقد اخبرنا كذلك بأنه قرأ على محراب الجامع الأعظم في مدينة دهلي تاريخ افتتاح المدينة من أيدي الكفار سنة ٥٨٤ ه‍ ـ (١١٨٨ م) ...

وقد أمكنه أن يسجل ما نقشه جلال الدّين أحسن شاه على صفحتي الدينار : (سلالة طه ويس أبو الفقراء والمساكين جلال الدنيا والدّين الواثق بتأييد الرحمن ، أحسن شاه السلطان).

ومما يجري مجرى النقوش نذكر بعض النصوص التاريخية التي حرص على تسجيلها مما يعتبر اليوم لدى المهتمين بها حججا يعتمد عليها ، ونشير مثلا إلى النص التاريخي لجواب سلطان الهند على رسالة إمبراطور الصين هيّونتي (Hyunti) الذي طالب بترميم معبد بودى عتيق بقرب جبل الهيملايا في الموقع المعروف بسمهل ، حيث نجد أن العاهل الهندي يكتب إليه قائلا : " إن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه ، ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه ، والسلام على من اتبع الهدى" (٣). إلى غير هذا من الوثائق التي لم يغفلها بما فيها الكتابات باللسان الهندي على نحو ما قرأناه له وهو في مدينة تارنا الأثرية من بلاد السند.

وقد تعلقت نفسي بمتابعة هذه المعلومات في الرحلات التي قمت بها عبر الأنحاء التي زارها، وقد ذهبت بعيدا إلى جزر المالديف في المحيط الهندي لأعرف جليّة الأمر حول ما نقله ابن بطوطة في رحلته عما كان قرأه هناك" على مقصورة الجامع منقوشا في الخشب من أن سلطان هذه الجزائر أسلم على يد أبي البركات البربري المغربي"

فعلا طلبت أن أقف على اللوحة المذكورة ، فوجدت أنها نقلت من مكانها الأصلي وعوضت بقطعة حديثة حاولت أن تنقل ما كان في اللوحة الأصلية لكنها حرّفت كلمة أبي البركات إلى أبي الرّكاب! وكلمة البربري إلى التبريزي! ومن حسن الحظ أن اللوحة الأصلية

__________________

(٢) Dr. AHMAD NABI KHAN : Development of Mosque Archtecture in Pakistan, Islamabad ٦٨٩١ P. ٦٣ ـ ٣٥.

(٣) بدر الدّين حيّ الصيني : العلاقات بين العرب والصّين طبعة أولى ١٣٧٠ ـ ١٩٥٠ ، مكتبة النهضة المصرية القاهرة ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

١٣٣

يحتفظ بها المتحف الوطني اليوم ، ويمكن أن نقرأ فيها هذه العبارات بوضوح : ووصل في هذا البلد أبو البركات ... البربري وأسلم السلطان على يده في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة(٤) (يوليه ١١٥٣).

والحديث عن علاقة المغرب مع المالديف بالأمس يسوقنا إلى التذكير بانعكاس تلك العلاقات على حاضرنا اليوم حيث شاهدنا لقاء فريدا من نوعه تسبّبه شهادة ابن بطّوطة (٥).

__________________

(٤) د. التازي : أقدم نقش ، عربي في مالديف يتحدث عن المغرب ـ مجلة البحث العلمي ، العدد ٤٠ ـ السنة الخامسة والعشرون ١٤١٠ ـ ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩٠ ـ ١٩٩١ ، ص ١٣ ـ ٢١.

(٥) رأى الناس شرقا وغربا ، من خلال التلفزة المغربية ـ فخامة السيد مأمون عبد القيوم رئيس جمهورية المالديف وهو يلقي محاضرته مساء يوم السبت ١٣ مارس ١٩٩٣ (١٩ رمضان ١٤١٣) برحاب القصر الملكي أمام جلالة الملك الحسن الثاني الذي ، قبل أن يقدّم الرئيس المالديفي ، أبرز العلاقات التاريخية بين المملكة المغربية وجمهورية المالديف اعتمادا على ما رواه ابن بطوطة الذي اعتمد السيد الرئيس أيضا على مذكّراته فيما قدمه من معلومات عن تاريخ المالديف في محاضرته القيّمة بعنوان : " الاجتهاد وضرورته الملحة لمعالجة القضايا المعاصرة" ، وكالة المغرب العربي للأبناء ليوم ١٤ مارس. ١٩٩٣

١٣٤

الرحلة كمصدر لتاريخ العلاقات الدّولية

تتجاوز الرحلة محتواها كمجرد مذكّرات إلى أنها تعتبر مصدرا هاما من مصادر التاريخ الدولي ليس للمملكة المغربية وحدها ، بل إنها مرجع أساس للتاريخ الدولي للعالم الإسلامي وعلاقات هذا العالم بعضه بعضا وعلاقاته مع العالم المسيحي بحيث إن رحلة ابن بطوطة تعتبر من هذه الناحية تاريخا لما أهمله التاريخ. وهكذا فمن خلال الرحلة استمعنا لابن بطوطة وهو يستعرض أمامنا أقطاب الدول الكبرى التي كانت تهيمن في عهده على معظم أطراف الدنيا ، وكان عددهم سبعة : سلطان المغرب ، وسلطان مصر والشام ، وسلطان العراقين ، وسلطان الترك ، وسلطان تركستان وما وراء النهر ، وسلطان الهند ، وسلطان الصين. ولقد وجدنا أن هناك بعض الثغرات المهملة من لدن بعض المؤرخين التقليديين فيما يتصل ببلاد المغرب يملأها الرحالة ابن بطوطة ، مثلا حديثه عن مصادفته لسفارة من تونس في قصور بني عبد الواد وهي السفارة التي رافقها عند عودتها لتونس ...

وفي هذه المدينة (تونس) نقرأ حديثه عن ظهور العاهل الحفصي أبي يحيى أبي بكر في عيد الفطر ٧٢٥ شتنبر ١٣٢٥ وليس بعد هذا التاريخ كما يحكيه آخرون (١) ...

ومن هنا كان من المتعذر كتابة تاريخ هذه المغارب دون العودة إلى رحلة ابن بطوطة سواء عند ما كان ذاهبا للحج حيث كان هناك ثلاثة مغارب أو عند ما كان عائدا حيث كان هناك مغرب واحد تحت قيادة واحدة.

وعند ما يتحدث التاريخ عن العلاقات الأولى للمغرب مع الأتراك لابد أنّنا سنفاجأ بمعلومة طريفة تتحدث عن استقبال الرحالة المغربي من لدن الأميرة بيلون خاتون زوجة السلطان اختيار الدّين أورخان بك بن السلطان عثمان الأول الذي أصبحت تنتسب إليه الامبراطورية العثمانية التي دوّخت العالم بأسره.

وعلى صعيد علاقات المغرب بالمشرق أذكر أيضا الأصداء التي تركتها معركة مرج الصفّار التي وقعت في ثاني رمضان ٧٠٢ ـ ٢١ أبريل ١٣٠٣ بين التتر وبين المماليك ، بين الملك الايلخاني قازان وبين الملك الناصر. ومن خلال هذه الأحداث شاهدنا علاقات دولة المماليك بالمغرب عند ما بعثوا للعاهل المغربي بعدد من الهدايا الرمزية من الأكداش التي كان يستعملها التتر ... ووجدنا أن المغرب ، بالمقابل ، يبعث للمشرق بهدايا مماثلة : أجراس ضخمة انتزعها من كنائس الروم كردّ فعل لإتلاف هؤلاء لعدد من المنابر الإسلامية.

__________________

(١) القصد إلى ابن القنفذ وابن خلدون ، بل ومعظم الذين أرّخو لتونس ، في الماضي والحاضر ...

١٣٥

هذا أيضا إلى العلاقات التي ربطت مصر بافريقيا السوداء وخاصة بعد حجة إمبراطور مالي موسى ومقدم سراج الدّين بن الكويك على العاهل الإفريقي ...

وإذا تحدث التاريخ عن المراسم والتشريفات المتبعة في القصور فلابد أن يرجع إلى الرحالة المغربي وهو يؤدي وصفا دقيقا لامر المراسم بالهند عندما يتنقّل السلاطين وعند استقبالهم للأعياد وتنظيمهم للاستقبالات والحفلات واستعمالهم للسّرير الأعظم والمبخرة العظمى.

ومن خلال رحلة ابن بطوطة عرفنا عن ممالك أخرى كانت بالنسبة إلينا وراء الظل ، مثلا عن انطاليا (بلاد الأناضول) وما احتوت عليه من إمارات توزعت الحكم هنا وهناك : إمارات وممالك في الأناضول كان ابن بطوطة يخترق حدودها بدون تأشيرة. ومن خلال الرحلة عرفنا عن الدولة الأرتقية في ماردين شمال العراق وجنوب تركيا وقد استمرت طوال ثلاثة قرون. ولقد عرفنا ، عن طريق الرحلة ، عن علاقات جمهورية جنوة بآسيا الصغرى وبجنوبي الروسيا ، وعلاقات هذه المنطقة بمماليك مصر ...

ومن خلال الرحلة سمعنا عن بطل من أبطال التاريخ الإسلامي : عمر بك الذي استمات في الدفاع عن وطنه وحاول جاهدا أن يفتح القسطنطينية قبل الموعد الذي نعرفه لفتحها ، حيث التجأت الروم إلى البابا الذي عهد إلى جنوة وفرنسا بمساعدة القسطنطينية. كثيرة هي المعلومات التي قدمها إلينا مما لم يكن معروفا حتى لدى ابناء البلاد المعنية بالأمر. لقد حمل تلك المعلومات معه إلى بلاد المغرب بعيدا عن الرّقابة حيث تقدم اليوم لأصحابها حتى يضيفوها إلى ما عندهم.

وقد أصبح اليوم حديثه عن الحدود بين حكومة وأخرى وعن الإجراءات التي كان يقوم بها لدى الجهات المعنية حتى يؤذن له بالزيارة ، أصبح ذلك حجة تتردد أصداؤها اليوم في المحافل الدولية على أنها تعني حقائق تاريخية ينبغي الاستئناس بها إن لم يمكن التمسك بها على ما سنشير إليه في التعاليق عند الاقتضاء.

وقد كشف ابن بطوطة عن دور الزواج السياسي في إحكام العلاقات بين أمة وأخرى ، وقد عاش هو هذا التاريخ فرأى كيف أن سلطان قفجق يتزوّج بإحدى بنات أمبراطور القسطنطينية ، ورأى أنّ ملك مصر يتزوج ابنة سلطان خوارزم ، إلى آخر النظائر التي ذكرها.

وابن بطوطة هو الذي لفت نظرنا إلى مناهضة العنصرية من لدن بعض الحكام الهنود المستنيرين من الذين حرّموا في إقليمهم استعمال كلمة (الأجنبي) أو حتى كلمة (الغريب) ...

١٣٦

وهم يستعملون عوض هذين النعتين ، كلمة (العزيز) ج (الأعزة) لكل طارىء قصدهم. ولهم ، أي لهؤلاء الأعزة مكانهم المتميّز في المراسم والحفلات ، وقد كان من اللقطات الهامة في تاريخ العلاقات الدولية وخاصة فيما يتصل بشيراز والتتر تلك التي استأثر بذكرها الرحالة المغربي عند ما تحدث عن وصول سفير عن سلطان العراق أبي سعيد بهادور إلي هذه المدينة ، وكان السفير بالصدفة هو الأمير ناصر الدّين الدّرقندي ، وكان خراساني الأصل ، وقد قدم في حاشية تتألف من نحو خمسمائة فارس من خدّامه وأصحابه ، هذا إلى السفير رجب البرقعي ، وأصله من القرم. راح سفيرا من الهند إلى" الخليفة" في مصر حيث استقبل بمحضر الملك الصالح إسماعيل.

وعن طريق ابن بطوطة علمنا عن وجود سفارة مصرية برئاسة صدر الدين سليمان المالكي الذي وجّهه الملك الناصر إلى سلطان العراق في إطار العلاقات بين المماليك وبين الإيلخان.

هذا إلى سفارات أخرى قرأنا عنها في الرحلة كان من أبرزها الحركة الدبلوماسية الواسعة النطاق التي شاهدتها بلاد فارس عند ما قام محمد خذا بنده بتوجيه بعثات إلى مختلف الجهات لحملها على الموافقة على جعل المذهب الشيعي هو المذهب الأساسي للدولة ، هذا إلى سفارة الشيخ زاده الخراساني السفير عن ملك هراة إلى الملك أبي اسحاق في شيراز.

ولقد كان عدد السفراء الذين تبادلتهم الدولتان : المغول والمماليك كثيرا ؛ وكان لابن بطوطة فضل الإشارة اليهم ، كما كان له فضل الإشارة للعلاقات بين الدولة الرسولية في اليمن وبين المماليك في مصر من خلال وجود المدرسة المظفرية بمكة المكرمة ودورها العلمي هناك.

وعن طريق ابن بطوطة قرأنا عن وفادة من الخان الأعظم إمبراطور الصين إلى سرنديب للحصول على قطعة من الصخرة التي رسم عليها قدم آدم!.

وعن طريقه عرفنا عن صلة ملك الصين بملك طوالسي هذه المملكة الواسعة التي يمكن أن تندرج تحتها أمم عظيمة تعرف اليوم بالفليبين واليابان وما جاورهما! على نحو ما تندرج تحت اسم (مل جاوة) شعوب وأمم تعرف اليوم تحت اسم طايلاند وبورما وفيتنام على ما أسلفنا.

وإن معلومات ابن بطوطة عن سلطنة مترة (MADURA) وعلاقاتها بالإمارات الأخرى تظل معلومات دقيقة أيدتها النقود المكتشفة ، هذا إلى حديثه عن مخالفة سدكاوان للهند!.

وعن طريق ابن بطوطة عرفنا عن أخبار الجماعات اليهودية التي كانت منتشرة هنا وهناك. وهكذا فكما كانت الرحلة مصدرا هاما للعقيدة الإسلامية كانت مرجعا لأهل الديانات الأخرى التي كانت تتعايش فيما بينها طوال التاريخ. وعن طريقه تعرفنا على عدد من قواعد العالم الإسلامي على ذلك العهد من أمثال دولة لورستان الكبرى وإمبراطورية القفجق وسلطانها محمد أوزبك خان.

١٣٧

وقد قدّم إلينا في ثنايا الرحلة معلومات تنفعنا على صعيد التعامل الدولي فقد ذكر أن تطبيق الحكومة ، في قالقوط ، للقاعدة الفقهية التي تقضي بإرجاع إرث الأجانب الهلكى إلى أهلهم وورثتهم أينما كانوا ، أقول إنّ تطبيق ذلك هو الذي كان يساعد المستثمرين على اختيار قالقوط مركزا تجاريا لهم.

كما أفادنا فائدة تاريخية لم نقرأ عنها في التأليف التاريخية الأخرى مثل جامع التواريخ لرشيد الدّين ، عن مأساة اجتياح بغداد من لدن المغول ... لقد قال إن عدد الذين قضوا في تلك الفتنة من العلماء فقط أربعة وعشرون ألف عالم!

وكلّنا يعرف عن عشيرة آل مهنّا العربية بديار الشام وما قامت به من أدوار وما كان لها من صدى سواء على صعيد العلاقات العربية العربية أو العلاقات العربية البيزنطية ، مهنا الأول المتوفى حوالي ٦٦٠ ـ ١٢٦٢ ، ومهنا بن عيسى (الثاني) المتوفى ٧٣٥ ـ ١٣٣٥ والملقب بسلطان العرب ، هذا الذي أرسل ابنه موسى إلى ملك التتر في العراق مع قراسنقر وجماعته قبل أن يلتحق هو بالمنطقة التترية. تواريخ مثيرة لهذه العشيرة التي كانت معلومات ابن بطوطة عنها محلّ تزكية من لدن الذين كتبوا عن عشائر الشام وصحّحوا ما قاله ابن بطوطة عن آل حيار بن مهنّا بن عيسى(٢) قبل أن تنكسر شوكتهم بموت محمد بن حيار.

وقد قدم لنا ابن بطوطة معلومات جدّ قيّمة عن أشراف الحجاز على عهده بمن فيهم الحسنيون أصحاب مكة بما عرف عنهم من احتكاكات بدولة المماليك ، وهكذا قرأنا عن رميثه بن أبي نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة.

كما عرفنا عن الحسينيين أصحاب المدينة بما عرف عنهم من تنافس ساخن ، وهكذا سمعنا عن كبيش بن منصور بن جمّاز بن شيحة بن هاشم (٣).

ومن الطريف أن نعرف عن شريف حسيني ، حفيد لجماز يحمل اسم قاسم يلتحق بغرناطة ويشارك في معركة ويستشهد على مقربة من الجزيرة الخضراء.

وابن بطوطة هو الذي ساعدنا على معرفة الظروف التي جعلته يتوجس خيفة من حركة القراصنة وهو في طريقه إلى المغرب عبر جزيرة سردانية ، فقد كانت الاتفاقية المغربية مع ممالك جنوب أوربا أتت على نهايتها فلا غرو إذن أن يحتاط الرّحالة لنفسه (٤).

__________________

(٢) د. مصطفى الحياري : الإمارة الطائية في ديار الشام ١٩٧٧ ص ٧٥ ـ أحمد وصفي زكرياء : عشائر الشام ..

(٣) ابن حجر : الدرر الكامنة ٢ ، ٧٥ ـ Ency.ISLAM : Makka ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٧ ، ص ٢٠٤ رقم الإيداع القانوني ٢٥ / ١٩٨٦ مطابع فضالة ـ المحمدية ـ المغرب.

١٣٨

وقد أجمعت المصادر الإيطالية وهي تتحدث عن تاريخ جنوة ، أجمعت على النقل عن ابن بطوطة عند ما تحدث عن افتداء السلطان أبي عنان لمدينة طرابلس بتلك المبالغ السخية من العملة الذهبية حتى لا تبقى طرابلس بيد الجنويين! لقد تحدث ابن فضل الله العمري في السفر السابع والعشرين عن احتلالها من لدن جنوة ، ولكنه ترك المدينة أسيرة. ولم يكن هناك غير ابن بطوطة الذي تحدث عن تحريرها من لدن السلطان أبي عنان وهي المبادرة التي سجلتها الرحلة ، وأكدتها تهاني غرناطة لفاس (٥) ثم أتت المصادر الإيطالية وغيرها لتعتمد تلك المعلومات. وقد أفادنا ابن بطوطة عن اهتمام المشرق بأخبار المغرب وأنه أي المشرق ما انفك يتتبع الأخبار الواردة عليه من بلادنا وخاصة منها ما يتصل بحركات الجهاد في الأندلس ، ومن هنا علم ابن بطوطة لما وصل إلى بغداد ، في شوال عام ثمانية وأربعين ، علم من بعض المغاربة الذين كانوا هناك بأخبار كارثة وقعة طريف واستيلاء الروم على الجزيرة الخضراء على نحو ما كان وصلنا بالمغرب عن سقوط بغداد كما يذكره ابن عبد الملك المراكشي ...

وقد عاش ابن بطوطة مرحلة دقيقة جدا من تاريخ المغرب الكبير أدّى عنها بعباراته ما سمحت به ظروفه ، وبحكمة ودبلوماسية فائقة عند ما تحدث عن مرورة بتونس فسلّم على السلطان أبي الحسن واجتمع بمجلس علمه ورجال مشورته ، ثم لم يلبث أن أصبح ببلاط أبي عنان المناهض لوالده ، ومع كل ذلك فإنه لم يسمح لنفسه أن يتدخل فيما لا يعنيه ، ويتحدث بما لا يرضي عما يجري بين الوالد وولده بالرغم من أنّه صحب ركب أبي عنان الذي كان يحمل شلو أبيه.

وابن بطوطة هو الذي أحاطنا علما بما كان يضمه بلاط عهد السلطان أبي عنان من وفود ترد من خارج المغرب ، مثلا ابن أمير الموصل وديار بكر الشريف علاء الدين الذي كان ـ أثناء تحرير رحلة ابن بطوطة ـ بعاصمة فاس : " مستقر الغرباء ومأوى الخائفين" على حد تعبير ابن جزي!.

وابن بطوطة ، ولو أنه لم يصرح بذلك ـ حفظا للأسرار على ما جرت عليه الأعراف بين الدول ـ ... هو الذي وجهه السلطان أبو عنان ، على ما يبدو ، في مهمة إلى غرناطة في ظروف كانت فيه العلاقات بين أبي عنان وبين والده على ما لا يرضى (٦). وبهذا نفسر المرض الدبلوماسي لملك غرناطة وبهذه المناسبة عرفنا وضع (رندة) التي كانت عاصمة للقسم الأندلسي التابع لدولة بني مرين. وابن بطوطة هو الذي راح مبعوثا أيضا في مهمة للسلطان أبي عنان

__________________

(٤) د. التازي : الحضور العربي في جزيرة سردينية ، مجلة مجمع اللغة العربية ـ الجزء ٧٤ ، ذو الحجة ١٤١٤ ـ مايه ١٩٩٤ ، ص ٤١.

(٥) ابن الخطيب : ريحانة الكتاب تحقيق عنان ج ١ ص ٣٢١ طبعة القاهرة ١٩٨٠.

(٦) ـ ذ. حسن عبد السميع محسن : ابن بطوطة الرحالة ، ١٩٦٥ ، القاهرة ص ٣٨ ـ ١٠٦.

١٣٩

إلى بلاد السودان على ما يظهر حيث تم اتصاله المباشر بعدد من أقطاب وأمراء المنطقة ، وحيث قضى وقتا هناك قبل أن يصله مبعوث خاص من العاهل المغربي يطلب إليه أن يعود فورا إلى حاضرة فاس.

ولا ننسى أن ابن بطوطة هو الذي ذكرنا ـ وهو يعيش في مالديف ـ بأنه ترك في المغرب عددا من الأسرى من الروم. وكان الوقت يصادف فعلا سلسلة من الاحتكاكات التي تجري بين المغرب وقشتالة. وقد أعطانا الرحالة المغربي وصفا للطريقة التي كانت الحكومة المغربية تستعملها لضبط الأسرى ومنعهم من الفرار إلى أن يتم افتداؤهم بمن يوجد من المغاربة في قبضة حكومات الأطراف الأخرى.

وقد حدث أن بعض الدول التي كان ابن بطوطة يتحدث عنها اختفت من مسرح السياسة وأتى بعدها قوم آخرون فأحرقوا كتب الأولين ودمروا آثارهم فلم يعرف عنهم شيء إلا ما قرأناه من خلال معلومات ابن بطوطة التي" فلتت" للخارج فاحتفظت بحياتها وبجدّتها. ونذكر بهذه المناسبة ما حكاه عن بني نبهان في عمان كمثل شاهد للعيان.

كثيرة هي اللقطات التي تفيد المهتمّين بالتاريخ الدّولي للعالم الاسلامي ... وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الرحالة لم يكن مجرد سائح يمشي في مناكب الأرض ، ولكنه كان يهدف إلى تعريف فريق بفريق ... وكأنني به يكتب تقريرا لملوك المغرب عما رآه وما شاهده عبر أطراف الدنيا ليأخذوا منه ما يرونه صالحا لمسيرتهم إذا كانوا يريدون.

من حسن حظنا أن ابن بطوطة كان يعمل بنصيحة القاضي أبي بكر بن العربي سفير المغرب لدى العراق عام ٤٨٩ / ١٠٩٧ الذي قال : في تأليفه (كتاب الرحلة) عند ما دخل إلى بغداد وتعرّف على الخليفة بها : «نعمت المعرفة التعرّف بالسلطان والتشرف به عند التغرّب من الأوطان ونعم العون على العلم الرياسة بالأمن والاستيطان (٧).

فبفضل العمل بتلك النصيحة أمكننا التعرف على الكثير من القادة المتنفذين آنذاك ...

__________________

(٧) ابن صاحب الصلاة : تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين تحقيق د. عبد الهادي التازي طبعة ثالثة ١٩٨٧ دار الغرب الإسلامي ـ بيروت ص ١٨٥ / ١٨٦ تعليق ٥ ـ ٦.

١٤٠