رحلة ابن بطوطة - ج ١

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ١

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-007-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٤٣١

مرفأ دوليا هاما يتوفر على كلّ مقومات الحضارة. وقد عرفنا عن استقبالها للشعراء أمثال أبي الحسن الحصرى صاحب القصيدة التي مطلعها : «ياليل الصبّ متى غده» كما عرفنا عن ابن سمجون اللواتي الطنجي الذي رحل إلى المشرق وعاد لطنجة ومات بها ، وقد وقفنا في البرتغال على نص ملكية لبعض مخطوطات (قضاة قرطبة للخشني) : وهو هكذا" ملكه محمد بن محمد بن عبد الرحمن اللّواتي الشهير في طنجة بابن بطوطة" وسنقرأ حديث ابن بطوطة ، وهو في رندة ، عن ابن عمه أبي القاسم محمد بن يحيى قاضي المدينة ... كما نعرف عن أسرة البطوطي التي وضع أحد أفرادها بفاس قطعة أسطرلاب فائقة الدقة (١٢).

وبعد عودة ابن بطوطة إلى المغرب ، وبعد إفلاته من اشاعة" تناجي" بعض المعاصرين حوله على ما أشرنا أمسى من جلساء السلطان أبي عنان الذي أصدر أمرا لكاتبه ابن جزيّ بتدوين رحلة ابن بطّوطة. قبل أن يتقلد هذا الأخير منصب قاضي إقليم تامسنا.

وقد وجدنا في (نفاضة الجراب) للسان الدين ابن الخطيب رسالة موجّهة من هذا إلى القاضي ابن بطوطة. وكان ابن الخطيب قرّر عند ما التجأ إلى المغرب عام ٧٦٠ ـ ١٣٥٩ أن يستثمر أمواله في منطقة نفوذ ابن بطوطة ، وكانت تامسنا تابعة لمملكة فاس على ما يقوله الحسن ابن الوزان (١٣).

وإذا كان مترجموه أهملوا الحديث عن ظروف وفاته ، فإن الحافظ ابن حجر سالف الذكر في" الدرر الكامنة" (٤ ، ١٠٠) يفيد أن ابن بطوطة بقي إلى سنة سبعين وأدركته وفاته وهو متول للقضاء يعني حتى عهد السلطان عبد العزيز بن أبي الحسن أخى السلطان أبي عنان مما يعني أنّ أجله أدركه بتامسنا التي كانت عاصمتها انذاك أنفا وليس بفاس ولا بطنجة (١٤) ...

ولله در مولانا جلال الدّين الرومي (٦٧٢ ـ ١٢٧٣) عند ما يقول : " حينما نموت لا تبحثوا عن قبورنا في التّراب ولكن ابحثوا عنا في قلوب الناس!!

" لقد كان رحله دائما على استعداد ، وهو لا يفتأ متنقلا باحثا عما يضمن له الزاد في

__________________

(١٢) ياقوت : المشترك وضعا ص ٢٩٥ ـ د. التازي : التاريخ الديبلوماسي للمغرب ج ٧ ص ٥٢.

(١٣) لقد أمسى لسان الدّين ابن الخطيب قليل الثقة بالمستقبل السياسي للأندلس ، ولذلك وجدناه إلى جانب قراره بالالتجاء إلى المغرب يوصي أبناءه في تلك الظروف العصيبة بقوله : " من رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد الذي لا يصلح لغير الجهاد فلا يستهلكه أجمع في العقار ، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار ، وساعيا لنفسه أن يتغلب العدو على بلده في الافتضاح والانتهار ومعوقا عن الانتقال ...

أحمد مختار العبادي : النّزعات الاقتصادية لابن الخطيب مجلة كلية الآداب ، الاسكندرية ١٩٥٨.

(١٤) يؤكد الشيخ سكيرج في (رياض البهجة في أخبار طنجة) (الخزانة الصبيحية ـ سلا) أن القول بوجود القبر بحومة أجز ناية بطنجة يبقى أضغاث أحلام! ويقتدي به في هذا الاستاذ عبد الله كنون في سلسلته" مشاهير المغرب" الحلقةA.AQALAY : TANGER ,Porte du Maroc ٦٥٩١ ـ ٧٥ ـ ٥٢

٨١

٨٢

الحل والترحال ... وقد كان يصدق عليه قول ابن زريق البغدادي في قصيدته :

ما آب من سفر إلا وأزعجه

رأى إلى سفر بالعزم يجمعه

كأنّما هو من حل ومرتحل

موكّل بفضاء الله يذرعه!

إذا الزمان أراه بالرحيل غنى

ولو إلى السّند أضحى وهو يزمعه!!

لقد قام ابن بطوطة برحلاته العديدة التي كان يستهدف فيها أحيانا لسائر أنواع الامتحان ، ويتعرض للخطر في عدد من الحالات ... ، وحتى عند ما قام بزيارة الأندلس وبلاد السودان ، لكنه نجا من جميع تلك الأهوال فكان لسان حاله ينشد قول الشريف الادريسي :

دعني أجل ما بدت لي

سفينة أو مطيّة

لا بدّ يقطع سيري

أمنة أو منية!!

وإن الذين يسمحون لأنفسهم بتحجيم ابن بطوطة والادعاء بأنه كان محدود الثقافة كانوا بعيدين عن الحقيقة ... ولعل بعضهم ظلّل بما قرأه عن تكليف السلطان أبي عنان للكاتب ابن جزي بترتيب الرحلة ... حيث وجد في ذلك ما يعبر ـ ربّما ـ عن" عجز" ابن بطوطة عن القيام بالمهمة ...! وهذا خطأ" بيّن ، تكشف لنا عنه أولا الصفة التي رشّحت ابن جزي للقيام بهذا العمل والتي أشار اليها المقري في (النفح) " بأنه أي ابن جزي ، إن كتب أربى على ابن مقلة بخطّه ..." وثانيا ما أضفاه ابن جزي نفسه في المقدمة على ابن بطوطة من كل الاوصاف التي تؤكد عن عمق معارف الرحالة : فهو" الشيخ ، وهو الفقيه وهو الثقة وهو الصدوق ، وهو الذي باحث فرق الأمم ، وسبر سير العرب والعجم ، ولم أتعرض ـ يقول ابن جزي ـ لبحث عن حقيقة ما قال لأنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك ...!

ونريد أن نقول ، ونحن نقف إلى جانب من يقتنعون بالمركز العلمي الموموق للرحالة المغربي ، نقول : إن القرار الذي اتخذه السلطان أبو عنان بالإعلان عن مصداقية الرحلة وأهميتها لم يكن قرارا ارتجاليا أو عاطفيا ، ولكنه كان وليد استمزاج رأي أعضاء المجلس العلمي الذي اعتاد السلطان أن يركن إليه كلّ مطلع شمس ، ذلك المجلس الذي كان بمثابة أكاديمية حقيقية يلجأ إليها العاهل عند الحاجة ، وقد قرأنا فيما سجله الكاتب ابن جزي في مقدمة الرحلة أنه" لا تقع في مجلس أبي عنان مسألة علمية في أيّ علم كان ، إلا حل مشكلها

٨٣

وباحث في دقائقها واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاته من مغلقاتها ... فكانت مجالسه لا تخلو من مباحثات ومناظرات ...

وقد ذكر العلامة المؤقت أبو زيد عبد الرحمن الجاديري (ت ٩٣٨ ـ ١٥٣٤) نقلا عن شيخه الرئيس أبي الوليد اسماعيل بن الأحمر (ت ٨٠٧ ـ ١٤٠٥) في شرحه لقول البوصيري :

لعلّ رحمة ربي حين يقسمها

تأتي على حسب العصيان في القسم

ذكر ما يؤكد أن ابن بطوطة كان معدودا في صدر أعضاء ذلك" المجلس الأكاديمي". وقد وقع الكلام بين يدي السلطان أمير المؤمنين أبي عنان ... في مقعد ملكه من المدينة البيضاء من حضرة فاس بمحضر الفقهاء والعلماء والأساتذة والقضاة والشرفاء والخطباء وأصحاب العلوم ... وأخذ الرئيس أبو الوليد يعددهم واحدا واحدا إلى أن قال : وشيخنا الفقيه القاضي الخطيب الحاج الكثير الجولة بالمشرق والمغرب وجميع البلاد محمد ابن بطوطة الطنجي العارف بالتاريخ ..." على ما نذكره في الملاحق.

ومعنى هذا أن الرحالة المغربي كان معدودا في صدر رجالات الفكر والعلم والدولة جميعا (١٥)

وللمتتبع لغضون الرحلة أن يقف بنفسه عند الخطوات الأولى للرجل ، وهو يودّع طرابلس ، عند ما تقدم على سائر رفاقه وفرض نفسه على بقية أعضاء الركب.

وإن ابن بطوطة ، وهو ما يزال في بداية طريقه ، في الاسكندرية أخذ عن الشيخ ياقوت تلميذ أبي العباس المرسي ، فهو شادلي بالواسطة وقد حصل في دمشق على نحو من ثلاث عشرة إجازة ، وفيمن أجازوه أم عبد الله زينب بنت الكمال المقدسية ، ولقد كان حريصا على أن يذكر أسماء الذين أجازوه في أرض الشام ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على" انتساب" الرجل إلى بيت العلم والفقه والحديث ...

__________________

(١٥) الكتاني : السلوةII ص ١٥٧. العابد الفاسي : الخزانة العلمية بالمغرب ، مطبعة الرسالة ، الرباط ١٩٦٠. التازي : تاريخ القرويين ٢ ، ص ٥٠٢ طبعة بيروت ١٩٧٢. زمامة : أبو الوليد بن الأحمر ، دار المغرب ١٩٧٩ ص ٢٩٦.

(١٦) قال في التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية تعليقا على ملاحظة ابن بطوطة للحن خطيب الجمعة التي ذكرها للاعتبار : وفي ذلك يقول الشيخ عثمان بن سعد المالكي الشهير آخر فضلاء البصريين :

قد كانت البصرة الفيحاء من قدم

مجرى لأبحر نحو تقذف الدّررا

فاصبحت وهي صفراء الوشاح فلا

نحويّ فيها سوى نزر ، وهم فقرا!!

٨٤

ولا بد أن نستمع إلى الانتقاد المر الذي وجهه الرحالة العالم لخطيب البصرة الذي لم يحترم قواعد النحو التي إنما عرفت ازدهارها ورواجها بين البصرة والكوفة (١٦).

ولنتتبع زيارته لبغداد حيث نجده بالمدرسة المستنصرية يحضر مجالس الامام الشيخ أبي حفص القزويني الذي كان يتناول بالدرس مسند الدّارمي ... لقد كان حاضرا في مثل هذه المشاهد بذاكرته وبحسه يعترض على ما يسمعه أحيانا إذا لم يقتنع ، ويصحح ما يرى أن غيره جافى فيه الصواب.

وهو في بلاد فارس اغتنم الفرصة لاستجماع حصيلة كبرى من المعارف والاتصال بأكبر عدد من رجالات الحديث والفقه والتصوف. وقد كان يعرف كيف يتحبب الى الناس ويتقرب إليهم بما أوتيه ، هو نفسه ، من خصال العلماء وفضائل الفقهاء ... وهكذا وجدناه يضيف إلى إجازاته في دمشق إجازات أخرى من بعض رجال العلم والفضل في إصفهان.

أكثر من هذا ، استمعنا إليه يخبرنا عن تأليف له جديد ، غير هذه الرحلة ، وهو خبر طريف ، ويتعلق الأمر بتصنيف طلب منه أحد الملوك في آسيا الصغرى : سلطان بركي : أن يؤلفه له حول الحديث الشريف ...

وما من شك في أن المرء لا يجرؤ على حمل القلم للتدوين في موضوع كهذا دون أن يكون متوفرا على زاد من العلم كبير ...

وقد قرأنا بعضا من قصيدته اللّامية في مدح السلطان وهو بالهند :

فلو أن فوق الشمس للمجد رتبة

لكنت لأعلاها إماما مؤهّلا

فانت الامام الماجد الأوحد الذي

سجاياه حتما أن يقول ويفعلا!!

وكان مما يدل على مكانة الرجل العلمية ما كنا نتحسسه من خلال مذكراته مما كان يعبّر فعلا على أنه أطروفة من أطاريف الزمان وأنّه ليس إمّعة يردد ما قاله الآخرون دون تمحيص. ولأضرب مثلا بما ينقله أحيانا عن ابن جبير من معلومات ، فهو عند حديثه مثلا (١٠٢ ,I) عن فوائد مستغلات جامع دمشق في كلّ سنة ، يقدر ذلك بنحو خمسة وعشرين ألفا دينار ذهبي من سكة بني مرين ، وهكذا نجده يحول تقديرات ابن جبير البالغة خمسة عشر ألف دينار من سكة بني عبد المؤمن ... وقد فعل ذلك لتيويم المعلومات أي جعلها مواكبة لعصره ...

وهو إذ يستأنس بابن جبير أيضا ، نراه لا يردد ما أفاده سلفه من أن خطبة الجمعة تتضمن الدعاء للخليفة. وخلافا لذلك نجده يتحدث عن الدعاء لملك مصر لأنّ اليوم غير الأمس والحكام الحاليون ليسوا هم الحكام السابقين!!

٨٥

وإذا كان ابن الخطيب في الإحاطة نسب اليه المعرفة بالطب فإنه مصيب في ذلك نظرا لما احتوته الرحلة من دلالات وشهادات ... وابن بطوطة هو الذي لاحظ أنّ أهل الهند لا يجعلون بيت المال عاصبا عندما تستكمل حصص الوارثين على عكس ما يوجد عند المالكية الذين يعتبرون بيت المال عاصبا عند فقدان الوارث وهو ما كان يعتمده المغرب إلى عهد قريب.

وحديث ابن بطوطة عند التعزير عند الشافعية وأنه لا يتجاوز الحد. بينما نجد أن التعزير عند المالكية غير محدد ، وان للإمام أن يجتهد فيه حسبما يراه ولو تجاوز الحدّ.

وقد رأيناه بين الفينة والأخرى يتحدث عن أن هذا الحكم يجري على مذهب الشافعية وذلك يجري على مذهب الإمام مالك الأمر الذي يجعل رحلته أيضا مصدرا من مصادر الفقه الإسلامي. وقد سمعناه يقول وقد عرضت عليه وظيفة سياسية هامة : " إن القضاء والمشيخة شغله وشغل آبائه" ... وقد تحدث فعلا عن فقيه جليل هو أبو الحسن علي الأنجرى الذي كان يتردد على والد ابن بطوطة بطنجة التي عرفت مجالس أمثال الشيخ أبي سعيد (١٧)

وما بالك بسائح يلقى مكانة رفيعة عند الحدود المصرية ويستضيفه" أستاذ دار" الذي يعهد إليه عادة بترصّد علية القوم واداء فروض الاحترام لهم.

وما بالك بفقيه لم يتردد في استنكار ركوب الشيخ هود علي محفّة تحملها أكتاف فتيانه وكأنهم الحيوانات عوض أن يركب متون الخيل التي كانت تمشي مع الموكب مجنوبة؟!

ولقد كانت آخر وظيفة له كما قلنا أن كان قاضيا في (أنفا) عاصمة تامسنا التي احتضنت عددا كبيرا من رجال العلم والمعرفة ممّن ترجمت لهم كتب التاريخ من أمثال أبي الحسن ابن الرقاص الذي كان يقرئ بمدرسة أنفا التي بناها السلطان أبو عنان بالجامع الأعظم (١٨) ...

وإذا كان ابن بطوطة إنما اشتهر بالرحلة التي توجد بين أيدينا ، فإن صاحب كتاب : " دليل مؤرخ المغرب الأقصى" يذكر أن لابن بطوطة تأليفا آخر يحمل اسم (الوسيط في أخبار من حلّ تمنطيط) (١٩) ، تكلم فيه على رجال المدينة المذكورة التي تقع في إقليم توات ، وكانت

__________________

(١٧) A. L. de PREMARE : Maghreb et Andalousie au XIVe Siecle, Lyon ١٨٩١.

(١٨) هو أبو الحسن صاحب البيتين :

اذا كنت في شبر من الأرض مكرما

ونلت به عزّا وكنت به صدرا

فعدّ عن المثوى وإن كان مسقطا

فما أضيق المثوى وما أوسع الشّبرا!!

(١٩) تقع تمنطيط على بعد اثنى عشر كيلوميترا من مدينة أدرار ، وهي من مدن توات العلمية ، وبها قبر العالم التلمساني الشهير محمد بن عبد الكريم المغيلي ، احتلها الفرنسيون في نهاية يوليه عام ١٩٠٠ ... ابن سودة : دليل مؤرخ المغرب الأقصى ج ١ ص ٦٩ طبعة دار الكتاب ـ الدار البيضاء ١٩٦٠ ـ تقييد ما اشتمل عليه إقليم توات ... المطبعة الملكية ، الرباط ١٣٨١ ـ ١٨٦٢.

٨٦

اهلة بالعلم في القرنين السادس والسابع الهجري ويقع التأليف في مجلد ضخم على ما أخبره به بعض علماء الإقليم ...

وقد كان مما لفت النظر في الرحلة أنّ ابن بطوطة ـ بالرغم مما تقلب فيه من وظائف وما مرّ به من ظروف ـ لم ينس المغرب الذي ظل أمام مخيلته وبين سمعه وبصره.

وحتى نعرف درجة الحسّ الوطني للرجل لا بد أن نلاحظ تصيّده الفرصة لذكر المغرب ، فهو يفيدنا أن المغاربة شاركوا ضد هجوم القرامطة على الكعبة ، وهي الحقيقة التي نجد لها صدى في المصادر القديمة للتّاريخ الدّولي للمغرب ...

ولم ينس أن يقارن بين (الصقورة) في المغرب وبين (سيربيدار) في فارس ... ولم ينس أن يقارن بين نظام" الفيلات" في الصين ومثيلاتها في سجلماسة!! بل وبين قطع الأسطول والأجفان بالمغرب وعددها في الصين ... سواء منها الغزوية او السّفرية ، أو الحربية والتجارية بالمصطلح الحديث.

ولقد علقت بمخيلته صور الأودية الكبرى بالمغرب ، فهو يقارن وادي سلا ، بنهر مدينة إصطنبول ... ولا يفوته أن يذكر بأنه يدّخر مذكراته التي يكتبها ليفيد بها مواطنيه بالمغرب ... وعند ذكر الطيور وعند حضور الأسماك ، وعند رؤيته للأواني الخزفية التي تقدم إليه ، لا بد أن يعتزّ بالخزف الذي تصنعه الأيادي المغربية. وحتى في شكل الخصومات والمرافعات نجده يقارن بين شكلها ونوعها في بلاده الأصلية وفي الأماكن التي كان يتجول فيها ...

ويلاحظ أن الرجل كان في مستوى ما تنعم به بلاده من ذكر جميل ولا بد أن نحضر معه ذات يوم خروجه للأسواق ليقتني الملابس المناسبة لرحلة صيد دعاه إليها السلطان. إنه كان يريد" أن يظهر القوة والهمة" ... لقد كان حريصا على أن يمثل بلاده أحسن تمثيل إذ كان عظيم الاعتزاز بهويته المغربية في البلاط الهندي. وهو الأمر الذي ما يزال مثقفو الهند يذكرونه إلى اليوم ، لقد كان يعلم أن بلاده ، في ذلك العهد ، كانت على وضع ممتاز ، وأحسن على كلّ حال من وضع تلك الجهات ، ولذلك فإنه كان يجيب عند ما يسأل عن أصله : بأنه ينتسب إلى بلد أصيل اثيل وفي هذا الصدد لابد أن نلفت النظر إلى نوع من المقارنات الطريفة والدالة على الحسّ الاقتصادي والتجاري الذي كان يتوفر عليه ، والذي يعبر عن شمولية شخصيته واكتمالها : قضية تتبّعه للأسعار وتتبّعه للمكاييل والمعايير والموازين ، وقيمة العملات حتى لكأنك مصحوبا بجريدة تطلعك على أسعار ما يجري في السوق. وهكذا لم يكن الرحالة رجل فقه وأحكام وأوراق ، ولكنه رجل مطلع على كل شيء.

فقد بدا مهتما بقضايا الصرف والمقارنة بين العملة في المغرب وغيره ، عند ما كان بمصر والبصرة ، وتركيا ... والهند ، وكذلك المقارنة بين الرطل بالمغرب والمنّ في الجهات

٨٧

الأخرى ، والأوقية والدينار المغربي وما تعرف عليه هناك مما سماه التّنكة ... ولم يفته ، وهو يتحدث عن دور ضرب السّكة في الصّين أن يذكر دور السكة في بلاده المغرب. إن أسعار الخيول هناك غيرها في المغرب ... وإن أسعار الفراء في أرض الظلمة ترتفع إلى مبلغ هائل لا يتصوره شخص نشأ في أرض لا ترتدي الفراء.

وقد رأيناه أحيانا يربط بين المعلومات المتعلقة بآسيا والمعلومات المتصلة بإفريقيا السوداء ... ومن هنا اعتبرت الرحلة في العصر الوسيط دليلا تجاريا للذين تهمهم الدراسات الاقتصادية على ذلك العهد على ما أشرنا إليه (٢١)

ومن الملاحظ أن الرجل كان يتأقلم بسرعة زائدة ، فهو يتعلم اللّغة التي يتكلم بها القوم الذين ينزل بساحتهم ... وقد بدأ يفهم اللغة الفارسية قبل أن يتعلم التركية ، لأن الفارسية كانت منتشرة في المنطقة كلّها حتّى في بلاد الصّين ويكتب اللّغتين بحروف عربية على ما كان عليه الحال ...

وحتى إذا لم يحسن الكلام باللسان فان اذانه تلتقط ما يصلها من جمل وكلمات ، ومن هنا وجدناه يردد بعض الكلمات التي تطرق سمعه بالفارسية والتركية (٢٢) ...

وفي سائر الحالات فانه لم يكن يشعر بمركّب نقص وهو يستعين بترجمان ينقل عنه ما يريد أن يقول ، وفي هذا الصدد ساق بعض النكت التي وقعت له مع بعض التراجمة من الذين يدّعون أنهم يحسنون اللغة!

ومن تأقلمه وجدناه يتناول التنبول منذ وصوله إلى دمشق وأثناء مقامه بمكة المكرمة وبافريقيا الشرقية وطول مقامه بالهند ... إن سائر الأشياء كانت بالنسبة إليه مقبولة ما دامت ترضي من يوجد حواليه شريطة أن لا تخالف مبادئه.

ولم يفت ابن بطوطة أن يتعرف على جنسيات السفن التي كان يمتطيها للقيام برحلته ، بل لم يفته أن يشيد بمن يستحق الاشادة إنصافا وعدلا ، ويندد بمن كان سلوكه لا يرتضى ، لا فرق عنده بين مسلم ونصراني على نحو ما كان يفعله الرّحالة ابن جبير والرّحالة أبو حامد الأندلسي الغرناطي ... ولقد أخذنا فكرة عن الحركة البحرية على عهده ، كما عرفنا عن الأساطيل التجارية التي كانت لها الهيمنة على ذلك العهد ، فقد كان يتنقل مع السفن الجنوية والصّينية واليمنية والعمانية والكطلانية ...

__________________

(٢١) د. أحمد مطلوب : الملامح الاقتصادية في رحلة ابن بطوطة ، المجمع العلمي العراقي ١٩٩٤.

(٢٢) د. عادل خلف : معجم ألفاظ ابن بطوطة غير العربية ـ الملاحظات اللغوية لابن بطوطة ١٩٩٤ مكتبة الآداب ، القاهرة. التازي : ابن بطوطة استثمار عربي : المجمع الثقافي أبو ظبي ـ ماي ١٩٩٦

٨٨

ومن الملاحظ أنه أي ابن بطوطة لم يتحدث ـ وهو عائد إلى المغرب ـ عن السفن أو المراكب المغربية ، مع العلم أن السلطان أبا الحسن المريني كان في تونس يتوفر على عدد من قطع الاسطول المغربي ، ولكنه أي ابن بطوطة فضّل أن يعود ، كما نعلم ، عن طريق أحد المراكب القطلانية حتّى لا يحرج أحدا بمطلب ...!

والحديث عن المراكب يسلمنا إلى الحديث عن الرياح الطيبة وتحكّمها في مواعد السفر ، وهذا موضوع من الأهمية بمكان ، وقد أصبح ابن بطوطة من العارفين بالرياح والقنباص.

وقد كوّن لديه الوضع الاجتماعي للمرأة ومركزها عند الأمم التي زارها أفكارا لا تخلو من إراف وإتحاف ، وقد تحدث عن النساء المتجملات المتعطرات في مكة ...

إذا قامتا تضوّع المسك منهما

نسيم الصبّا جاءت بريّا القرنفل!

وتحدث عن عفة المرأة وشفقتها وهو في خراسان ، كما تحدث عما تبلغه المرأة من مكانة سامية في بلاد الترك والتتر حتّى أن القرارات لا تصبح نافذة إلا إذا صدرت عن أمر الخواتين إلى جانب السلاطين!! وحتّى بلاد السودان والصحراء عند ما تتمتع السيدة بحريتها في التعامل الشريف .... وعند ما تتميز باستظهار القرآن في هنور من بلاد الهند!

انّ الرحلة مع ابن بطوطة في عالم المرأة يجعلك تشعر بأن الرجل نموذج للصراحة والبراءة معا، فهو رجل مقروء مفتوح ، وهو يسمّي الأشياء بمسمّياتها بدون لفّ ولا دوران ، فكان يعبر بذاك عن قوة شخصية عند ما يحكي عمّا تخفيه مكامنه ... لم يجد أيّ حرج في الحديث عن الخصومة التي شبّت بينه وبين صهره لزوجته الأولى الصفاقسيّة ... ولم يجد ما يمنعه لكي يقترح توقيف ركب الحاج في الجبل الأخضر حتى يحتفل بعرسه على سيدة فاسية كانت ترافق والدها إلى مكة ...!

ولم تكن هذه (الفاسية) هي الثانية والأخيرة في حلقات السلسلة الطويلة لزوجاته التي قد تكون بدأت من طنجة! فقد تزوج بدمشق عند زيارته الأولى حفيدة لمكناسي كان مقيما هناك ، وقد عرفنا من أسماء زوجاته الأسيويات (مباركة) و (الحور نسب) ، أما اللاتي لم نعرف عن اسمهن فعددهن كثير وكثير!.

ويتأكد أن قلّة السّراج الذي يساعد على السّمر هو الذي كان وراء الرحالة المغربي في البحث عمن تعوضه عن الحديث والسراج! وكما سنرى فإنه لم يشعر بأي خجل في المقارنة بين هذه أو تلك ، ليس فقط من حيث الأخلاق والسلوك والعشرة ولكن من حيث إرضاء الرغبات الجنسية كذلك!

٨٩

ولم ينس ابن بطوطة في كل مناسبة أن يهتم بكلّ ما يقوي الباءة ويساعد على المضاجعة!! فهو يتحدث دوما عن الوصفات الطبّية التي تقوّي الظهر ، ولا شك أن مثل هذه الشهادات مما يزيد في صدق المقولة السائرة بأن العرب يتميّزون عن غيرهم فيما يتصل بهذه الحقول!!

وفي هذا الصدد أيضا لم يغفل ابن بطوطة عن التّنويه بالسّيدات المهرتيات (Les mahrattes) اللّاتي" كان لهنّ من طيب الخلوة والمعرفة بحركات الجماع ما ليس لغيرهن". وقد شغله أمر اهتمام السلطان بالملكة (طايطو غلي) وحظوتها عنده دون سائر الخواتين حتى اهتدى للسرّ الذي حاول أن يصل إلى حقيقته!!

ولا شك أن هذا الحديث يتبعه الحديث عن الذّرية التي خلّفها ابن بطوطة في تلك الجهات ومن غير أن نعتبر أن هذا ممّا يدخل في اطار حياته الخاصة كما يقولون اليوم. فإن ما عرفناه من تلك الذرية هو اسم أحمد الذي تركه حيّا بالهند عند الامير غياث الدّين والذي قال عنه : إنه لم يعرف ما فعل الله به! في حين تحدث فيه عن بقية أولاده بما نعرفه ...

٩٠

بين ماركو بولو وابن بطوطة

لقد اقترن الحديث عن ماركو بولو البندقي بالحديث عن ابن بطوطة الطنجي لدى كل الذين اهتموا بالرحالة ، وخاصة عند علماء الغرب ، (١)

وقد كان من حقّهم أن يفعلوا ، فإن الأول هو الذي قصد ـ قبل نحو من ستين سنة من تحرك ابن بطوطة ، بلاد الشرق الأقصى وسجلت مذكراته التي كانت محل تعليق واسع ... لكنّ الملاحظ أنّ رحلة ابن بطوطة اتسع فضاؤها أكثر مما كان الأمر بالنسبة لرحلة ماركو بولو علاوة على الحصيلة العلمية التي كانت تختلف من الواحد إلى الآخر ...

وهكذا فإذا كان ابن بطوطة قد حقق رحلته وحيدا ، وإذا كان محرر رحلته ابن جزي كان يقتصر على إضافات محدودة وموثقة ، فإن محرر رحلة ماركو بولو روستيشيلو (RUSTICHELLO) كان يضيف من خياله على ما لاحظه بعض المعقّبين وخاصة عند الحديث عن الصين (٢) ... يضاف إلى كل هذا أن رحلة الأول اقتصرت على آسيا دون افريقيا وأوربا ... ومعنى هذا أن الجمهور الذي عرف عن الرحالة المغربي كان أوسع من جمهور ماركوبولو. وفي معرض اعتزاز ابن بطوطة بطول نفسه في الرحلة ، واتساع رقعة منهاجه في التجوال ذكر أنه يفوق السائح المصري الشيخ عبد الله الذي لم يدخل لا إلى الصّين ولا إلى جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان. وأعتقد أنه لو قدر لابن بطوطة أن يجتمع بماركو بّولو لعلّق بمثل ذلك التعليق ، إذ إننا عرفنا أن الأراضي التي زارها الرحالة المغربي كانت تفوق كثيرا وكثيرا ما قطعه ماركو بّولو.

وقد تفوق رحالة طنجة على رحالة البندقية بشيء أهمّ وهو أنه استطاع أن يمتزج مع سكان البلاد التي وصلها عن طريق المصاهرات ، وعن طريق الوظائف السامية التي تقلدها والاتصالات التي كان يجريها مع مختلف الأوساط ، الأمر الذي كان يرضي فضوله وتطلعاته المتنوعة والمتجددة في ذات الوقت. ويكفي ـ لكي نعرف حجم الرجلين ونعرف مع هذا مدى رصيد الجانب المعرفي لكلا العملين ـ يكفي أن نقوم بجرد لعدد الأسماء الجغرافية التي وردت عند هذا وذاك ، وأن نعدّ الأعلام الشخصية التي جاءت في مذكرات الأول والثاني ، يكفي ذلك لنخلص إلى الإشادة بذاكرة الرحالة المغربي التي استطاعت أن تختزن كل تلك الأسماء جغرافيا وانسانيا ، وأن تحتفظ بشكلها وضبطها ومواقعها بالرغم من العدوان الذي وقع على مذكراته. إن كل ذلك الاستظهار وذلك الاستيعاب كان فوق طاقة البشر حقّا. وحتى جانب الاتحاف والإطراف في كلا الرحلتين كان يبرز، دون تردد ، تفوق ابن بطوطة. وقد مر ويمر بنا

__________________

(١) Jacques HEERS : MARCO POLO ,FAYARD ـ ٣٨٩١

(٢) FRANCES WOOD : DID MARCO POLO GO TO CHINA ـ LONDON ٥٩٩١

كراتشوفسكي : تاريخ الأدب الجغرافي العربي ـ ص ٤٥٦ د. التازي : منطقة الخليج بين ماركو بولو وابن بطوطة ـ بحث قدم للندوة الدولية التي نظمها مركز جمعة الماجد ، دبي ـ الإمارات العربية المتحدة. أبريل ١٩٩٦.

٩١

٩٢

كان ابن بطوطة أول مغربي أخذت له منذ عام ٧٤٧ ـ ١٣٤٦ عدة صور بمختلف المدن الصينية بمناسبة زيارته لتلك الجهات (ج ٤ ص ٢٦٢).

وإذا فاتنا الحصول على تلك الصور ، فإنه لا يفوتنا أن نقدم هنا رسما من عمل ليون بينيط (Leon Benett) من القرن التاسع عشر يتخيل ابن بطوطة في مصر ، حيث تحدّى زميله الشيخ عبد الله الذي لم يبلغ الصين ...! هذا الرسم أخذناه من أرشيف روجي فيولي (ROGER ـ VIOLLET) باريز بعد الإذن رقم ٧٧٨ بتاريخ ١١ / ٤ / ٩٤.

نشير بالمناسبة إلى محاولات لاحقة لتخيّل صورة لابن بطوطة كان فيها ما ظهر على طابع بريدي يوم سابع مايه ١٩٦٣ ضمن أعلام المغرب العربي ثم يوم ثاني غشت ١٩٦٦ لمناسبة تدشين خط حاملة السيارات ، ابن بطوطة طنجة ـ مالقة ثم ما نشره أبيركرومبي في (ناسيونال جيوگرافيك) دجنبر ١٩٩١ وما قدّمه محمد الادريسي إلى دار الأدب في فرانكفورت (العلم ١٤ / ٩ / ١٩٩٥) وأخيرا الطابع الذي هيأته وزارة البريد ١٩٩٦ بمناسبة الملتقى الدولي المزمع تنظيمه حول الرحالة ، وهو يحتوي على النقش الذي وقف عليه ابن بطوطة في مسجد مالديف ...

٩٣
٩٤

رحلة ابن بطوطة

في

الدراسات الاستشراقية

٩٥
٩٦

رحلة ابن بطوطة في الدّراسات الاستشراقية

نال المغرب نصيبا وافرا في الدّراسات الاستشراقية ، ليس فقط لأنه غني بما يزخر به من تراث حضاريّ هائل ، وليس فقط لأنّه البلد الوحيد الذي ظل يتمتّع بكيانه كدولة طوال عصور متتابعة ، ولكن لأنّ مركزه الجغرافيّ ووضعه بين الأمم الأخرى جعل منه بلدا إفريقيّا وبلدا عربيا وبلدا مسلما ، وبلدا له حضور قويّ في القارة الأوربية (١).

ومن ثمّت كان محلّ اهتمام من لدن الذين تشغلهم إفريقيا ، وممن يهتمّون بالعالم العربي والعالم الإسلامي ، وأخيرا من الذين يولون عنايتهم للعلاقات التي شدّت أوربّا بعالم المشرق والمغرب.

وهكذا فنحن أمام اهتمام متنوّع يتناول سائر الفضاءات التي ربّما لا يخطر بعضها على البال.

لقد وجد المستشرقون في كلّ ذلك التّراث مجالا واسعا لنشاطهم لأنّه من جهة يساعدهم على فهم الجهات الأخرى ، ولأنه من جهة ثانية يعطي صورة دقيقة عن نمط خاصّ يتميز عن الأنماط التي عرفوها في بعض الأنحاء ...

وسينصبّ حديثنا هنا على موقف المستشرقين من رحلة ابن بطوطة إن في حديثها عن القارة الإفريقية أو الأسيوية أو الأوربية ...

لقد كانت أصداء وجود رحلة ما لابن بطوطة تجاوزت بلاد المغرب عند ما روّج أخبارها ابن خلدون في مقدمته والتمجروتي في رحلته وكذلك المقرّي في كتابه نفح الطيب ، هذا إلى أصداء الرسالة الهامة التي وقفنا عليها ضمن الوثائق التي كان يتوفر عليها الدبلوماسي النمساوي المستعرب ضومباي (DOMBAY) على ما عرفنا في فصل (مخطوطات الرحلة) ...

وهكذا فبعد كلّ تلك الأصداء والأخبار مما عرفنا ومما لم نعرف ، أخذ المستشرقون يبحثون عن نسخها الأصلية ، ولكنهم لم يجدوا إلّا مختصرا اكتشفه المستشرق العالم

__________________

(١) اقتبست من هذا البحث في تدخلي عند الندوة التي عقدتها أكاديمية المملكة المغربية بمدينة مراكش يوم ٥ ـ ٦ أبريل ١٩٩٣ ـ حول الدراسات الاستشراقية والمغرب ـ وكالة المغرب العربي للأنباء ـ جريدة (العلم) ٨ أبريل ٨ أبريل ـ (البيان) باللغة الفرنسية ٩ أبريل ـ (الشرق الأوسط) (الأنباء) ١٠ أبريل (الميثاق الوطني) ٨ أبريل ١٩٩٣ ـ (النضال الديمقراطي) ٨ أبريل ـ (الأهرام) ٣٠ أبريل ـ مجلة (ضفاف) المغربية ماي ١٩٩٣. مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية ، سلسلة الندوات ١٤١٣ ـ ١٩٩٣.

٩٧

الألماني بوركهارت (Burckhardt) الذي كان أول من أثار انتباه أروبا لهذه الرحلة في أعقاب المهمة التي كلف بها في إفريقيا عام ١٨٠٩ (٢).

وقد حصل سيتزن (Seetzen) ـ وهو بالمشرق ـ حوالي سنة ١٨١٠ على طائفة من المخطوطات لفائدة مكتبة گوثه (Goethe) كان من بينها تأليف من أربعة وتسعين صفحة يحتوي على مختصر ـ كذلك ـ لرحلة ابن بطوطة.

وبعد مضيّ عشر سنوات على عمل سيتزن (Seetzen) نشر المستشرق الألماني كوسگارتن) Kosegarten) ، بمناسبة ندوة أكاديمية عام ١٨١٨ مقالة تحتوي على نصّ مصحوب بالترجمة لثلاث قطع من ذلك المختصر.

وهكذا كان كوسگارتن الباحث الأوّل الذي قدم إلينا بعض المقاطع من الرحلة ، الأمر الذي مكّن أحد الجغرافيين من التعرّف على مسالك السّودان ... لقد نشر كوسگارتن ثلاث مقتطفات من ذلك المختصر : إحداها عن رحلة ابن بطوطة إلى إفريقيا ، والثانية عن رحلته إلى بلاد فارس ، والثالثة عن رحلة ابن بطوطة إلى مالديف ، وإضافة إلى هذا أعلن كوسگارتن عن نيته في أن يقوم بنشر سائر المختصر ، لكن مشروعه هذا لم يتمّ ...

إلّا أنّ أحد تلامذته أبّيتز (Apetz) قام عام ١٨١٩ بنشر مقتطفة رابعة من ذلك المختصر عن بلاد الفلفل والأبزار : المليبار (Malabar).

وقد شهدت نفس السنة ١٨١٩ ظهور رحلة في بلاد النوبة للمستشرق بوركهارت سالف الذّكر ، وفي الملحق الذي صحب هذه الرحلة للنّوبة نجد تعليقا يتصل بابن بطوطة. وقد تبيّن أن بوركهارت يمتلك مختصرا اخر أكثر ضبطا من المختصر الذي اشتغل عليه سيتزن وكوسگارتن وأپّيتز.

ونذكر من الآن أن بوركهاردت أنصف الرحالة المغربي ابن بطوطة عندما أضفى عليه النعت بأعظم رحّالة يقوم بتسجيل مذكراته في العصر الوسيط ، وهي الشّهادة التي نرى البروفيسور أندري ميكيل بعد قرن وثلاثة أرباع القرن يزكّيها على نحو ما كان من الكاتب الانجليزي أبيركرومبي والأكاديمي الفرنسي جان دورميصون (٣).

__________________

(٢) توفي جوهن لودويج بوركهارت بالقاهرة ١٧ أكتوبر ١٨١٧. عهدت إليه الشركة الإفريقية بلندن بزيارة داخل إفريقيا ، ونظرا لتمكن بوكهارت من اللغة العربية ومن معرفة الدين الإسلامي ، فقد تنكّر في صفة مسلم ، وسافر من القاهرة للنّوبة عام ١٨١٣ ثم زار مكة والمدينة (١٨١٤ ـ ١٥) وشبه جزيرة سيناء عام ١٨١٦ وأخذ يستعد للقيام بسفر طويل في إفريقيا عند ما داهمه المرض ... له من الكتب رحلة إلى بلاد النوبة ١٨١٩ ، ورحلة في سوريا والأرض المقدسة ١٨٢٢ ، ورحلة للجزيرة العربية عام ١٨٢٩.

(٣) يراجع الفصل السابق بعنوان : الأربعة الذين كانوا وراء إنجاز الرحلة ...

٩٨

ولم يكن ذلك المخطوط المختصر المكتشف ـ ونسخه ثلاث ـ من لدن بوركهاردت غير" المنتقي" الذي ألّفه العالم محمد بن فتح الله البيلوني الذي تحدثنا عنه عند تعرضنا للنسخ المخطوطة من ابن بطوطة ، وقد انتقل المخطوط بعد وفاة البيلوني ـ إلى مكتبة جامعة كيمبريدج. وعلى هذا المخطوط ، وتحت إشراف الجمعية التي تعني بترجمة المكتبة الشرقية اشتغل العالم المستشرق صامويل لي (Samuel lee) فترجمه إلى الإنجليزية وزوّده بعدد من التعليقات المفيدة.

وعن هذا المختصر قال دوزي كلمته الصادقة التي سجلها عند الحديث عن مخطوطة ابن بطوطة التي كان يمتلكها المؤرخ الإسباني دي كايانكوس De Gayangos على ما أسلفنا.

وأحب أن أضيف هنا معلومة أخرى ، تلك أنه إلى جانب (منتقى) البيلوني ، وجدنا في المشرق ، وبالذات في مصر (منتخبا) آخر للرحلة مجهول المؤلف ولكنه عرف بعنوان" مختصر الأزهري» على ما قلناه ...

وبعد هذا الحديث عن هذه المختصرات للرّحلة ، أنتقل إلى (الرحلة) في نصها الكامل ، وعلى ما عرفت به بعد في التاريخ المعاصر بسفريها الأول والثاني.

وهنا نلاحظ أن المستشرق البرتغالي الأب جوزي دي سانطو انطونيو مورا (P.Jose de Santo Antonio Moura) قام عام ١٧٩٧ بترجمة السفر الأوّل من الرحلة الأصلية إلى البرتغالية ونشرته" الأكاديمية" في ليشبونة عام ١٨٤٠ على ما أسلفناه ...

وهذه الترجمة تقوم على مخطوط كان هذا الأب اشتراه أثناء مقامه بمدينة فاس عندما صحب السفارة البرتغالية ـ ترجمانا ـ إلى بلاط العاهل المغربي السلطان مولاي سليمان عام ١٢١١ ـ ١٢١٢ ـ ١٧٩٧ ـ ١٧٩٨ قريبا من تاريخ مقام ضومباي بطنجة وكذلك تاريخ مقام دولابّورط بها وبمدينة الصويرة ...

وفي مقدمته يؤكد الأب مورا أنه قام بترجمة أمينة لهذا الجزء مضيفا إلى هذا أن المخطوط مكتوب بخط جميل ومعتنى به أكثر ما يكون الاعتناء ، بل إنه (أي الأب مورا) يعتقد أنه منقول مباشرة من النسخة التي كتبها ابن جزي بخطه (٤)

ومما يلاحظ أنّ الأب (مورا) لم يبدأ الترجمة إلى البرتغالية إلّا من الفقرة التي تتحدث عن خروج ابن بطوطة من طنجة لأنه ـ على ما قال ـ لم يعثر على الورقتين الأوليين لهذا السفر ، وفعلا فإن المخطوط كما وقفت عليه في مكتبة الأكاديمية العلمية بلشبونة عدة مرّات مبتور الورقات الأولى ...

__________________

(٤) Jose de Santo Antono Moura : Viagens exetensas e di Latadas do celebre Arabe Abu ـ Abd Allah, mais conhecido pelo nome de Ben ـ Battuta, Lisboa.١٨٤٠.

٩٩

وقد كان مما لوحظ على عمل الأب مورا أنه أسقط الأبيات الشعرية من حسابه فلم يترجمها! بل وقد أهمل كلّ النقول عن ابن جبير إلخ ... أكثر من هذا. لقد حذف بعض المقاطع برمّتها ، مثلا ما يتصل بعلماء الإسكندرية ... وقد برّر هذا الصنيع منه بقوله : " إن اللائحة واسعة ومزعجة." وهكذا كان عمله عند ذكر ملوك مصر وقضاتها وعلمائها وأعيانها ... وكان هذا فعله وهو يصف مكة والمدينة ... إنّ ما حذفه كان يوازي ربع السفر الأوّل ، علاوة على تساهله في ضبط المواقع الجغرافية والشخصية على ما لاحظه الباحثان المعروفان رينو (Reinaud) ودوزي (Dozy).

والحديث عن محاولة الأب مورا يجرّنا إلى الحديث عن بقية من حاولوا ترجمة الرحلة .... وهنا لابد من التّذكير بأن هناك أجزاء كثيرة ومهمة من الرحلة الأصليّة أمست مترجمة إلى عدة لغات ...

وقد كان في أوّلها قطعة جيّدة تتعلق بالسّودان ترجمها البارون دوسلان مصحوبة بعدد من التعاليق ، ومتبوعة ـ وهذا مهمّ ـ بخطاب بعث به دوسلان إلى رينو حول المخطوط الأصلي للرّحلة (٥).

وقد أتى بعد هذا إدوار دولوريي (Edouard Dulaurier) فقدم إلينا في (جورنال أسياتيك (٦)) النصّ والترجمة مصحوبين بالتعاليق للقسم من الرحلة الخاص بجزر الأرخبيل الهندي ، ثم قام كلّ من ديفريميري (Defremery) وسانكينيتي (Sanguinetti) مرّات متلاحقة بترجمة أطراف واسعة من الرحلة الأصلية. وهكذا نشر ، بادى الأمر ، القسم الخاص برحلة ابن بطوطة إلى فارس وإلى آسيا الوسطى (٧) ، ثم كان الحديث عن الرحلة إلى القرم وقفجق (٨) ثم أيضا الرحلة إلى آسيا الصغرى (٩) ... ثم الفصل المتعلق بالسلطان المغولي الذي كان يحكم العراقين : عراق العرب وعراق العجم ويحكم كذلك خراسان وهو السلطان أبو سعيد بهادور (١٠) طبعا كلّ هذه الأعمال كانت مصحوبة بالتعاليق التي يقتضيها الحال أنذاك.

وفي بداية سنة ١٨٥٢ قدّم شيربونو (Cherbonneau) أستاذ العربية بقسطنطينة ترجمة مختصرة لقسم أول من الرحلة إلى أن أخذ ابن بطوطة طريقه نحو سوريا ، علاوة على المقدمة

__________________

(٥) Journal Asiatique ,Mars ٣٤٨١.P.١٨٤.

(٦) Journal Asiatique, Fev. in ٢٨ de ٦٩ pages, Mars ٧٤٨١

(٧) Nouvelles annales des voyages, janv., Avril, Juill. ٨٤٨١.

(٨) Journal Asiatique ,Juillet et Septembre ٠٥٨١.

(٩) Annales des voyages, Decembre ٠٥٨١ Janv. mars, Avril ١٥٨١.

(١٠) Journal Asiatique ,Fev.,Mars ١٥٨١.

١٠٠