رحلة ابن بطوطة - ج ١

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ١

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-007-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٤٣١

بها وتركتهم هنالك وارتحلت مع رفقة من تجار تونس منهم الحاج مسعود بن المنتصر والحاج العدولي ومحمد بن الحجر فوصلنا مدينة الجزائر (٢٢) وأقمنا بخارجها أياما إلى أن قدم الشيخ أبو عبد الله وابن القاضي فتوجّهنا جميعا على متّيجة (٢٣) إلى جبل الزّان ، ثم وصلنا إلى مدينة بجاية (٢٤) فنزل الشيخ أبو عبد الله بدار قاضيها أبي عبد الله الزواوي ونزل أبو الطيب ابن القاضي بدار الفقيه أبي عبد الله المفسر. وكان أمير بجاية إذ ذاك أبا عبد الله محمد بن سيّد الناس الحاجب (٢٥) ، وكان قد توفي من تجار تونس الذين صحبتهم من مليانة محمد بن الحجر الذي تقدم ذكره وترك ثلاثة آلاف دينار من الذهب (٢٦) ، وأوصى بها لرجل من أهل الجزائر يعرف بابن حديدة ليوصلها إلى ورثته بتونس فانتهى خبره لابن سيّد الناس المذكور فانتزعها من يده ، وهذا أول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم!

ولما وصلنا إلى بجاية كما ذكرته أصابتني الحمّى فأشار عليّ أبو عبد الله الزّبيدي بالاقامة فيها حتى يتمكن البرء مني ، فأبيت ، وقلت : إن قضى الله عزوجل بالموت فتكون وفاتي بالطريق ، وأنا قاصد أرض الحجاز. فقال لي : أمّا إن عزمت فبع دابتك وثقل المتاع وأنا أعيرك دابة ، وخباء وتصحبنا خفيفا فإننا نجدّ السير خوف معرة العرب في الطريق! ففعلت هذا وأعارني ما وعد به ، جزاه الله خيرا ، وكان ذلك أول ما ظهر لي من الألطاف الالاهية ، في تلك الوجهة الحجازية.

__________________

(٢٢) كانت مدينة الجزائر (العاصمة الحالية) تابعة لمملكة تلمسان ...

(٢٣) متّيجة :(Mittija) وليس منيجة كما حرفت عنه بعض الناشرين! علم جغرافيّ ، وليس اسما لأداة من أدوات النّقل كما ذكره بعض آخر من الناشرين! هضبات ممتدة جنوب مدينة الجزائر العاصمة شمال البليدة.

ـ جبل الزّان (جبل البلوط) فهو القسم الشرقي لسلسلة جبال القبائل ... أنظر دائرة المعارف الاسلامية بالفرنسية مادة (مدية) ـ Medea.

(٢٤) بجاية : تكوّن في ذلك العصر واجهة للمملكة الحفصية ، هذا ويلاحظ إصرار ابن بطوطة على اعتبار سلاطين المنطقة على أنهم فقط «عمال الموحّدين وولاتهم»!!

(٢٥) عند ما استقر الأمر لأبي يحيى أبي بكر بتونس عين ولده أبا زكرياء واليا على بجاية ، ونظرا لصغر سنة عزّزه بموظف سام كان هو ابن سيّد الناس الذي ينحدر من عائلة عربية شهيرة باشبيلية وهو الذي سيصبح حاجبا للملك من تاريخ ٧٢٧ ـ ٧٣٢ ـ ١٣٢٧ ـ ١٣٣٢ وهو التاريخ الذي انتهت فيه حياته. ابن القنفذ : الفارسية ـ العروسي المطوي : السلطنة الحفصية.

(٢٦) وزن الدينار الذهبي يساوي مثقالا واحدا ، يعني حوالي ٥ ، ٤ گرام ذهبي ...

١٦١

١٦٢

١٦٣

وسرنا إلى أن وصلنا إلى مدينة قسنطينة (٢٧) فنزلنا خارجها وأصابنا مطر جود إضطرنا إلى الخروج عن الأخبية ليلا إلى دور هنالك ، فلما كان من الغد تلقانا حاكم المدينة وهو من الشرفاء (٢٨) الفضلاء يسمى بأبي الحسن (٢٩) فنظر إلى ثيابي وقد لوّثها المطر فأمر بغسلها في داره وكان الإحرام(٣٠) منها خلقا فبعث مكانه إحراما" بعلبكيا" وصرّ في أحد طرفيه دينارين من الذهب ، فكان ذلك أول ما فتح به علي في وجهتي. ورحلنا إلى أن وصلنا مدينة بونة (٣١) ونزلنا بداخلها وأقمنا بها أياما ثم تركنا بها من كان في صحبتنا من التجار لأجل الخوف في الطريق (٣٢) ، وتجردنا للسير وواصلنا الجد وأصابتني الحمى فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب الضعف ولا يمكنني النزول من الخوف إلى أن وصلنا مدينة تونس فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبد الله الزّبيدي ، ولقاء أبي الطيب ابن القاضي ابي عبد الله النفزاوي ، فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال ، ولم يسلّم علىّ أحد لعدم معرفتي بهم فوجدت من ذلك في النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة واشتد بكائي فشعر بحالي بعض الحجاج فأقبل عليّ بالسلام والإيناس. وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة الكتبيين (٣٣).

__________________

(٢٧) يلاحظ أن ابن بطوطة وصل إلى قسنطينة بعد رفع الحصار الذي كان مضروبا عليها والذي استمر طوال نصف شهر، حسب المعلومات التي قدمها إلينا ابن خلدون وابن القنفذ.

(٢٨) نعت (الشريف) بالمغرب يدل على المعنى الذي تقصده كلمة" السيّد" في المشرق ، اعني المنحدر من السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢٩) كانت ولاية قسنطينة مسندة أيضا للأمير أبي عبد الله محمد أحد أبناء أبي يحيى أبي بكر الحفصي ، ولكنه نظرا لصغر سنة عزز كذلك بأحد أرباب الدولة ، وربما كان أبا الحسن أحد أولئك القواد ، ابن القنفذ : الفارسية.

(٣٠) لا يقصد بالإحرام هنا الثوب الذي يرتديه الحاجّ (الغير المخيط والمحيط) ، ولكن القصد إلى ثوب يجعل على الرأس ويمتدّ إلى الأكتاف على نحو الطيلسان ...

(٣١) بونة هي بالذات عنابة ، وقد كان واليها أيضا على ذلك العهد الأمير الفضل أحد أبناء أبي يحيى أبي بكر على نحو تعيين ولده أبي العباس بقفصة وولده خالد بالمهدية وولده أبي فارس بسوسة ... ابن القنفذ : الفارسية.

(٣٢) الاشارة هنا إلى الحرب الأهلية التي كانت تشهدها المنطقة بين الزّعماء المحليين وأنصارهم ... ابن القنفذ : الفارسية ...

(٣٣) لا ينبغي أن نغفل هنا دور هذه المنشآت التي عرفت بالمدارس ، إنها ـ في الواقع ـ عبارة عن" أحياء جامعية" تؤوي الطلاب من سائر الجهات حيث يتكونون ليصبحوا أطرا هامة في الدولة ... وقد عرفت مختلف جهات المغرب الكبير عددا من هذه المدارس ، وخاصة عهد بني حفص وعهد بني عبد الواد وبني مرين. أما عن مدرسة الكتبيين بمدينة تونس فيظهر أنها المدرسة التي بناها الأمير أبو زكرياء المتوفى عام ٧٠٠ ه‍. ـ ابن القنفذ : الفارسية ، صفحة ١٥٥ المصدر السابق.

١٦٤

قال ابن جزي : أخبرني شيخي قاضي الجماعة أخطب الخطباء أبو البركات محمد بن محمد بن ابراهيم السلمي ، هو ابن الحاج البلفيقي (٣٤) أنه جرى له مثل هذه الحكاية ، قال : قصدت مدينة بلش (٣٥) من بلاد الأندلس في ليلة عيد برسم رواية الحديث المسلسل بالعيد عن أبي عبد الله بن الكماد وحضرت المصلّى مع الناس فلما فرغت الصلاة والخطبة أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام وأنا في ناحية لا يسلم عليّ أحد فقصد إليّ شيخ من أهل المدينة المذكورة وأقبل عليّ بالسلام والإيناس ، وقال : نظرت إليك فرأيتك منتبذا عن الناس لا يسلّم عليك أحد ، فعرفت أنك غريب فأحببت إيناسك ، جزاه الله خيرا.

ذكر سلطان تونس

وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبو يحيى ابن السلطان أبي زكرياء يحيى ابن السلطان أبي اسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكرياء يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص (٣٦) رحمه‌الله ، وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء ، منهم قاضي الجماعة بها

__________________

(٣٤) البلفيقي : نسبة إلى حصن بلفيق (VELFIQUE) ، وقد ترجم غير واحد لهذه الشخصية الشهيرة في الأندلس والمغرب ٦٦٤ ـ ٧٧٢ ـ ١٢٦٦ ـ ١٣٦٩ ، وقد حلّاه المقري بنادرة الزمان ، كان من هواياته الغريبة المفضلة ملازمته للبناء يستمتع برؤية الطوب والأحجار بل وبالمشاركة الفعلية في بناء المساجد والآبار والحصون ، وقد افتخر بذلك في شعره ... وله صيغة فريدة في إنشاء عقد طلاق زوجته أمّ العباس عائشة بنت الوزير الكناني ، ومن النصائح المنقولة عنه : " أنّ العالم متى واظب على العطاء كثر علمه" ... وقد كان من المهام التي أسندت إليه سفارته لبلاط فاس لتعزية أبي بكر السعيد في والده السلطان أبي عنان ، وهنا أنشد :

لما تبدّلت المجالس أوجها

غير الذين عهدت من جلسائها

أنشدت بيتا سائرا متقدّما

والعين قد شرقت بجاري مائها

" أمّا القباب ، فإنّها كقبابهم

وأرى نساء الحيّ غير نسائها"!

وقد كان قاضيا للجماعة عند زيارة ابن بطوطة للأندلس ...

العباس ابن ابراهيم : الإعلام : ج ١ ص ١٥٤. المطبعة الملكية ـ الرباط ١٩٧٤.

المقري : نفح الطيب ، ج ١ ص ٥١٦ ص ٤٧١ تحقيق إحسان عباس. دار صادر ـ بيروت ١٩٦٨.

د. التازي : المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي ص ١٧ ـ ١٨ ـ ١٩ ، مطبعة النجاح الجديدة ـ البيضاء ، رقم الإيداع القانوني ٧٠١ ـ ١٩٩٢.

(٣٥) بلش مالقة (VELEZMALAGA) تقع شرق مالقة غربي المنكّب.

(٣٦) كان والد أبي يحيى أبي بكر سلطانا لبجاية ، أما عن جده الأعلى الذي يحمل نفس الاسم والذي تملك الحكم من سنة ٦٢٦ إلى ٦٤٧ ـ ١٢٢٨ ـ ١٢٤٩ ، فقد كان هو المؤسس للدولة الحفصية بتونس على ما ذكرنا بعد الفصالة من الموحّدين ...

١٦٥

١٦٦

١٦٧

أبو عبد الله (٣٧) محمد ، بن قاضي الجماعة أبي العباس (٣٨) أحمد ، بن محمد بن حسن ، بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل ثم التونسي ، هو ابن الغمّاز ومنهم الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع الرّبعي ، وولى أيضا قضاء الجماعة في خمس دول (٣٩) ، ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قدّاح الهواري وولى أيضا قضاءها وكان من من أعلام العلماء (٤٠) ، ومن عوائده أنه يستند كل يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة (٤١) ويستفتيه الناس في المسائل ، فلما أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك.

وأظلني بتونس عيد الفطر فحضرت المصلى وقد احتفل الناس لشهود عيدهم وبرزوا

__________________

(٣٧) عين أبو عبد الله محمد الغماز قاضيا بتونس منذ دخول أبي يحيى لهذه المدينة في يونيه عام ١٣١٨ ربيع الثاني ٧١٨.

الزركشي : تاريخ الدولتين ص ٦٦ ـ ٦٧ أطروحة عبد الرحمن عون حول الأبي سالفة الذكر.

(٣٨) كان أبو العباس ابن الغماز (الوالد) قاضيا في بجاية عام ٦٥٩ ـ ١١٢٦ ، وعين قاضيا بتونس عام ـ ١٢٧٩ ٦٧٨ وقد شغل هذه الوظيفة سبع مرات ، وقد سفر للمستنصر الحفصي لدى بعض ملوك المغرب ، توفي عام ٦٩٣ ـ ١٢٩٣ ـ العبدري : الرحلة ٢٤٠. محمد محفوظ : تراجم المؤلفين التونسيين ، ج ٣ ص ٤٦٤ ـ دار الغرب الإسلامي ، بيروت ١٤٠٤ ـ ١٩٨٤. ـ محمد الحبيب الخوجة : الحياة الثقافية بإفريقية صدر الدولة الحفصية ، مجلة الكلية الزيتونية ـ العدد ٤ ، ١٩٧٦ ـ ١٩٧٧ ـ عبد الرحمن عون : الإكمال مصدر سابق.

(٣٩) توفي الرّبعى سنة ٧٣٥ ـ ١٣٣٤ ، ولقد ورد ذكره كقاضي سنة ٧٢٩ ـ ١٣٢٩ ، ويلاحظ أن ابن حجر يقول عنه : إنه ابراهيم بن الحسن لا الحسين .. الدررI ، ٢٣ وإن الدول الخمس ترجع بنا إلى عام ٧٠٨ ـ ١٣٠٩ .. محمد الحبيب الخوجة : المجلة الزيتونية عدد ١٩٧٦ ـ ١٩٧٧ ص ١٨ ـ ٤٤ وانظر أطروحة عبد الرحمن عون حول الأبي. المعهد الأعلى لاصول الدّين ، جامعة الزيتونة ص ١٥ ـ ١٦ ـ ١٨ ـ ٥١ ـ ٥٣.

(٤٠) لم يكن ابن قدّاح معروفا فقط بشهرته في إعطاء فتاويه الفقهية ، ولكن أيضا بالمنقبة التي تميّز بها وهو أنّه يعين الموظفين في الشؤون الإسلامية وذلك بهدف أن يجد منافذ لطلبة المدارس العلمية ويفسح للآخرين مجال الفائدة ، توفي ٧٣٤ ـ ١٣٣٣. ابن القنفذ : الفارسية. ابن حجر : الدررIII ، ١٧٩ وذكره الأبّي في إكمال الاكمال ـ وله" المسائل الفقهية التي حققها زميلنا د. محمد أبو الأجفان ونشرها مركز الدراسات الاسلامية بالقيروان.

(٤١) يعتبر جامع الزيتونة الذي بني منذ عام ١١٦ ـ ٧٣٤ بتونس من أبرز المراكز الثقافية في الغرب الاسلامي ويأتي بعده جامع القرويين الذي أسس بفاس عام ٢٤٥ ـ ٨٥٩ ، ثم جامع الأزهر بمصر عام ٣٥٩ ـ ٩٧٠.

وسيلاحظ أن الرحالة المغربي الذي يذكر الزيتونة ثم الأزهر ، لم يذكر جامع فاس القرويين الذي استمر في أداء رسالته العلمية دون انقطاع ...

د. التازي : جامع القرويين ، المجلد الأول ص ١٣٣. الطبعة الأولى ، بيروت ، دار الكتاب اللبناني ١٩٧٢.

١٦٨

في أجمل هيئة وأكمل إشارة ووافى السلطان أبو يحيى المذكور (٤٢) راكبا وجميع أقاربه وخواصه وخدام مملكته مشاة على أقدامهم في ترتيب عجيب وصليت الصلاة وأنقضت الخطبة وانصرف الناس إلى منازلهم.

وبعد مدة تعين ركب للحجاز الشريف ، شيخه يعرف بأبي يعقوب السوسي ، من أهل إقلي (٤٣) من بلاد إفريقية ، وأكثره المصامدة (٤٤) ، فقدموني قاضيا بينهم ، وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة (٤٥) سالكين طريق الساحل ، فوصلنا إلى بلدة سوسة وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطىء البحر ، بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلا (٤٦) ، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس(٤٧) وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبي الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه (٤٨).

__________________

(٤٢) كان عيد الفطر لعام ٧٢٥ يوافق ١٠ شتنبر ١٣٢٥ ... وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه أن دخول السلطان أبي يحيى أبي بكر لتونس كان في شوال ... مع أننا رأينا هنا ابن بطوطة يؤكد أنه رآه في هذا العيد ، بل ويذكر أبا يحيى كملك لهذه المدينة لما وصل لتونس في رمضان ، كما يذكر أن السفراء (الذين أهمل ابن خلدون ذكرهم أيضا) وصلوا في الوقت نفسه مع ابن بطوطة مما يحمل على الاعتقاد بأن ابن بطوطة كان أكثر قربا للحقيقة ، هذا وقد قدم لنا العمري تفصيلات مماثلة عن المراسيم السلطانية بتونس ... ابن خلدون : كتاب العبر ، ج ٦ ص ٧٦٧ ، طبعة دار الكتاب اللبناني ١٩٨٥.

(٤٣) كلمة (إقلي) هي التي في سائر المخطوطات الموجودة في الخزانة الملكية بالرباط وبالخزانة الوطنية بباريز وخزانة الأكاديمية الملكية بمدريد وليشبونة ... ويرى الناشران D.S. أن القصد إلى (إقليبية) المعروفة قديما باسم (Clypea) ، وتعرف اليوم باسم قليبية وقد تصرف كيب في النص ورسمها منذ البداية : إقليبية (IQLIBIYA). السوسى نسبة إلى سوسة.

(٤٤) المصامدة : قبيلة أمازيغية تسكن القسم الغربي من الأطلس.

(٤٥) يوافق أول نونبر ١٣٢٥.

(٤٦) سوسة مدينة كبيرة عتيقة بناها الرّومان (HADRUMETUM) واتخذها المسلمون قاعدة لنائب الوالي لما ملكوها وملكوا الشاطئ ، وموقع المدينة جميل وقد خصص لها الحسن ابن الوزان حديثا طريفا ووصف أهلها بأحسن النعوث وقال : إن جلّ أهلها بحّارون في السفن التجارية الذاهبة إلى الشرق ، وكذا يستعملون السفن القرصانية التي تهاجم مدن صقلية المجاورة أو غيرها من المدن الإيطالية ، وسائر السكان من النساجين والفخارين ...

(٤٧) صفاقص (Sfax) مدينة عتيقة بناها الأفارقة على ساحل المتوسط أيام كانوا يحاربون الرومان ، كانت كثيرة السكان ، لكنها أيام الحسن ابن الوزان لم يبق بها سوى ثلاثمائة إلى أربع مائة كانون ... يذهب بعض سكانها بسفنهم ليتجروا في مصروفي تركيا وقد انتسب إليها عدد من رجال العلم والفكر.

(٤٨) هو علي بن محمد الربعي أبو الحسن المعروف باللخمي ، فقيه مالكي له معرفة بالأدب والحديث ، قيرواني الأصل ، نزل صفاقس وتوفي بها عام ٤٧٨ ـ ١٠٨٥ صنف كتبا مفيدة ، من احسنها تعليق كبير على المدونة في فقه المالكية سماه : " التبصرة" أورد فيه أراء خرج بها عن المذهب.

محمد محفوظ : تراجم المؤلفين التونسيين ج ٤ ص ٢١٤.

١٦٩

قال ابن جزي : في بلدة صفاقس يقول عليّ بن حبيب التّنوخى :

سقيا لأرض صفاقس

ذات المصانع والمصلّى

فحمى القصير إلى الخليج (٤٩)

فقصرها السّامي المعلّى

بلد يكاد يقول حين

تزوره : أهلا وسهلا!

وكأنه والبحر

يحسر تارة عنه ويملا

صبّ يريد زيارة

فإذا رأى الرّقباء ولّى!!

وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن أبي تميم وكان من المجدّين المكثرين :

صفاقس لا صفا عيش لساكنها

ولا سقى أرضها غيث إذا انسكبا

ناهيك من بلدة من حلّ ساحتها

عانى بها العاديين : الرّوم والعربا (٥٠)!!

كم ضلّ في البرّ مسلوبا بضاعته

وبات في البحر يشكو الأسر والعطبا

قد عاين البحر قبحا في جوانبها

فكلّما همّ أن يدنو لها هربا!

رجع ، ثم وصلنا إلى مدينة قابس (٥١) ونزلنا بداخلها وأقمنا بها عشرا لتوالي نزول الأمطار.

__________________

(٤٩) يترجم كيب كلمة (المصانع) بالصهاريج والأحواض الأمر الذي يفسّر وفرة الماء بالمدينة ... وينبغي قراءة (فحمي) بالفاء حرف عطف ثم حمى ... وليس محمى بالميم أولا ...

هذا ويضبط الناشران الأولان D.S. كلمة القصير على أنها تصغير قصر ويشكلها گيب بفتح القاف وكسر الصاد.

(٥٠) الاشارة إلى حركات القراصنة المتوالية على الساحل التّونسي واللّيبي مما سنرى ابن بطوطة عند عودته أيضا يشاهده! انظر كراتشكوفسكي : تاريخ الأدب الجغرافي العربي. تعريب صلاح الدين عثمان ، دار الغرب الإسلامي ١٤٠٨ ـ ١٩٨٧ ص ٤٥٩.

(٥١) يقدم ابن الوزان مدينة قابس على أنها من بناء الرومان على ساحل البحر المتوسط في داخل الخليج ... وأن نهب الاعراب لها أدى إلى انحطاطها ...

وقد كان من أغرب ما قاله البكري عن قابس : أنها لم تكن لها مراحيض فيخرج أهلها للخلا ، وحينا يقف عليهم من يأخذ فضلاتهم للسماد وربما تنازع الواقفون على الفضلات فيعطيها صاحبها لمن يشاء! وكذلك نساؤهم لا يرين في ذلك حرجا إذا سترت إحداهن وجهها!! وقد وصفها التيجاني في رحلته بأنها جنة الدّنيا. يلاحظ أن التمجروتي نقل عن ابن بطوطة عنها ما لم يقله!!

١٧٠

قال ابن جزي : في ذكر قابس يقول بعضهم :

لهفي على طيب ليال خلت

بجانب البطحاء من قابس

كأن قلبي عند تذكارها

جذوة نار بيدي قابس!

رجع ، ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس وصبّحنا في بعض المراحل إليها نحو مائةفارس أو يزيدون (٥٢) ، وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب وتحامت مكانهم وعصمنا الله منهم (٥٣) ، وأظلنا عيد الأضحى (٥٤) في بعض تلك المراحل ، وفي الرابع بعده وصلنا إلى مدينة طرابلس (٥٥)! فأقمنا بها مدة ، وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس فبنيت عليها بطرابلس (٥٦) ، ثم خرجت من طرابلس أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين (٥٧) ومعي أهلي وفي صحبتي جماعة من المصامدة ، وقد رفعت العلم ، وتقدمت عليهم وأقام الركب في طرابلس خوفا من البرد والمطر ، وتجاوزنا مسلاتة (٥٨) ومسراتة (٥٩)

__________________

(٥٢) عوض (أو يزيدون) نقرأ في بعض المخطوطات عبارة : (من عرب يزيد) وهو ما في مخطوطة الأمير مولاي العباس المشار إليها في المقدمة ...

(٥٣) إن من يعرف عن هذه الفترة القلقة من تاريخ المنطقة وتنافس الأمراء والزعماء وتأثير الخلافات بين بني حفص وبني عبد الواد لا يجد غرابة في استهداف ركب الحاج للتهديدات التي أشار إليها الرحالة المغربي ... يراجع ابن خلدون في تاريخه كما يراجع ابن القنفذ في" الفارسية".

(٥٤) عيد الأضحى كان يوافق ١٧ نونبر ١٣٢٥.

(٥٥) طرابلس عرفت في التاريخ بإضافة كلمة الغرب إليها تمييزا لها عن طرابلس الشام ، وقد تحدثت الموسوعات الجغرافية كثيرا عن طرابلس ، التي بناها الأفارقة إثر خراب طرابلس القديمة ، وقد كان بها ـ على ما يقول ابن الوزان ـ عدة جوامع وبعض المدارس والبيمارستانات لإيواء المساكين والغرباء ، ويتناول أهلها طعاما يعرف بالبازين الذي تتقن بعض الجهات هناك إعداده ولهم أشعار فيه طريفة ...

د. التازي : أمير مغربي في طرابلس نشر المعهد الجامعي للبحث العلمي ، مطبعة فضالة ١٩٧٦ ص ١٢٢ وما بعدها.

(٥٦) نلاحظ أن ابن بطوطة يبتدئ في طرابلس اللائحة الطويلة للزوجات اللّاتي اقترن بهن لفترات متوالية أثناء رحلته إن لم تكن الزوجة الأولى من طنجة!!

(٥٧) ٢٤ محرم ٧٢٦ توافق أول يناير ١٣٢٦.

(٥٨) مسلاته : يذكر ابن الوزان أنه إقليم على شاطىء البحر المتوسط يكثر فيه النخيل وشجر الزيتون ، كان الإقليم على عهده يختار رئيسه من بين سكانه ويدير شؤون السلم والحرب ، هذا ويلاحظ هنا رفع العلم من لدن فريق من الحجاج كإشارة مميّزة لهم وهو ما لا نزال نلاحظه إلى اليوم في موسم الحج ...

(٥٩) مسراته أو مصراته : إقليم كذلك على شاطىء البحر المتوسط ، يتعاطى أهله التجارة ويقتنون البضائع التي تحملها إلى بلادهم سفن البندقية ...

د. التازي : أمير مغربي في طرابلس ص ١٥٣ مصدر سابق.

١٧١

١٧٢

١٧٣

وقصور سرت (٦٠) ، وهنالك أرادت الجمامزة من طوائف العرب (٦١) الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة وحالت دون ما راموه من إذايتنا. ثم توسطنا الغابة (٦٢) وتجاوزناها إلى قصر برصيص العابد إلى قبة سلّام (٦٣) ، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس. ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته ، وتزوجت بنتا لبعض طلبة فاس (٦٤) وبنيت بها بقصر الزعافية (٦٥) ، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوما وأطعمتهم ...!

__________________

(٦٠) يذكر البكري في المسالك والممالك أن سرت كانت عامرة مزدهرة بالتجارة في القرن الخامس الهجري ... ولهم نخل وبساتين وأبار عذبة وجباب كثيرة ... وقد وجدها ابن الوزان خربة لا يشاهد بها إلا آثار صغيرة من الأسوار.

د. التازي : أمير مغربي في طرابلس ص ١٥٨.

(٦١) هكذا في بعض النسخ ، والقصد على ما يظهر إلى ركّاب الجمّازة التي توجد في بعض النسخ وهي الناقة ... وفي بعض النسخ الاقتصار على كلمة طوائف العرب.

(٦٢) القصد بالغابة على ما يبدو إلى واحة صحراوية تنبث فيها بعض الأشجار ...

(٦٣) يذكر الطاهر الزاوي في كتابه (معجم البلدان الليبية) أنه توجد الآن قرية صغيرة شرقي مدينة بني غازي بنحو ٤٥ ك. م. تسمى برسيس أو برسيسة ، ولا يبعد أن تكون هذه القرية أنشئت في مكان القصر الذي عناه ابن بطّوطة بقوله : " قصر برصيص العابد ، لأن الصحراء كانت ممتدة بعد سرت إلى هذا المكان وإلى ما بعده إلى الشرق ، ولان مدينة بني غازي لم تكن قد أنشئت أيام رحلة ابن بطوطة. وبرصيص هذا رجل من عبّاد بني إسرائيل وزهادهم ، وكان منقطعا للعبادة في صومعة ، فما زال به الشيطان حتى فتنه عن دينه وأخرجه منه ومات كافرا.

وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن برصيص العابد هذا هو الإنسان الذي ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى : " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال : إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" ، ولم يذكر أحد من هؤلاء المفسرين مكانه ولا أين كانت صومعته ، هذا ولم تحدد المصادر التي بين أيدينا كذلك العلم الجغرافي : (قبة سلام). معجم البلدان الليبية ١٣٨٨ ـ ١٩٦٨ مكتبة النور ـ طرابلس / ليبيا ص ٢٦٨.

(٦٤) ابن بطوطة يتزوج فاسية بعد أن فارق الصفاقسية! ويلاحظ أن كلمة (طالب) تعني عند دولة الموحدين طبقة معينة في نظامهم ، وهي تعني عند دولة بني مرين فيما بعد معنى الكاتب.

(٦٥) قصر الزعافية ، لم أقف على تحديد هذا العلم الجغرافي ، فهل القصد إلى قصر الجفارة؟ راجع معجم البلدان الليبية. وقد وقفت في بعض المقيدات التي لا أذكر مصدرها أن القصر المذكور يقع في الجبل الأخضر.

١٧٤

الفصل الثاني

مصر

مدينة الإسكندرية.

من الاسكندرية إلى المحلّة الكبرى شرقا

من المحلة الكبرى إلى القاهرة.

مدينة القاهرة

أعيان القاهرة

من القاهرة إلى حدود البحر الأحمر جنوبا ...

العدول عن طريق البحر الأحمر والعودة إلى سلوك درب الشام.

١٧٥
١٧٦

١٧٧
١٧٨

ثم وصلنا في أول جمادى الأولى (١) إلى مدينة الاسكندرية ، حرسها الله ، وهي الثغر المحروس ، والقطر المأنوس ، العجيبة الشان ، الأصيلة البنيان ، بها ما شئت من تحسين وتحصين ، ومآثر دنيا ودين ، كرمت مغانيها ، ولطفت معانيها ، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها ، فهي الفريدة تجلّى سناها ، والخريدة تجلّى في حلاها ، الزاهية بجمالها المغرب ، الجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرب ، فكلّ بديعة بها اجتلاؤها ، وكل طرفة فإليها انتقاؤها ، وقد وصفها الناس فأطنبوا ، وصنفوا في عجائبها فأغربوا (٢) ، وحسب المتشوف إلى ذلك ، ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك (٣).

ذكر أبوابها ومرساها

ولمدينة الاسكندرية أربعة أبواب باب السّدرة وإليه يشرع طريق المغرب ، وباب رشيد (٤) ، وباب البحر ، والباب الأخضر ، وليس يفتح الا يوم الجمعة فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور ولها المرسى العظيم الشأن ، ولم أر في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى كولم ، وقاليقوط ببلاد الهند ، ومرسى الكفار بسرداق ببلاد الاتراك ، ومرسى الزيتون ببلاد الصين (٥) وسيقع ذكرها.

__________________

(١) التاريخ يوافق ٥ أبريل ١٣٢٦

(٢) يذكر خسرو علوى الذي زار مصر ٤٤٤ ـ ١٠٥٢ أن عدد السفن يناهز الألف سفينة (سفر نامه) ص ٢٤ ويذكر ليوناردو فريسكو بالدي الذي زارها عام ١٣٨٤ ، أن سكانها ستون ألفا ...

(٣) يعتبر الشيخ أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري من الجغرافيين المسلمين الأوائل الدين يرجع إليهم الفضل في التعريف بالتراث الجغرافي العربي ، وهو من أصل أندلسي (ت ٤٨٧ ـ ١٠٩٤) ، وقد اشتهر بموسوعته (المسالك والممالك) التي نشر جزء منها باسم" المغرب في ذكر افريقية والمغرب" عام ١٨٥٧ من قبل البارون دوسلان وترجمه إلى الفرنسية ، كما نشرت منه قطع خاصة بالروس والصقلب ، هذا إلى تأليفه بعنوان" معجم ما استعجم" الذي قام بنشره عام ١٨٧٦"Wustenfele Gottingen " ... يراجع كتاب الجغرافيا لابن سعيد المغربي ، تقديم وتحقيق : اسماعيل العربي ، الجزائر ١٩٨٢.

(٤) باب رشيد الذي يؤدي إلى مدينة رشيد التي يسميها الإيطاليون روزيطو (Rosetto) ، وهي المدينة التي يذكر ابن الوزان أنه كان بها عند ما مرّ عظيم التّرك سليم لدى عودته من الاسكندرية ، صحبة حاشيته ليقف على الحمّام الجميل الذي كان يشتمل على عدد من سقايات الماء البارد والحار ... هذا وقد هدمت الأبواب الأربعة في القرن التاسع عشر ...

(٥) كولم (Quilon) وقاليقوط (Calicut) وسرداق المستودع الجنوي في القرم ، ومرسى الزيتون بالصين الذي سماه ماركو پولو و (caiton) وهو قانزهو (Quanzhou) الحالية ، كل هذه المواقع سياتي الحديث عنها مفصّلا.

١٧٩

١٨٠