رحلة ابن بطوطة - ج ١

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ١

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-007-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٤٣١

مكان رحلة ابن بطّوطة من أدب الرحلات

يلاحظ في المؤلفات العربية على العموم ، وخاصة منها التي تتصل بالأدب العربي ، غياب الحديث عن الذين يكتبون تلك التأليف ، عن شخصيتهم ، عن أفكارهم ، عن أحاسيسهم ، بحيث إنك تقرأ الكتاب من ألفه إلى يائه دون ما أن تجد أثرا يعرّفك بمحرّر الكتاب أو بعصر تأليفه أو حتى بظروف تأليفه وما يجري من حواليه.

وقد استثنى من كل هذه المؤلفات جميعا كتاب الرحلة أية رحلة ، الذي يمتاز كما هو معلوم بمعرفة المزيد من المعلومات عن المؤلف وهو يتحدث عن مراحل تنقلاته وعن مشاعره ، مما يرتضيه ولا يرتضبه ، هذا إلى تعرفنا على الجهات التي يمرّ بها جغرافيا وبشريا وفكريا ، فنشعر بنوع من التجديد في الفائدة ، بنوع من تمكن الكاتب من التعبير عمّا يريد أن يؤديه ، بأسلوبه الذي يتغلب به على كلّ الصّعاب ، والذي يجعله مهيمنا على إبلاغ الناس ما يريد إبلاغه من وصف للطبيعة وتقديم للظواهر التي تحف بمحيطه والبيئة التي يعيشها ...

وهكذا فإن الكتاب الذين حرروا مذكراتهم التي نطلق عليها اليوم اسم (الرحلات) يمثلون في واقع الأمر جانبا إبداعيا في أدبنا العربي ، ومن هنا نحسّ تلقائيا بميل نفوسنا إلى هذا النّوع من الكتابة المحببة لأن ذلك مما يعبر عما يروج في فكر الكاتب دون ما تصنّع أو انفعال ، ولأنه يجعلنا نرافقه في رحلته ، نشعر بمثل الشعور الذي كان يعيشه سواء كان ذلك الكاتب فقيها أو شاعرا أو مؤرخا أو عالم اجتماع ...

وقد عرف المغاربة من قديم بأنهم متفوّقون في أدب الرحلة وموفقون كذلك ... يدل على هذا ما تركوه من بصمات لهم في مختلف كتب التراث العربي (١).

وترجع أسباب اهتمام المغاربة بالرحلة والكتابة عن تحركاتهم وخاصة في العهد الإسلامي : أولا وبالذات ، إلى أن الإسلام يجعل من الحج ركنا بارزا من أركانه ، فالمسلم وهو يفكر في الثوابت التي تجعل منه مسلما مثاليا ـ تنتصب أمام مخيلته الكعبة المشرفة سواء أكان في شرقها أو غربها ، خمس مرات في اليوم على الأقل يتجه إليها في صلاته وفي توسلاته ...

وهكذا يكون العامل الأول هو تحقيق الأمل في زيارة تلك البقاع التي تشدّنا اليها شدّا ...، ومن هنا ندرك السرّ في توجه المغربي نحو الشرق ، نحو مهد الحضارة ومهبط الوحي ، ومن ثمت كان بعض من يقصد البلاد الحجازية من الفقهاء والعلماء والأدباء لأداء

__________________

(١) يراجع الحديث عن محمد بن عمر التازي في بغداد (نشوار المحاضرةi ، ٣٣٧) والحديث عن سعد الخير الأندلسي في الصين (نفح الطيب ٢ ، ٦٣٢) ... أحمد أبو سعد : أدب الرحلات ، بيروت ، دجنبر ١٩٦١.

١٤١

فريضة الحج يشعر بأن عليه دينا يجب أن يؤديه لإخوته من الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالالتحاق بتلك الديار والذين كانوا يقنعون بوصف تلك المعالم وما تحتضنه من عوالم.

وهذا الدّين يتجلّى في تحرير التعريف بتلك البقاع وبمن تضمّهم تلك البقاع من رجال ، احياء وأموات ، طبعا مع وصف المراحل التي مرّ بها الحاج من مدينته التي انتقل منها إلى حيث يجتمع بإخوته من سائر جهات العالم الإسلامي ، محرما ملبيا إلى أن يقف على عرفة. وذلك" التعريف" هو الذي نسميه بالرحلة التي يتحدث فيها الرّحالة عن محطاته المتبعة سواء كانت برّا أو كانت بحرا ، مضيفا إلى هذا حديثه ، كما قلنا ، عما يعترضه في طريقه من مشاهدات ... ، ومعرّفا بالآثار التي خلّفها الأسلاف ، ومعطيا نبذة عن المواقع الجغرافية التي يسلكها بما تحتوي عليه من نعوت وأوصاف. وهكذا ازدهرت ، نتيجة لهذا ، حركة انتساخ المخطوطات ، وخاصة منها كتب الرحلة لدى الحجاج يستصحبونها معهم للاستئناس وللقيام أحيانا بالمقارنات والمفارقات ...

ويلاحظ أن تاريخ المغرب وخاصة في القرن الخامس والسادس والسابع والثامن عرف نوعا من تطور مثل هذه الرحلات الحجازية بفضل تشجيع الناس بمن فيهم القادة والحكّام لتوفير هذا النوع من المعرفة للمواطنين. ولم يقلّل من شأن الرحلة الحجازية إلّا ما ظهر من ميل لتفضيل الجهاد على الحج في اعقاب العدوان المتوالي على المسلمين في الأندلس ، وذلك اعتمادا على فتوى لابن رشد ردّد صداها النّاصري في كتابه" الاستقصاء" وهي تعطي الأسبقية للجهاد على الحج (٢).

وهكذا تكوّنت لدينا لائحة لهؤلاء الأعلام الذين قصدوا الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، فيهم الكثير ممن لم تصلنا أثارهم إلى اليوم لكن فيهم طائفة ممّن اشتهر ذكرهم بما خلّفوه من أعمال جليلة خلدت أسماءهم.

ونذكر من هؤلاء الرحالة أبا الحسن محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي (٥٧٨ ه‍) الذي سار بالرحلة خطوات واسعة ، كما نذكر ابن رشيد الفهري السبتي (٦٨٣ ه‍) ، صاحب كتاب «ملء العيبة (٣)» ومحمد العبدري الحيحى صاحب الرحلة المغربية (٦٨٨ ه‍) (٤) كما

__________________

(٢) الاستقصاء ، طبعة دار الكتاب ، البيضاء ١٩٥٦ ج ٧ ص ٨. ـ سلوة الأنفاس ٢ ، ٢١٥ ـ ٢١٦

(٣) اسم العنوان كاملا : " ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة" الجزء الثاني والثالث ، تقديم وتحقيق الزميل الدكتور الأستاذ محمد الحبيب ابن الخوجة ـ الدار التونسية للنشر ١٤٠٢ ـ ١٩٨٢.

(٤) حققها وقدم لها وعلّق عليها الزميل الراحل ذ. محمد الفاسي ، نشر جامعة محمد الخامس الرباط ١٣٨٨ ـ ١٩٦٨.

١٤٢

نذكر رحلة أبي القاسم التجيبى (٦٩٥ ه‍) صاحب مستفاد الرحلة والاغتراب (٥) ، وابن بطوطة (٧٢٥ ه‍) موضوع الحديث ، وخالد بن عيسى البلوى (٧٣٦ ه‍) صاحب (تاج المفرق) (٦) ، وابن الحاج النّميري صاحب (فيض العباب) (٧٧٤ ه‍) الذي سجلت له رحلة أيضا إلى الحجاز في مجلدة (٧) ، ومحمد بن سعيد الرعينى (٧٧٨ ه‍) صاحب الرحلة الحجازية المنظومة (٨).

وعلاوة على السبب المتلخص في أداء فريضة الحج ، هناك الرحلة الدراسية : أي طلب العلم ولقاء المشايخ الكبار حيث نجد أن المكتبة العربية تزخر كذلك بمن الّفوا عمن أخذوا عنهم في رحلتهم الدراسية من الشيوخ. وعما حصلوا عليه من إجازات تأذن لهم في تلقين ما حصلوا عليه للآخرين ...

ونذكر إلى جانب هذا : الرحلات العلمية وهي غير الرحلات الدراسية. ويمكن أن نصنّف في هذا الباب بعض الرحلات التي كانت تقصد إلى حمل كتاب علمي من جهة إلى جهة قصد تعميم الفائدة منه. واذكر هنا على سبيل المثال الرحلة التي قام بها هشام بن هذيل مكلفا من قبل الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر من أجل طلب المساعدة على ترجمة مخطوطة ديوسقوريدس المكتوبة باللغة اليونانية والتي كان الإمبراطور البيزنطي أهداها إلى الخليفة الناصر عام ٣٣٧ ه‍ في حفل مشهود تحدثت عنه المصادر التاريخية والمؤلفات الطبية. وقد استجاب الامبراطور البيزنطي لرسالة الخليفة الناصر فبعث اليه بالراهب نيقولا الذي وصل إلى قرطبة عام أربعين وثلاثمائة (٩).

ومن أسباب الرحلة كذلك المهمّات السياسية التي يروح فيها علية القوم من علماء وأدباء بما كان قد يصحبهم من مرافقين ومساعدين.

__________________

(٥) حقّق المعروف من هذه الرحلة ذ. عبد الحفيظ بن منصور ، تونس ١٣٩٥ ، انظر كذلك برنامج التّجيبي وتحقيقه.

(٦) يوجد عدد من مخطوطات البلوي بالخزانة العامة بالرباط (فتح المخطوطات ، مخطوط تحت رقم د. ٣٦٢٧ ورقم د. ١٢٨٨ مع شكرنا لمساعدة الخزانة في جزئين ، تقديم وتحقيق ذ. الحسن السايح ، نشر صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المغرب والإمارات ، مطبعة فضالة ـ المحمدية ـ المغرب (بدون تاريخ)

(٧) د. محمد بن شقرون : فيض العباب ، دار الغرب الإسلامي (١٩٩٠) ص ٤٢ المقري ـ النفح ـ ج ٧ ـ ص ١٠٩ ـ ١١٠

A. L. DE PREMARE : MAGHREB ET ANDALOUSIE AU XIV Siecle, CNRS PARIS ١٨٩١.

(٨) ابن القاضي : جذوة الاقتباس ، طبعة حجرية ، ص ٣٤١ ـ عبد السلام ابن سودة : دليل مؤرخ المغرب ص ٣٥٣.

(٩) ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، دار الثقافة ، بيروت لبنان ، طبعة رابعة ١٤٠٨ ـ ١٩٨٧ ،

١٤٣

وقد حفظ التاريخ لنا اسماء عدد من السّفراء الذين كانوا يدونون رحلاتهم في كراريس يرفعونها في أغلب الأحيان إلى الملوك. ونتيجة لذلك زخرت المكتبة المغربية أكثر من غيرها بعدد من الرحلات السّفارية التي أثرت الأدب المغربي علاوة على ما قدمته من معلومات جدّ قيمة عن البلاد التي زارها أولئك السفراء وعن الأحوال الدولية على ذلك العهد وعن التطورات التي تمرّ بها الأمم ...

وهكذا ظلت اخبار سفارة يحيى بن حكم الغزال (ت ٢٥٠ ه‍) التي راحت إلى بيزنطة ردّا على سفارة ثيوفيلوس (Theophilus) إلى الأندلس في اعقاب فتح عمّورية. وقد لخص أخبارها ابن دحية (ت ٦٣٣ ه‍) السبتي في كتابه" المطرب من اشعار المغرب" (١٠) ، أقول ظلت حديث المجالس الأدبية والسياسية بما تضمنته من طريف نكتة وجميل ظرف ، وبخاصة فيما يتعلق بحديث السفير الأندلسي إلى ثيودورا زوجة إمبراطور القسطنطينية ...

وتعتبر رحلة يحيى الغزال أقدم من الرحلات التي قام بها أيام الدولة العباسية أحمد ابن فضلان إلى بلاد الخزر والروس ، وأبو دلف إلى إيران والهند والصين في النصف الأول من القرن الرابع ... وناصر خسرو علوي إلى الدّيار الحجازية بين عام ٤٣٧ و ٤٤٤ ...

وبين أيدينا خروم من رحلة القاضي أبي بكر ابن العربي الأشبيلي صحبة أبيه عبد الله عام ٤٨٩ ـ ١٠٩٧ إلى مدينة السلام ، وقد بقيت هذه الرحلة حديث المجالس كذلك بما تضمنته من" مكتوب الخليفة المنقول في أيدي الناس" على حدّ تعتبر ابن خلدون (١١).

وإلى جانب الرحلات الحجازية والدراسية والعلمية والسّفارية نعيش مع نوع آخر من أنواع الرحلة وهي تلك الرحلات السياحية ، التي تكون غاية واضعها من سفره مجرد السياحة والوقوف على الآفاق وعجائب المخلوقات والتعرف على أخلاق الشعوب وعوائدها. وهذا النوع أيضا مما تزخر به المكتبة المغربية. ونذكر في صدر ما وصلنا من هذا الصّنف. في النّصف الثاني من القرن السادس الهجري كتاب (تحفة الألباب) تاليف أبي حامد الأندلسي الغرناطي الذي يقول في مقدمتها : " ومنذ اغتربت عن المغرب الأقصى عام ٥٥٧ شاهدت من الأيمة الكرام مالا يعدّ ولا يحصى ، وأولاني الله عزوجل على ايديهم من أنواع النعم مالا يقدر على إحصائها إنسان".

__________________

(١٠) حقّقه إبراهيم الأبياري ، القاهرة ١٩٥٤ فازيليف : العرب والروم ترجمة د. محمد عبد الهادي شعيرة ، دار الفكر العربي ، ١٩٣٤ ص ١٦٤ ـ ١٦٥. ـ د. حكمة عليّ الأوسى : يحيى بن الحكم الغزال مجلة المجمع العلمي العراقي ـ ١٩٧١. ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج I ، ٢٦٧ ج ٤ ص ٦١ ـ ٦٢.

(١١) ابن خلدون : ج ٦ ص ١٨٦ طبعة بيروت.

١٤٤

وأبو حامد هذا هو الذي أشاد بمعاملة أهل الصين للتجار من المسلمين ، وتمنى أن يقتدي ملوك المسلمين بمثل هذا السلوك ...!! والطريف أن أبا حامد وصل بهذا إلى فهم ذكي للحديث النبوي الذي يقول : (الدّنيا سجن المؤمن). فلقد أدرك أنّ معنى ذلك أن دنيا المسلم خالية في بعض الأحيان من العدل والاحسان! (١٢) "

وهناك نوع من الرّحلات يمكن أن يطلق عليه اسم الرحلات الاستكشافية وهي غير الرحلة التي تكون أصلا لغرض السياحة وهي التي يقوم بها اصحابها من أجل اكتشاف بلاد جديدة والاطلاع على أحوالها.

ويمكن أن ندرج في هذا النوع من الرّحلات ما قام به أحد عمالقة الأدب الجغرافي في تاريخ الاسلام ، ويتعلق الأمر بالشريف الإدريسي السبتي الذي قدم إلينا «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» هذا الكتاب الذي يعتبر معلمة من المعالم التي يعتزّ بها العالم الإسلامي على الصعيد الدولي. فهو أي الإدريسي ، ولو أنه لا يتعرض كثيرا للوقائع التي حدثت له أثناء أسفاره ولا يتعرض غالبا لشيء من أحواله الشخصيّة ، لكنّ تاليفه ذو صلة قوية بموضوع الرحلات باعتباره يخطط المراحل للجوّالين والمسافرين ، وباعتباره مصدرا اعتمد على الرحلات السابقة لغيره.(١٣) ونذكر إلى جانب هذا ، الرحلات الزيارية أي التي يقوم بها بعض بقصد زيارة أضرحة الأنبياء والصحابة ورجال الصّلاح. ولا شك أن هذا النوع من الرحلات يعتبر من أهم المصادر عن تاريخ الحياة الدينية والحركة الصوفية. وهذا يفيدنا في نفس الوقت من حيث الفنّ المعماري الخاصّ ببناء المساجد والمزارات والمشاهد.

ومن منّا ينكر فائدة كتاب" الإشارات إلى معرفة الزيارات". لأبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي وهو كتاب لا تستغني عنه مكتبة (١٤) ...

وقد أثار انتباهنا ونحن نقرأ عن تاريخ انتشار الإسلام في بلاد آسيا وفي تخوم إفريقيا الحديث عن نوع من الرحلة كان له الأثر الأكبر في دخول الإسلام في تلك المناطق النائية ، لا عن طريق السيف ولا عن طريق الإكراه ، ولكن عن طريق إعطاء المثل الحسن ونشر الفضيلة وتقديم القدوة. وكان الذين قاموا بمثل هذا العمل المتئد الرصين والحكيم هم

__________________

(١٢) Journal Asiatique ,Juillet ـ sep.٥٢٩١ p.٢٣ ـ ٣٣

(١٣) أعتقد أنّ الإدريسي اعتمد من بين ما اعتمد عليه (أخبار الصّين والهند) التي جمعت سنة ٢٣٧ والتي نشرها جان سوفاجي J.Sauvaget عام ١٩٤٨.

(١٤) نشر المعهد الفرنسي بدمشق ١٩٥٣.

١٤٥

الذين كانوا يقومون بالرحلات التجارية إلى تلك الأصقاع. كلّ الذين أشادوا في الماضي والحاضر بظهور الإسلام هناك كانوا يقفون مشدوهين امام الأثر الحميد الذي خلفته الرحلة التجارية في نفوس أولئك الذين اقبلوا على الإسلام بكل ما يملكونه من حب.

وقد ذهب بعض المهتمين بأمر الرحلة إلى أبعد من هذا في استيعاب انواع الرحلة فتحدثوا عن الرحلة البرّية والبحرية ، والخارجية والداخلية ، والاختيارية والقسرية ، والفردية والجماعية ، والرحلة الخيالية والرحلة التي تتخد شكل المراسلات أو تهدف إلى إبرام المعاهدات (١٥).

لكننا سنقف هنا لنترك الفرصة للحديث عن نوع أكثر شمولا وأوفر فضاء من كل تلك الأنواع التي تقدمت للرحلة ... ذاك ما نعطيه اسم الرحلة العامة ...

ونقصد بها الرحلات التي جمعت الكثير من كل تلك الأغراض ، ونذكر على الخصوص رحلة ابن بطوطة ، فقد غادر بلدته طنجة في بداية الأمر عام ٧٢٥ بقصد الحج. لكن بسبب تعذر الحج تلك السنة لما صادفه من اضطرابات بين البجاة والمماليك على ساحل البحر الأحمر اضطر للإنتظار سنة كاملة لحضور موسم الحج عام ٧٢٦. وهنا أثناء هذا الفراغ نمت فيه الرغبة للقيام بحضور مجالس للدراسة ، وفي التزوّج مرة أخرى! وفي القيام كذلك بزيارات سياحية على جانب كبير من الأهمية ، وفي القيام برحلات داخل الرحلة. ولم يلبث أن عبر الدنيا وارتاد الأماكن البعيدة. وينبغي أن نقوم بجولة سريعة في المحطات التي مرّ بها لنجد أن ابن بطوطة كانت تتمثل فيه وتنطبق عليه صفات كلّ أولئك الرحالة. فهو حاج وهو دارس وهو سفير وهو سائح وهو مكتشف وهو زائر وهو داعية ، وهو تاجر أيضا ... وهو مبشّر بالمعنى الحقيقي للمبشر.

__________________

(١٥) تراجع مقدمة الرحلة السّفارية المعنونة" بالإكسير في فكاك الأسير" لمؤلفه محمد بن عثمان المكناسي ، وهي من تحقيق الأستاذ محمد الفاسي ، نشر المركز الجامعي للبحث العلمي ـ الرباط ١٩٦٥ وكذلك مقدمة كتاب" فيض العباب ... في الحركة إلى قسطنطينة والزّاب" للدكتور محمد بن شقرون سالف الذكر.

١٤٦

الفصل الأول

المغرب الكبير

تقديم ابن جزي للرحلة ونعته لابن بطّوطة بالثقة الصدوق الذي جال الدنيا بالطّول والعرض.

شرح منهاج ابن جزي في تحرير الرحلة.

حديث ابن بطوطة عن خروجه من طنجة أيام السلطان أبي سعيد ...

الوصول إلى تلمسان ، وتعرّفه على سفارة تونس التي صادفها هناك ...

مرضه ببجاية.

حلوله بتونس التي لم يعرفه بها أحد!

ذكر ملك تونس

أخذه الطريق إلى طرابلس وبناؤه بها على سيّدة صفاقسية ...

١٤٧

      

١٤٨

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه

قال الشيخ الفقيه الكاتب البارع الناظم

أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه

العالم المتفنن أبي القاسم محمد

ابن جزيّ الكلبي الغرناطي عفا الله عنه (١) :

الحمد لله الذي ذلّل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلا فجاجا ، وجعل منها وإليها تاراتهم(٢) الثلاث نباتا وإعادة وإخراجا ، دحاها بيد القدرة فكانت مهادا للعباد ، وأرساها بالأعلام الراسيات والأطواد ، ورفع فوقها سمك السماء بغير عماد ، وأطلع الكواكب هداية في ظلمات البر والبحر ، وجعل القمر نورا ، والشمس سراجا ، ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد الممات ، وأنبت فيها من كل الثمرات ، وفطر أقطارها بصنوف النبات ، وفجر البحرين عذبا فراتا، وملحا أجاجا ، وأكمل على خلقه الإنعام ، بتذليل مطايا الأنعام ، وتسخير المنشآت كالأعلام ، ليمتطوا من صهوة القفر ومتن البحر أثباجا ، وصلى الله على سيدنا

__________________

(١) هذه هي السّطور الأربعة (المقدمة) التي وجدناها في مخطوطة لابن بطّوطة نعتقد أنها من أقدم المخطوطات إن لم تكن هي التي كتبها ابن جزي بنفسه في صفر ٧٥٧ ـ يبراير ١٣٥٦ قبل أن يتوفاه الله في شوال من نفس السنة ـ أكتوبر ١٣٥٦ ، ونلاحظ أن هذه المقدمة تختتم بكلمة عفا الله عنه وليس بكلمة رحمه‌الله ، وهي الاشارة التي تزيد في اعتقادنا أن النسخة كتبت بقلم ابن جزّي ، ولابد أن ننبّه هنا إلى أن هذه" المقدمة" توجد في معظم النسخ. وعلى رأسها النسخة الأم ، التي اعتمدها الأستاذان المترجمان : ديفريمري وسانكينيتي عام ١٨٥٤ على الشكل التالي : قال الشيخ الفقيه العالم الثقة النبيه الناسك الأبر وفد الله المعتمر شرف الدين المعتمد في سياحته على رب العالمين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن ابراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه‌الله ورضي عنه بمنه وكرمه أمين أمين.

ومن المعلوم أن هذا خطأ فادح من النساخ! ومن العجب أن الناشرين للرّحلة ، فيما بعد ، ساروا على هذا الخطأ بمن فيهم" اللّذون" قرروا أن يجعلوا كلام ابن جزي في ذيول على حدة ، فقد فاتهم أن هذه" المقدمة" هي لابن جزي وليست لابن بطوطة! وقد تنبه گيب (Gibb) للموضوع فنسب المقدمة لصاحبها ابن جزي.

(٢) التارات جمع تارة : ويعني بها المراحل الثلاث للإنسان : الولادة ، والحشر ، والنشر ، وفي القرآن الكريم : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. وهو ما يعني «نباتا وإعادة وإخراجا» ...

وقد حرفت عند بعض الناشرين المغاربة إلى قارات بالقاف عوض التاء وأتى بعد ناشر آخر من المشرق ففسر القصد من القارات الثلاث وأنها" آسيا وافريقيا وأروپا وهي التي تشكل العالم القديم أما ما تبقى من قارات فلم تكن قد اكتشفت بعد" كذا!! ".

١٤٩

ومولانا محمد الذي أوضح للخلق منهاجا ، وطلّع نور هدايته وهاجا ، بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، واختاره خاتما للنبيّين ، وأمكن صوارمه من رقاب المشركين ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وأيده بالمعجزات الباهرات ، وانطق بتصديقه الجمادات ، وأحيا بدعوته الرّمم الباليات ، وفجر من بين أنامله ماء ثجاجا ، ورضى الله تعالى عن المتشرفين بالانتماء إليه أصحابا والا وأزواجا ، المقيمين قناة الدين فلا تخشى بعدهم اعوجاجا ، فهم الذين أزّروه على جهاد الأعداء ، وظاهروه على إظهار الملة البيضاء ، وقاموا بحقوقها الكريمة من الهجرة والنصرة والإيواء ، واقتحموا دونه نار البأس حامية وخاضوا بحر الموت عجاجا ، ونستوهب الله تعالى لمولانا الخليفة أمير المؤمنين ، المتوكل على الله رب العالمين المجاهد في سبيل الله ، المؤيد بنصر الله ، أبي عنان (٣) فارس ابن موالينا الأيمة المهتدين ، الخلفاء الراشدين ، نصرا يوسّع الدنيا وأهله ابتهاجا ، وسعدا يكون لزمانة الزمان علاجا، كما وهبه الله بأسا وجودا لم يدعا طاغيا ولا محتاجا ، وجعل بسيفه وسيبه (٤) لكل ضيقة انفراجا. وبعد فقد قضت العقول ، وحكم المعقول والمنقول ، بأن هذه الخلافة العلية المجاهدة المتوكلية الفارسية (٥) هي ظل الله الممدود على الأنام ، وحبّله الذي به الاعتصام ، وفي سلك طاعته يجب الانتظام ، فهي

__________________

(٣) أبو عنان فارس : هو الملك الذي كان يتربع على كرسي الحكم في الوقت الذي حررت فيه هذه المذكرات بأمره (عام ٧٥٧ ـ ١٣٥٦) على ما عرفناه ... ويلاحظ نعت السلطان أبي عنان بالخليفة وهو اللقب الذي سنعرف عنه بعد قليل ...

(٤) السّيب : العطاء ، ولعل الإشارة إلى فترات امتداد حكم بني مرين وعلى رأسهم أبو عنان فارس إلى باقي بلاد المغرب الكبير ... د. عبد الهادي التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ، المجلد السادس والسابع ١٤٠٧ ـ ١٩٨٧ ـ ١٤٠٨ ـ ١٩٨٨ رقم الإيداع القانوني : ٢٥ / ١٩٨٦ مطابع فضالة ـ المحمدية (المغرب).

(٥) الفارسية نسبة إلى السلطان فارس ، أبي عنان ، سالف الذكر وقد حرفت الكلمة عند ناشر مغربيّ إلى الفاسية ، وأتى بعده ناشر مشرقي فعلق قائلا : " إن الفاسية" نسبة إلى مدينة فاس!!

هذا وقد علّق الپروفسور گيب على نعت (الخليفة) الذي أضفاه ابن جزي على السلطان أبي عنان ... بأن عددا من الأمراء انتحلوا لقب الخليفة بعد اختفاء الخلافة في بغداد عام ٦٥٦ ـ ١٢٥٨ ، ويضيف إلى هذا أن أبا عنان هو الأول الذي تغلب على اللقب في عائلته .. ونعتقد أن هذا الكلام يحتاج إلى تحرير أكثر دقة فنحن نعلم أن المغاربة لا يجدون كثير فرق في اللقب بالخليفة أو أمير المؤمنين أو أمير المسلمين وقد وجدنا أن الأمير عليا بن يوسف بن تاشفين (ت ٥٣٧ ـ ١٤٢٧) لقّب بالخليفة وبأمير المؤمنين والمسلمين. د. التازي : تاريخ جامع القرويين ، طبع دار الكتاب اللبناني ١٩٧٢ ج II ص ١٢١ ـ ١٣٤ ـ بلاد الشام في الوثائق الدپلوماسية المغربية ـ تاريخ بلاد الشام ـ نشر الجامعة الأردنية ١٩٧٤ ص ٤٤٧. الأمير مرهف المنقذى في سفارته لدى الخليفة المنصور بحث قدم للمؤتمر الدولي السادس لتاريخ بلاد الشام ونشرته مجلة الأكاديمية عدد ١١ سنة ١٩٩٤.

Gibb : The travels of Ibn Battuta ٨٥٩١., T. I P. ٣ Note ٩.

١٥٠

التي أبرأت الدين عند اعتلاله ، وأغمدت سيف العدوان عند انسلاله ، وأصلحت الأيام بعد فسادها ، ونفّقت سوق العلم بعد كسادها وأوضحت طرق البر عند إنهاجها ، وسكّنت أقطار الأرض عند ارتجاجها وأحيت سنن المكارم بعد مماتها ، وأماتت رسوم المظالم بعد حياتها وأخمدت نار الفتنة عند اشتعالها ، ونقضت أحكام البغى عند استقلالها ، وشادت مباني الحق على عمد التقوى واستمسكت من التوكل على الله بالسبب الأقوى ، فلها العز الذي عقد تاجه على مفرق الجوزاء ، والمجد الذي جز أذياله على مجرّة السماء ، والسعد الذي رد على الزمان غض شبابه ، والعدل الذي مد على أهل الإيمان مديد أطنابه ، والجود الذي قطّر سحابه اللجين والنضار ، والبأس الذي فيّض غمامه الدم الموّار ، والنصر الذي نفض كتائبه الأجل ، والتأييد الذي بعض غنائمه الدول ، والبطش الذي سبق سيفه العذل ، والأناة التي لا يملّ عندها الأمل ، والحزم الذي يسد على الأعداء وجوه المسارب ، والعزم الذي يفلّ جموعها قبل قراع الكتائب ، والحلم الذي يجني العفو من ثمر الذنوب ، والرفق الذي أجمع على محبّته بنات القلوب ، والعلم الذي يجلو نوره دياجي المشكلات ، والعمل المقيّد بالاخلاص والأعمال بالنيات. ولما كانت حضرته العلية مطمح الآمال ، ومسرح همم الرجال ، ومحط رحال الفضائل ، ومثابة أمن الخائف ومنية السائل ، توخّى الزمان خدمتها ببدائع تحفه ، وروائع طرفه ، فانثال عليها العلماء انثيال جودها على الصفاة ، وتسابق إليها الأدباء تسابق عزماتها إلى العداة ، وحج العارفون ، حرمها الشريف ، وقصد السائحون ، استطلاع معناها المنيف ، ولجأ الخائفون إلى الامتناع بعز جنابها ، واستجارت الملوك بخدمة أبوابها ، فهي القطب الذي عليه مدار العالم ، وفي القطع بتفضيلها تساوت بديهة عقل الجاهل والعالم ، وعن ماثرها الفائقة يسند صحاح الآثار كلّ مسلم ، وبإكمال محاسنها الرائقة يفصح كلّ معلم. وكان ممن وفد على بابها السامي (٦) ، وتعدّى أو شال البلاد إلى بحرها الطامي ، الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق جوّاب الأرض ، ومخترق الاقاليم بالطول والعرض ، أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن محمد بن ابراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة ، المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين ، وهو الذي طاف الأرض معتبرا وطوى الأمصار مختبرا ، وباحث فرق الأمم وسبر سير العرب والعجم ثم ألقى عصا التّسيار بهذه الحضرة العليا ، لما علم أن لها مزية الفضل دون شرط ولا ثنيا ، وطوى المشارق إلى مطلع بدرها بالمغرب ، وآثرها على الأقطار إيثار التّبر على التّرب ، اختيارا

__________________

(٦) هذه الفقرات التي تشيد بابن بطّوطة وبمصداقيته وكفاءته تؤكد ـ إن كنا في حاجة إلى تأكيد ـ أن هذه المقدمة كلها من عمل أبي عبد الله ابن جزي ، وليست من عمل ابن بطوطة كما توحي بذلك" المقدمة" الذي تتصدّر سائر النسخ المطبوعة!!

١٥١

بعد طول اختبار البلاد والخلق ، ورغبة في اللّحاق ، بالطائفة التي لا تزال على الحق ، فغمره من إحسانها الجزيل ، وامتنانها الحفيّ الحفيل ، ما أنساه الماضي بالحال ، وأغناه عن طول التّرحال ، وحقّر عنده ما كان من سواها يستعظمه ، وحقق لديه ما كان من فضلها يتوهمه ، فنسى ما ألفه من جولان البلاد ، وظفر بالمرعى الخصب بعد طول الارتياد.

ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي ما شهده في رحلته من الأمصار ، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار ، وعلمائها الأخيار وأوليائها الأبرار ، فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر ، وبهجة المسامع والنواظر ، من كل غريبة أفاد باجتلابها ، وعجيبة أطرف بانتخابها ، وصدر الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم ، المنقطع إلى بابهم ، المتشرف بخدمة جنابهم ، محمد (٧) بن محمد (٨) بن جزي الكلبي أعانه الله على خدمتهم ، وأوزعه شكر نعمتهم ، بأن يضم أطراف ما أملاه ، الشيخ أبو عبد الله ، من ذلك في تصنيف يكون على فوائده مشتملا ، ولنيل مقاصده مكمّلا ، متوخيا تنقيح الكلام وتهذيبه ، معتمدا إيضاحه وتقريبه ، ليقع الاستمتاع بتلك الطّرف ، ويعظم الانتفاع بدرّها عند تجريده عن الصدف ، فامتثل ما أمر به مبادرا ، وشرع في منهله ليكون ، بمعونة الله ، عن توفية الغرض منه صادرا ، ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها ، موضّحة للمناحي التي اعتمدها ، وربما أوردت لفظه على وضعه فلم أخلّ بأصله ولا فرعه ، وأوردت جميع ما قيده من الحكايات والأخبار ، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار ، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك ، وخرج عن عهدة سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك ، وقيّدت المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقط ، ليكون أبلغ في التصحيح والضبط ، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء الأعجمية لانها تلتبس بعجمتها على الناس ، ويخطئ في فك معماها معهود القياس ، وأنا أرجو أن يقع ما قصدته من المقام

__________________

(٧) هو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم محمد بن أحمد ابن جزيّ الكلبيّ (الشاعر الكاتب) ... استكتبه أبو الحجاج يوسف ابن الأحمر ثم تغيّر عليه ـ ففارقه إلى المغرب ، آخر عام ٧٥٣ وحظي بمكانة عند السّلطان أبي عنان ، وهو الذي أملى عليه ابن بطوطة رحلته بأمر السلطان أبي عنان فكان الفراغ من كتبها في صفر ٧٥٧ يبراير ١٣٥٦ وقد ذكر المقري في أزهار الرياض (٣ ، ١٨٩ ـ ١٩٥) أنه ـ أي ابن جزي ـ توفي يوم التاسع والعشرين من شوال عام ٧٥٧ (٢٥ أكتوبر ١٣٥٦) أي في أواخر السنة التي أنهى فيها كتابة الرحلة. راجع المقدمة.

(٨) هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن عبد الله ابن جزي الكلبي ، من أعيان فقهاء الأندلس ، وهو صاحب تفسير" التسهيل لعلوم التنزيل" وكتاب القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية" وتقريب الوصول إلى علم الأصول و" الفوائد العامة في لحن العامة" .. قال المقري : فقد وهو يحرّض الناس يوم معركة طريف عام ٧٤١ ـ ١٣٤٠.

١٥٢

العلي أيده الله بمحلّ القبول ، وأبلغ من الإغضاء عن تقصير المأمول ، فعوائدهم في السماح جميلة، ومكارمهم بالصفح عن الهفوات كفيلة ، والله تعالى يديم لهم عادة النصر والتمكين ويعرفهم عوارف التأييد والفتح المبين بمنه وحوله.

(قال ابن بطوطة)

قال الشيخ أبو عبد الله : كان خروجي (٩) من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة معتمدا حج بيت الحرام ، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام منفردا عن رفيق انس بصحبته ، وركب أكون في جملته (١٠) ، لباعث من النفس شديد العزائم ، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازيم ، فجزمت أمري ولم ابن على السكون ، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكون (١١) ، وكان والديّ بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبا ، ولقيت كما لقيا نصبا ، وسنّى يومئذ اثنتان وعشرون سنة.

قال ابن جزي أخبرني أبو عبد الله بمدينة غرناطة أن مولده بطنجة في يوم الاثنين السابع عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة (١٢).

رجع ، وكان ارتحالي في أيام أمير المؤمنين ، وناصر الدين ، المجاهد في سبيل رب العالمين الذي رويت أخبار جوده موصولة الأسناد بالإسناد ، وشهرت اثار كرمه شهرة واضحة الإشهاد وتحلّت الأيام ، بحلا فضله ، ورتع الانام ، في ظل رفقه وعدله ، الإمام المقدس

__________________

(٩) هنا بداية مذكرات ابن بطوطة بعد الانتهاء من مقدمة ابن جزي ، وهذا التاريخ القمري يوافق من التاريخ الشمسي ١٤ يونيه ١٣٢٥ ، ويلاحظ من الآن أن ابن بطوطة لم يكن مهتما بتقديم معلومات عن المدن المغربية : طنجة تلمسان ، وإنما أخذ في ذلك عندما ابتعد عن البلاد وشعر بالحاجة إلى تقديم الفائدة الجديدة ...

(١٠) الإشارة إلى ركب الحاج المغربي الذي اعتادت الدولة المغربية أن تبعثه إلى الديار المقدسة في كل سنة حيث يرحل في شهور معينة في اتجاه مكة المكرمة ، فكان معظم الناس من مختلف الجهات المغربية ينتظر الانضمام إلى الركب ، لكن في الناس من كان يفضل أن يعتمد على وسائله الخاصة حتى لا يتقيّد بيومية معيّنة ، وفي هؤلاء الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي نراه هنا يختار التوجه منفردا إلى تلك الديار ...

محمد المنوني : ركب الحاج المغربي ، معهد مولاي الحسن ، تطوان. مطبعة المخزن ١٩٥٣.

(١١) الوكون جمع وكن (بالنون) عش الطائر ، هذا وتحتوي نسحة باريز على جملة أخرى تقول : " فجزمت أمري عليهجر الإناث من الأحباب والذكور ، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور".

(١٢) كان هذا التاريخ يوافق ٢٤ يبراير ١٣٠٤ ، وحول هذا اللّقاء الذي تم في غرناطة بمناسبة زيارة ابن بطوطة لها بعد عودته للمغرب راجع. (١٧٣ \'IV)

١٥٣

١٥٤

١٥٥

١٥٦

أبو سعيد (١٣) ابن مولانا أمير المؤمنين ، وناصر الدين ، الذي فل حدّ الشرك صدق عزائمه ، وأطفأت نار الكفر جداول صوارمه ، وفتكت بعبّاد الصليب كتايبه ، وكرمت في إخلاص الجهاد مذاهبه ، الإمام المقدس أبو يوسف بن عبد الحق (١٤) جدد الله عليهم رضوانه ، وسقى ضرايحهم المقدسة من صوب الحيا سحّه وتهتانه ، وجزاهم أفضل الجزاء عن الاسلام والمسلمين ، وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين ، فوصلت مدينة تلمسان (١٥) وسلطانها يومئذ أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى بن عثمان ابن يغمراسن ابن زيان (١٦) ، ووافقت بها رسولى ملك افريقية السلطان أبي يحيى رحمه‌الله (١٧) ، وهما قاضي الأنكحة بمدينة تونس أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن علي بن ابراهيم النفزاوي والشيخ الصالح أبو عبد الله

__________________

(١٣) أبو سعيد : هو جدّ السلطان أبي عنان وقد تولى الحكم من عام ٧١٠ إلى ٧٣١ ـ ١٣١٠ ـ ١٣٣١ وهو الذي أمر بإنشاء الأساطيل بدار الصناعة برسم جهاد الإفرنج ، وهو الذي بني بفاس مدرسة العطّارين ... د. التازي : جامع القرويين ج ٢ ص ٣٥٨ طبع دار الكتاب اللبناني ، بيروت ١٩٧٢.

(١٤) أبو يوسف يعقوب (٦٥٦ ـ ٦٦٧ ـ ١٢٥٨ ـ ١٢٨٦) هو الذي حقق أمنية والده عبد الحق الذي كان يهدف إلى إحلال قبيلة بني مرين كرسيّ السلطة ، هذا العمل الذي ابتدأه والده عبد الحق ، وبقية إخوته ، وهكذا جعل حدّا لدولة الموحدين باستلائه على مدينة مراكش عام ٦٦٧ ـ ١٢٦٩ ، وتشييده للمدينة الجديدة بفاس ٦٧٤ ـ ١٢٧٥ وتغلبه على ملوك قشتالة في استجه (Ecija) في نفس العام ٦٧٤ ـ ١٢٧٥.

د. التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ، ج ٧ ، ص ٦١. رقم الإيداع القانوني : ٢٥ / ١٩٨٦ مطابع فضالة ـ المحمدية.

(١٥) تلمسان كانت عاصمة أنذاك لمملكة بني عبد الواد التي كان رئيسها هو السلطان أبو تاشفين الذي كان في حالة حرب مع الحفصيين بتونس ... وإذا ما رجعنا إلى ما قدّمه الادريسي عن تلمسان من معلومات على عهده فسنجد أنه ينعتها بأنها مدينة أزلية وأنه لم يكن في بلاد المغرب بعد مدينة أغمات وفاس أكثر من أهلها أموالا ولا أرفه منهم حالا ... وقد ذكر ابن الوزان (ليون الافريقي) أنها كانت تحتوي على ستة عشر ألف كانون على عهد أبي تاشفين ٧١٨ ـ ٧٣٧ ـ ١٣١٨ ـ ١٣٣٧.

(١٦) بنو عبد الواد أو بنو عبد الواحد يرجعون في الأصل لنفس قبيلة زناتة التي ينتسب إليها بنو مرين. كان مؤسس هذه المملكة هو يغمراسن بن زيان (٦٣٣ ـ ٦٨٢ ـ ١٢٣٦ ـ ١٢٨٣) الذي كان عاملا في الأصل للدّولة الموحدية ، وأبو تاشفين المتحدت عنه كان قتل أباه وحل محلّه سنة ٧١٨ ـ ١٣١٨ ـ ١٣١٩.

(١٧) القصد إلى أبي يحيى أبي بكر بن أبي زكرياء يحيى بن أبي إسحاق إبراهيم بن زكرياء (الأول) ١٣٤٦) (٧١٨ ـ ٧٤٦ ـ ١٣١٨ ـ العاهل الحفصي لتونس (افريقية) ، ونحن نعلم أنّ الحفصيين ـ وهم فرع من الدولة الموحدية ـ حكموا تونس ابتداء من عام ٦٢٦ ـ ١٢٢٨ إلى ٩٧٦ ـ ١٥٦٩ في شخص أبي زكرياء الأوّل.

١٥٧

محمد بن الحسين بن عبد الله القرشي الزّبيدي (١٨) ، بضم الزاي ، نسبة إلى قرية بساحل المهدية ، وهو أحد الفضلاء ، وفاته عام أربعين.

وفي يوم وصولي إلى تلمسان خرج عنها الرسولان المذكوران فأشار علي بعض الاخوان بمرافقتهما فاستخرت (١٩) الله عزوجل في ذلك ، وأقمت بتلمسان ثلاثا في قضاء مآربي ، وخرجت أجدّ السير في آثارهما فوصلت مدينة مليانة (٢٠) وأدركتهما بها وذلك في إبان القيظ فلحق الفقيهين مرض أقمنا بسببه عشرا ، ثم ارتحلنا وقد اشتد المرض بالقاضي منهما فأقمنا ببعض المياه على مسافة أربعة أميال من مليانة ثلاثا ، وقضى القاضي نحبه ضحى اليوم الرابع ، فعاد إبنه أبو الطيب(٢١) ورفيقه أبو عبد الله الزّبيدي إلى مليانة فقبروه

__________________

(١٨) كان على الأمير أبي يحيى أبي بكر أن يقاوم طوال السنوات الأولى لإمارته ضدّ عدد من المنافسين ، وقد كان أحد هؤلاء المنافسين المعزّزين من لدن ملك تلمسان ـ تغلّب على مدينة تونس في رجب ـ شعبان ٧٢٥ يونيه / يوليوز ١٣٢٥ ، عندما كان الأمير أبو يحيى محاصرا في قسنطينة من لدن جيوش بني عبد الواد ...!

وهكذا ففي هذه الفترة من التاريخ وجد ابن بطوطة في تلمسان ولقي بتلمسان السفارة التونسية التي عهد إليها ـ على ما يظهر ـ أن تقوم بالاتصال مع أبي تاشفين ليسحب مساندته للمناوئين لصاحب تونس ، والجدير بالذكر أن ابن خلدون ، الذي تحدث بتفصيل في تاريخه عن هذه الأحداث ، لم يتحدث عن هذه السفارة ..! كما أنه لم يأت بأسماء الذين ظلّوا غير معروفين لديه ...

أما عن السفير النفزاوي قاضي الأنكحة فقد كان لابن بطوطة وحده فضل ترديده هنا ، وإن زملاءنا في تونس ليعتمدون فيما كتبوه حول هذا الموضوع على الرحالة المغربي إضافة إلى ما عند الأبي في إكمال الاكمال (ص ٢٩٤) حسبما وقفت عليه بتونس في إحدى زياراتي لها عام ١٩٨٢ ...

أما عن الشخصية الثانية : الزّبيدي فنؤكد كذلك على أهمية معلومة ابن بطوطة حول هذه السفارة التي أهمل ابن خلدون ذكرها كما قلنا ... ابن القنفذ القسنطيني : الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية تقديم وتحقيق محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد التركي ـ الدار التونسية للنشر ١٩٦٨.

عبد الرحمن عون : أطروحة حول الأبيّ صفحة ٥٢ ـ ٢٨٠ وقفت عليها بمكتبة كلية الشريعة بتونس ...

المطوي : السلطنة الحفصية ، دار الغرب الاسلامي ، بيروت ١٤٠٦ ـ ١٩٨٦.

(١٩) صلاة الاستخارة : تعني أن يقوم المسلم عند حال تردده في الاختيار بين أمرين ، مثلا : ـ بصلاة ركعتين : الأولى بالفاتحة وسورة الكافرون والثانية بالفاتحة وسورة قل هو الله أحد ، ثم يدعو : اللهمّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي ... فاصرفه عني ... ويسمّي حاجته ... ثم يفعل ما ينشرح له صدره ... ويكرر هذا الدعاء ، حتى يظهر له وجه الصواب ...

(٢٠) تقع مليانة على وادي شلف شرقي المدينة ، وقد قال عنها الإدريسي : إنها قديمة البناء ، كريمة المزارع ، وقال عنها الحسن ابن الوزان : إنها كانت مدينة كبيرة بناها الرومان ، وإن سكانها يكادون يكونون كلهم صناعا نسّاجين أو خراطين ويصنع هؤلاء أواني من خشب في غاية الحسن ... وهي على بعد أربعين ميلا من البحر ...

(٢١) هذه معلومات كذلك استأثر بها الرحالة ابن بطوطة إلى جانب الأبي في الإكمال ٥ ، ٣٧٠ ـ تراجع أطروحة الأستاذ عبد الرحمن عون حول الأبي (تونس). كلية الشريعة.

١٥٨

١٥٩

١٦٠