تاريخ طبرستان

المؤلف:

بهاء الدين محمد بن حسن بن إسفنديار


المترجم: أحمد محمد نادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩١

ويقول ما ترجمته :

للعقلاء مثل اليوم المعلوم

تعاقب ليل ونهار الغافلين شؤم

الدنيا مركب النوائب وساحة العجائب ، وهى صهباء النعم وآلاؤها سراب وغرور وليس لشرابها سرور ، وثناؤها وإطراؤها كله جفاء وشرور ، باطنها مملوء بالأحزان والهموم وصفاؤها لا يكون بغير كدر ، بحيث إن كل إنسان يفتح أمره بخير لا يختم خاتمته إلا بشر ، لا يعتمد عليها فى حال ولا يستند إليها فى أفعال ، شيمها اصطفاء اللئام والتحامل على الكرام وهمتها رفع خامل وضيع والإقلال من فاضل رفيع ، وتوقع رعايتها والطمع فى العناية منها كتوقع الهداية من الغول والطمع فى الإرشاد من الشيطان ، فجميع الخلق فى أحلام الغفلة وظلام الجهالة يندفعون فى نشوة السكر وخمار الخمر منهم فاقدو الوعى فوق أشهب النهار ، وأدهم الليل مستحثين إياهما بالمقرعة والسوط وقد ربطوا وجودهم بالفناء انطلاقا إلى ميعاد الرحيل بلا تمهل ، بحيث يثبت يقينا أن أعداد العمر وإن تجاوزت الآحاد إلى الألف فهى ليست سوى لحظة ، بحيث إن مسؤولية البقاء قد خطت لملائكة السماء ، والتعيس هو الذى يرجح الدنيا الفانية الفائتة على الآخرة الباقية الثابتة ، التى دوام عزها بلا انفصام وعلاء فخرها بلا انفصال ، وفى سبيل تحصيل لقمة التى أولها وآخرها عشب وزر ، وهم مثل الكلاب يجعل الكتف هدفا للمهام والرقبة قرينة الطوق وسلسلة حكم الأمير والوزير ، مع أن هذه اللقمة تحتوى فى داخلها ألف عظمة تقف فى الحلق وبغير كل هذا الصداع فإن الرغيفين ميسران ، وإقبال هذه الدنيا كزيارة ضيف وسحابة صيف" فلا عهده عهد ولا وده ود"

وظللت فى النوم حتى آخر العمر

والآن استيقظت حيث لم يكن هناك وقت.

وبعد أن جاء الملك والجاه ، لم تبق أنت حتى وإن صرت فى طلبه كالإسكندر فى الظلمات ، أو اتخذت من النار فراشا كطائر السمندر ، ويصبح الأحبة أفاع والودود دخانا والأقارب عقارب ويصبح الأحباب مثل الكلاب العاوية والذئاب المتربصة ألسنتهم حداد وأنيابهم ناهشة.

يذم إخوانا كان يمسيهم كراما

فلما خالطهم برىء حقيقتهم.

وإخوان بواطنهم قباح

وإن كانت ظواهرهم ملاحا

حسبت مياه ودهم عذابا

فلما ذقتها كانت ملاحا (١)

__________________

(١) هامش تعليق للمترجم.

٢١

حينما يعدو شخص وينبض عرق ولا يزن شيئا ، وترى ثمرة العطية خطيئة والمنحة محنة والعناية جناية تصبح المنية هنيئة ويعلم بحق أنه :

إذا الجد لم يسعد فجد الفتى تعب

وأبطل شىء سعى من جد فى الطلب

فكم ضيعة ضاعت وكم خلة خلت

وكم فضة فضت وكم ذهب ذهب (١)

وانطوى هذا الضعيف ليل نهار مدة شهرين على هذه الحادثة فى مدينة" الرى" ، وكان يرسل ماء العبرات من خلال غربال العين المملوءة بالحسرات ، ومع هذه الحالة لم يجد تدبيرا سوى تهدئة نفسه بمطالعة الكتب ، وسئل أحد الملوك ما منتهى غايتك؟ فقال :

«حبيب أنظر إليه وكتاب أنظر فيه» ، والحق أن تسكين قلب هذا المسكين كان يتحقق بمطالعة أخبار وآثار القرون السالفة والملوك الغابرة والوقائع والأحداث وتبلج العجائب وفداحة المصائب التى كانت فى أيام كل واحد ، فقلت لنفسى :

فإن الأولى باللطف من آل هاشم

تأسوا فسنوا للكرام التأسيا (٢)

حتى عثرت ذات يوم فى دار مكتبة الملك الغازى" رستم بن على بن شهريار" فى ثنايا الكتب على عدة أجزاء مكتوبة فى ذكر" كاوباره" فتذكرت أن الملك السعيد" حسام الدولة أردشير" ـ جعلت الجنة مثواه ـ كان قد سألنى عدة مرات : إن" كاوباره" كان قد لقب ملكا على" طبرستان" لفترة ما ، فهل مر بك فى أى موضع فى الكتب العربية والفارسية من أى رهط وقبيلة كان" كاوباره" ، والآن قلبى معمور بالولاء له وحالى مغمور بأفضاله ولم أكن قد سمعت هذا اللقب فى كل هذه الديار وسائر البلاد والأمصار التى طفت بها سوى ما جرى من لفظ الملك الذى ينثر الجوهر ، ولم يكن هناك مصدر آخر فى تاريخ" طبرستان" سوى كتاب" باوند نامه" والذى كان قد جمع من أكاذيب وترهات أهل القرى وأفواه عوام الناس فى عهد حسام الدولة" شهريار بن قارن" فأخذت تلك الأجزاء بتلك الفكرة وانشغلت بمطالعتها فإذا هى" عقد

__________________

(١) إذا لم يسعد الحظ الفتى ، فلن يستفيد من جده واجتهاده فكم من فضة ذهبت وكم من ذهب لم تكن له قيمة لأن الحظ لم يحالف الإنسان فيها ـ المترجم.

(٢) أكرم بالأولين من آل هاشم فهم أهل التأسى والقدوة الكرام ـ المترجم.

٢٢

السحر وقلائد الدر" للإمام" أبو الحسن بن محمد اليزدادى" وقد ألفها باللغة العربية على نحو لا يتيسر معناها إلا لمن بلغ الغاية فى علم البلاغة ، حيث كان غرضه الفصاحة فى العبارة والتأنق فى الاستعارات ، وليس لبيان الحكايات والروايات ، فلما أدركت أنه فرض فى استيعاب أنواع العلوم من بين مشاهير جماهير" طبرستان" ، وأنه مصنف لكتب كثيرة فقلت بقريحة جريحة وفكرة غير صحيحة وقلب مفعم بالغبار وعين دامعة بالعبرات :

وأضحى ذكرهم لذوى الأمانى

ضلالا فيه قد تاهوا وهاموا (١)

فقصرت بحمل الهمة والنية على أن أترجم ذلك الكلام ، وأن أورد طرفا من ذكر مناقب ومعالى الملك" حسام الدولة أردشير" وأسلافه العظام وأخلاقه ذوى القدر ، عسى أن يتحقق قضاء حقوق تربيته ومواهب عطيته ، لكن بقدر الإمكان والوسع الذى مثل نمل سليمان وأرجل الجراد ، ولو أن الاعتراف بفضله أولى من الإغراق بوصفه ، فإن الإخبار عن محل النجوم بل فلك الأفلاك كما هى (عليه) متعذر.

ولما انتهيت من ترجمة الكتاب خلال عدة أيام وليال ، عرضته على السادة والعلماء الذين كانوا أغصان أعلام المآثر ورافعى أعلام المفاخر ، وكانوا لى إخوان الصفا ورفاق الوفا أصحاب المنظر البهى والمخبر الرضى ، والصدر السليم والقدر العظيم والشفيق الشقيق لا رفيق الرصيف ، فكنت طيلة هذه الفترة معهم فى حديث محاورة ونعمة مجاورة بحيث قالوا :

ولى صاحب ما خفت مكروه طارق

من الأمر إلا كان لى من ورائه (٢)

وقلت لهم ما قاله السابقون :

لا تعرضن على الرواة قصيدة

ما لم تبالغ قبل فى تهذيبها (٣)

وأنتم تعلمون أن للكلام (الحديث) طبقات وطرقا ومذاهب وليس للطائف ظرائفه ولا نفحاته المتأرجة ولا صفحاته المتبرجة نهاية ، ولو أنى أزين هذه الحكاية العارية والتى صدرت عن كرب حازب وهم لاذب بالزينة المستعارة ، لكان من الممكن أن يكون لهذه الأسماء خاطب ، ولكنها لعقلاء مخاطبا واتفق الجميع على أنها نفاق للإنسانية بلا شائبة ، نفست عن المكروب وأهديت الروح والراحة إلى القلوب ، وقوى رأى بمدد

__________________

(١) ينعى على قوم تعلقت أمانيهم بأناس لم يكونوا أهلا لها.

(٢) يعتز بصديق هو خل وفى ، ما طرق طارق إلا وكان معه وسندا له.

(٣) افحص ونقب فى شعرك «وقصائدك» قبل عرضها على أهل هذا الفن وهو يهديه إلى إتقان العمل.

٢٣

همتهم ويمن بركتهم فى هذه الفكرة بأن ينبض ذلك السواد بمدد من القلم وكنت قد تشرفت بوصول رسالة من أبى الذى كان كريما وحسنا ، مضمون تلك الرسالة :

أناخ الدهر كلكله علينا

وعركنا كتعريك الأديم

وما ندرى ببادرة لديه

سوى إن الكريم ابن الكريم (١)

 ـ لى من جفاء الفلك الأزرق ما يشبه المرآة ، ومن غصص هذه الدنيا الدنية التى تربى الدون.

ـ وجنة كالكأس مفعمة بالدمع من العين وقلب فى الصدر مفعم بالدم القانى كالخمر الصراح.

واعلم يا بنى أن هذا المنزل الذى قيل إنه لا يعبره كثير من الأشخاص قد اجتزته أكثر من خمس عشرة مرة ، وقلبت الدنيا رأسا على عقب فلم أجد سواك ، أنت يا بنى القائل لمؤلفه :

ـ أيها القلب إلى متى تأمل وتزحف طلبا للأمل طالما أنه لا يتأتى من الفلك سوى خسة الطبع.

ـ حقّا لو أن الزمان يليق لذلك بأن تشكو منه وتشكره.

ـ وأنا أبوك القائل أيضا :

ـ لقد آن الوقت لكى أرحل عن ركن الفناء ، وحان الوقت لكى أستقر فى كنز البقاء.

ـ فما أكثر ما طويت الدنيا وفارقتنى ، وحيث إن عظماءك قد مضوا فاعلم أن العظماء عند ما ينهضون من على المائدة يجلس الصغار على المائدة ، فاجلس أنت متفضلا بدلا من أن تجلس إليها مأمورا فتأجج فى كيانى من هذه الرسالة مثل اشتعال النار فى جزل الغضا ، وفى الليل ودون إعلام الرفاق قررت أن أنفرط من نظم عقدهم مع عدة غلمان وخدم وأرسلت لهم من الطريق هذين البيتين :

لئن سرت بالجثمان عنكم فإننى

أخلف قلبى عندكم وأسير

فكونوا مشفقين فإنه

رهين لديكم بالهوى وأسير (٢)

__________________

(١) مال الدهر علينا بمصائبه ودهسنا كدهس التراب وما ندرى من ذنب اقترفناه سوى أنى كريم من كريم ـ المترجم.

(٢) متيم بهواهم ، فلئن فارقهم جسدا فقلبه أسير عندهم ، فكونوا أهل شفقة عليه فإنه المرهون بحبكم ، الأسير فى هواكم ـ المترجم.

٢٤

وفى الغد حيث كان ملك الأنجم قد أطل من أفق المشرق وهو يستل سيفا بعد ويسدد سهاما إلى أوج الليل الداجى وقد هزم بسهام النور ظلمة الليل الحالك ، وصلت إلى أطراف قلعة" إستوناوند" فأغار علينا فوج من أحزاب الغار وأصحاب النار فما تركوا لنا الجواد ولا الغلام ولا المتاع ولا الحطام ، ووصلت إلى حضرة أبى بعد مشاق كثيرة ومعاناة بلا حصر نتيجة فوضى الولاية ، ولم أتمتع لا بخدمة لأبى ولا نطقت بكلمة عن المراد لكننى حملت القدم على مواصلة السير برغم الألم (اختبلت حين اجبلت ومنيت بمرافقة الأنجاس بعد مفارقة الأجناس) حتى وصلت «آمل» وبقيت بها فترة وقلت :

إذا بلدة حل فيها البلا

لسكانها حل منها الجلا

فلا زمتنى شهوات النفس التى هى هوام الهموم وحيات الحياة مع خداع الأمانى وسحر الزمان وهواجس الوساوس على عينى وقلبى :

وحدثت نفسى بالأمانى ضالة

وليس حديث النفس غير ضلال

فودعت أبى مضطرا وقررت الرحيل حيث ألقى الزمان ، وهو شاطئ الغفلة بالبلاد فى حلواى عند صخرة أبى قوبيس ، حتى طار العقل من دماغى مثل البخار واستولى علىّ نوم كنوم أصحاب الكهف ، وحينما أفقت وجدتنى ذليلا فى خوارزم (كعمل جسد له خوار) روضه على وخم ، فرأيته إقليما تلو إقليم وعالما إثر عالم فيه تحصيل العلم ، وفوائد العلماء فيه من الكثرة بحيث إن كل ما فى الدنيا لا يوازى عشر ما لديهم ، وبعد أن أتممت فيهم خمس سنوات حدث : أن مررت بساحة الوراقين فالتقطت كتابا من حانوت وكانت عدة رسائل كان «داوود اليزدى» وهو رجل من أهل السند قد أمر «علاء بن سعيد» بترجمتها من الهندية إلى العربية فى سنة سبع وتسعين ومائة ورسالة أخرى كان ابن المقفع قد عربها من البهلوية وهى جواب على رسالة «جسنفشاه» أمير طبرستان من قبل العالم «تنسر» تعريف عالم إقليم فارس وقاضى قضاة أردشير بن بابك ، ومع أن الدهر لم يكن مواتيا ولا كان القلب ولا الساعد مساعدا برأسه بن جيب الغيب وقد حل انكسار النشاط وانطواء الرباط وتخاذل الأعضاء ودواعى الفناء ، فلم تكن بقيت فى الحواس شهوة ولا فى الكأس لذة ، وقد

٢٥

بذل الشيخوخة وعجز القعود عن التدبير ، وبقى حال ، أفضل من النور فى ظلمات غياهب المصائب وصدمات نيوب النوائب فى جمع تاريخ طبرستان ، إذ كان الرفاق قد مضوا فى كرونمت أنا فى اضطراب وبرغم الكثير من العلل والخلل من الزمان إلا أننى نهضت كما يجب لا كما يجب فى جمع تاريخ طبرستان.

ولما لم يعد لى مكان فى القلب لآمل قط فى الدهر القديم ، عاودنى الشوق مرة أخرى ، ولما كان تقديم الأقدم واجبا ، فقد جرى ترجمة هذه الرسالة المليئة بالحكم كالفلك المشحون وجرى بها الافتتاح والله ولى التيسير والتسهيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وكل ما فى هذا التاريخ من قليل أو كثير من الحكم والمواعظ والأشعار والأمثال والنكات وأحوال الخلفاء والعلماء وحكايات الملوك والأمراء وسيرهم وشيمهم ومكاتباتهم قد نقله هذا الضعيف جملة من الكتب المتفرقة ، ومن أفواه العلماء والمتوقع من القراء المنصفين وفحول المصنفين المبرزين الذين إذا تيسر لهم مطالعة هذا الكتاب ورأوا فيه خللا فى النقاط أو ذللا فى النكات أن لا يضنوا بفضل وكرم تصحيح السقيم منه وتقويم غير المستقيم فيه ، ذكاة للفضل وشكرا لرحمة الله وأن يتجاوزوا التعنت وأن يذكروا الدعاء حتى يجنب مالك الدين والملل أقوال وعمل كافة المسلمين الخطأ والخلل ، وأن يوفقوا للصدق والصواب إنه ولى الإحسان وعليه التوكل وقد قسم هذا الكتاب إلى أربعة أقسام بتوفيق الرب المتعال :

القسم الأول : من ابتداء نشأة طبرستان ويضم أربعة أبواب ، الباب الأول : فى ترجمة كلام ابن المقفع ، الباب الثانى : فى ابتداء نشأة طبرستان وقيام العمران ومدنها ، الباب الثالث : فى خصائص طبرستان وعجائبها ، الباب الرابع : فى ذكر الملوك والأكابر والعلماء والزهاد والكتاب والأطباء وأهل النجوم والحكماء والشعراء.

القسم الثانى : فى ابتداء دولة «آل وشمكير» «آل بويه» ومدة استيلائهم على طبرستان.

القسم الثالث : فى انتقال ملك طبرستان من «آل وشمكير» الذين كان آخرهم «أنوشروان بن منوجهر بن قابوس» أى سلاطين آل محمود والسلاجقة.

القسم الرابع : من ابتداء ذكر دولة «آل باوند» الثانية حتى آخر دولتهم.

٢٦

الباب الأول

فى ترجمة كلام ابن المقفع

لقد قرأت أن اسمه" كان عبد الله" وأباه اسمه" داذبه» ، وكان من بين كبار كتّاب وعمّال" فارس" وكان على مذهب عبدة النار ، وتصادف أن أحد الخلفاء ولّى أباه على عمل ، فسعى الوشاة عليه فسجنه الخليفة ، وأنزل به أنواع العقوبات حتى تقفعت يداه ، فغلب على اسمه المقفع و" عبد الله بن المقفع" أسلم على يد" عيسى بن على" ، وقيل إن سبب إسلامه أنه ذات يوم كان يمر أمام كتّاب وكان غلام يقرأ بصوت مرتفع قوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً* وَالْجِبالَ أَوْتاداً)(١) فوقف حتى أتم الغلام السورة ، وقال : الحق إن هذا ليس كلام مخلوق ، وجاء الخبر إلى «عيسى بن على» واستدعاه فأقر وأسلم ، وقال البعض : إنه لم يسلم على يد أحد قط ، وكان لبالغ فضله وبلاغته رفيع الدرجات مقبول الشهادة فى بلاط الخلفاء والملوك ، ويروى أنه وقعت بينه وبين" الخليل بن أحمد الفراهيدى" مودة وصداقة فلم يكن لهما ثالث قط حتى سأله أحد أكابر العلماء ماذا ترى فى حقهما؟ قال : العقل راجح على العلم عند الخليل ، والعلم زايد على العقل عند ابن المقفع ويقال : إن أمره علم به الخليفة فى النهاية وأنه ذات يوم كان يمر ببيت نار المجوس وقال فى حقه هذا البيت :

يا بيت عاتكة الذى أتغزل

حذر العدى وبه الفؤاد موكل (٢)

__________________

(١) سورة النبأ ، الآيتان (٦ ، ٧).

(٢) ورد هذا البيت للشاعر الأموى" الأخوص" الذى يسمى بأبى عبد الله بن محمد وقد ردده" ابن المقفع" حينما مر ببيت نار بعد إسلامه فكان سببا فى اتهامه بالزندقة ، وكثر عليه التشنيع بعد موته ، وقد انقسم الناس فى أمره بين شيعة له وناع عليه ، فقد زعم المؤرخون أن ابن المقفع كان ينتحل فى أول أمره نحلة أبيه وهى المجوسية ، فلما كانت دولة بنى العباس على يديه ، فطلب إليه عيسى أن يغدو عليه بين القواد ورؤساء الأجناد ليكون إسلامه مشهورا ثم حضر معه المائدة فى المساء فجعل يأكل ويزمزم على عادة المجوس ، فلما كلمه عيسى فى ذلك قال : كرهت أن أبيت على غير دين ، ثم غدا إليه فأعلن إسلامه وتسمى عبد الله واكتنى أبا محمد.

(عبد الله بن المقفع ، «كليلة ودمنة» ، تحقيق محمد حسن نائل المرصفى ، ط الخامسة القاهرة ١٩٣٤ ، ص ٥٢ ، ٥٣) المترجم.

٢٧

فقال : إن إسلامه مازال غير صحيح ، فوضع فى التنور وأحرق.

ويروى الجاحظ فى كتاب" البيان والتبيين" أنه عند ما سجنوه وألح عليه صاحب الخراج فى العذاب والتنكيل قال : عندك مال وجاه ، لو تؤدى من مالك عنى وعندئذ أتحرر فأعطى لك عوضا عن (الدرهم) اثنين وثلاثة ، وليس خافيا عليك وفائى وسخائى وكتمان أمرى ، فطمع صاحب الخراج فى ربح ماله ، فخاف أن يموت ويتلف ماله ويسلم من العقوبة.

وخلافا لهذه الرواية روى أن" الهيثم» سجان «يوسف بن عمر" كان يسجل أسماء الموتى فى الحبس ويعرضها على" يوسف" ، وكان" عبد الله بن أبى بردة" عند" أبى موسى الأشعرى" محبوسا فرجاه أن يأخذ عشرة آلاف درهم ويسجل اسمه فى الأموات فيخلصه بهذه الحيلة ويأخذ الذهب ، فلما عرض اسمه قال الأمير له قدم علىّ مثل ذلك الميت فخاف السجان من الخيانة وعاد فوضع وسادة على وجهه وقتله وضاع الروح والمال معا.

ويقول" ابن المقفع" عن" بهرام بن خرزاد" عن أبيه" منوجهر" قاضى" خراسان" وعلماء فارس : إن" الإسكندر" عند ما خرج من ناحية" المغرب" وديار" الروم" كانت شهرته قد أغنت عن ذكره ، وقد خضع له الأقباط والبربر والعبرانيون ، وقاد الجيش من هناك إلى فارس والتقى مع «دارا» وخان جماعة من خواص" دارا" وقطعوا رأسه بالتامر والخداع وأحضروها أمام" الإسكندر" فأمر بأن تعلق تلك الجماعة على المشانق ، حيث كانت عادة سياسة الرومان ، فجعلوهم هدفا للسهام ونادوا بأن لا يليق قتل الملوك الشجعان ولما آل إليه ملك بلاد" إيران" مثل بين يديه جميع أبناء الملوك وبقايا العظماء والسادات والقادة والأشراف ، ففكر فى أن يشتت جمعهم فكتب إلى وزيره ومعلمه" أرسطاطاليس" رسالة يقول فيها : لقد بلغنا هذه الدرجة من الغزو بنجاح وأريد أن اتجه صوب" الهند" و" الصين" ومشارق الأرض ، لكن أعتقد أننى إذا تركت عظماء فارس أحياء ، فتنشأ الفتن بسببهم فى غيبتى بما يصعب تداركه فيتجهون إلى بلاد الروم ويتعرضون لولاياتنا وأرى أن أقضى عليهم جميعا وأن أنفذ تلك النية دون تفكير ، فكتب هذا الفصل ردا عليه وقال :

٢٨

دع مسلك السفلة إلى المواضع العلية فانصرف عن هذا الرأى ، ومعنى ذلك أنه فى الحقيقة قد اختصت أمم كل إقليم فى العالم بفضيلة وفضل وشرف لا تتمتع به أهل الأقاليم الأخرى ، وقد تميز أهل" فارس" بالشجاعة والإقدام والفن والخبرة يوم الحرب ، والذى يعد أعظم ركن من أركان الملك وأدوات النجاح وأسبابه ، فلو قضيت عليهم فسوف تكون قد اقتلعت من العالم أعظم ركن من أركان الفضيلة وعند ما ينتهى أمر عظماؤهم ، فلا محالة بأن الحاجة سوف تجعل الوضعاء الأخساء يرتقون منازل وأماكن العظماء ، فاعلم حقا أنه لا يوجد فى العالم قط شر ولا بلاء ولا فتنة ولا وباء له من الفساد مثل ذلك الأثر الذى من الأخساء الوضعاء حين يحتلون مكانة العظماء ، فاحذر واصرف عنان الهمة عن تلك النية ، واقطع لسان التهمة ، وأخرسه بكمال عقلك إذ إنه أكثر إيلاما وأثرا من السنان الذى ينزع الروح ، وحتى لا تنسخ شريعة ولا مذهب حسن من أجل وهم وتخمين لا عن حقيقة ويقين بأنك سوف تقضى أياما قلائل من الحياة فى طمأنينة بال وفراغ خاطر.

فإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى (١)

" رباعية"

لو أن عمرك يمتد فى الدنيا إلى ثلاثمائة عام

فاعتبر حياتك فيها بغير مرارة وهم وخرافة

حقا أيها العاقل إذا ما صرت (حديث) أسطورة يوما ما

فكن أسطورة خير لا أسطورة سوء وشر

فيجب أن تكرم أصحاب بيوتهم وأرباب الدرجات منهم وأمراءهم وكبراءهم بمكانة لديك وحماية منك ووفائك وعنايتك ، وأن تبعد عن خواطرهم أسباب الضجر والتفكير بالعواطف والمراحم منك ، فقد قال الأسلاف إن كل أمر مهم لا يبلغ هدفه بالرفق واللطف لا يتيسر بالقهر والعنف ، والرأى هو أن تقسم ملك" فارس" بين أبناء ملوكهم ، وأن تتوج كل واحد تجده منهم فى كل ناحية وتهبه عرشها ، وأن لا تعطى شخصا قط رفعة ولا تفوقا ولا سيطرة على آخر منهم حتى يستند كل واحد منهم فى منطقة نفوذه على رأى نفسه ، لأن لقب الملك له غرور عظيم ، وكل رأس تحظى بالتاج لا تقبل سطوة وابتزاز شخص آخر ، ولا تنحنى للغير ، وبهذا يبقى الكثير من القطيعة والتدابر

__________________

(١) " الذكر الطيب للإنسان بعد رحيله عمر ثان" (المترجم).

٢٩

والتغالب والتطاول والمواجهة والتقاتل ، وتمتد عيونهم إلى الملك والتفاخر والتكاثر فى المال والتفاخر بالحسب ، والتشاجر على الاتباع والجاه مما يشغلهم عن الانتقام منك فلا يستطيعون التجاوز والتغاضى بعضهم للبعض الآخر ؛ فإن مضيت إلى أقصى مكان فى العالم فسوف يظل كل واحد منهم يخيف الآخر بحولك وقوتك ومعونتك ، وتكون أنت فى بعدك عنهم بمأمن ، برغم أن الدهر لا أمان له ولا اعتماد عليه ، فلما وقف «الإسكندر» على الجواب قرر العمل بمشورة" أرسطاطاليس" وقسم بلاد" إيران" بين أبناء ملوكها ولقبوا (بملوك الطوائف) (١) ، وزحف بجيشه من ذلك الإقليم ، واستنادا إلى الأسباب التى أكرمه بها مالك الملك دان له أهل العالم ، فسيطر على الدنيا وبعد أربعة عشر عاما حين عاد إلى أرض" بابل" ترك ما كان قد أخذ ورحل هو أيضا.

رأينا الدنيا شيئا لا قيمة له ، وكل ملك العالم لا يقوم بأبخس الأثمان ، وجيشه الذى كان منتظما متماسكا كصفة الثريا بات متفرقا كبنات نعش ، وهو لم يكن قد دفن فى التراب بعد إذ عصفت الريح بأوطانه وما أكثر ما حول الدهر مجتمعات واحتشادات إلى تفرقة وتبعثر ، وقد مضى على هذا النحو تعاقب الفلك ، وبعد فترة خرج" أردشير بن بابك بن ساسان" ، فكان ملكا على أرض" العراقين" والممالك ، مملكة" نهاوند" و" بسطام" ، و" سبزان" ، وكان" أردوان" أعظم ملوك الطوائف وأكثرهم سطوة ، فأخذه" أردشير" مع تسعين آخرين من الأبناء الذين أسرهم الإسكندر ، وقتل البعض بالسيف والبعض بالسجن ، بخلاف" أردوان" كان" جشنسف" ملك" طبرستان" و" فرشواركر" الأعظم قدرا ومرتبة فى ذلك العهد ، ولأن أجداد" جشنسف" كانوا قد استردوا أرض" فرشواركر" من نواب" الإسكندر" بالقهر والغلبة ، وكان حكمه على مذهب وسنن ملوك" فارس" ، فلم يرسل جيشه إلى ولايته ، وكان يبدى التساهل والمجاملة فى

__________________

(١) هذه الطبقة من ملوك" الفرس" يعرفون بالأشكانية من ولد" أشكان بن دارا الأكبر" وكانوا من أعظم ملوك الطوائف عند افتراق أمر الفرس وذلك أن الإسكندر لما قتل دارا فاستشار معلمه" أرسطو" فى أمر" الفرس" فأشار عليه أن يفرق رياستهم فى أهل البيوت منهم فتفرق كلمتهم ويخلص لك أمرهم".

" تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر» لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون الخضرمى المغربى ـ بيروت لبنان ١٣٩٩ ه‍ ١٩٧٩ م. المجلد الثانى ص ١٦٧" المترجم.

٣٠

معاملته حتى لا يصل إلى مقاتلته ومناضلته ، فلما تبين ل" جشنسف" أن لا حيلة من الطاعة والولاء له فحرر رسالة إلى" تنسر" قاضى قضاة" أردشير بن بابك" ، وقال" بهرام بن خرزاد" إنه قد سمى ب" تنسر" لأن الشعر قد نبت على جميع أعضائه بكثرة وتهدل كحال الرأس ، أى أن كل بدنه مثل الرأس ، فلما قرأ" تنسر" رسالة ملك" طبرستان" كتب الجواب على هذا النحو :

«وصلت رسالة من" جشنسف" عند ملك وابن ملك" طبرستان" و" فرشواركر" و" جيلان" و" الديلم" و" رويان" و" دنباوند" إلى" تنسر" قاضى القضاة فقرأها وهو يسلم ويسجد ، وقد تمت مطالعة كل صحيح وسقيم كان فى الرسالة ، على الرغم من أن البعض كان يوافق السداد والبعض موضع الانتقاد ، والأمل أن يكون ما هو صحيح رائدا وأن يقترب ما هو سقيم من الصحة ، أما بعد :

أما ما تذكرنى به من الدعاء وتعظمنى به ، والممدوح السعيد الذى يكون مستحقا للمدح والداعى الذى يكون أهل إجابة هو بالتأكيد الذى يدعو الخالق لك أكثر منى ؛ لأنك ملك وابن ملك ويطلب نفعك مثلى ، وقلت فى الرسالة إنه كانت لى ـ أنا" تنسر" ـ منزلة وعظمة لدى والدك ، وأنه كان يطيعنى فى مصالح الأمور وقد رحل عن الدنيا ولم يخلف وراءه شخصا قط أقرب إليه وإلى أولاده منى ، حقا لتكن روحه خالدة وليكن ذكره باقيا ، لقد قلت فى شأنى من التعظيم والاحترام أكثر مما استحق ، وجعلت نفسك تستريح إلى طاعة رأى ومشورتى أنا والآخرين من الناصحين الأمناء المتمكنين ، ولو كان والدك قد استقبل هذا الدهر وهذا الأمر الذى استقبلته أنت بالعبر والطمأنينة ، لكان قد أدركه بالتدبير والاستقراء ، ولكان قد نهض وبادر لذاك الأمر الذى تنازلت وتواضعت أنت من أجله ، وبما إنك قد وصلت إلى أن تطلب الرأى منى وتشرفنى بالاستشارة ، فاعلم أن حالى معلوم للخلائق من بنى آدم غير خاف عن عقلائهم أو جهلائهم ، ولا عن أوساطهم وأوباشهم ، وأننى أقمت خمسين سنة حتى روضت نفسى الأمارة (بالسوء) حتى امتنعت عن لذة النكاح (١) والمباشرة وعن اكتساب

__________________

(١) الامتناع عن الزواج مكروه فى ديانة زرادشت ، والمؤمن يساعد بزواجه" أهورا مزدا" على الإكثار من المؤمنين الذين يثبتون الخير ويقاومون الشر. (كتاب تنسر ، ترجمة د. الخشاب ، ص ٢٤) المترجم.

٣١

الأموال والمعاشرة ، ولم أترك ذلك فى قلبى ولست راغبا أن تكون لى صديقا قط ، وسأظل محبوسا فى الدنيا حتى يعلم الخلائق عدلى وليطلبوا منى ما يلزمهم من أجل صلاح المعاش ، وفلاح المعاد والتعفف عن الفساد ، ولأهديهم فلا يظنون ويتخيلون أننى مشغول بطلب الدنيا بالمخادعة والمخاتلة ، ولا يتوهمون ذلك حيلة منى طويلة ، إننى اعتزلت شهوات الدنيا وسكنت فيها إلى مكارمها وكان ذلك لغرض أننى إذا ما دعوت شخصا للرشد والحسنات والخير يستجيب لى ، فلا يرد نصيحتى بعصيان ، ومثلما كان والدك السعيد بعد تسعين عاما من العمر والملك ب" طبرستان" يتقبل كلامى بسمع القبول والإصغاء ، ولم يكن يتوهم فيه خللا قط ، وهدفى من ذلك أن أوضح لك أن نهجى وسيرتى ليست من رأيى ولا من صنعى فكيف تواتينى الجرأة بحيث أحرم فى الدين أمرا حلالا من نساء وشراب ولهو ، فكل من يحرم الحلال يكون شأنه كمن يحلل الحرام ، لكن هذه السنة والسيرة قد تلقيتها عن رجال كانوا أئمة الدين وأصحاب الرأى والكشف واليقين ، مثل فلان وفلان تلاميذ الشيوخ والحكماء المتقدمين على عهد" دارا" ، فقد رأوا هؤلاء المفاسد واستمعوا من السفهاء والسفلة إلى المحاورات والمشافهات ، وشاهدوا الإعراض وعدم الاكتراث من الجهال فى حق العلماء ، وراج الظن والتفريق وهجرة السيرة الإنسانية ، وانبعثت الطبيعة الحيوانية ، وخشيت أن يلحقهم عار الجهل بحال الناس وعدم العناية به ، حطموا القلب على الصخر وفروا من مكر الثعالب واستراحوا إلى نهج النمور وهجروا الدنيا كلية ورفضوا شهواتها التى لها تبعات كثيرة ، واستقبلوا مجاهدة النفس والصبر والتجلد على مقاسات تجرع كؤوس الحرمان ، وفضلوا هلاك النفس فى سبيل سلامة الروح.

ففى التوراة مسطور (هجران الجاهل قربة إلى الله عز وجل)

خص بإحسانك شخصين ، ولا يوجد فى الدنيا إنسان أتعس ولا أذل منهما :

ـ أولاهما المدرك تماما بعقله الذى يبقى فى الدنيا ذليلا بين أكف الحمقى.

ـ وثانيهما الملك الذى سقط لسوء حظه عن التاج والعرش فى البؤس والفقر.

٣٢

وليكن معلوما للملك ابن ملك الدنيا أن الحكماء يعدون الملك الممكن هو من يعتنى بصلاح الزمن القادم أكثر من عنايته بما هو فيه حتى ينتهى ذكره حبيسا فى الدنيا والآخرة (١). مثلما قال أحد ملوك" فارس" للخاقان لقد طلبت من الترك ثأر مائة عام تالية بعدى ، فكل ملك يهمل قانون العقل فى إدارة الملك طلبا ليمن حاضره ، ويقول إن أثر فساد هذا الأمر سيتحقق بعد مائة عام أخرى ، ولن أدع اليوم تشفى النفس فلن أحيل إلى ذلك العهد إذن يجب معرفة أن لسان الخلق البعيد حتى وإن يكونوا جميعا أحفاده فسوف يكونون أكثر حدة وطولا فى النيل من مقولته مما عليه الحال فى عهده وسيبقى ذكر ذلك مدة أطول ولقد حررت هذا المعنى عن عملى حتى تعلم أن كل من يستشيرنى مثلما فعلت معى أنت تكرما ، وحين يظهر أثر نصيحتى فيه أهنا وسرورى فى الدنيا مبعثه هذا ، ولا يستطيع شخص قط على وجه الأرض من الملوك أن يصنع فىّ إحسانا ولا أن يسدى لى سعادة أخرى أكثر من هذا ، ولا تعجب من حرصى ورغبتى فى صلاح الدنيا طلبا لاستقامة قواعد أحكام الدين ، فالدين والملك توأمان لاصقان مولودان من بطن واحدة ، ولن ينفصل كلاهما عن الآخر قط وصلاحهما وفسادهما وصحتهما وسقمهما له مزاج واحد ، فأرضى بعقلى ورأى وفكرتى أكثر من الثرى بالمال ومن الأب بالأبناء ولذتى من نتائج الرأى أبلغ من ملاذ الشارب والغناء واللهو فأنواع السرور عندى هى :

أولا : الصورة الصائبة التى يكون عليها اعتقادى ونتائجها التى أراها كل يوم وليلة فى ظهور الصلاح بعد الفساد والحق بعد الباطل.

وثانيا : أن تسعد أرواح السالفين الأخيار برأيى وعلمى وعملى بحيث أسمع أصواتهم تقول أحسنت وأطالع بشاشة وطلاقة وجوههم.

وثالثا : إننى أعلم أن روحى سوف تأتلف فى القريب العاجل مع أرواحهم ائتلافا بلا خلاف ، فحينما نلتقى ببعضنا البعض فسوف نقص الحكايات عما فعلنا ، وسوف نسعد بذلك حتى يكون معروفا للملك ابن الملك أن رأيى لعامة الخلائق ما هو

__________________

(١) هذه العبارة أساس من أسس الحكم الساسانى وقد ذكرها" الفردوسى" فى" الشاهنامه". " كتاب تنسر ، ترجمة د. الخشاب هامش ص ٢٧" المترجم.

٣٣

إلا بر ومكرمة ، ومن أجلك أنت الذى قد امتطيت صهوة الجواد وتأخذ بالتاج والعرش فلتأت إلى بلاط ملك الملوك ، ولتعلم أنه الذى وضع ذلك التاج على رأسك ، ولتعرف أنه أسند إليك الملك فقد سمعت ماذا فعل مع كل من أخذ منه التاج والملك ، ولقد كان قابوس ملك" كرمان" واحدا من هؤلاء ومثل ملك" كرمان" بين حضرة جنابه العظيم طائعا منقادا ، وقبل أعتابه الرفيعة وسلم التاج والعرش ، وقال ملك الملوك للموابدة : لم يكن فى رأينا قط أن نعطى لقب الملك لمخلوق قط فى ممالك آبائنا وأجدادنا إلا أنه حينما لجأ إلينا" قابوس" ظهر له" نورايى" بالرأى والحرص الذى نحن عليه أن لا ينتقص مخلوق منه قط بأن نضم إلى تاجه وعرشه الإقبال واليمن ، وكل من يدخل فى طاعتنا ويكون مستقيما على جادة الطاعة لا نسقط لقب الملك منه ، ولا يجوز لمخلوق قط ليس من أهل بيتنا أن يدعى ملكا (١) سوى تلك الجماعة من أصحاب الثغور وهى الآن ناحية" المغرب" و" خوارزم" و" كابل" ولم نعط الملك ميراثا على نحو ما أعطيناه من قبل مرارا ويجب على الأمراء جميعا أن يلتزموا حضرتنا كل فى دوره ، ولا تجوز لهم رتبة ولا درجة ، فلو سعوا وراء الدرجات لوقعوا فى الجدل والقيل والقال ولضاعت هيبتهم ووقارهم وهان أمرهم فى أعين الخلق ، فماذا ترون أنتم فى هذا؟ إن كان هذا الرأى مستحسنا لديكم فعليكم بالعمل به ، وإلا فليتخذ الصلاح ، ولما كان افتتاح هذا واختتامه مقرونا بالصلاح والنجاح فقد وجب النفاذ وأعيد قابوس ، ولقد أبديت هذا القدر لك أيها الأمير ، لأنك قد طلبت أن أسدى لك الصلاح على وجه السرعة فيجب عليك أن تحزم أمرك بالرحيل فورا وأن تمثل فى حضرة السلطان عاجلا ، حتى لا ينتهى الأمر بأن تطلب للمثول وتصبح ذميما عنده ويزل أعقابك من بعدك ، وتبتلى بغضب ملك الملوك ، وما هو مأمول فيك اليوم لا يمكن إدراكه غدا ، وتتحول من مقام الطاعة إلى مقام العصيان ، أما بقية الأسئلة التى سألتها عن أحكام ملك الملوك وقلت إن بعضها ليس مستنكرا ، وأثبت أن البعض الأخير غير مستقيم بأى وجه من الوجوه فإنى أجيبك بأن ما كتبته للسلطان بأن يطلب حق الأولين يمكن أن يقول بترك السنة ، فإن كان مواتيا للدنيا لم يكن مستقيما مع الدين واعلم أن السنة سنتان سنة الأولين

__________________

(١) كان عظماء الأشراف فى الدولة الساسانية يحملون لقب ملك وأفراد هذه الطبقة هم الذين يطلق عليهم لقب شهرداران وهى تشمل الأمراء التابعين الذين يحكمون ولايات فى أطراف الدولة وحكام الإمارات التى كانت خاضعة لحماية إيران" تنسر ص ٢٩" المترجم.

٣٤

وسنة الآخرين (١) سنة الأولين هى العدل ، وقد أهمل طريق العدل وانطوى بحيث لو تدعو أحدا فى هذا العهد للعدل فسوف تدعوه الجهالة إلى التعجب واستصعاب ما تدعوه إليه ، أما سنة الآخرين فهى الجور ولقد استكان أهل الظلم إلى مسلك لا يستطيعون معه أن يغيروا طريقهم من مغبة الظلم إلى منفعة تفضيل العدل واختياره ، بحيث لو إن الآخرين أتوا بعدل لقيل : إنه لا يليق بهذا الزمان ، ولهذا لم يبق ذكر للعدل وإذا ما انتقص السلطان شيئا من ظلم السابقين ، لأنه ليس من صلاح هذا العهد والزمان لقيل إن هذا رسم قديم وعادة الأولين ، فيجب عليك معرفة الحقيقة وهى أنه يجب السعى لتبديل آثار ظلم الأولين والآخرين واعتمادا على أن الظلم غير محمود فى العهد الذى اقترفوه فيه أو يقترفونه فيه سواء الأولون أو الآخرون ، وهذا السلطان قادر على هذا ، والدين معين له فى تغيير ومحق أسباب الجور ، إذ إننا نراه صاحب أوصاف حميدة أكثر من الأولين وسنته أفضل من السنن السابقة ، وإن كانت عنايتك بأمر الدين واستنكارك لما وجه له فى الدين فاعلم أن" الإسكندر" قد أحرق فى" إصطخر" كتاب ديننا المكون من اثنتى عشر ألف جلد من جلود البقر لكن الكثير منه بقى فى القلوب ، وذلك أيضا فى جملة قصص وأحاديث ، ولم يدرك الشرائع والأحكام بل إن تلك القصص والأحاديث أيضا قد ضاعت من ذاكرة الخلائق بسبب فساد أهل العصر وذهاب الملك والحرص على البدعة والأضاليل والطمع فى الفخر ، فلم يعد يبقى من صدقها ألف ، فلا حيلة إذن للرأى الصائب والصالح إلا بإحياء الدين ، ولم تسمع ولم تر أن ملكا قط غير السلطان قد قام بهذا الأمر ، وقد اجتمع عليكم مع ذهاب الدين أن ضاع أيضا علم الأنساب والأخبار والسير وسقط من الذاكرة ، فصرتم تكتبون بعضه فى الدفاتر وتنقشون بعضه على الأحجار والجدران ، حتى إنكم ما عدتم تحتفظون فى الخاطر بشىء قط مما جرى فى عهد والد كل واحد منكم ، ولا نهاية لأعمال العامة وسير الملوك مما يخص الدين إلى نهاية الدنيا فكيف يمكن الاحتفاظ

__________________

(١) المقصود بسنة الأولين ، المبادئ الدينية الأصلية القديمة فى دين زرادشت والمقصود بسنة الآخرين المبادئ التى يرى العمل بها وقد عبرت الأوستا عن النوع الأول بكلمة بوريو تكيش وعن النوع الثانى بكلمة أمرتكيشى ، ومعنى اللفظ الأخير القانون المعمول به" المترجم.

(كتاب تنسر ، ترجمة د. الخشاب ، ص ٣٠).

٣٥

بذلك؟ ولا شبهة فى إنه فى الزمن الأول مع كمال معرفة الإنسان بعلم الدين وثبات اليقين كان الناس مع ما وقع من الأحداث فيما بينهم حاجة ماسة لملك صاحب رأى ، ولا يكون للدين قوام ما لم يكن هناك رأى واضح.

الأمر الثانى : كتبته عما يطلبه المليك من أهل المكاتب والمروءة ، فاعلم أن الناس فى الدين أربعة أصناف ، وفى كثير من كتب الدين مكتوب ومبين بلا جدال ولا تأويل ولا خلاف ولا أقاويل ويقولون إن لذلك أربعة أعضاء والملك على رأسها :

العضو الأول : أصحاب الدين وهذا العضو ينقسم إلى أصناف أخرى وهى : الحكام والعبّاد والزهّاد والسدنة والمعلمون.

أما العضو الثانى : فهو المقاتلون أى رجال الحرب وهم على قسمين الراكبون والمترجلون وهم متفاوتون بعد ذلك فى الدرجات والأعمال.

أما العضو الثالث : وهم كتّاب الرسائل وكتّاب القضايا والسجلات والشروط وكتّاب السير والأطباء والشعراء والمنجمون داخل طبقتهم ويعدون أرباب المهن.

أما العضو الرابع : وهم الزّراع والرعاة والتجار وسائر الحرفيين ويكون بنو آدم أربعة أعضاء فى زمن الصلاح على الدوام ، ولا شك أنه لا ينقل واحد من فئة إلى أخرى إلا أن يجدوا واحدا فى الجبلة قد شاعت أهليته فيعرضونه على المليك ، وبعد طول تجربة ومراقبة له من قبل الموابدة والهرابدة يتم إلحاقه بطائفة أخرى إن وجد مستحقا لذلك ، لكن بما إن الناس سقطوا فى عصر الفساد وسلطان لا يقيم صلاح العالم ، فقد تعلقت أطماعهم بما ليس حقا لهم ، فأضاعوا الأدب وأهملوا السنة وأطلقوا للرأى العناية وحشروا رؤوسهم ، وسلكوا بالقوة طرقا لا تبدو لها نهاية فظهرت السطوة وحملت جماعة على أخرى لتفاوتهم فى المراتب والآراء ، حتى انتهى السلام والدين جملة ، وبات لبنى آدم صورتان هى : الشيطان صفة والوحش سيرة على نحو ما جرى ذكره فى القرآن المجيد عز قائله من قوله (شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض) (١) وسقط حجاب المحافظة والأدب ، وظهر قوم ليسوا متحلين بشرف الفضل

__________________

(١) نص الآية (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ") الأنعام / ١١٢ (المترجم)

٣٦

والعمل ، ولا وارثين لضياع ولا يهمهم حسب ولا نسب ، فارغون من كل فكر وحرفة ، مستعدون للغمز والشر والترويج والكذب والافتراءات ، وهم يعيشون على ذلك ، وقد بلغوا وجاهة به فى الحال وكسبا للعمال ، وقد أعاد السلطان بعقله الخاص وفيض فضله تلك الأعضاء التى كانت قد تمزقت من بعضها البعض إلى بعضها مرة أخرى ، وجمعها وأعاد كلا منهم إلى مقر فئته وأنزله مرتبته ، ومنع أى واحد منهم أن يشتغل بغير الصفة التى خلقه الله سبحانه وتعالى من أجلها ، وفتح تقدير الحق تعالى على يديه بابا لأهل العالم ، حيث لم تكن الأفكار والخواطر قد بلغته فى الزمن الأول ، وكلف كل واحد من رؤساء الأعضاء الأربعة بأنه إذا ما وجد أثر رشد وخير فى واحد من أبناء مهنته ورآه مأمونا على الدين أو صاحب بطش وقوة وشجاعة وفضل وحفظ وفطانة وجدارة بأن يعرض عليه حتى يصدر بشأنه أمرا ، أما ما تستعظمه فى عينك من عقوبات السلطان والإسراف الذى يأمر به لسفك الدماء فى حق من يعمل من الأفراد بخلاف رأيه وأمره ، فليعلم أن الأوائل قد قصروا أيديهم عن هذا الأمر ، لأن الخلائق لم يكونوا ينسبون إلى العصيان وترك الأدب ، فانشغل كل إنسان بمعيشته وبما يهمه ، فلم يكونوا يدفعون الملوك إلى الاهتمام بهذا الأمر بسوء التدبير والعصيان فلما كثر الفساد وخرج الناس على طاعة الدين والعقل والسلطان وسقط الحساب بينهم ، عندها لا تسترجع كرامة مثل هذا الملك ورونقه إلا بسفك الدماء ، ربما لم تسمع بأنه فى مثل هذا الزمن قال رجل من أهل الصلاح : لم نعلم ولم نسمع من قبل بأن العفاف والحياء والقناعة والصداقة المرعية والنصيحة الصادقة والرحم الموصولة قد انقطعت بسبب الطمع ، فلما غلب الطمع على هذا الزمان زال الأدب من بينهم وأصبح العدو أقرب إلينا ومن كان تابعا لنا أصبح متبوعا ومن كان خادما أصبح مخدوما ، وصار الجميع كشياطين قد فكت قيودها فأسقطوا الأمور وانتشروا فى المدن باللصوصية والفتنة والصعلكة والفواحش ، حتى بلغ الأمر أن تتطاول العبيد على السادة وتمردت النساء على الأزواج ، وتسلطت عليهم ، وعد من هذا النمط كثيرا ، ثم قال بعد ذلك : " فلا قريب ولا حميم ولا نصيح إلا السنة والأدب" حتى تعلم أن ما أمر به السلطان من اشتغال الناس بأمورهم عن أمور الآخرين هو قوام العالم ونظام أمر أهله ، كما إنه بمنزلة

٣٧

المطر الذى يحيى الأرض والشمس التى تمدها بالطاقة ، والريح التى تنفخ فيها الروح ، فإن وقع إفراط ، فى العذاب وسفك دماء مثل هؤلاء القوم مما لا يظهر له نهاية ، فإننا نعد ذلك حياة وصلاحا سوف تصبح به أوتاد الملك والدين فى الزمن المستقبل فى كل لحظة أكثر إحكاما وقوة ، وكلما زاد فى العقوبة من أجل أن ينصرف كل عضو إلى مركزه واختصاصه ، كانت النتيجة أكثر نفعا وحمدا ، ومع أنه قرر أن يكون لكل عضو رئيس قائم عليه ، ومن بعد الرئيس عارض حتى يحصيهم عددا ، ومن بعد مفتش أمين حتى يفتش عن شوائبهم ، ومعلم كذلك حتى يقوم على تعليم كل واحد منهم حرفته وعمله منذ الطفولة ، وليطمئنوهم ويسكنوهم فى تصرف معيشتهم ، كما نظم وعين المعلمين والقضاة والسدنة الذين يقومون بالتذكير والتدريس ، كما أمر معلمى الأبطال والفرسان بأن يهتموا بتدريب أبناء القتال فى المدن والقرى على السلاح وفنون القتال وآدابه ، حتى يشرع جميع أهل الممالك كل فى عمله ، حيث قال الحكماء الأوائل : " القلب الفارغ يبحث عن السوء واليد الفارغة تنازع الإثم" ومعناه : إن القلب الفارغ من العمل دوما يسعى وراء المحالات ويتتبع أخبار الأراجف ، وحيث تتولد الفتنة من ذلك ، وأن اليد التى تلاصقه تتعلق بالآثام والجرائم.

وقد أوضحت أن ألسنة الناس قد طالت فى التحدث عن سفك السلطان للدماء ، وأنهم فى قلق لذلك والجواب هو أن كثيرا من الملوك يكون قلة قتلهم إسرافا ، لو قتلوا عشرة أشخاص بحيث يعد ذلك كثيرا كما لو كانوا قد قتلوا الآلاف ، بل يجب قتل المزيد لأنهم يكونون مضطرين لذلك آنذاك مع أهله ، ومع هذا فكثير من الأشخاص مستحقون للقتل إلا أن السلطان يعفو عنهم وهو أكثر رحمة وأقل إذن بكثير من" بهمن بن إسفنديار" الذى أجمعت أمم السلف على رفعته ورحمته وإنى أوضح لك أن قلة القتل والعقوبة فى ذلك الزمان وكثرته فى هذا الزمن إنما هو بسبب الرعية لا بسبب السلطان وليعلم أن العقوبات تنقسم إلى ذنوب ثلاثة وهى : ـ

الأول : بين العبد وربه عز اسمه حين يرتد عن الدين ويحدث البدعة فى الشريعة.

والثانى : بين الرعية والسلطان حين تعصى أو تخون أو تغش.

٣٨

والثالث : بين أخوة الدنيا بين الخلائق فى الدنيا حين يظلم بعضهم البعض وقد استن السلطان فى هذه الذنوب الثلاثة سنة أفضل بكثير عما كان لدى السابقين ، ففى عهد السابقين كان كل من يرتد عن الدين يصدر الأمر على الفور بتعذيبه وقتله عاجلا ، فأمر السلطان بأن يسجن مثل هذا الشخص وأن يستدعيه العلماء فى كل وقت وعلى مدار عام بأكمله ويتعهدونه بالنصيحة ويوضحون له الأدلة والبراهين ، ويمحون ما صار فى نفسه من شك ، فإن تاب وأناب واستغفر يطلق سراحه ، وإن أصر على غيه واستكبر يؤمر بقتله بعد ذلك.

وبالنسبة للذنب الثانى : فكل من كان يعصى الملوك أو يفر من الزحف لم يكن يأمن على روحه قط ، فاستحدث السلطان سنة بأن يقتل من تلك الطائفة بعضها لإيجاد الرهبة حتى لا تصبح عادة ، وأن يعفى عن البعض حتى يبقى الأمل فى العفو قائما ويستقر الأمر بين الخوف والرجاء وهذا الرأى أشمل بالنسبة لصلاح الحكم والملك.

أما الثالث : فقد كانت السنة فى الزمن السالف أن يضرب الضارب ويجرح على الجارح ويمثل بالغاصب والسارق والزانى كذلك ، فتم إبطال تلك السنة وحددت غرامة على الجارح تعطى للمعتدى عليه حتى يتألم الظالم وينال المظلوم منفعة ورضا ، فحينما تقطع يد السارق لا تتحقق منفعة لأحد قط ويظهر بين الخلق عيب فاحش ، كما يعاقب الغاصب بغرامة تعادل أربعة أمثال ما يعاقب به اللص ، والزانى يعاقب ببتر أنفه بحيث لا يقطع منه عضو ينقص من قوته ويكون عارا وشنارا له فى حين لا يؤثر على عمله وأمر بتسجيل تلك الأحكام فى كتاب ثم قال بعد ذلك : فلتعلم أننا قد وجدنا الناس ثلاثة أصناف ، ونرضى منهم بثلاث سياسات :

الصنف الأول : وهم القلة ، هم الخاصة وأهل الخير وسياستهم المودة المحضة.

الصنف الثانى : هم أهل السوء والشر والفتنة وسياستهم التخويف الصرف.

الصنف الثالث : وهم الأكثر عددا وهم العامة وسياستهم الجمع بين الترغيب والترهيب ، فلا أمن على الإطلاق فيتجرؤون ولا رعب على الإطلاق فيتشتتون ويتفرقون ، ففى بعض الأوقات يجب القتل للذنب الذى يكون أقرب إلى العفو وأليق به

٣٩

ويؤمر بالعفو للذنب الذى يستوجب القتل ، وقد رأينا أن لا فائدة فى أحكام وسنة السلف السابق وكان الضر والنقصان يحل بالعامة فى العدد والقوة ، فأمرنا بوضع هذا الحكم وتلك السنة المستحدثة حتى يعمل بها فى عهدنا ومن بعدنا ، وأمرنا بالقضاة لو عادت تلك الجماعة من المجرمين إلى ارتكاب جرائمهم مرة أخرى بعد أداء الغرامات التى حددت لهم فلتقطع آذانهم وأنوفهم دون أن يتعرضوا لعضو آخر من أعضاءهم.

الفصل الآخر : الذى كتبته عن أمر البيوتات والرتب والدرجات التى أمر السلطان بإحداثها وإبداعها ، فإن البيوتات والدرجات هى الأركان والأوتاد والقواعد والمحاور وكلما زال الأساس تداعى البيت للخراب وانهار ، فاعلم أن فساد البيوتات والدرجات على نوعين :

الأول : أن يهدم البيت وأن يجاد أن تعطى الدرجة بغير حق ، أو أن يضع الزمان نفسه من عزمهم وبهائهم وجلال قدرهم دون سعى آخر ، فيأتى من بعده نسل وضيع فيتخذ أخلاق الأجلاف شعارا ، ويهمل أسلوب التكرم فيذهب وقارهم بين العامة فينشغل أصحاب المحن بكسب المال ، ويتخلون عن الفوز بالفخر وادخاره ويصاهرون الأخساء الوضعاء ممن ليسوا أهلا لهم ، ولهذا ينتج توالد وتناسل المنحطين الوضعاء الذى يؤدى إلى تهجين المراتب والدرجات ، ولكى يرفع السلطان من مراتبهم ويمنحهم درجة الشرف والرفعة فقد أمر بما لم نسمع به من أحد قط من قبل ، وهو أن يكون هناك تمييز ظاهر وعام وباد للأعين فيما بين أهل الدرجات عامة فى المركب واللباس والبيت والبستان والزوجة والخدم ، كما وضع فروقا بعد ذلك بين أرباب الدرجات فى الدخل والمشرب والمجلس والموقف والثوب والحلية والأوعية ، بحيث تحفظ أماكنهم ومواضعها بقدر كل واحد منهم ، وحتى يعرف كل منهم من حظه ومحله ما يناسبه فلا يشاركهم أحد ، ولا يخالط العامة قط فى أسباب التعيش ولا فى النسب والنكاح إذ يكون هذا محظورا بين الجانبين وقال : إنى أعلم أن المرأة بمنزلة الوعاء ، وفلان من قبيلتنا كانت أمه كالتابوت (فاقدة الإحساس كالأموات) ولقد منعت أى إنسان من أن يتزوج من امرأة من العوام حتى يبقى النسب محفوظا وكل من يفعل ذلك (أى يتزوج من امرأة من العامة) يحرم عليه الميراث كما أمرت بأن لا يشترى العامة المستغلون أملاك أبناء العظماء وبولغ فى هذا الأمر ، حتى تبقى لكل واحد درجته ورتبته المعينة ، ولتسجل وتدون فى الكتب والدواوين.

٤٠