تاريخ طبرستان

المؤلف:

بهاء الدين محمد بن حسن بن إسفنديار


المترجم: أحمد محمد نادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩١

الله عليهم كانوا يسألونهم عن حكايات ملوك فارس ومذهبهم وطريقتهم ومطلبهم ، وذات يوم سألوا واحدا من الهرابذة والموابدة ، عمن كان أفضل ملوككم ، فأجابوا بأنه صاحب الفضل والسنن والحج والحكم والتقدم «أردشير بن بابك» وأحصى من فضائل أردشير كثيرا حتى وصل فى كلامه إلى ما وقع فى عام قحط حين كتب الرعايا إليه قصة يشكون من إمساك المطر (الغيث) فأصدر أمرا إلى وزيره بأن : (إذا قحط المطر جادت سحائب الملك ففرق بينهم ما فاتهم).

ووهب نفقات أهل الدنيا من الخزانة ، ويأتى بعده الإمبراطور كسرى الذى يقترب عهده منكم فى تقوية مذهبه وقمعه للبدع أثناء الغزو وقال لوزيره : اعرض الخزانة ومن كنوز البيت وأعط للحشم ما يكفيهم من الدراهم ، واقتل الوزير لأمر الملك وعاد وقال : يلزم آلاف آلاف الدراهم حتى تكتمل (الخزانة) فأمر بأن يؤخذ من التجار والأغنياء على سبيل المرابحة حتى ترتفع ريعها وقت سدادها ، وفى الحال استدعى الوزير رجلا من تلك الجماعة كان موصوفا بالأدب ومعروفا بقول الصدق ، وتباحث معه فى هذا الأمر ، وقام الرجل وقبل الأرض بشفة الأدب ورفع عمامة التكبر عن رأسه ووضع قدم التواضع ، وقال : لو يجيز ملك الدنيا للعبد أن يتفوه بكلمة ويحظى بسمع القبول ويبذل العبد ما يتمناه سوف أوصل هذا المبلغ بلا ربح إلى خزانة الملك ويؤدى خدمات أخرى إلى منزل ملك الدنيا ، فقال الوزير : لو تصدق القول تحظى بالجواب ، فتحدث شاه بندر التجار بدعاء من قبله ثم ابتدأ حديثه قائلا : هكذا ترى شمس حياتى سوف تأفل فى شرفة القصر.

تفوقت إخلاف الصبى فى خلاله

إلى أن آتانى بالفطام مشيب

وواهب المنن قد أفاء علىّ بالكثير الذى لا أستطيع حصره ولم يكن لدى فى هذه الدنيا سوى ولد ، ورغم أن الخالق جلت قدرته لم يضن عليه قط بالعقل الغريزى ، ولمدة ثلاثين عاما وأنا أجتهد فى تهذيبه أخلاقيا وتأديبه وتعليمه ، وقد أوصلته بالتدريبات إلى ما لا يبلغه طمع ولا مطمع ولا رأى ، ولو أن الوزير يعرض على الملك حتى بعد أن

٦١

يخضع لاختبار وتأمل واعتبار وطول ممارسة عما اكتسبه فإن وجد فيه الاستقلال والأهلية يضع اسمه بين أهل الدرجات ، والوزير من صلاح حاله ونور قلبه أخذ يسوق الحديث إلى السلطان من أوله إلى آخره ، فأمر الملك بأن : أولاد السفلة إذا تأدبوا طلبوا معالى الأمور فإذا نالوها ولعوا ببذل الأشراف والأحرار والوضع بأجلة الكبار ، وإنى أصون أعراض الأشراف أن يتناولها السفلة والأشرار : يعنى أن أبناء الأحقار إذا ما تعلموا العلم والأدب والكتابة طلبوا المهام الكبيرة وإذا ما ظفروا بها سعوا إلى ذل الأشراف والأحرار والوضع بأجلة العظماء وإنى أصون أعراض الأشراف من أن يتناولها ألسنة السفلة ، وقد نظم واحد من العظماء هذا المعنى فى شكر أنوشروان.

لله در أنوشروان من رجل

ما كان أعلمه بالدون والسفل

أبى لهم أن يروموا غير حرفتهم

وأن يذل بنو الأحرار بالعمل

من باع تبن أبيه فليبعه ولا

يبع سواه فيدينه إلى الوهل

وعند ما سمع الوزير كلام الملك أخبر التاجر وعاد الرجل حزينا ومهموما وجاء إلى بلاط الملك مرة أخرى فى الصباح بكثير من الهدايا وخدمات لا تحصى ووقف فى مقامه ودعاه بدعاء لائق ، لو لم يحظ تمنى الأمس بالقبول وكان طريقه مسدودا ، فلا ذنب لى أن حنظلت نخلاتها ، فماذا يحدث بأخذ نفس المال من العبد وتحضر القدم المباركة التى تطأ مفرق الشمس إلى منزل العبد فأجابه الوزير قائلا : هذا يتعلق بى" ولو دعيت إلى كراع لأجبت" (١) وفى الغداة توجه الوزير وأعيان الملك إلى منزل التاجر ، وكان قد أنفق ببذخ فى تلك الضيافة لكى يبقى اليوم تاريخا ، وعند ما حل الليل بعد ذلك جلسوا إلى مجلس الشراب" وإنما الليل نهار الأديب" وأمر التاجر بأن يحضروا الشمعدان فى مواجهة وزير أنوشروان ويضعوه على الأرض ، وفى الحال أقبلت هرة ورفعت بيديها الشمعة على رأسها فلما رأى الوزير هذه الحالة أدرك أمر التاجر من هذا كله ، لكى يعرفه بكفاءته وأن الحيوان الوحشى الذى فى نفسه الناطقة أصبح مؤدبا

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث محمد بن رافع «كتاب النكاح الجزء الثالث الحديث رقم ١٠٤» (المترجم).

٦٢

ومعدوما برياضة التأديب والبن متميزا بما فيه من خصائص الفضل هذه ، فكيف يتصور بأن يأتى منه أذى موجها لأحد أو لجماعة ، وقال الوزير فى الحال لكى يعتمد هذا الأمر منه يحفر فأرا ويظهره للهرة من بعيد وامتثل للأمر ، فلما رأت الهرة الفأر قفزت وألقت الشمعدان فتوسخت رؤوس ووجوه وملابس بعض حاضرى المجلس بالزيت ، وتوارى التاجر فى قصره خجلا ، فأمر الوزير أن يحضروه إليه وقال لا يوجد شك فى كياسة ولدك ولا فى تدريبك له ولكن مع أول ممارسة له سوف يفعل مثلما فعلت هذه الهرة المربية المهذبة المجربة ، والمثل المشهور.

لو لا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان (١)

ولو لم يكن للحسب والنسب فى الشرع والرسم رتبة لكان صاحب الشرع الذى علمه من شعاع نور عالم الغيب بخلاف سائر علوم أهل دنيا الكون والفساد قد أصدر فتوى ، انظر فى أى نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس ، وآخر تخيروا لنطفكم.

إذن أصبح معلوما من جهة العقل ومن جهة الشرع أن حسب الناس له أثر عظيم ، وقليل الفضل يصادق على ذلك ، ولو أن الحقير بسبب قصور عقله وخساسة أصله يرى فيه عكس ذلك ، مثل الكلب الذى يقف على حافة مياه ويظن أن صورة القمر فى البئر ويتخيل من جهله أن محله وبرجه فوق القمر مع أن القمر فى الفلك ، فلا كان لأبناء الإصرار أن يحطموا عهدهم ويمينهم فى الوفاء والقناعة بسبب كثرة الأحقار ، فليس كل من يرى الكلب بالقلائد المصرية الأصيلة والفروة الطلية الرومية يشتهى أن يكون كلبا مثله ، الكلب كلب وان كانت قلادته صفر الدنانير أو حمر اليواقيت (٢).

ومعروف أن السامرى صنع عجلا ذهبيا لكن لم يخرجه ذلك عن كون اسمه العجل الذهبى.

__________________

(١) ورد هذا البيت للمتنبى فى مدح سيف الدولة ، وتخريج البيت" لو لا أن ميز الله الإنسان بالعقل لكان أقل حيوان أشرف منه (المترجم).

(٢) الكلب فى ذاته كلب حتى ولو كانت قلادته من الذهب أو الياقوت (المترجم).

٦٣

إن الحمار ولو يحول فضة

أو صيغ من ذهب لكان حمارا (١)

والعرق نزاع (٢) فى أبناء الناس وسلطان قناعتهم ولا تخضع الرقبة إلى الفلك خاصة لكل حقير من ذلك ، ومعلوم أن ليس للإنسان حق على بنى آدم أكثر من حقه على نفسه ، وحينما يكون قضاؤه عندك فى رضا المملكة :

فعيشك فى الدنيا وموتك واحد

وعود خلال من بقائك أنفع (٣)

والأنبياء والأولياء والشهداء والحكماء بذل بعضهم روحه من أجل العزة وإثبات حق النفس ، واختار البعض الآخر العفة والقناعة ولم ينظروا إلى عراقة أصل ولا لتتمات (الحواشى) وسلكوا فى ظل الصبر والتحمل منزلة لأن الله يعين الصابر ، ولا غالب له والصادق آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورضى الله عنه حيث يقول ما ارتج أمر أحجم عنه الرأى وأعيت فيه الحيلة إلا كان مفتاحه الصبر.

من اقتدى بدليل الصبر أورده

على حياض من الخيرات تحمدها

كل الخصال من الآداب نافعة

لكنها تبع والصبر سيدها (٤)

وكل إنسان يضع جوهر حسبه ونسبه وفضله المكتسب فى كفة عدم المروءة وفى الميزان سهم يزن الخسارة ، ويعد نفسه فى زمرة أهل الجهل ولا يبالى بعاقبة الأحقار عليه.

إذا لم تخش عاقبة الليالى

ولم تستح (٥) فاصنع ما تشاء

وإذا ـ وأعوذ بالله أن تتم ـ يتحول القوس ركوة إلى عصر الأحقار والإمام نظم نفس هذا القول :

__________________

(١) الحمار فى بلادته هو الحمار حتى ولو كان فضة أو ذهبا.

(٢) ورد فى الأمثال للميدانى دون تخرج" الميدانى ـ ج ٢ ص ٥٥.

(٣) " يقول لمن يخاطبه لا خير فى حياتك أو موتك فلا نفع فيك ، فالعود من خلال أفضل منك".

(٤) الصبر مفتاح الفرج وباب كل خير ينفع الإنسان ، وإن تكن الآداب الحسنة نافعة فالصبر سيدها.

(٥) هذا البيت من الأشعار التى جرت مجرى المثل وقد أورده الميدانى فى مجمع الأمثال وتخريجه" أى من لم يستح صنع ما شاء" الميدانى. ج ١ ص ٢١١" (المترجم).

٦٤

وإنى رأيت الجهل يحظر بأهله

كما كان قبل اليوم يسعد بالفضل (١)

واعلم أن مثل القضاء والأجل مقدر ومؤقت والرسول صلوات الله عليه يقول : (من تشبه بقوم فهو منهم) (٢) وهذا يعنى أن مصاحبة الأخساء الوضعاء مثل الشخص الذى يأتى من الحمام ولباسه معطر وطاهر فيأتى ويخالط من يقوم بخصى الكلاب فعند ما يعود إلى منزله لن يجنى سوى تمزيق ثوبه وجرح جوارحه ، واعلم أن ذوى الأصل الحقير لن يصل إلى مكارم الأخلاق ولو بألف سلم ولن يجنى حتى قيام الساعة سوى الندامة كملتمس إطفاء نار بنافج.

إن السعى والجرى وخدمة الإنسان ، لن تضيف ذرة إلى قيمة الإنسان.

الحمد لله الذى عافانا من هذا ، سمعت هكذا أن الأصمعى بن عبد الملك بن قريب قال ذات يوم للشاعر العتابى الفضل بن الربيع : إنى أراك عند أمير المؤمنين بالملابس الخشنة لماذا لا ترتدى الملابس اللائقة؟ فقال : (أصلحك الله ليس المرء من ترفعه هيئة بماله وجماله وإنما ذلك حظ النساء ، لكن المرء من ترفعه صغرياه وكبرياه لسانه وقلبه وهمته ونفسه).

إن رفعة وعظمة المرء ليست بالمال والجمال وإنما ذلك شأن المرأة تظهر عظمتها بالزينة والملابس وهذا نصيبهم من الدنيا ، لكن عظمة وحشمة الرجال فى أمرين صغيرين وأمرين كبيرين ، هم اللسان والقلب والهمة والنفس والحب والأصل.

فكم من سيوف جفنهن ممزق

وكم من ثياب تحتهن تيوس

(٣) ومعنى هذا البيت أن كثيرا من السيوف الهندية البتارة تعادل قيمتها الذهب ولا يقلل من شأنها أكان غمدها ممزقا ، لأن ذلك لا ينقص من قيمتها وقت الاستعمال ، وكم من قبعة وعباءة وعمامة وجبة تحتوى فى داخلها على نفس بعقل تيس لأن عملها ورؤيتها وقدرتها وقت التجربة ناقص ، واعتبار شرف النفس الإنسانية لا يقدر بالمال.

__________________

(١) هو الآن يرى الجهل يرفع شأن الجهلاء كما كان فى الماضى يرفع الفضل أهله (المترجم).

(٢) أخرجه الإمام أحمد فى مسند ٥ ، ٢ ، ٠٥ ، ٠٩ وأبو داود فى سننه فى كتاب اللباس ـ باب فى لباس الشهرة (٢ / ١٤٤) رقم ١٣٠٤ من حديث ابن عمر رضى الله عنهما وصحح إسناده أحمد شاكر فى مسند الإمام أحمد رقم ٤١١٥ والألبانى فى سنن أبى داود ٢ / ١٦٧ رقم ١٠٤٣ ، وإرواء العليل رقم ٩٦٢١ ، ٥ ، ٩٠١ وصححه فى صحيح الجامع رقم ٥٢٠٦٠" (المترجم).

(٣) يجرى هذا البيت مجرى المثل والشاعر يرى أن لا يغتر الإنسان بالمظهر ، فكم من سيوف تحسبها بالية وهى بتارة وكم من ثياب فاخرة تحوى أشباه رجال ماتت فيهم الغيرة (المترجم).

٦٥

لو لم يمل المال إلى الحمير ، لما وجدت حلقات (فروج) البغال فرصة خلاصها.

لماذا يجب على العاقل أن يرتكب الأهوال فى سبيل اكتساب الأموال ، لأن شيطان الطبيعة يخدع سلطان الشريعة وعلى قدر معرفته يتوصل إلى قدر ومعرفة الحقير.

ملوك الورى لا أقبل التبر والكبرا

ولا أحضر القدر التى تذهب القدر

فلا تخدعوا بالبيض والصفر قانعا

يرى بيضكم بيضا وصفركم صفرا (١)

هكذا سمعت أن حاتم الأصم لم يكن شخصا من أبدال المتأخرين ، وكان يأتى إليه من أقطار العالم الصوفية والعارفون فى طلب العلم والحكمة ، وكان لا يجيب على أى سؤال ما لم يعطه الله تعالى قوة جوابه ، وفى عام من الأعوام عزم على أن يذهب إلى موضع ما وكانوا يطلقون على ذلك المكان رباط فسأل العجوز التى كانت زوجته كم نفقة لديك؟ فأجابته على الفور : حتى نهاية العمر ، فقال الشيخ : ومن يعرف نهاية العمر ، فقالت : أيها الشيخ ، إن علم الرزق يكون هكذا ، قال حاتم الأصم : (بعد ذلك حقتنى العجوز ، حقتنى العجوز) وعلى هذا النحو حدث مع الشيخ أبى يزيد البسطامى رحمة الله عليه أنه ذات يوم كان يمدح واحدا من مريديه عند عالم ، فسأل العالم : من أين كانت معيشته؟ فقال : يا يزيد إنى لا أشك فى الخالق حتى أسأل عن رزقه فخجل العالم ، ويقول عن أبى سعيد بن خراز إنه قال وقت أن ضاع بنو إسرائيل وكان ذلك فى الطريق إلى مكة ووصل إليها بعد جهد شاق وكنت مستحسنا العطش والجوع وحدثت نفسى أن أطلب من الله رزقا وقلت : كيف سأطلب شيئا هو قد تكفل به؟ وقلت : إذن أطلب القوة حتى أنشغل بها فسمعت صوت الهاتف :

أيزعم أنه منا قريب

وأنا لا نضيع من آتانا

ويسألنا القرى عجزا وضعفا

وكأنا لا نراه ولا يرانا

والحكيم سبحانه وتعالى يفرض للمخلوقات ما فيه صلاح الأمر ، وتصديقا لقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٢) وتفاوت الأرزاق والآجال متعلق بحكمته وعلمه ، وبعضها على سبيل الاختيار والبعض الآخر على سبيل الاختيار والتوجه والحجة.

__________________

(١) يعتز بنفسه لا يقبل ذهبا ولا علوا ولا يحضر موائد تحط من شأنه (المترجم).

(٢) الحجر الآية رقم ١٢.

٦٦

وقرأت هكذا أن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزنى وابن عبد الحكيم المصرى كانا من تلاميذ الشافعى ، وكلاهما كان مساويا فى الجاه والمال ، انشغل المزنى بالزهد فى الدنيا ، وابن عبد الحكيم تولى القضاء فى مصر ، وذات يوم كان المزنى يمر بولاية مصر وكان المطر يتساقط آنذاك والأرض تكونت بها برك ومستنقعات وحدث اضطراب فى الطريق ، فلما نظر المزنى رأى ابن عبد الحكيم فى وسط كوكبه مطأطئ الرأس ، "(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)" (١) بعد ذلك رفع رأسه وقال (بلى نصبر بلى نصبر ، وما عند الله خير للأبرار) (٢) والحق سبحانه وتعالى يقول ، (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(٣).

سئل أحد العلماء : ، لماذا الحق جل جلاله قد حول أرزاق العباد إلى عالم الغيب ، وبيننا وبينه مسافة كثيرة لن يتيسر الوصول إليها بجهد البشر؟ (٥٠) ، فأجاب بأنه علم أزلا بما سيكون عليه أخلاق بنى آدم وطغيانهم وكفرهم وإصرارهم واستكبارهم ، ولو لم يكن العجز والمسكنة فى أسباب رزقنا لاغتررنا بحولنا وقوتنا وعلمنا وحكمتنا ، ولن نرفع الرأس إلى السماء إلا عن تكبر ولن نضع قدما ثابتة على جادة العبودية مثلما فعل قارون وفرعون (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ)(٤) وفرعون قال (أليس لى ملك مصر) (٥) ويروى عن صاحب الشريعة صلوات الله عليه ، أن قال تعالى (إنى سخرت المال لقارون فطغى والنيل لفرعون فعتا فلو جعلت أسباب الأرزاق لهم بحيث تناولها الأيدى وتبلغها أفهام أولى العلم لها دعوا أنفسهم شركائى فيما خلقت) وقد ورد فى الأخبار أن الله عز اسمه حينما خلق آدم مزج فى طينته الحرص والطمع ، وسيبقى ذلك فى أعقابه حتى يوم القيامة ، والأنبياء والأولياء الذين تميزوا بالتأييد الإلهى وترف العقل قد بذلوا جهدا كبيرا حتى يختفى منهم ذلك ، ولأننا قد خلقنا بأوباش الطبيعة والخرافات فقد وضعت فضيحة الحرص والأمل على الجمل وطاف بها العالم ولا يلزم الخوف من ذلك ، فإما أن نموت من الجوع أو أن نحترق من العرى وحسنا قال

__________________

(١) أورد الكاتب (" وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً") الفرقان الآية رقم ٠٢.

(٢) آل عمران الآية رقم ١٩٨.

(٣) الذاريات الآية رقم ٢٢.

(٤) القصص الآية رقم ٨٧.

(٥) أورد الكاتب الآية ناقصة الصدر والعجز (" وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ.") الزخرف ـ الآية رقم ٠٥.

٦٧

الشاعر : لا صبر لك على الحر والبرد هكذا ، من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة نحترق بالحر ونموت من البرد ، فقد أصبحت كاذبابة قحبة الأخت والزوجة.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(١)

ويروى عن عامر بن عبد قيس أن لو جرد من الدنيا بأسرها فلن يعتريه خوف لاعتماده على ثلاث آيات فى كتاب الله تعالى جل جلاله قالوا ما هى قال أولها (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها)(٢) ، وثانيها (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)(٣) وثالثها (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)(٤)

ويقال حينما أمر الرسول صلى الله عليه وآله الصحابة بالهجرة إلى المدينة ، فقالوا يا رسول الله ليس لنا فى المدينة مال ولا عقار فكيف تتأتى معيشتنا فنزل الوحى." وكأين من دابة لا تحمل رزقها" (٥) والرسول صلوات الله عليه وآله قال للزبير بن العوام (يا زبير إن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش يبعث الله تعالى إلى كل عبد على قدر نفقته فمن وسع وسّع له فى رزقه ومن قتر قترله (٦).

وروى عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : لا تدخر للغد شيئا من المأكولات قط وقال لا تهتموا لغد فإن الله يأتى برزق كل غد ، وذات يوم جاءت له ثلاث بيضات هدية فجاء خادمه بواحدة وترك الباقى للغد فقال ألم أنهك أن تخبأ شيئا للغد إن الله يأتى برزق كل غد.

__________________

(١) الذاريات الآية رقم ، ٢٣

(٢) (" وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ") هود / ٦.

(٣) سورة فاطر ، آية ٢.

(٤) (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ") يونس / ١٠٧.

(٥) (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ") العنكبوت / ٦.

(٦) أخرجه الدارقطنى فى الإفراد عن أنس بلفظ" إن مفاتيح الرزق متوجهة نحو العرش فينزل الله تعالى على الناس أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له ومن قلل قلل له) وفيه عبد الرحمن بن حاتم الراوى قال الذهبى ضعيف والوادى ومحمد بن إسحاق وقال الألبانى فى الجامع / ١٩٠٢ / رقم ١٩٨٠ ضعيف جدا.

٦٨

وذات يوم تجمعت نساء عفيفات بالحجرات ، وكانت فى اثنتى عشرة مجرة لكى تطلب من الجميع شيئا يسد الجوع ولم يأت شخص قط إلى المسجد شاكرا للنعمة وذاكرا للحمد الربانى وجاء فى اليوم التالى سائل إلى باب منزله فأعطاه حبة التمر وقال" هناك ولم تأتها أتتك «وفى الحديث» إن الرزق يطلب العبد كما يطلبه أجله» (١).

إنى لأعلم والأقدار جارية

أن الذى هو رزقى سوف يأتينى

سمعت أن سفيان الثورى كان يمر بالكوفة فرأى وجها جميلا لشيخ من كتاب أمراء الكوفة ، فقال أيها الشيخ فلان وفلان أنت كاتب الأمير وتعلم أن أمرك أسوأ فى ثلاثة مواقف ستكون موقوفا حينما يحاسب واحد الآخر ، حتى يدفع أحدهما بالآخر فبكى الشيخ وقال ماذا أفعل أعبد الله وعندى عيال لابد من قوتهم فقال سفيان اسمعوا أيها المسلمون عذر الشيخ يعصى ربه من أجل رزق العيال ، ويفسد الطاعة وقال بعد ذلك يا صاحب العيال ليس لعذرك ملامة أسوأ من هذا فهم يقولون (يا مبتغى العلم لا يشغلنك أهل ولا مال عن نفسك فإنك تفارقهم كضيف بت فيهم ثم غدوت من عندهم إلى غيرهم تاركا الدنيا والآخرة كمنزلة تحولت منها إلى غيرها ، وما بين الموت والبعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها).

ويقال إن مالك بن دينار كان يمر ذات يوم بالبصرة فرأى رجلا جالسا على كرسى ذهبى ويصنع الذهب وكان يعطى جماعة ، ووقف عنده رجل ولم يعطه شيئا فسأل عنه مالك من هذا الرجل؟ فقال مزارع ، يعطى الذهب للأجير ليعمر القصر قال : لماذا لم تعطه قال أنا عبد وعلى الطاعة وعليه كفايتى.

فبكى مالك وقال" موعظة يا لها موعظة".

ويقال رأوه ذات ليلة بالمنام فسألوا كيف قال فى المنام؟ ، قالوا لماذا قال ليس شرك ولا كفر ربما قلت ذات يوم إن الناس يساعدون المحتاجين.

__________________

(١) أخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير وابن عدى فى الكامل وأبو نعيم فى الحلية من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه وسنه الألبانى فى صحيح الجامع ٢ / ٢٦ / رقم ٦٢٦١ وانظر تخرج المشكاة ٣ / ١٦٤١ رقم ٢١ ٣٥ ، وفيض القدير ٢ / ٠٤٣ / ١٤٣ بلفظ إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله وبلفظ آخر" إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله".

٦٩

ويقال" من جعل أمر الناس إليك".

ويرون أن واحدا شكى لعارف كثرة العيال فأجابه بأن كل من يرزقه الله يطرد من البيت.

ويحكون عن زياد بن الأنعم الإفريقى أنه قال : كنا أنا وأبو جعفر المنصور الخليفة العباسى الثانى قبل خلافته طلاب علم وشركاء ، وذات يوم استضافنى فى منزله وأحضر طعاما بلا ثريد وبعد ذلك قال للخادمة : الديك حلا ، قالت : لا ، قال : الديك تمر ، قالت : لا ، فتنفس الصعداء : وقرأ هذه الآية (" عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ")(١) وبعد مدة صار خليفة فمثلت عنده فقال يا أبا عبد الرحمن أنا سمعت أنك أفدت بنى أمية قال نعم استفادوا منى قال كيف كان حكمهم وحكمى قال رأيت فى حكمهم ذلك ، أنك حملتنى إلى المنزل وأحضرت طعاما بلا ثريد ، وتلا آية عيسى حتى آخرها والله قد أهلك عدوك ووهبك الخلافة فانظر ماذا تفعل ولا تضيع هذه الآية : (" إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ")(٢) لا يوجد سلاح أبلغ من تسويف إبليس هذا لأن اليوم ترتكب المعاصى وتقول غدا سأتوب.

وقد روى بإسناد صحيح عن أبى حمزة الثمالى أن الإمام السجّاد على بن الحسين المعروف بزين العابدين ، قال له : خرجت من مدينة الرسول صلوات الله عليه وآله وكنت واقفا متكئا على هذا الحائط أفكر فجاء رجل إلى مرتديا ثوبا أبيض وقال لى : يا على بن الحسين إنى أراك حزينا أمن أجل رزق الدنيا والله ضامنه وموصله للبار والفاجر ، قلت : لا ليس حزنى من أجل هذا لأنى أعلم ذلك ، قال : إذن تحزن للآخرة وهى الوعد الحق من حاكم قادر قاهر قال : لا ليس لأجل هذا فإنى أعلم أنك على حق قال : إذا لم يكن الحزن من الدنيا والآخرة فلم تحزن قلت : أحزن من فتنة الجهال والاستخفاف برؤيتهم ، فتبسم ذلك الرجل فى وجهى وقال : يا على يا بن الحسين أرأيت إنسانا قط يخاف من الله ولم ينج ، قال لا ، قال أرأيت إنسانا قط طلب من الله شيئا ولم يعطه ، قال : لا ، فتوارى فى الحال عن عينى.

__________________

(١) الأعراف الآية رقم (١٢٩)

(٢) (" كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ") العلق / ٦.

٧٠

ويروى عن أبى حمزة أن جعفر بن محمد الصادق عليهما الصلاة والسلام قال : إن صديقا من أصدقاء أبى ذر الغفارى رضى الله عنه كتب إليه ، فأرسل لى من طرائف العلم شيئا فكتب فى الجواب أرأيت شخصا فى الدنيا قد أساء إلى صديقه حتى أفعل ذلك ، قال : نعم نفسك عندك أحب من الجميع وحينما تعصيها فى الله تجازيها وتكافئها حين تفعل معها ذلك.

وقد أخبروا عن الحسن بن حمزة عن أبى سعد بن أبى جعفر محمد بن على المعروف بباقر آل الرسول صلوات الله عليهم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ذهب إلى المدينة فى وقت إمارته وخلافته ، وأمر بأن ينادى بأن كل من له مظلمة على بنى أمية وسلطانهم فليمثل بين يدى عمر بن عبد العزيز حتى يردها ما أمكن ذلك ، فذهب محمد الباقر عليه السلام إلى بلاطه فدخل مزاحم الذى كان مولى عمر وقال محمد بن على عليه السلام حضر إلى البلاط فأمر بأن يدخلوه وبكى فلما دخل محمد وجد عمرا يبكى فرق له وقال : ما بكاؤك يا عمر فقال : هشام أبكاه كذا وكذا يابن رسول الله صلى الله عليه وآله فنظر محمد بن على إلى وجه عمر ، وقال يا عمر إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم ومنها من خرجوا بما يضرهم وكم من قوم قد خذلتهم بمثل الذى أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبوا عدة ولا مما كرهوا جنة ، فقسم ما جمعوا من لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن والله محقوقون إن ننظر إلى تلك الأعمال التى كنا نتخوف عليهم منها فنكف عنها فاتق الله واجعل فى قلبك اثنتين تنظر التى تحب أن تكون معك إذا قدمت على ربك فلا تبغ بها البدل ، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من قبلك وترجو أن تجوز عنك ، واتق الله يا عمر وافتح الأبواب وسهل الحجاب وانصف المظلوم ، ورد الظالم ، ثم قال ، ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله ، فجثا عمر رحمه الله على ركبته ثم قال أيا يا أهل بيت النبوة فقال نعم يا عمر المؤمن إذا رضى لم يدخله رضاه فى الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له فدعا بدواة وقرطاس وكتب ما كتب.

وروى عن عمار بن ياسر رضى الله عنه ذهبت ذات يوم عند أمير المؤمنين" على" عليه السلام وكنت حزينا فنظر إلى وقال الخيرة فتنفست الصعداء وقال لى : علام

٧١

تنفسك يا عمار ، إن كان على الآخرة فقد أخبرك رسول الله بأنك تقتلك الفئة الباغية ، وإن كان على الدنيا فما تستحق أن يؤسى عليها فإن ملاذها فى ست المأكول والمشروب والملبوس والمشموم والمركوب والمنكوح ، فأما المأكول فأفضله العسل وإنما هو قىء ذبابة ، وأما المشروب فأفضله الماء وهو مباح لا ثمن له ، وأما الملبوس فأفضله الديباج وإنما هو من لعاب دودة ، وأما المشموم فأفضله المسك وإنما هو فيض دم ، وأما المنكوح فأفضله النساء وإنما هو مبال فى مبال ، وأما المركوب فأفضله الخيل وعلى ظهورها تقتل الرجال ، قال : فو الله ما أسيت على شىء بعدها ، قال عمار بعد أن سمعت هذا الكلام من أمير المؤمنين فلن أحزن على بلاء الدنيا قط وسهل على نفسى أمرها.

ويروى عن أمير المؤمنين على أيضا : (إذا أردت الصاحب فالله يكفيك وإذا أردت الرفيق فكرام الكاتبين يكفيك ، إذا أردت المؤمن فالقرآن يكفيك وإذا أردت الموعظة فالموت يكفيك فإن لم يكفك ما قلت فالنار يوم القيامة تكفيك) ، ويروون أن الحسن البصرى رحمه الله ورضى عنه مر على قوم ذات يوم كانوا يلعنون الحجاج بن يوسف قال (إن الحجاج عقوبة الله عليكم فلا تستقبلوه بالسب واللعن والشتم ولكن استقبلوه بالدعاء والتضرع والابتهال إلى الله تعالى والبكاء حتى يكفيه عنكم وقولوا : اللهم حولنا من ذل المعصية إلى عز التوبة وبدل هذه العقوبة بالرحمة) ، كما سمعت من أحد العارفين جاء إلى مدينة خوارزم إن بنى إسرائيل لما جاءهم رسول من الرسل قالوا بأن يقول للحق تعالى : (ما الذى صنعنا حتى سلطت علينا من لا يعرفك وعذبنا بأيدى قوم لا يقرون بربوبيتك ونحن نعرفك ونعظمك) والله تبارك وتعالى أرسل الوحى إلى الرسول بأن يقول لقومه : إنى إذا عصانى من يعرفنى سلطت عليهم من لا يعرفنى.

٧٢

الباب الثانى

فى بداية تأسيس طبرستان وبناء وتعمير مدنها

وحدود" فرشواذكر" تشمل" أذربيجان وطبرستان وجيل وديلم والرى وقوش ودامفان وتركان" ، وكان" لموجهر شاه" هو أول شخص وضع تلك الحدود ومعنى فراشواذ هو يا متواضعا" عش سالما صالحا" ويقول بعض أهل" طبرستان" : إن معنى (الفرشواذ جر) بساط الصحراء. ولها معنى حديث مأخوذ عن" قوهستان كر أو جر" ويعنى ملك الجبل والفلاة والبحر وهذا المعنى محدث ، وقد قال السابقون بحكم أن لفظ (جر) قديما كان يطلق على الجبال من المناطق الجبلية التى يمكن زراعتها ويمكن أن تكون بها أشجار وأدغال لهذا كان يطلق على السوخرايين" جرشاه" ويعنى ملك الجبال ، ومازندران اسم محدث بحكم أن مازندران هى حدودها الغربية وكان لمازندران ملك ، فلما زحف" رستم بن زال" إليها قتله وقد قيل لمنسوب هذه الولاية" موزاندرون" إذا أن موز اسم جبل يمتد من حد جيلان حتى كلار وقصران وكان يقال له موزكوه ، كما تمتد كذلك إلى جاجرم ومعنى ذلك أن هذه الولاية كانت داخل جبل موز ، أما ما يدخل تحت دائرة طبرستان فالمنطقة الممتدة من (دينار جارى الشرقية حتى ملاط) وهى قرية ، ويقال إن رأى هوسم الغربية كانت قديما غابة كما كانت بها أمواج بحر متلاطم وكانت بها وديان وهضاب فكانت مسكنا للطيور والأسماك وفى بعض المناطق كان البحر متصل بالجبال الشوامخ ، وحتى عهد جمشيد والفرس يقولون إن الشياطين كانت مسخرة له وقد كتب بعض من أصحاب التواريخ أن اسمه" جم المصطفى" ، وقد أمر الشياطين بأن يدكوا الجبال ويجعلونها صحراء ويشقوا بها بحرا ويفرعوا بها الغدران ويوصلوا الأنهار إلى البحر ويعمروا الصحارى ويشقوا فيها المجارى والينابيع وأقاموا لأهل قوهستان القلاع والحصون ، باستثناء" نرد دوان جرفين" فلم يقدروا على الذهاب إليها وقد أقيمت فيها القلاع والحصون وأوصلوا مياه الجبال بالبوادى وشق لأهل الصحراء الخنادق وبقيت طبرستان على هذا النسق مائة عام وأكثر ، وبعد ذلك أرسلهم إلى الأقاليم السبعة وأمر بإحضار أهل الحرف ، وعين

٧٣

لكل قوم موطنهم وكرم أهل الفضل والعقل والحساب على سائر الطبقات وجعلهم قادة لهم ، إذن لارجان هى أقدم منطقة من مناطق طبرستان ، وقد ولد إفريدون فى قرية" وركه" عاصمة تلك الناحية والتى كان بها الجامع والمشرق والمصلى وكان سبب ذلك أنه حينما مزق الضحاك المنير جمشيد إربا إربا طرد آل جمشيد من ظل الشمس حتى يضيع ويندثر ذكرهم فى العالم عند ذلك لجأت والدة إفريدون مع أتباعها إلى هذا الموضع الذى جرى ذكره فى نهاية جبل دنباوند ، وحينما خرج إفريدون عن مشيئة قوله (كن فيكون) وبحكم أنها كانت جبالا غير ذى زرع وضرع فقد انتقلوا إلى حدود" سلاب" ، كان الكلأ والعشب فى ذلك الصقيع وكان للمقيمين فيه تعيش على منافع ونسل وخراج الأبقار ، ولما تجاوز الطفل سن الرضاع إلى الفطام وانقضت عليه سبعة أعوام ، فكان يضع الخطام فى أنف الأبقار ويركبها بنفسه كأنما شمس أخرى تطل من الثور من انعكاس الأفلاك فوق سطح الأرض ، فلما صار مراهقا كان فتية تلك المنطقة يلتجئون إلى شجاعته وشهامته لدفع ما يحيق بهم من النكبات وكل يوم كان يركب الثور ويذهب إلى الصيد وسائر الأعمال الأخرى حتى وصل مبلغ الشباب وازدهرت جماعته فتوجهوا إلى قرية" ما وجكوه" وانضم إليه قوم أوميد وأركوه وشعب كوه وصنعوا له حربة على هيئة ثور ، وأصبح هذا الحديث بالتناقل معروفا لأهل طبرستان بأكمله وجاء إليها الناس تدريجيا من الجهات والأقطار ، ولما رأى فى العدد والعدة قوة أعلن الحرب على العراق وهكذا اشتهر ، ولما وصل إلى أصفهان وخرج كاوه الحداد وتضامن من معه وأسر الضحاك وأحضره لم يكن إفريدون المربى على البقر ، والذى روض المفترس.

ولم يكن قد انتزع ملك الأجداد من بيور اسب ، بمعاونة وسعى واحد أو اثنين من القرويين.

وكانت ولادته فى احدى الليالى فى أطراف جبل دنباوند وبعث به إلى جبل شاهق قصيدا ومحبوسا عند البئر المعروف ، ولما أصبحت الأقاليم السبعة تحت حكمه ـ إفريدون ـ جعل من تميشه موطن استقراره ، ولا تزال حتى الآن أطلال قصره شاخصة فى الموضع المسمى نصران.

كما لا تزال آثار باقية لقاب كرماوه والخندق المحفور من الجبل حتى البحر ، وقد زرتها كلها مرات ، واعتبرت بالطواف حولها (١) وذكر الفردوس فى الشاهنامة نظما :

__________________

(١) يوثق الكاتب معلوماته بلفظ زرت أو شاهدت ليضفى مصداقية على تأريخه الأحداث (المترجم).

٧٤

ـ إفريدون جعل من تميشه سعيدة ، والتى فيها غابة مشهورة ، موطن استقراره ، واشتهر فيها بعمله.

ـ ويطلقون فى الكتب على ذلك الموضع غابة" نارون" ونهر نارون موجود وعامر حتى الآن (١) ويستفيد منه الخلائق وحينما زحف كرشاسف إلى الصين ، أسر ففغور ، وبعث به مقيدا بسلاسل ذهبية على ظهر فيل مع ثمانين آخرين من الملوك على يد نريمان إلى إفريدون.

أما بنيا وسارى والتى هى فى القديم طوس نوذر ، الذى كان قائد جيوش إيران قد أقامها فى الموضع الذى يقال له فى الوقت الحاضر" طوسان" وكان الأمر على هذا النحو إذ أنه فى عهد كيخسرو حينما وقعت من" نوذر" خيانة كان قد أخذ جانب" فريبرز كاوس" فلما أصابه الخوف وهرب مع آل" نوذر" والتجأ إلى هذا المكان حتى أتى" رستم بن زال" بجيوش الأقاليم السبعة وأسره وأرسله إلى كيخسرو ، فعفا عن جريرته وسلمه الراية والخف ولا تزال أطلال القصر المشيد والمقر المنيع الذى كان قد أقامه هناك قائمة إلى الآن ، حيث يقال لها" لو منى دوين" وهذا الموضع هو ما يعرف حديثا" بسارى".

" فرخان الكبير"

" فرخان الكبير" الذى يأتى ذكره كان ملكا على طبرستان ، فأمر باو الذى كان من مشاهير البلاط أن يقيم مدينة فى موضع قرية" أوهر" لعلو ذلك المكان الذى يكثر به عيون الماء والمنتزهات ، فدفع أهلها رشوة له فترك لهم تلك البقعة وأقام المدينة فى تلك المنطقة التى تسمى" سارى" اليوم ، وعندما تم تشييدها ، حضر الملك حتى يتفقد المدينة وعلم أن باوقد خانه فأمر بحبسه وأن يعلق بقرية على طريق آمل إلى قرية باو جمان ولهذا السبب أطلقوا على هذه القرية اسم" باو أو يجمان" ، وأقام القرية بذهب الرشوة وعندما اكتملت أسماها" دينار كفشين" ولا تزال حتى الآن هذه القرية عامرة وموجودة بنفس الاسم.

أما المسجد الجامع لسارى والذى قد أسسه الأمير يحيى بن يحيى الذى سيأتى ذكره فى عهد خلافة هارون الرشيد وأتمه مازيار بن قارن ، وآثار عمارة مازيار ظاهرة أكثر ، وقبته ذات الأربعة أبواب ، والتى قد أقيمت فى مواجهة قصر باوندان ، وكان الملك

__________________

(١) أى عصر المؤلف.

٧٥

السعيد أردشير غفر الله ذنوبه قد أقام حديقة غناء فى ذلك الموضع ، وكان منوجهر شاه قد أقام فى أحد جوانبها ميدانا وقبة فى الوسط ، وقد حدث بها خلل فى عهد الإصفهبد خورشيد كاوباره فرممها ، وليس فى مقدور إنسان قط أن يفصل لبنة من عمارتها بسبب بنائها المحكم.

كانت بداية ولاية رويان ، استندارى فى عهد إفريدون ولما قتل كل من سلم وتورا إيرج وفق ما جاء فى الشاهنامه شرح ذلك بالتفصيل ، وكان قد بقى له بيت بمنطقه لفور بما وجكوه التى جرى ذكرها ، وكان إفريدون قد بلغ الهرم بحيث كان يستبقى الحواجب مربوطة بعصابة.

ذهب الشباب وليس بعد

ذهابه إلا الذهاب (١)

نسأل الله أن لا يهدر دم" إيرج" ، فزوج ابنته لواحد من أبناء أخيه واقترن دعاءه بالإجابة من جراء عدله وإحسانه فولد من تلك الفتاة ولدا فحملوه إلى" إفريدون" ، فقال إن وجهه يشبه وجه" إيرج" وسيأخذ بثاره على نحو ما جاء شرح ذلك فى الشاهنامه نظما ونثرا للفردوسى والمؤيدى ، وعاد" ايرج" مرة ثانية والتحق إفريدون بالدار الآخرة ، لم يكن إفريدون ملكا سعيدا ، ولم يكن مخلوقا من مسك وعنبر ولكنه حصل على الخير بالعدل والعطاء ، فافعل العدل والإنصاف كإفريدون ، وزحف ولد" يشنك" من" إفراسياب" بجيش جرار إلى قرى" الدهستان" طلبا للثأر من" مسلم" وكان" منوجهر" فى أصطخر بفارس وبعث رسولا" لقارن كاوه" مع" قباد" الذى كان أخوه أرش أفرى وأمر بأن يلتقوا عند قرى الدهستان ، ولما علم إفراسياب أن جيوش إيران قد وصلت ، استنفر ، واستطاع بعد عدة هجمات أن يستر ملكه من قارن ، وذكر فى الكتب العربية أن أول إنسان عبأ الجيوش فى العالم هو إفراسياب وأن استعداده هذا كان بأن كتب على لسانه شيئا لقارن : أن قرأت رسالتك وصار معلوما ما أبديته من تأييدنا وأتعاهد معكم حينما استولى على ممالك إيران أن أسلم لله ، وأبدى مبالغة وتأكيدا فى جلاء هذا الغدر ، وجعل الرسل يحملون هذه الرسالة فأوصلوها للحاجب الذى كان عين وموضع ثقة منوجهر ، فلما وقف الحاجب على تلك الرسالة وخبر ما بها

__________________

(١) إذ ولى عهد الشباب فليس بعده إلا الموت (المترجم).

٧٦

وكان متأذيا من قارن أيضا ، بعث بها فى الحال إلى" منوجهر" ومع الهيبة التى كان عليها فقد جرى أمر القضاء ، وأجاب بأن يبعثوا بقارن مقيدا ويمثل فى البلاط ، ويسلم قيادة الجيش إلى" آرش" ، فلما حملوا قارن وتغلب إفراسياب عليهم فى مدة وجيزة ، وانهزم الجيش عدة مرات من العراقيين ، وعلم الملك أن" إفراسياب" قد غدر. فأسند قيادة الجيش مرة ثانية لقارن ، فزحف بالجيش وجاء إلى الرى ، واتخذ إفراسياب من دولاب وطهران قاعدة لجيوشه وكل يوم كان يتطاول على" منوجهر" ، وأمر بأن يقيموا قلعة طبرك ولجأ إلى طبرك ، ولما صعبت عليه الإقامة بها ، تحرك" منوجهر" من طبرك إلى المدينة حيث اتخذ من أسوارها حصنا ، وكانت المدينة آنذاك فى مواجهة الملك فخر الدولة والآن يقال لهذا الموضع قلعة" رشكان" وكان موجودا فى نفس المكان حتى عهد ديالمة آل بويه ، ولقد رأيت ـ الكاتب ـ أطلال قصر الصاحب ابن عباد مثل التل ، وبعد مرور ستة أشهر تعذر وجوده هناك فهرب ليلا وجاء إلى طبرستان عن طريق الأرجان ، وإفراسياب جعل عليه الدنيا البسيطة والعريضة ضيقة مثل ثقب الإبرة.

كأن بلاد الله وهى عريضة

على الخائف المطلوب كفة حابل (١)

وجاء فى أعقابه إلى" طبرستان" ، وأقام منوجهر قرية عل حدود الرويان يطلقون عليها ما نهير وبها غار عظيم فى سفح الجبل لا يتأتى الإنسان الوصول إلى آخره فترك فيه جميع الخزائن والذخائر ، وفى عهد الحسن بن يحى العلوى المعروف بالصغير دخلوا فى هذا الغار وحملوا منه أموالا طائلة ، ونزل إفراسياب ببقعة من قرى آمل تسمى خسرو آباد ، وكانت هذه القرية عامرة حتى عهد وشمكير بن زيار والد قابوس وكان ارتفاع هذه القرية على شجرة ، يسمونها" شاتى مازبن" وقد ضربوا خيمة لإفراسياب تحتها ، وبقى فيها اثنى عشر عاما ولم يكن يحتاج منوجهر لشىء قط كى يرسل فى طلبه من الولايات الأخرى ، إلا الفلفل فعوضوا عنه بعشب يقال له كليج ، كانوا يأكلون منه ، حتى لا تغلب الرطوبة على طبائعهم ، فلما عجز إفراسياب عن الإتيان بمنوجهر. تصالح على أن يسلم لمنوجهر ملكا قدر إطلاق سهم ، ومضى العهد على هذا فرمى أرش السهم من هناك حتى مرو وقد دونت فى كثير من الكتب العربية والفارسية نظما ونثرا خبر رمى هذا السهم وذكر البعض أنه رماه بالسحر والشعوذة والعلم عند الله ، وقد افتخر العجم على سائر أهل الأقاليم برمى سهمين

__________________

(١) تضيق الأرض بما رحبت على من يتوجس خوفا من مطارد له أو طالب له فتصبح الأرض كأنها كفة (المترجم)

٧٧

هذا هو أولهما ، وثانيهما : أن الملك كسرى أرسل إلى وهرز ملك اليمن فى بلاد العرب ، بسيف بن ذى يزن ، لأن جيش الأحباش كان قد بقى فى تلك الحدود ثمانية عشر عاما ، ومنذ ذلك التاريخ غلب السواد على ألوان العرب ، لأن العرب فى الأصل كانوا بيضا ويروى عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام على تصديق هذا ، لقد ذل العرب من الأحباش ، وكان وهرز شيخا مسنا ، فلما دارت المعركة ، وكان يعقد عصابة على حاجبه ، وقال لملك الأحباش أبرز إلى وكان ملك الأحباش يعلق ياقوتة على جبينه قدر بيضة الدجاجة فأشاروا له عليه ، فرماه" وهرز" بسهم فلق الياقوتة وخرج من قفاه ، وهذه القصة طويلة وبعيدة عن الغرض وبعد مصالحة منوجهر وإفراسياب ظهرت أرض الرويان ومضت معالم عمارتها واتخذ منوجهر من طبرستان مقرا ومقاما وهكذا بانت حدودها.

" مدينة آمل"

أصلها أن أخوين كانا من أرض الديالمة أحدهما يدعى إشتاد والآخر يزدان قد قتلا شخصا من عظماء الديالمة المشهورين فى تلك الناحية بالبأس ، وكلاهما قد اتخذ الليل مركبا له وهربا بزيهما وأمر بأنهما من هناك واختارا عن ضرورة مفارقة الوطن والجلاء عنه وأتيا إلى منطقة آمل ، وقد أقام قرية يزداناباد المعروفة والمعمورة بذلك الأخ المسمى يزدان وقرية إشتاد التى بقيت للأخ الآخر أيضا ، وكان لإشتاد هذا بنت كان وجهها محراب العاشقين وشعرها قيدا لمسلوبى اللب والقلوب وكان لذلك الزمان ملك يدعى فيروز ، كان الحاكم لجميع الدنيا وكانت بلخ دار حكمه (عاصمته).

فوازن به أهمى الغيوث إذا حبا

ووازن به أرسى الجبال إذا اجتبى

وشاء القدر فى ليلة من الليالى وبدى طيف هذه الفتاة للملك ففتن بجمالها وظرافتها وكمالها ولطافتها وداعبت فكره وخياله حتى الصباح فلما خرجت يد التقدير من جيب أفق كشمير بيضاء ناصعة للدنيا كيد موسى ثمل الملك من عشق ذلك القمرى واشتعلت الفتنة فقال لنفسه : لقد أقبل الصباح فسلب منى شمسا

خيالك فى الكرى وهنا أتانا

ومن سلسال ريقك قد سقانا

وبات معا نقى ليلا تماما

فلما بان وجه الصبح بانا

٧٨

وأراد أن يعرف القلب بعنان الكمال عن اقتناء أثر ذلك الطيف بأن يعيب على ذلك الجسد الذى أبدعه القدر والذى قد بدا له كى يسكن القلب ، وينشغل بأمور الدنيا فسيطغى تلك النيران المتأججة إلا أنه لم يقدر

قضى الله ما لا أستطيع دفاعه

فما كان لى مما قضى الله عاصم (١)

وانتهى به أمر هذه الفكرة إلى النحول والهزال حيث أصبح الملك وفق ما قال الشاعر :

لو لا أن الأشعرى رآه يوما

لسمى بعده المعدوم شيئا (٢)

ففكر مع نفسه فرأى أن كتمان هذا الأمر يفر بروحه وأسلمه الهزال إلى الخوف وضاقت قيمة الصبر بالعقل فعزفت على أوتار المشورة ،

شفانى إن فشيت سرى فى الهوى

كذلك أسرار الهوى إن فشت شفت

واستدعى رئيس الموابدة وأمر بإخلاء البيت من الغرباء وقال :

تأمل نحو لى والهلاك إذا بدا

لليلته فى أفقه اعينا أضنى

على أنه يزداد فى كل ليلة

نموا ونفسى بالضنى أبدا تغنى

والموبد بعد التحميد والتمجيد قال للملك ، منذ فترة وقلوب العباد بين مخلب ومنقار العقاب وقد أصابها الحزن والهلع من جراء ما بدا على ذات الملك الثابتة من تغيير ، وبحكم أن القدماء قالو السؤال عن حال ذات المليك دليل على قصور العقل عند من يعمل فى خدمته فلم تخامر هذه الفكرة أحد قط ، فقال الملك فى ذلك الوقت منذ فترة كان الفلك قد نزع عن ظهر الدنيا عباءة النهار الأطلس وألبسه لباس الليل الحالك ، وكان وزير الفلك المعروف بالقمر قد خدع مليك الفلك المعروف بالشمس بواسطة الفيل ، وجذب إليه رأسى بنوره فى الليل الحالك الديجور فاستسلمت عينى ليمن الطالع إلى النعاس فوق العرش وكما هو معتاد (" من نام رأى الأحلام (٣) ") فانطلقت شرارة من جورة قلبى المتأجج نارا وصعدت مبعدة تطلب المركز الأصلى وركبت قالب التمرد والعقوق حتى بلغت العيوق فتجولت فى ساحة عالم الغيب ،

__________________

(١) قضى الله علىّ أمورا لا أستطيع دفعها فمالى ملجأ ولا عاصم إلا إياه. المترجم

(٢) وجوده كعدمه.

(٣) ورد فى الأمثال المولدة لدى الميدانى دون تخريج" الميدانى ـ مجمع الأمثال ـ ج ٢ ـ ٣٢٨" المترجم.

٧٩

فوقعت عينها على نبع قد نبتت من حوله أشجار كثيرة كجنة نضرة وقد تنفست سواء من التراب أنواعا من الرياحين والبراعم أو تفتقت أكماما من الأشجار وهى عند حواف النبع صافات.

النبت ميال على رملاته

والماء سيال على أحجاره (١)

ظهرت فتاة فضية الجسد ياسمينة الصدر ، تتعلق بها القلوب وتثير الوجد ، ذوائبها كسنابل الشمس ، وكل ما فيها لطف قمرية الطلعة ، عذبة الحديث ، كلما وضعت عينها سهما من أهدابها فى قوس حاجبها وأطلقت غمزة من عينها أصابت به من القلوب الصدر والعجز.

مواز بعض فى الحسن بعضا

ولكن ماله شكل مواز

يسل من الجفون سيوف الحظ

بها يدعو القلوب إلى البراز (٢)

وقد صففت جدائلها وحففت ذوائبها وطرحتها خلف ظهرها فسلبت بهما استقرار الأرواح لعدم استقرارهما فى مكانهما.

ـ ذؤابتك التى تتحرك عفوا ، تتحرك دوما لسفك دمنا.

ـ فإن لم يكن التكرار درسا للحفاء فلماذا لم تقل : قلم إذن تتحرك.

وشمرت عن ساعديها وكشفت عن ساقيها فأظهرت على القدم خلخالا وأبدت على الوجه خالا.

ومرموق له فى الخد خال

كمسك فوق كافور نقى

تحير ناظرى لما رآه

فصاح الخال صل على النبى

وهى على هذا النحو تفرق حبال الكتان مقيدا بها ألف قلب وروح فى ماء ذلك النبع ثم تضربها فوق الصخر وفى الصباح عادت تلك الشرارة بوابل من الأذى والمشقة إلى كيانى واستولى داء سوداء العشق علّى كلما أردت أن أنتزع القلب من جوال ذلك الطيف فلا يتيسر ذلك الأمر ولو بقدرة البشر كله :

ما بين جنبى داء من هوى عجب

وما لدائى إلا وصلها آس

__________________

(١) النبات لا ينبت ولا ينزرع إلا فى تربته والماء لا يجرى إلا فى أماكنه ـ المترجم.

(٢) نظراته حادة ولحظات جفونه التى يلحظها كفارس يدعو إلى المبارزة فى الميدان ـ المترجم.

٨٠