تاريخ طبرستان

المؤلف:

بهاء الدين محمد بن حسن بن إسفنديار


المترجم: أحمد محمد نادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩١

الباب الرابع

فى ذكر الملوك والأكابر والعلماء والزهاد والمعارف والكتاب والأطباء وأهل النجوم والحكماء والشعراء.

١ ـ الإصفهبد مازيار :

كان الإصفهبد مازيار من القدماء ولم يكن بزمانه ملك أكفأ منه ، وحين نصل إلى زمانه يتضح لنا أن سائسه ركب ذات يوم جواده وأخذ يتحرك به ، فسأله : أتعلم أى عيب فى هذا الجواد؟ فقال لا يوجد فى الدنيا بأسرها مثل هذا الجواد فأى عيب يدركه أى إنسان فيه ، فقال مازيار : لا يوجد نخاع فى كلا حافريه فأمر الإصفهبد بقتله وكسر حافريه فلم يكن بهما نخاع وقد وصفوا له قطيعا فى طخيرستان لفلان به جواد يبلغ ثمنه مائة ألف درهم فأعطى للجماعة التى كانت صاحبة مهارة وخبرة ، وبعث بهم لشراء هذا الجواد وقال لهم أن يمضوا إلى طخيرستان لشراء هذا الجواد أولا ، فلما وصلوا إلى هناك قال صاحب الجواد أبيعه بقطيع بأكمله ولا أترك شخصا ما يركبه ، فالجواد غاية فى الجمال واللياقة وكانت أعضاؤه وقوامه متناسقة فكتبوا بذلك إلى الإصفهبد أن الحال على هذا النحو فما ترى؟ ، فكتب إليهم فى رده لابد أن مالك الجواد يرى فيه عيبا وإلا ما اشترط هذا الشرط ، ويجب عليكم أن تحتاطوا تماما فى فحص أعضائه وتناسب خلقته وأن تدفعوا ثمنه على شرط إذا ما وضع حلقة الحبل فى رقبته" الأنشوطة" فإذا ما استقامت أذناه وتركز نظره بحدة بين ساقيه الأماميتين وضم ذيله بين فخذيه يكون البيع صحيحا ، وإذا ما أسلم رقبته لحلقة الحبل إذا ما ألقيت عليه واسترخت ساعداه وتدلت أذناه إلى أسفل يرد لعيب فيه ولا تشتروه إطلاقا فلما قرأوا رسالته وقاموا بتجربة الجواد كان الأمر وفق ما قاله وكتبه.

وقد أقام" على بن ربن" خليفة بعده على ديوان إنشائه فكانت معانيه فى الكتابات التى يكتبها أقل من تلك التى كانت تكتب له فى عهد مازيار ، فسئل عن سبب ذلك

١٠١

فقال : إنه كان يكتب معانيه تلك بلغته فى حين أكتب أنا باللغة العربية فأدركوا أن تفكير مازيار كان أقوى وسوف تأتى فى مكانها جميع أحوال الكراية والمنح التى قدمت إليه عند ما حمل إلى شر من رأى.

٢ ـ الندا بن سوخرا :

قالوا إنه كان ملكا وقد عدوه ندا لرستم بن داستان فى بأسه وبسالته ويقال إنه ذات ليلة جرى خلف وعل أربعين فرسخا وأراد أن يبلغ فى مطاردته حتى حدود الأعناب فاعترضه سيل جارف كالنهر فدفع بالجواد داخل السيل وقد سمى بالمؤيد تقديرا له ، وولده ونداد هرمزد بن الندا الذى يعد صيت رجولته أسطورة ، وسوف يرد فى موضعه ذكر ما فعله من قتل الفراشة والشيطان لا فرغانى ، ولما وصل هارون إلى الرى بعث بالمأمون حتى يكون فى رعايته ، فمنح المأمون من القرى ما كان مجموعه مليون وستمائة ألف درهم ، وفى الوقت الذى قتل فيه الفراشة ، كان الإصفهبد" شروين" ملك الجبال قد أقبل لمعاونته ومنحه حصتين من غنائم الفراشة ولما وصل هارون الرشيد إلى الرى بعد قتل الفراشة استقبله" ونداد هرمزد" ، فلما وقعت عين هارون الرشيد عليه أخذ فى تخويفه وارتعاده وتهديده بألفاظ عربية وفهم أنه غاضب وحاد ، فاتجه إليه وقال : أنا لا أعلم العربية ولكن يتضح لى من تغير على وجه أمير المؤمنين المبارك أنه يتحدث فى حقى بلا شفقة ، فلما لم يقل هذا وقت أن كنت فى ملك قوهستان والآن وقد اخترت الدخول فى خدمته عن انقياد وطواعية ورغبة ودون كره أو إجبار وحضرت بين يديه ينطق فى حقى بما لا يليق فى باب العظمة فى حق الضيف والخادم المتطوع ، فسأل الخليفة عما يقوله فترجموا له كلامه فخجل هارون وقال الحق معه وأعلى رتبته وأمر بأن يحضروا وسادة كى يجلس عليها فلما حملوها إليه ليجلس عليها ، رفعها ووضعها فوق رأسه وقال إن حاشية أمير المؤمنين يجب أن تكرم ووضعها فوق الرأس أولى ، فلما قام أمر هارون بأن يحملوا الوسادة إلى منزله ، وذات يوم جاء إلى البلاط وجلس فأقبل عم هارون الرشيد فقام الحاضرون فى المجلس إلا" ونداد هرمزد" الذى لم يعبأ به ولم ينهض فاستاء هارون الرشيد والحاضرون فى المجلس ووقع فى قلوبهم ضيق عليه حتى أقبل فى عقبه" يزيد بن مزيد" ومثل فى الحضرة ، فقام لأجله ومداد هرمزد قبل الجميع وأبدى تواضعا له فتبسم الناس من تصرفه ، فقال له الرشيد : عمى الذى من لحمى ودمى لم تبد له مروءة ولما أقبل هذا العبد الحقير إلى البلاط أبديت له هذا الاحترام ، فأجاب ونداد هرمزد بأنى لا أعرف عمك ومحال أن أقوم لكل إنسان لا أعرفه أما هذا فهو رجل

١٠٢

فاضل وشجاع فقمت لرجولته وفضله وحين بعثته إلى ممالكى أمضى عندى عاما بأكمله ، ففى صباح كل يوم تشرق الشمس كان يجهز الجيش بصورة جديدة ، وكان لدى فارس فى تلك الولاية وكان فكرى وقلبى على السواء متعلقين فى شهامته ومبارزته وبعثت به إليه يوم القتال فاستل السيف وفى أقل من وهلة رأيت رأس مبارزى قد سقطت أمام جواده فخرجت أنا بنفسى للقتال فطوح نحوى بسيف لم أشهد قبله أفلا أقوم لمثل هذا الرجل ، ورغم أنه عدوى فإنى أحب ذلك ، فاستحسن هارون كلامه وبعد ذلك أوصل يزيد بن مزيد إلى مراقب العظماء لدرجة أن كان فى منزل هارون فى قصر أم جعفر نسناسا وكان يخدمه ثلاثون رجلا يربطون حول وسطه نطاق السيف ويركب الفرسان معه وكل شخص كان يدخل إلى البلاط كان يؤمر بأن يقبل ذلك النسناس وأن يقدم الاحترام له ، وقد سمعت أن ذلك القرد قد فض بكارة عدة فتيات وكان يمارس فى البلاط الإباحية والإلحاد وعدم الحياء والتدين وما حرمته الشريعة وقد ذكر الأمير أبو فراس فى قصيدته التى تسمى المذهبة هذا القرد وكان يكنى أبى خلف :

لا يبيت لهم خنثى ينادمهم

ولا يرى لهم قردا له حشم

والخلاصة :

أنه فى ذات يوم ذهب يزيد بن مزيد إلى بلاط أم جعفر بعد أن ودع هارون الرشيد كى ينهى خدمته ، فأحضروا له القرد وقالوا له : قبل يده وسلم على أبى خلف ، فاستل السيف وشطره نصفين وعاد غاضبا ، فعرضوا هذا الأمر على هارون بأنه قد أتى مثل هذه الشجاعة ، فاستدعاه وقال : (ما حملك على مرا غمة أم جعفر) ، فأجاب بقوله : (يا أمير المؤمنين أبعد خدمة الخلفاء نخدم القرود لا والله لا كان ذلك) ، فعفا عنه هارون الرشيد وأعاده ، ويقول مسلم بن الوليد المعروف بصريح الغوانى فى رثائه :

قبر بأران استسر ضريحه

خطرا تقاصر دون الأخطار (١)

٣ ـ خورشيد بن داذمهر :

حينما مثل فى خدمته واحد من أبناء ملوك" خراسان" ، وأتى معه بتحف وهدايا وعجائب من ولايته وكان له منزل فى أصفهبدان فأمر أن ينزل ذلك الضيف هناك على مقربة من أصفهبد ، وأقام له منزلا لائقا وقد طلب ذلك الشاب أطباقا كى يضع عليها

__________________

(١) قال مسلم بن الوليد هذا البيت فى رثاء زوجته خلافا لما ذكره ابن السنجار وقد ورد هذا البيت بشكل مغاير فى حماسة أبى تمام حيث قال : " قبر بحلوان" ، انظر حماسة أبى تمام ، ج ١ ، ص ، ٤٦٧ (المترجم.)

١٠٣

تحفة فى موكب الإصفهبد ، فقال الشاب الخرسانى : يلزمنا أكثر من ذلك ، وكانت ابنة فرخان أعظم زوجات الإصفهبد تقيم بهذا الموضع فبعثوا إلى قصرها وطلبوا خمسمائة طبق أخرى توضع التحف فوق الألف طبق من الفضة وأهداها إلى الإصفهبد فقبلها وعوضه عنها بألفى طبق عليها تحف طبرستانية ومائة ألف درهم ، وفى وقت آخر أحضر رجل كأسا مرصعا بالجواهر على هيئة ديك وقد رصعت حول كلتا عينيه ياقوت أحمر نفيس فقبلها وتعهده بالرعايا إلى أن أتى يوم نقلوا فيه عن ذلك الرجل قوله إن أحدا ما لم يقدم إلى الإصفهبد هدية مثل هديته فأمر الإصفهبد بترتيب مجلس الشراب وأحضر فيه ذلك الرجل إلى جانب خمسمائة شخص آخر ووضع بين يدى كل واحد منهم ديكا أفضل من ذلك الذى قدمه للأصفهبد ، فأدرك ذلك الرجل الغريب الأمر فنهض وقبل الأرض ووقف من الإصفهبد ، موقف الاستغفار ، فأجلسه الإصفهبد إلى الغد حيث رد إليه ديكه ومنحه ضعف قيمته.

٤ ـ الإصفهبد بادوسبان :

كان يطعم كل يوم ستمائة شخص وكان يمد على المائدة الثلاث وجبات ، فكان يطعم مائتين فى الصباح ومائتين بعد الظهر ومائتين فى العشاء ، وقد لجأ إليه عبد الله بن فضلويه السروى هربا من محمد بن زيد فخصص له مائتى درهم ليتعيش بها ، فلما مات سلمت إلى أبنائه ، ويوجد من سادات آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ممن كانوا حكام عدل على طبرستان وتوجد قبورهم بها جميعا وأول شخص منهم الحسن بن زيد بن إسماعيل المعروف بحالب الحجارة لشدته وقوته وصلابته ابن الحسن بن زيد بن أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليهم السلام ولد بمدينة الرسول ونشأ بها ، وكان قريع زمانه فى الشجاعة والدهاء وثبات القلب وذكر" الطباطبائى العلوى" فى كتابه" أنساب أشراف الأمصار" ما ذكرته وسيأتى ذكر خروجه واستيلائه على ملك طبرستان فى موضعه وقد ذكر فى كتاب" ملح الملح" وكتاب" نزهة العقول" أنه بلغ الغاية فى الكرم والهمة بحيث إن أبا الغمر الشاعر الطبرى أنشد بين يديه هذين البيتين

إذا كتبت يد الحجام سطرا

أتاك بها الأمان من السقام

فحسمك داء جسمك باحتجام

كحسمك داء ملكك بالحسام

فمنحه على هذين البيتين عشرة آلاف درهم فى الحال.

١٠٤

٥ ـ محمد بن زيد الداعى إلى الحق :

كان أخا الحسن بن زيد وهو العظيم الذى لو ألفت فى عظمة قدره وجاهه مجلدات لكانت قاصرة ، وروى سيد إمام أبو طالب أنه كان له كاتب عالم يقال له" أبو القسم الكاتب البلخى" وكان مشهورا ومعروفا بالفضل والبلاغة ، وقد قال خدمت العديد من الملوك ورغم ما كان لهم من ملك وجاه وسيع وبرغم ما رأيت من كثرة بلغاء الدنيا فقد كانوا جميعا مثلى إلا محمدا هذا فكلما كان يملى رسالة كنت أتصور أن محمدا رسول الله يبلغ الوحى ، ونظم عبد العزيز العجلى فى حقه قصيدة :

وإذ تبسم سيفه

بكت النساء من القبائل

وإذا تخضب بالدماء

خرجن فى سود الغلائل

لا شىء أحسن عنده

من نأمل فى كف سائل

فبعث إليه بثلاثين ألف درهم ، وحينما مثل بين يديه فى" آمل" وترجل عن جواده كان" عبد العزيز العجلى" من وجهاء الدنيا وبعث إليه بمليون درهم فى مائة بدرة فضلا عن الآلات والهدايا ، وكان يبعث كل عام بثلاثين ألف درهم أحمر إلى مشاهد الحسين بن على وأمير المؤمنين على والحسن بن على عليهم السلام وسائر ساداته وأقربائه ، ولما هدم" المتوكل" مشاهد الأئمة كان هو أول شخص أمر بإعادة عمارتها ، وقد ورد أنه جلس ذات يوم بديوان العطاء وكان يوزع الثياب على الحشم فأحضروا إليه رجلا فسأله : من أى قبيلة أنت؟ ، فقال : أنا من عبد شمس ، فقال : من أى بطن؟ ، فسكت الرجل فقال له : عساك من أبناء معاوية قال نعم ، فسأله من أى ابن فيهم؟ ، فسكت فقال له عساك من أبناء يزيد فقال نعم ، فقال الداعى عساك لم تعرف لا يجب وجودك مع الطالبين فاستل السادة العلويين السيوف ليقتلوه فزجرهم ، وقال مصعب ابن الزبير أنه جلس للعطاء ذات يوم بديوان العطاء فنادى المنادى هذا فلان بن عمر بن جرموز فقيل أيها الأمير إن ابن جرموز خائف وفزع لأن أباه قد قتل الزبير فقال مصعب : جلت همة" ابن جرموز" أن أقيده بأبى" عبد الله" ليظهر آمنا وليأخذ عطاه مسلما ، وقد أعطى ذلك الرجل نفقات ودابة وأرسل الرسل معه حتى بلغ العراق خشية أن يقتله الطالبية ، والمعنى أعظمت همة ابن جرموز حتى أضعه ذلك الموضع بحيث يكون كفء لأبى فى القصاص لتبلغوه بأنه يأخذ عطاءه ويذهب بسلام.

١٠٥

قفا خليلى على تلك الربى

وسائلاها أين هاتيك الدجى

لولا ابن زيد الندى محمد

لم ندر ما سبل إرشاد والهدى

أحيا لنا بجوده وبأسه

وأصله ميت الرجاز والمنى

من ذائد منه إذا قيل ابن من

كقاب قوسين من الله دنى

سادت نساء العاملين أمه

وساد فى الخلق أبوه المرتجى

نجل بنى العالمين المصطفى

وابن أمير المؤمنين المرتضى

وابن الذى انبع فى راحته

من حجر ماز معينا فجرى

ومن على كفيه جهرا سبحت

وقطعت بفضله جمع الحصى

ومن رمى كف حصاه فى الوغى

فهزم القوم العدى بما رمى

من صلب العنز وكانت حائلا

مجهودة محضا غزيرا فسقى

من غرس النخل فجازت يانعا

مرطبة ليومها من النوى

من صرم يوم الوغى جريدة

فكان منها ذو الفقار المنتضى

من قال للأرض خذى فأخذت

عدوه لما رأه قد طغى

ومن دعا الدوحة إذ قال لها

ها اقبلى فأقبلت لما دعا

ومن شكى البعير ظلم أهله

له إليه ثقل حمل وجوى

من كلم الذئب غداة جاءه

يشكو إليه ما دعاه إذ عوى

شق له البدر المنير شقة

فقيل سحر عجب لمن رأى

ومن هو الشافع فى أمته

مشفع يوم الحساب والقضا

٦ ـ الناصر الكبير الحسن بن على بن الحسن بن على بن عمر ابن على السجاد ابن الإمام الشهيد الحسين بن أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليهم السلام : وكانت كنيته أبا محمد ولا تزال حتى الآن آثار كراماته وفضله وعلمه وزهده وورعه واضح فى جيلان وديلم ويقتفى أهل جيلان وديلم طريقته وفى آمل مشهد ومدرسة دار الكتب والأوقاف المعمورة ، وقبره مزار للتبرك ويقيم المجاورون على رأس مشهده ولن نستطيع أن نكتب فى حقه سوى هذا :

١٠٦

إذا ذكرت أوصاف أشرف هاشم

فما ذكره إلا على صدر دفتر

لكم يا بنى الزهراء زهر خصائص

تحير فيها فكرة المتفكر

أئمة دين الله أنتم وقد غدا

لكم صدر محراب وذروة منبر

وكان له أربعة أبناء مات ابنه محمد صغيرا وبه كان يكنى وعلى الشاعر وأحمد المكنى بأبى الحسين وجعفر المكنى بأبى القاسم ، وقد بقى من هؤلاء الأبناء الثلاث أحفاد وحكموا فترة فى الجيل والديلم ، وانتشر بعضهم فى أطراف العالم ، وجاء فى كتاب" الأنساب" شرح نسب كل واحد وكان أحمد بن الناصر إمامى المذهب ومن أبنائه أبو جعفر محمد صاحب القلنسوة ببلاد الديالمة وأبو محمد الحسن النقيب ببغداد ومن على الشاعر أبو عبد الله محمد الأطروش وأبو على محمد بن على الشاعر الذى كان له وجاهة ببغداد وسمعت أنه أنشد هذين البيتين ذات يوم وكان يقول :

فإن كنت لا تدرى متى أنت ميت

وقبرك لا تدرى بأى مكان

حسبك قول الناس فيما ملكته

لقد كان هذا مرة لفلان

ورغم إنه كان له أشعار كثيرة وفضل وافر ، فقد أمضى فترة طويلة فى صحبة الإمام الحسن بن على العسكرى صلوات الله عليهما واقتبس منه العلوم ، ومن الطلاب الذين استفادوا منه ابن مهدى ما فكيرى وأبو العلا السروى الذى ذكر فضله الثعالبى فى كتاب" يتيمة الدهر" وأحد الطلاب كان يقول كلمة مع آخر حول تحسين هذين البيتين ، ولأن سيد كان أصم فلم يعلم ماذا يقول فقال : يا هذا ارفع من صوتك فإن بأذنى بعض ما يروحك ، ومن أشعار ابنه ابن الحسن أحمد الذى ورد بعض منها فى هذا التاريخ وذكرت بكتاب" الأنساب" لصاحب الجيش وقد جاءت هذه الأبيات له فى وصف صدور :

صدور من الديباج نمق وشيها

وصلن بأطواق اللجين السواذج

وأحداق تبر فى خدود شقائق

تلألأ حسنا كاشتعال المسارج

وأذناب طلع فى ظهور ملايق

مرجرجة الأعطاف صهب الدمالج

فإن فخر الطاووس يوما بحسنه

فلا حسن إلا دون حسن التذارج

١٠٧

٧ ـ السيدان الأخوان المؤيد بالله عضد الدولة أبو الحسين والناطق بالحق أبو طالب يحيى ابنا الحسين ابن هارون ابن الحسين ابن محمد بن هارون بن محمد ابن القاسم بن الحسن بن زيد بن الإمام السبط الحسن بن أمير المؤمنين على ابن أبى طالب عليهم السلام : هكذا يقال إنه لم يخرج مخلوق قط من سادات آل الرسول عليه الصلاة والسلام تجتمع فيه شروط الأمان أكثر من هذين الأخوين ، أما سيد أبو الحسن فقد دعا أهل الديلم وأجابوه جميعا فى الجيل والديلم ولقابوس شمس المعالى فصل فى تفضيل عمر وأبو بكر وعثمان وأمير المؤمنين على على غرار الأسلوب المرسل لقابوس وقد عارض هذا السيد ذلك الفصل ودعمه بالحجج الدامغة ، وبلغ به غايته فى رسالة كتبها بحيث يقال : إن الذى كتبه معجز ليس ببعيد ، وتصانيفه التى هى معروفة ومتداولة وهى كتاب التجريد ، وكتاب الشرح ، وكتاب البلغة ، وكتاب النصرة وكتاب الإفادة ، وهذه هى جملة الكتب التى بيد الأئمة ولطلاب العلم شغف ورغبة صادقة فى تعلم هذه الكتب اليوم (كما كان فى السابق) ولم نكتب كتبا أخرى غير متداولة فى هذا الكتاب ، ويصل ديوان أشعاره إلى مجلد ضخم ولم نستحسن إلا أن نورد بضعة أبيات من شعره هنا :

يهذب أخلاق الرجال حوادث

كما إن عين السبك تخلصه السبك

وما أنا بالوانى إذا الدهر أمنى

ومن ذا من الأيام ويحك ينفك

بلانى حينا بعد حين بلوته

فلم ألف رعديدا ينهنهه السفك

وحنكنى كيما يعود أزمتى

فطحطته حنكا وما عضنى الحنك

ليعلم هذا الدهر فى كل حالة

بأى فتى المضمار أصبح يحتك

نمانى آباء كرام أعزة

مراتبها أنى يحيط بها الدرك

فما مدرك بالله يبلغ شأوهم

وإن يك سباقا فغايته الترك

فلا برقهم يا صاح إن شئت خلب

ولا وفدهم وكس ولا وعدهم إفك

١٠٨

وله أيضا :

وقد سبكت عقيان نار محنة

وبالسبك عقيان الرجال يهذب

وقد شذبته النائبات وإنما

تفرع غصن الدوح حين يشذب

ويقال إنه تعلم فى البداية ببغداد على يد السيد أبى العباس ، وبعد ذلك اتصل بقاضى القضاة" عبد الجبار الهمدانى" وتخرج فى مجلسه وبلغ الغاية به وقد ذكر أنه فى إحدى الليالى جاء إلى بلاط القاضى بعد نوم الخلائق وكان القاضى نائما فأيقظوه وقالوا له : سيد أبو الحسين بالباب ، فأمر بأن يدخلوه وسأل القاضى عن مسألة فقال القاضى أجئت لهذه المهمة ، فقال : نعم فكرت لو وافتنى المنية فى هذه الليلة فأموت وأنا شاك فى الدين وعلى شبهة ، وفى عهده نظم" ابن سكرة الهاشمى" قصيدة فى ذم آل أبى طالب :

إن الخلافة مذ كانت ومذ بدأت

موسومة بفتى من آل عباس

إذا انقضى عمر هذا أقام ذا خلفا

ما لاحت الشمس وامتدت على الناس

فقل لمن يرتجيها غيرهم سفها

لو شئت روحت كرب الظن باليأس

ويقول سيد أبو الحسن فى جوابها

قل لابن سكرة يا نفل عباس

أضحت خلافتكم منكوسة الرأس

أما المطيع فلا تخشى دوائره

يعيش ما عاش فى ذل وإنعاس

فالحمد لله حمدا لا شريك له

خص ابن داعى بتاج العز فى الناس

وكان ابن المعتز ناصبى المذهب وقد نظم قصيدة طويلة فى معارضتها

أبى الله إلا ما ترون فما لكم

غضابا على الأقدار يا آل طالب

ونظم القاضى أبو القاسم على بن محمد التنوخى صاحب" كتاب الفرج بعد الشدة" قصيدة فى معارضتها :

١٠٩

من ابن رسول الله وابن وصيه

إلى مدغل فى عقدة الدين ناصب

نشا بين طنبور وزق ومزهر

وفى حجر شاد أو على صدر ضارب

ومن ظهر سكران إلى بطن قينة

على شبهة فى ملكها وشوائب

يعيب عليا خير من وطئ الحصا

وأكرم سار فى الأنام وسارب

ويزرى على السبطين سبطى محمد

فقل فى حضيض رام نيل الكواكب

نشوا بين جبريل وبين محمد

وبين على خير ماش وراكب

وصى النبى المصطفى وصفيه

ومشبهه فى شيمة وضرائب

فكم مثل زيد قد أبادت سيوفكم

بلا سبب غير الظنون الكواذب

أما حمل المنصور من أرض يثرب

بدور هدى تجلو ظلام الغياهب

وقطعتم بالبغى يوم محمد

قرائن أرحام له وقرائب

وفى أرض باخمر أمصابيح قد ثوت

مترّ به الهامات حمر الترائب

وغادر هاديكم بفخ طوائفا

يغاديهم بالقاع بقع النواعب

وهارونكم أودى بغير جريرة

نجوم تقى مثل النجوم الثواقب

ومأمونكم سم الرضا بعد بيعة

تؤد ذرى شم الجبال الرواسب

فهذا جواب للذى قال مالكم

غضابا على الأقدار يا آل طالب

وسمعت أنه حينما استولى سيد أبو الحسين على الديلم واستقر له الأمر اتجه العلماء من آفاق العالم للاستفادة به ، وبلغ به الأمر أن أرسل إلى قاضى القضاة" عبد الجبار" لكى يبايعه ، وهكذا ذكر الحاكم جشم رحمه الله فى كتاب" جلاء الأبصار" أنه بعد أن بلغ عمره بضعا وسبعين توفى رحمه الله يوم عرفة فى يوم الأحد فى العام الواحد والعشرين وأربعمائة ، ودفنوه فى قصره فى" بلنكا" يوم الاثنين وكان ـ آنذاك ـ عيد الأضحى ، ولا يزال حتى الآن قبره ظاهرا ومشهده مستقرا ، وأهل تلك النواحى جميعا على مذهبه و" إستندار كيكاوس" وأسلافه وسائر الديالمة كذلك.

٨ ـ السيد الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين المؤيد بتأييد الله ،

أخو السيد المؤيد بالله وكان أكبر من أخيه بعشر سنوات ، كان معروفا بكمال العقل

١١٠

والفضل والسخاء والورع والاجتهاد والعبادة والزهد والتقوى وكان والدهم إمامى المذهب وكان هو كذلك فى البداية ولم يكن له نظير فى عصره ، وتعلم من سيد أبى العباس وبعده التحق بالشيخ أبى عبد الله الذى كان أستاذ الطائفة الإمامية ، ومرة أخرى اتصل بقاضى القضاة عبد الجبار ولم يكن بين الزيدية عالم ومحقق أبرز منه ، واشتغل بالتدريس فى إحدى مدارس" كركان" فترة من الوقت وأتى إليه العلماء من أكتاف الدنيا للعلم ، وبعد ذلك توجه إلى الديلم حينما تولى أخوه وبايعه الناس وكان يكتب إليه الأستاذ الجليل أبو الفرج على ابن الحسين هندى فى وقت الإمامة :

سر النبوة والنبيا

وزها الوصية والوصيا

أن الديالم بايعت

يحيى بن هارون الرضيا

ثم استربت بعادة الأي

ام إذ خانت عليا

آل النبى طلبتم

ميراثكم طلبا بطيا

يا ليت شعرى هل أرى

نجما لدولتكم مضيا

فأكون أول من يهز

إلى الهياج المشرفيا

وكان له ولد توفى وهو شاب فرثاه بقصيدة

عليك سلام الله ساكن بلقع

فليس إلى دفع الحمام سبيل

وليس إلى غير المتصبر مفزع

وإن عن خطب فى المصاب جليل

وإن كان حزن الناس عند إياسهم

قصيرا فها حزنى عليك طويل

وان كنت تحت التراب فى الرمس ولولا

فذكرك فى حشو الفؤاد نزيل

مقال الناس فارق حلمه نازلا

لشفّع تسكاب الدموع عويل

وله أيضا :

يا غائبا ماله إياب

خالفنى بعدك اكتئاب

وغاب روح الحياة منى

لما يملأ جسمك التراب

يا ذا هبا لم يصل شبابا

يبكى على فقدك الشباب

١١١

٩ ـ سيد أبو طالب يحيى :

كان قد ولد رحمة الله فى سنة ثلاثمائة وأربعين وتوفى فى سنة أربعمائة واثنتى وعشرين ودفن بآمل عن عمر يناهز اثنين وثمانين عاما وقد لحق بأخيه أيضا بعد أقل من عام وتصانيفه المشهورة هى : " كتاب التحرير والشرح" ، " كتاب المجزى" ، كتاب" الدعامة".

١٠ ـ السيد الإمام الفقيه العالم المتكلم الزاهد الشاعر حسن ابن حمزة العلوى :

وقد أقيم مرقده فى مواجهة مدرسة رز بن الشرف بما هى وفى عهد الملك السعيد أردشير حيث حث السيد الإمام بهاء الدين المامطيرى على أن يأمر بتجديد عمارة مقبرته فيما كان يذهب إلى زيارة مشهد على بن موسى الرضا ونظم هذا الشعر وذكر فيه كل منازل الأيام ، وله أشعار وآثار فضل كثيرة منها :

أبدرتم زاهر أم نور شمس باهر

أم غصن بان ناضر يحار فيه الناظر

اجلنار خدها أم الظلام جعدها

أم خوط بان قدها أنا فيها حائر

أدعص رمل ردفها ام نشر مسك عرفها

أم سيف عطف طرفها غضب حسام باتر

أحيزران خصرها أم أقحوان ثغرها

أم جنح ليل شعرها أم هى نور زاهر

أنجران انتصبا فى خده تعقربا

فاعتريانى لهبا تدمى لها المحاجر

أنظم در لفظها أم قوس غنج لحظها

حظى منها حظها إذ هى لا تماكر

فالصبح من غرتها والليل من طرتها

والمسك من نكهتها لها نسيم طاهر

والغصن من قوامها والدر من كلامها

والغنج من سهامها والطرف منها ساحر

والسحر من أجفانها والماء من بنانها

ها أنا من هجرانها على السقام صابر

تفتر عن ملثمها بلؤلؤء فى فمها

يلوح فى مبسمها كأنه جواهر

إذا مشت يقلقها لنعمة قرطقها

يفتننى منطقها واجفن فواتر

كالبدر فى تمثاله والغصن فى اعتداله

فالقلب من خباله لدائه مخامر

لا والذى يعلم ما فى الأرض طرأ

ما نلت منها محرما كنت لها أحاذر

١١٢

غير حديث ونظر من غير فحش ووزر

والله خير من غفر إذ هو رب غافر

فعد عن تذكارها وظل عن سمارها

إذ أنت بعد دارها لأرض طوس زائر

ورب قفر فدفد تيهاء ذات فرقد

كصارم مجرد يتيه فيها الماهر

قطعتها بناقة زيافة حفاقة

هفهافة لفاقة فى سيرها تخاطر

إذا ارتمت فى بيدها تئن فى وخيدها

للخف فى صعيدها على الثرى حفائر

تستن فى أرقالها فى غير ما كلا لها

تطرب فى ترحالها إذ أحدها الزاجر

بها غدوت راجلا من آمل ونازلا

منازلا عواطلا يقطعها المسافر

فما مطير قصدها حد إليها حدها

يروع قلبى وخدها إذا السراب مائر

يا صاح حث الناجية أظن حثا ناهية

حتى توافى سارية يوما وأنت باكر

ثم أغد منها باكرا لمهروان ذاكرا

مقطعا هو أجرا من بعدها هواجر

حتى توافى نامنه بزامل من عاينه

يخاف منه مأمنه يذعر منه الذاعر

وفى طميش لا تقف إلا وقوف المنحرف

ثم اغد منها وانصرف والقلب منك طائر

يا صاحبى ودائما من استراباد معا

وللرباط فاقطعا والربع منها داثر

وقف بجرجان ففى مربعها ما تشتفى

بحظه ويكتفى واردها والصادر

قد اغتدت أشجارها ترضعها أنهارها

واستوسقت ثمارها واخضرت الدساكر

أطيارها دراجها يطربنى تهياجها

تذرجها هزاجها فالكل منها صافر

غزالها يحمورها بلبلها شحرورها

قد اغتدت صقورها أفواهها فواغر

دعها وعد قاصدا دينار زارى رائدا

لقصدها مجاهدا وسر وأنت شاكر

حتى إذا آن الدنو من ربط آمر وتلو

والقوم قد ترحلوا فارحل وأنت ذاكر

مولاك بالتحميد وأثن بالتمجيد

 .... (١) إلى النعيم صائر

حتى إذا جاوزا بدت والطير فيها غردت

 .... وانتحبت وثار منها ثائر

قطعتها مجاوزا لشير آسف جائزا

أخطر منها جامزا فالوحش منى نافرا

حتى أتيت معلما لأسفرايين وما

قصرت فى السير كما قصر فيه عابر

ثم وردت المعقلى ومأوه كالحنظل

تباله من منزل تعافه الجاذر

__________________

(١) جاء هذا المكان فى النص فارغا.

١١٣

وذكر أن الناصر الكبير مع كثرة فصاحته وبلاغته كان يقول : لو جاز قراءة شعر أحد فى الصلاة لكان شعر أبى القاسم.

السيد شمس آل رسول الله صلى الله عليه وآله كان فقيها وصاحب حديث من بين النساك والعباد ولا يزال مشهده قائم ومزاره معمور بحى عازمه كوى قرب البوابة.

ومن علماء السادات الذين كانوا فى عصرنا السيد" ظهير الدين" النسابة الجرجانى والذى لا يخفى على أحد فى العالم فضله فى علم الكلام والفقه والتذكير ، والسيد ركن الدين سارى وأخوه السيد الزاهد العالم المتقى شرف الدين والذى يوجد مرقده فى مدرسة الإمام الخطيب فى المشهد المقابل لمفترق الطرق الثلاث واستمد مذهب الإمامية القوة من شرف الدين وبطل مذهب الزيدية فى تلك المناطق والله أعلم.

ـ السيد الإمام أبو طالب الثائر ملك طبرستان كانوا خمسة من الأخوة كان يدعى جدهم بحسين الشاعر الذى كان أخا لناصر الكبير وكان يدعى والده محمد الفارس وقد تزوج من ابنه الناصر ، وكان له غلام وخادم يدعى" عمير" وبعد أن استرد الجيل والديلم بطبرستان من السادات بالقوة عصاه هذا الغلام وسار إلى جيلان ونهب كل أملاكه هناك ، والتف من حوله أهل جيلان وترك كل ذلك للسيد ، ويقول نظما :

يا آل ياسين أمركم عجب

بين الورى قد جرى مقادير

لم يكفكم فى حجازكم عمر

حتى بجيلان جاء تصغيره

" ملوك باوند قدس الله أرواحهم"

هى أسرة مباركة كانوا على وجه الأرض أمنا للخائف وملاذا للملهوف وملجأ للسلاطين والملوك ، عرفوا رعاية جانب المستميح وحماية المستجير كفرض دينى ووفاء بالدين ، وكل من اصطدم حذاء سلامته من أقطار العالم وآفاق الدنيا بصخرة الملامة أعتبر منزلهم مكان العافية لقدمه الحافية ، وكان بلاطهم دوما مقصد الوفود ومجال السجود ومجالس الجود وعونا للمحتاجين ومسكنا للمساكين لهم من صولتهم حمم كالجحيم ومن صلتهم تسنيم كالنعيم لقائهم وبقائهم للخلائق كارائحة الجنان وراحة الروح

 ـ وما خلقت إلا لجود أكفهم

وأقدامهم إلا لأعواد منبر

بلغت حمايتهم الغاية بحيث لو لجأ إليهم أبناء الخلفاء والملوك خوفا من جرم لانقطع نهائيا مطمع كل من تمنى استرجاعهم والنيل منهم ولكان قد دخل فى جدال وقتال وضرب ودفع مع خصوم أقوياء وأعزاء وأعداء غالبين للقرون متوالية كحرب البسوس.

١١٤

" الإصفهبد الكبير المعظم علاء الدولة على بن شهريار بن قارن"

أزال كرمه وهمته وسخاوته ورحمته ذكر عدل أنو شروان ومروءة نوزرى وسوف نذكر مقاماته المشهورة وكراماته المنشورة عند ما نصل إلى قصة ملكه ، وكيف أنه حصل على عرش وتاج أبيه بمعارضة كثير من أقاربه وأخوته ، وقد ذكرت هنا فى عبارة موجزة حكاية الجماعة التى لجأت إلى بلاطه واحتمت به ، فمن أبناء السلطان مسعود الغزنوى نذكر شيرزاد الذى كان شريك ملك بهرا مشاه فخر الملوك كان قد أتى إلى منزله وبعد الفترة التى قضاها معه فى رياض الأمن والرفاهية ، تمنى أن يذهب إلى زيارة الكعبة المعظمة فكان يقطع المسافة من طبرستان إلى مكة على صورة منظمة يوما بيوم حتى وصل إلى هنا بالعافية وكانت مشيئة الحق جل ذكره قد جرت بإزاحة من ينازع ذلك الأمير ، فأبلغه قصر عزه بغزنة ، ولجأ إلى منزله مرتين السلطان مسعود بن محمد السلجوقى ابن" أخو سنجر" وكانت المرة الأولى عند ما قتلوا الخليفة ، فقد جاء برفقة ابنه إلى علاء الدولة ، والمرة الثانية عند ما وقع خلاف طغرل فأحضر النساء المحجبات وأقاربهم فى منطقة أرم وأجلسهم فى قصر ابنه شاه غازى رستم بن علاء الدولة وبعث له بمدد إلى العراق ، فلما أن تولى الأمر محمد بن ملكشاه بايع الأبناء جميعا محمود فلما مات اختلف الأخوة فيما بينهم فاتجه طغرل المهزوم إلى منزلهم وكان الأخوة الثلاث على بن زر ينكمر ومحمد وأبو شجاع قد أقاموا بمنطقة كليس فلم يسمحوا للسلطان بأن يدخل وكلما قال : لى خصوم فى أثرى ، وأتيت هربا ، قالوا إن الملك لم يسمح فلا تستطيع أن تأتى ، فأرسلوا إلى الملك الغازى فى آرم فركب فى الحال حتى نزل على قرية معصورة ، وأدخل طغرل وأرسله إلى سارى عند والده وكان لخوارزمشاه سعيد محمد أربعة أبناء وقد وقع خلاف بينهم فهرب اثنان منهم وأتيا إليه ، فأمر لهم بنعم ومكرمات كثيرة ما زالت تذكر حتى الآن وكان للأمير عبد الرحمن طفايرك أتايبك شاعرا ممدوح العماد وقصيدة يمدحه فيها ما ترجمته :

إن عبد الرحمن لو أراد لا

ستجلب من الأفلاك السبعة ستة

مر به فوج من حشم الجبل وديلم من أردبيل إلى ساحل البحر ومثل إلى حضرته وأمضى معه فترة ، فأمده بمدد وأعاده مرة ثانية إلى ملكه عن طريق الساحل ، وكان أمير الحلة دبيس بن صدقة ملك العرب من عظماء العالم المعروفين بالسخاوة

١١٥

والفصاحة وعلو الهمة طلب الأمان لديه برفقة فأتى فارس فأرسل إليه فى اليوم الأول عشرين جوادا بخلع وثلاثمائة ثوب ، ومائة درع وخوذة ومائة نطاق للسيف وصدرية ودرقة ، وعشرون ألف دينار من الذهب ومرة أخرى جاء أخوه" بركة بن صدقة" إلى بلاط الإصفهبد علاء الدولة هربا من الخليفة فشفع له وكتب له رسالة الأمان وأعطى له النفقات وأعاده إلى ولايته مع رجاله ولما عصى قيترمش السلطان وبعث بإخوته وأبنائه وحروماته أمانة لديه ، وقد رعى تلك الجماعة لمدة خمس سنوات بشفقة لم يكن لها مدى وبعد ما وجدوا الأمان أعاد الجميع إلى دارهم بسلام.

" الإصفهبد الكبير العادل العالم الغازى نصرة الدولة رستم بن على بن شهريار بن قارن"

كان بعيد الصوت ، مشهور المواقف ، شائع الذكر ومنذ عهد" إفريدون"" ومنوجهر" لم تلد طبرستان أعظم منه قدرا وهمة وعظمة وعدلا وأصالة ، وكانت فى فترة حكمه جاجرم وجرجان حتى الطوقان منضبطة بحيث إذا ذكره فى موضعه ، وكان أول شخص من جماعة باوند الذى جلس على العرش فى البلاط ومنظم له الموكب ولم يكن لحاكم أو ملك باستثناء خسرو برويز فمثلما كان له من كنوز وذخائر ونفائس وما زال إلى عهدنا أربعون جزءا من قلاع مملوكة له من الذهب والأجناس والجواهر.

وهكذا سمعت أن كيكاوس إستندار حينما أراد أن يوصيه تشاور مع قاضى ولايته فسمح له بهذه الجرأة حتى اتجه الشاه غازى إلى رويان وجعل النيران تحرق الولاية من أقصاها إلى أقصاها ويقول الإصفهبد خورشيد من أبى القاصم المامطيرى باللهجة الطبرية :

تدبير كرده كاوى كى كوشيك بسوجن

أونى كه سى كوشلر برنده تابلوجن

نون كشور بوين سوجن كهون اورجن

تدبير كر كارى ديرهار موجن (١)

وبعد وفاة سليمان شاه ابن أخيه هرب من محمود خان ابن أخته وولى عهد سنجر ولجأ إلى شاه غازى بمحلة الدراويش ولمدة شهرين كانوا يضعون الموائد له ولحشمه كل يوم من أول الميدان حتى نهايته حتى جمع عشرين ألف رجل من جيلان

__________________

(١) من الأشعار الواردة فى المتن باللهجة الطبرية.

١١٦

وديلم وسائر أطراف طبرستان وأخذوا له جميع لوازم الملك من خزانة وسلاح وحشم وحمله إلى الرى ، وأجلسه على عرش السلطنة والتف حوله أمراء العراق وأذربيجان وسلموا الرى وساوة للإصفهبد شاه غازى ، فلما علم السلطان محمود رغبته عن طريق طبرستان أمر بجميع أمراء سنجر إلى طبرستان ووصل إليه خلال يومين من الرى قصبة كوسان فى نهاية قلعة آب دره حيث عسكر هناك ونزل محمود خان فى الصحراء أسفل قرية دجان ، وفى إحدى الليالى أذن شاه غازى لملك قارن بأربعمائة غلام وخمسمائة باوندى ، بأن يتحركوا إلى مخيم الأتراك ، وأغاروا على خيمة محمود خان وأنزلوا به خسائر فادحة لا يسع المجال لشرحها فعين المؤيد أبيه مع قريبه فرداد ليذهبا إلى سارى ويغير عليها فبعث شاه غازى بولده شرف الملوك الحسن بقوة إلى طريق لاكش مهروان ليلا لتلك الجماعة ، ومكن البعض فلما وصلوا إلى قصة مهروان حصدوا ببعضهم البعض وأسروا قريب محمود مع ألف من الأتراك وفر من المؤيد أبيه مهزوما مع عدد من أتباعه فلما اقتيدت مجموعة الأسرى إلى الإصفهبد أكرم الجميع وأعادهم لمحمود خان قال لهم : قولوا لهم ليكن أهلنا مسالمين وما يرتكب إنما هو بغير إذننا ، فبعث إليه محمود خان عزيز طفرائى الذى كان من أكابر الشيوخ فى دولة السنجرية ، وزوده بعشرين ألف دينار ملكية ليصل السلطان إلى جرجان فسلم شاه غازى المبلغ إلى الدارسين فلما رحل محمود ووصل إلى جرجان أطلقوا الطلاب من الولاية كالسيل فقال لهم : اذهبوا وقولوا لقد أعطينا الذهب للرمح وكان قد أشعل فى خرسان الفتنة المعروفة فذهبوا ولم يهتموا به وأطلقوا عليه فى طبرستان محمود كندم ضارب القمح لأن أتباعه كانوا لا يجدون الخبز فكانوا يحصدون القمح ويدقونه.

" السيد الإمام رشيد الدين الوطواط رحمه الله"

الذى كان قاضيا لخوارزم شاه ومنظم قصائد كثيرة فى حقه وكان يأخذ راتبا سنويا عبارة عن خمسمائة دينار وجواد وخلعة وعمامة وجبة ، وهذه عدة أبيات من قصيدة وقتما ذهب إلى الرى وأجلس سليمان شاه.

١١٧

جلالك باد فى خرسان باهر

وذكرك سار فى العراقين سائر

وأنت حام الدين فى نصرة الهدى

حسام إذا كل البواتر باتر

غدا الرى والأكباد فيها جريحة

لفقدك والأجفان فيها سواهر

تفرق من بعد تجمع شملها

ودارت عليها بالبلايا الدوائر

فما قاتل إلا لتقواك ذاكرا

ولا سائل إلا لجدواك شاكر

أيا ملكا رحب القصور عرا عرا

لسان الليالى عن مساعيك قاصر

جلالك فى أعلى السموات صاعدا

وصيتك فى أقصى الأقاليم سائر

أيا مالكا للأمر والنهى فى الهدى

فما فى مثلك فى الناس ناه وآمر

محياك بدر فى الغياهب زاهر

ويمناك بحر فى المواهب زاخر

وأنت إلى رفع الملمات مائل

وأنت إلى رفع المهمات قادر

فما فى بلاد الله غيرك حافظ

ولا لعباد الله غيرك ناصر

أما لهم من مشرع ألغى حاجز

أما لهم من مصرع البغى حاجز

أما لهم عن مكسب الإثم وازع

أما لهم عن موكب الظلم زاجر

تمتع بمدحى فهو أكرم مفخر

إذا عدت للأكرمين المفاخر

إلا أننى فى مدح غيرك شاعر

ولكننى فى مدح صدرك ساحر

فعش سالما ما حرر النثر كاتب

ودوما غانما حبر النظم شاعر

ومرة أخرى حينما نزل شاه غازى إلى الرى وأقام نوابه وسيطر عليها لعام ونصف وطرد جماعة من أطرافها فأرسل هذه القصيدة :

جبينك كالبدر المضىء يلوح

وخلقك كالمسك الذى يفوح

ونائلك الفياض تغدو غيومه

بنفع غليل المعتفى وتروح

لك الراية الزهراء فى كل وقعة

بها لجيوش المسلمين فتوح

لها ألسن فى الجو من عذباتها

صفاح بأسرار الكفاح تبوح

فكم للعلى يا آل قارن سورة

بناها على رغم المعاطس نوح

فأفعالكم للمعضلات دوافع

وأقوالكم للمشكلات شروح

١١٨

بأيمانكم يوم الصباح صوارم

لها من دماء الدارعين صبوح

لجندك فى أرض العراق وقائع

بهن شياطين القرع تطوح

فكم من نفوس فى العراء طريحة

عليهن ربات الحجال تنوح

فلا بلد إلا وفيه زلازل

ولا خلد إلا وفيه تروح

بقيت مدى الأيام فى عز أنعم

عليهن أنوار الدوام تلوح

وحينما اقتلع شاه غازى الملاحدة من القلعة مهرين ومنصوره كوره ، أرسل إلى حضرته هذه القصيدة وهذا ثبت ببضعة أبيات منها :

أيا من إلى نادية تأوى الأ ماجد

لآرائه شهب الدياجى سواجد

ويا من يلوذ الأكرمين بظله

إذا أشعلت نيرانهم الشدائد

ألا أنه فى العلم أن حد عالم

ولكن بالجسم أن عد واحد

أيا نصر الدين الذى عقواته

بها نصبت للنازلين الموائد

فأطرافها للبراهبين معاقل

وأكتافها للراغبين معاهد

لسانك لا يجرى على عذباته

سوى كلمات كلهن فوائد

فهن لآفاق المعالى كواكب

وهن الأعناق المعانى قلائد

بلغت من العلياء منزلة لها

زواهر أجرام السماء حواسد

حويت على رغم الأنوف من العدى

محامد يغنى الدهر وهى خوالد

فتجهد والأبدان منهم فوارغ

وتسهر والأجفان منهم رواقد

وكيف يساويك العدى قل عرشهم

وهل يتساوى قاعد ومجاهد

فمنهلكم عذب لمن هو وارد

ومنزلكم رحب لمن هو وافد

فمنكم جبال الباقيات رواسخ

ومنكم رياح الغانيات رواكد

وهمتكم جرداء فهى لدى الوغى

وهمة أصل العصر غيداء ناهد

فأنت لها فى نصرة الشرع شاهر

وأنت لها فى هامة الشرك غامد

سيوفك زيدت حدة ضرباتها

مؤكدة للدين منها المعاقد

بقيت رضى الحال ما لاح بارق

ودمت رضى البال ما صاح راعد

١١٩

ورغم أن علماء وشعراء العرب والعجم قد افتخروا بمدح أسرة باوند ، ولما كان رشيد الدين الوطواط إمام الأئمة فى عهده وقمة أهل البلاغة والبراعة فقد اكتفينا بذكر مدائحه حتى لا تلحقنى التهمة وتبقى فى حقى شبهة إننى أجزت الكثير من الغلو والمبالغة بإفراط فى مناقبهم بدافع العشق والولاء ودواعى الهوى ، إذ لو أننى أردت أن أطلق العنان للقلم فى شرح فضائل تلك الأسرة ، فى هذا الكتاب ، فلا يمكننى أن أعول على العمر أو أعتمد على الزمن لأن كليهما لا ينتهى به شرح فضل تلك الأسرة ، وكان من بين حملة هذا الملك أنه فى يوم الصبوح كان يأذن للرفقاء بأن يذهبوا خزانته حتى كان ذات يوم سابق الأمير على كيلة خواران أحد أقاربه وكان يدعى بعلى الرضا الذى كان وكيلا على بابه وكان له ثلاثة أبناء هم سعد الدين حسين ديوانه ونظام محمد وقوام فرامرز فحضروا جميعا من مجلس الشراب فى النهاية واتجهوا إلى الخزانة وكان الآخرون قد أخذوا كل ما كان بها من نقود وجواهر وملابس وفراءات ولم يكن بها إلا بعض لفائف من الحرير فحمل كل منهم على ظهره ثلاثة لفائف وأخذ يدحرج لفافة أخرى بقدمه ، ويقول باربد جريرى الشاعر الطبرى فى ذلك اليوم فى حقهم :

أين دو خركه دار نه شاه أيرون

يك خربزين نيكه يكى بيالون (١)

وكان له عادة أخرى أنه كان لا يدع مادحا قط أن ينشد بحضرته فكان يقول : إن الشعراء يقولون أكاذيب وأنا لم أفعلها قط ، وأنا أخجل من هذا حتى قيل إلى حضرته من خرسان الشاعر الملقب بالمظفر وقال له سوف أنشد فى مدحك ما فعلته وقال تلك القصيدة وعرضها عليه فقال له : إنك تقول الصدق ومنحه بكل بيت عشرة من الذهب وجواد وجبة وقلنسوة ، كأنما حاز فخرا جنة عدن ، وهى فى حرمتها كحرمة إصفهبدان.

__________________

(١) أحد الأبيات الموجودة فى المتن باللهجة الطبرية.

١٢٠