الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

ولعلّ هذه الواقعة هي بذرة تلك النزعة الفاسدة التي كانت عند جمع ممّن تولّى معاوية بعد وفاته.

قال شمس الدين البناء المقدسي (١) في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (٢) (ص ٣٩٩) : وفي أهل أصفهان بله وغلوّ في معاوية ، ووُصف لي رجل بالزهد والتعبّد فقصدته ، وتركت القافلة خلفي ، وبتّ عنده تلك الليلة ، وجعلت أسائله إلى أن قلت : ما قولك في الصاحب (٣) ، فجعل يلعنه ثم قال : إنّه أتانا بمذهب لا نعرفه. قلت وما هو؟ قال : يقول : معاوية لم يكن مرسلاً : قلت : وما تقول أنت؟ قال : أقول كما قال الله عزّ وجلّ : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٤) ، أبو بكر كان مرسلاً ، وعمر كان مرسلاً ، حتى ذكر الأربعة ، ثم قال : ومعاوية كان مرسلاً. قلت : لا تفعل ، أمّا الأربعة فكانوا خلفاء ومعاوية كان ملكاً ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثم تكون ملكاً.

فجعل يشنّع عليّ وأصبح يقول للناس : هذا رجل رافضيّ ، فلو لم أدرك القافلة لبطشوا بي ، ولهم في هذا الباب حكايات كثيرة.

هب أنّ القوم أخذت منهم الرهبة مأخذه فلم يلتفتوا إلى ما يقولون ، لكن هذا الذي يدّعي الخلافة عن رسول الله بملكه العضوض هلاّ كان عليه أن يردعهم عن ذلك التسليم المحظور أو يسكّن روعتهم فيرجعوا إلى حقّ المقام؟ لو لا أنّ معاوية لم يكن له في مبّوئه ذلك ضالّة إلاّ الحصول على الملوكيّة الغاشمة باسم الخلافة المغتصبة! لأنه لا يبلغ أُمنيته إلاّ بها ، فلا يبالي أسُلّم عليه بالربوبيّة أو الرسالة أو إمرة المؤمنين ، وقد حاول إرغام ابن النابغة فيما توسّمه منه في مُقتبله ذلك ، فبلغ ما أراد ، فحالت نشوة الغلبة بينه وبين أن يجعل لأمره الإمر ، أو إمرته الخرقاء صورة محفوظة.

__________________

(١) أبو عبد الله محمد بن أحمد الشامي المولود سنة ٣٣٦ ، والمتوفّى نحو ٣٨٠. (المؤلف)

(٢) أحسن التقاسيم : ص ٣٠٦.

(٣) هو الوزير الشيعي الوحيد ، الصاحب بن عبّاد ، المترجم له في الجزء الرابع : ص ٤٢. (المؤلف)

(٤) البقرة : ٢٨٥.

٤٦١

يأنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل ، ولم يشنّع على من يسلّم عليه بالرسالة ، غير أنّه لم يرُقه أن يذكر نبيّ الإسلام بالرسالة ، ويزريه بذكر اسمه ، وهو يعلم أنّ العظمة لا تُفارقه ، والرسالة تلازمه ، ذكر الحفّاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي (١) ، أنّ معاوية قال : أرأيت هاشماً؟ قال : نعم والله طوالاً حسن الوجه ، يقال : إنّ بين عينيه بركة. قال : فهل رأيت أميّة؟ قال : نعم ، رأيته رجلاً قصيراً أعمى ، يقال : إنّ في وجهه شرّا أو شؤماً. قال : أفرأيت محمداً؟ قال : ومن محمد؟ قال : رسول الله. قال : أفلا فخّمته كما فخّمه الله ، فقلت : رسول الله (٢)؟!

التحكيم لما ذا :

إنّ آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدأ الأمر ، وإن تستّر بها آونة على الأغبياء ، وتترّس بطلب دم عثمان دون نيل الأمنية بين القوم آونة أخرى ، حين سوّلت له نفسه أن يستحوذ على إمرة المسلمين بالدسائس ، فأوّل تلكم البذرة أو القنطرة الأولى الطلب بدم عثمان ، وفي آخر الحيل الدعوة إلى تحكيم كتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يدعوهم ـ منذ أوّل ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند ، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة ـ (٣) إلى التحكيم الصحيح الذي لا يعدو محكمات القرآن ونصوصه ، لو لا أنّ ابن النابغة وصاحبه يُسيّران على الأُمّة غدراً ومكراً ، وعلى إمام الحقّ خيانة وظلماً غير ما يتظاهران به من تحكيم الكتاب ، فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة ، ومظاهر العدوان ، بين دهاء ابن العاص وحماريّة الأشعري ، بين قول أبي موسى لابن العاصي :

__________________

(١) أحد المعمّرين ، قد أتى عليه من السنّ يوم استقدمه معاوية ستون وثلاثمائة سنة ، ترجمه ابن عساكر في تاريخ الشام ، ومترجمو الصحابة في معاجمهم. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٣ / ١٠٣ [٣ / ٩٠ وفي مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٣١] ، أُسد الغابة : ١ / ١١٥ [١ / ١٣٦ رقم ٢٢٣]. (المؤلف)

(٣) راجع ما أسلفناه في هذا الجزء : صفحة ٢٧٦. (المؤلف)

٤٦٢

لا وفّقك الله غدرت وفجرت (١) ، إنّما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، وبين قول ابن العاصي لأبي موسى : وإنّما مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً (٢) ، فوُئِد الحقّ ، وأودي بالحقيقة ، بين شيطان وغبيّ ، فكان من المتسالم عليه بين الفريقين أنّ الخلافة هي المتوخّاة لكلّ منهما ، ولذلك انعقد التحكيم ، وبه كان يلهج خطباء العراق وأمراؤهم عند النصح للأشعري ، وزبانية الشام المنحازة عن ضوء الحقّ ، وبلج الإصلاح. فمن قول ابن عبّاس للأشعري :

إنّه قد ضُمّ إليك داهية العرب ، وليس في معاوية خلّة يستحقّ بها الخلافة ، فإن تقذف بحقّك على باطلة تُدرك حاجتك منه ، وإن يطمع باطله في حقّك يُدرك حاجته منك ، واعلم يا أبا موسى أنّ معاوية طليق الإسلام ، وأنّ أباه رأس الأحزاب ، وأنّه يدّعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة ، فإن زعم لك أنّ عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق ، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ، ويوجره (٣) ما يكره ، ثم استعمله عثمان برأي عمر ، وما أكثر من استعملا ممّن لم يدّع الخلافة ، واعلم أنّ لعمرو مع كلّ شيء يسرّك خبأً يسوؤك ، ومهما نسيت فلا تنسَ أنّ عليّا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وأنّها بيعة هدى ، وأنّه لم يقاتل إلاّ العاصين والناكثين. شرح ابن أبي الحديد (٤) (١ / ١٩٥).

__________________

(١) وفي لفظ ابن قتيبة : مالك؟ عليك لعنة الله ، ما أنت إلاّ كمثل الكلب. وفي لفظ ابن عبد ربّه : لعنك الله ، فإن مثلك كمثل الكلب. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١١٥ [١ / ١١٨] ، كتاب صفّين : ص ٦٢٨ طبعة مصر [ص ٥٤٦] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٩١ [٤ / ١٤٦] ، تاريخ الطبري : ٦ / ٤٠ [٥ / ٧١ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، مروج الذهب : ٢ / ٢٢ [٢ / ٤١٧ ، ٤١٨] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٤٤ [٢ / ٣٩٧ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٩٨ [٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ خطبة ٣٥]. (المؤلف)

(٣) وجره الدواء أوجره إيّاه : جعله في فيه ، أوجره الرمح : طعنه ، ووجره : أسمعه ما يكره. (المؤلف)

(٤) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٤٦ خطبة ٣٥.

٤٦٣

ومن قول الأحنف بن قيس له : ادع القوم إلى طاعة عليّ ، فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبّوا ، ويختار من قريش الشام من أحبّوا (١).

ومن قول شريح بن هانئ للأشعري : إنّه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية ، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم عليّ ، فانظر في ذلك نظر من يعرف هذا الأمر حقّا ، وقد كانت منك تثبيطة أيّام الكوفة والجمل ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظنّ بك يقيناً ، والرجاء منك يأساً ، ثم قال :

أبا موسى رُميتَ بشرِّ خصمٍ

فلا تُضعِ العراقَ فدتك نفسي

وأعطِ الحقَّ شامهمُ وخذهُ

فإنّ اليومَ في مَهَلٍ كأمسِ

وإنَّ غداً يجيء بما عليهِ

كذاك الدهرُ من سعدٍ ونحسِ

ولا يخدعْكَ عمروٌ إنَّ عمراً

عدوُّ اللهِ مطلعَ كلِّ شمسِ

له خُدعٌ يحارُ العقل منها

مموّهةٌ مزخرفةٌ بلبسِ

فلا تجعل معاويةَ بنَ حربٍ

كشيخٍ في الحوادث غيرِ نكسِ

هداه الله للإسلامِ فرداً

سوى عِرس النبيّ وأيّ عرسِ (٢)

ومن قول معاوية لعمرو بن العاص : إن خوّفك العراق فخوّفه بالشام ، وإن خوّفك مصر فخوّفه باليمن ، وإن خوّفك عليّا فخوّفه بمعاوية.

ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية : أرأيت إن ذكر عليّا وجاءنا بالإسلام والهجرة واجتماع الناس عليه ، ما أقول؟ فقال معاوية : قل ما تريد وترى. الإمامة

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٩ ، وفي طبعة : ص ١١٢ [١ / ١١٦] ، نهاية الأرب : ٧ / ٢٣٩ ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٩٦ [٢ / ٢٤٩ خطبة ٣٥]. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٩ ، وفي طبعة ١١٣ [١ / ١١٥] ، كتاب صفّين : ص ٦١٤ ، ٦١٥ طبعة مصر [ص ٥٣٤] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٩٥ [٢ / ٢٤٥ خطبة ٣٥]. (المؤلف)

٤٦٤

والسياسة (١) (١ / ٩٩ ، وفي طبعة : ص ١١٣).

قال الأميني : هذه صفة الحال ، ومُصاص الحقيقة ، من نوايا أهل العراق وأهل الشام من طلب كلّ منهما الخلافة ، وإثباتها لصاحبه ، ودونه تحقّق الخلع والتثبيت ، وعليه وقع التحكيم حقّا أو باطلاً ، ولم يكن السامع يجد هنالك قط من دم عثمان ركزاً ، ولا عن ثاراته ذكراً ، وإنّما تطامنت النفوس على تحرّي الخلافة فحسب ، ولقصر النزاع على الخلافة مُحيت إمرة المؤمنين عند ذكر اسم مولانا الإمام عليه‌السلام عن صحيفة الصلح.

فلقد تمخّضت لك صورة الواقع من أُمنيّة معاوية الباطلة في كلّ من هذه العناوين الستّة المذكورة المدرجة تحت :

١ ـ حديث الوفود.

٢ ـ أنباء في طيّات الكتب.

٣ ـ تصريح لا تلويح.

٤ ـ فكرة معاوية لها قدم.

٥ ـ مناظرات وكلم.

٦ ـ التحكيم لما ذا؟ فأين يقع منها كلمة ابن حجر وحكمه الباتّ بقصر النزاع بين الإمام عليه‌السلام وبين ابن هند على طلب ثارات عثمان لا الخلافة؟ لتبرير عمل الرجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين ألفاً ضحيّةً لشهواته ومطامعه ، وهو يحسب أنّه لا يوافيه مناقش في الحساب ، أو ناظر إلى صفحات التاريخ نظر تنقيب وإمعان ، وكأنه لا يخجل إن جاثاه منقّب ، أو واقفه مجادل ، كما أنّه لا يتحاشى عن موقف الحساب يوم القيامة ، وإنّ الله سبحانه لبالمرصاد.

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١١٦.

٤٦٥

ونختم البحث بكلمة الباقلاني ، قال في التمهيد (ص ٢٣١) : إنّ عقد الإمامة لرجل على أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز ، لأنّه متعبّد في ذلك باجتهاده والعمل على رأيه ، وقد يؤدّي الإمام اجتهاده إلى أن لا يقتل الجماعة بالواحد ، وذلك رأي كثير من الفقهاء ، وقد يكون ممّن يرى ذلك ، ثم يرجع عنه إلى اجتهاد ثانٍ ، فعقد الأمر له على ألاّ يقيم الحدّ إلاّ على مذهب من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل ممّن عقده ورضي به.

وعلى أنّه إذا ثبت أنّ عليّا ممّن يرى قتل الجماعة بالواحد ، لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلاّ بأن تقوم البيّنة على القتلة بأعيانهم ، وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه يطالبوا بدم أبيهم ووليّهم ، ولا يكونوا في حكم من يعتقد أنّهم بغاة عليه ، وممّن لا يجب استخراج حقّ لهم ، دون أن يدخلوا في الطاعة ، ويرجعوا عن البغي ، وبأن يؤدّي الإمام اجتهاده إلى أنّ قتل قتلة عثمان لا يؤدّي إلى هرجٍ عظيم ، وفساد شديد ، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه ، وإنّ تأخير إقامة الحدّ إلى وقت إمكانه ، وتقصّي الحقّ فيه ، أولى وأصلح للأُمّة ، وألمّ لشعثهم ، وأنفى للفساد والتهمة عنهم.

هذه أمور كلّها تلزم الإمام في إقامة الحدود ، واستخراج الحقوق ، وليس لأحد أن يعقد الإمامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حدّ من حدود الله ، والعمل فيه برأي الرعيّة ، ولا للمعقود له أن يدخل في الإمامة بهذا الشرط ، فوجب اطّراح هذه الرواية (١) لو صحّت ، ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة فقبل هو ذلك ، لكان هذا خطأ منهم ، غير أنّه لم يكن بقادح في صحّة إمامته ، لأنّ العقد له قد تقدّم هذا العقد الثاني ، وهذه الشريطة لا معتبر بها ، لأنّ الغلط في هذا من الإمام ، الثابتة إمامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. الكلام.

__________________

(١) يعني ما روي عن طلحة والزبير من قولهم : بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان. (المؤلف)

٤٦٦

حجج داحضة :

استرسل ابن حجر في تدعيم ما منّته به هواجسه اقتصاصاً منه أثر سلفه في تبرير أعمال معاوية القاسية ، والاعتذار عنه بما ركبه من الموبقات ، وتصحيح خلافته بإسهاب في القول وتطويل من غير طائل في الصواعق (١) (ص ١٢٩ ـ ١٣١) بما تنتهي خلاصة ما لفّقه إلى أمرين :

أحدهما : القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء بإثمه ، من حروب دامية ، ونزاع مع خليفة الوقت ، إلى ما يستتبعانه من مخاريق ومرديات من إزهاق نفوس بريئة تعدّ بالآلاف المؤلّفة (٢) ، وفيهم ثلاثمائة ونيف من أهل بيعة الشجرة ، وجماعة من البدريّين (٣) ، ولفيف من المهاجرين والأنصار ، وعدد لا يستهان به من الصحابة العدول أو التابعين لهم بإحسان ، وهو يحسب أنّ شيئاً من هذه التلفيقات يبرّر ما حظرته الشريعة في نصوصها الجليّة من الكتاب والسنّة ، وأنّ الاجتهاد المزعوم نسّق حول معاوية سياجاً دون أن يلحقه أيّ حوب كبير ، وأسدل عليه ستاراً عمّا اقترفه من ذنوب وآثام تجاه النصوص النبويّة ، ولم يعلم أنّه لا قيمة لاجتهاد هذا شأنه يتجهّم أمام النصّ ، ويتهجّم على أحكام الدين الباتّة وطقوسه النهائيّة ، بلغ الرجل أنّ الاجتهاد جائز على الضدّ من اجتهاد المجتهدين ، وما تعقّل أنّه غير جائز على خلاف الله ورسوله.

__________________

(١) الصواعق : ص ٢١٦ ـ ٢١٨.

(٢) قال ابن مزاحم : أصيب بصفّين من أهل الشام خمسة وأربعون ألفاً ، وأصيب بها من أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً. كتاب صفّين : ص ٦٤٣ [ص ٥٥٨]. وذكره ابن كثير في تاريخه : ٧ / ٢٧٤ [٧ / ٣٠٤ حوادث سنة ٣٦] وقال : قاله غير واحد ، وزاد أبو الحسن بن البراء : وكان في أهل العراق خمسة وعشرون بدريّا. وعلى ما ذكر من عدد القتلى ذكره ابن شحنة في روضة المناظر هامش الكامل : ٣ / ١٩١ [١ / ٢٩١] ، وصاحب تاريخ الخميس في : ٢ / ٢٧٧. (المؤلف)

(٣) راجع ما مرّ في الجزء التاسع : ٣٥٩ الطبعة الأولى [٩ / ٣٦٢]. (المؤلف)

٤٦٧

وقصارى القول أنّه ليس عند ابن حجر ومن سبقه إلى قوله أو لحقه به (١) ضابط للاجتهاد يتمّ طرده وعكسه ، وإنّما يُمطّط مع الشهوات والأهواء ، فيُعذّر به خالد بن الوليد في فجائع بني حنيفة ومالك بن نويرة ، شيخها الصالح وزعيمها المبرور ، وفضائحه من قتل الأبرياء ، والدخول على حليلة الموؤود غيلة وخدعة (٢).

ويُعذّر به ابن ملجم (٣) المرادي أشقى الآخرين بنصّ الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما انتهكه من حرمة الإسلام ، وقتل خليفة الحقّ وإمام الهدى في محراب طاعة الله ، الذي اكتنفته الفضائل والفواضل من شتّى نواحيه ، واحتفّت به النفسيّات الكريمة جمعاء ، وقد قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله من كثير طيّب عداه الحصر ، وكبا عنه الاستقصاء ، وهو قبل هذه كلّها نفس النبيّ الطاهرة في الذكر الحكيم.

قال محمد بن جرير الطبري في التهذيب (٤) : أهل السير لا تدافع بينهم أنّ عليّا أمر بقتل قاتله قصاصاً ، ونهى أن يمثّل به ، ولا خلاف بين أحد من الأُمّة أنّ ابن ملجم قتل عليّا متأوّلاً ، مجتهداً ، مقدّراً على أنّه على صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطّان :

يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها

إلاّ ليبلغَ من ذي العرش رضوانا

إنّي أُفكّر فيه ثم أحسبُه

أوفى البريّةِ عندَ اللهِ ميزانا

سننن البيهقي (٥) (٨ / ٥٨ ، ٥٩).

ويبرّر به عمل أبي الغادية (٦) الفزاري قاتل عمّار ، الممدوح على لسان الله

__________________

(١) نظراء الشيخ علي القاري [١ / ٦٨٧] : والخفاجي في شرحي الشفا : ٣ / ١٦٦. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء السابع : ص ١٥٦ ـ ١٦٨. (المؤلف)

(٣) راجع الجزء الأوّل : ص ٣٢٣. (المؤلف)

(٤) تهذيب الآثار : ص ٧١ ح ٦ من مسند علي عليه‌السلام.

(٥) راجع الجواهر النقي المطبوع في هامش سنن البيهقي.

(٦) راجع الجزء الأول : ص ٣٢٨. (المؤلف)

٤٦٨

ولسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الصحيح الثابت قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «تقتلك الفئة الباغية». وقد مرَّ في (٩ / ٢١) ويبرّئ به ساحة عمرو بن العاص (١) عن وصمة مكيدة التحكيم ، وقد خان فيها أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسر شوكتها ، وقد قال مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ فيه وفي صاحبه الشيخ المخرف :

«ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين ، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتّبع كلّ واحد منهما هواه ، بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ، ولا سنّة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين» (٢).

ويُحبّذ به ما ارتكبه يزيد الطاغية (٣) من البوائق والطامّات ، من استئصال شأفة النبوّة وقتل ذراريها ، وسبي عقائلها ، التي لم تُبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء إلاّ أن يلعنه ويتبرّأ منه.

ويقدّس به أذيال المتقاعدين (٤) عن بيعة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، على حين اجتماع شروط البيعة الواجبة له ، فماتوا ميتة جاهليّة ولم يعرفوا إمام زمانهم.

ويُنزّه به السابقون الذين أوعزنا إلى سقطاتهم في الدين والشريعة ، في الجزء (٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩) بأعذار عنهم لا تقلّ في الشناعة عن جرائرهم ، إلى أمثال هذه ممّا لا يُحصى.

نعم : هناك موارد جمة ينبو عنها الاجتهاد ، فلا يُصاخُ إلى مفعوله ، لوقوف

__________________

(١) راجع تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٨٣ [٧ / ٣١٤ حوادث سنة ٣٦ ه‍]. (المؤلف)

(٢) أنظر : الإمامة والسياسة : ١ / ١٢٣ ، وشرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٥٩ خطبة ٣٥.

(٣) راجع تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢٢٣ و ١٣ / ١٠ [٨ / ٢٤٥ سنة ٦٣ ، ١٣ / ١٣ حوادث سنة ٥٩٠ ه‍] ، فيه قول أبي الخير القزويني : إنّه إمام مجتهد. (المؤلف)

(٤) راجع مستدرك الحاكم : ٣ / ١١٥ ـ ١١٨ [٣ / ١٢٤ ـ ١٢٧ ح ٤٥٩٦ ـ ٤٦٠٥] (المؤلف)

٤٦٩

الميول والشهوات سدّا دون ذلك ، فلا يُدرأ به التهمة عن المؤلّبين على عثمان ، وهم عدول الصحابة ووجوه المهاجرين والأنصار ، وأعيان المجتهدين ، الذين أخذوا الكتاب والسنّة من نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم عند ابن حزم المبرّر لفتكة أشقى مراد باجتهاده المشوم : فسّاق ، ملعونون ، محاربون ، سافكون دماً حراماً عمداً (١). وعند ابن تيميّة : قوم خوارج مفسدون في الأرض ، لم يقتله إلاّ طائفة قليلة باغية ظالمة ، وأمّا الساعون في قتله فكلّهم مخطئون ، بل ظالمون باغون معتدون (٢). وعند ابن كثير : أجلاف أخلاط من الناس ، لا شكّ أنّهم من جملة المفسدين في الأرض ، بغاة خارجون على الإمام ، جهلة ، متعنّتون ، خونة ، ظلمة ، مفترون (٣). وعند ابن حجر : بغاة ، كاذبون ، ملعونون ، معترضون ، لا فهم لهم بل ولا عقل (٤).

ولو كان للاجتهاد منتوج مقرّر فلم لم يُتّبع في إرجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر المتّهمين بقتل عثمان إلى ما يراه من المصلحة ، فينتصب للقضاء فيه على ما يقتضيه الكتاب والسنّة ، فشنّت عليه الغارات يوم الجمل وفي واقعة صفّين ، وكان من ذيولها وقعه الحروريّين ، فلم يُتّبع اجتهاد خليفة الوقت الذي هو باب مدينة علم النبيّ ، وأقضى الأُمّة بنصّ من الصادق المصدّق ، لكنّما اتّبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد الله ابن عمر في قتله لهرمزان وبنت أبي لؤلؤة ، وإهدار ذلك الدم المحرّم من غير أيّ حجّة قاطعة أو برهنة صحيحة ، فلو كان للخليفة مثل ذلك العفو فلم لم يجر حكمه في الآوين إلى مولانا أمير المؤمنين من المتجمهرين على عثمان؟ ولم يكن يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الإمام من حكمه الباتّ ، أيُعطي دية المقتول من بيت المال لأنّه أُودي به بين جمهرة المسلمين لا يُعرف قاتله ، كما فعله في أربد

__________________

(١) الفِصَل لابن حزم : ٤ / ١٦١. (المؤلف)

(٢) منهاج السنّة : ٣ / ١٨٩ ، ٢٠٦. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٧٦ ، ١٨٦ ، ١٨٧ [٧ / ١٩٨ ، ٢٠٨ ، حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

(٤) الصواعق المحرقة : ص ٦٧ ، ٦٨ ، ١٢٩. [ص ١١٣ ، ٢١٧]. (المؤلف)

٤٧٠

الفزاري (١) ، أو أنّه يراهم من المجتهدين ـ وكانوا كذلك ـ الذين تأوّلوا أصابوا أو أخطأوا ، أو أنّه كان يرى من صالح الخلافة واستقرار عروشها أن يرجئ أمرهم إلى ما وراء ما انتابه من المثلات ، وما هنالك من إرجاف وتعكير يُقلقان السلام والوئام ، حتى يتمكّن من الحصول على تدعيم عرش إمرته الحقّة المشروعة ، فعلى أيّ من هذه الأقضية الصحيحة كان ينوء الإمام عليه‌السلام به ، فلا حرج عليه ولا تثريب ، لكن سيف البغي الذي شهروه في وجهه ، أبى للقوم إلاّ أن يتّبع الحقّ أهواءهم ، وما ذا نقموا عليه ـ صلوات الله عليه ـ من تلكم المحتملات؟ حتى يسوغ لهم إلقاح الحرب الزبون التي من جرّائها تطايرت الرؤوس ، وتساقطت الأيدي ، وأُزهقت نفوس بريئة ، وأُريقت دماء محترمة ، فبأيّ اجتهاد بادروا إلى الفرقة ، وتحمّلوا أوزارها ، ولم تتجلّ لهم حقيقة الأمر ولباب الحقّ ، لكنّهم ابتغوا الفتنة ، وقلّبوا له الأمور ، ألا في الفتنة سقطوا.

ومن أعجب ما يُتراءى من مفعول الاجتهاد في القرون الخالية : أنّه يبيح سبّ عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وسبّ كلّ صحابيّ احتذى مثاله ، ويجوّز لأيّ أحد كيف شاء وأراد لعنهم ، والوقيعة فيهم ، والنيل منهم ، في خطب الصلوات ، والجمعات ، والجماعات ، وعلى صهوات المنابر ، والقنوت بها ، والإعلان بذلك في الأندية والمجتمعات ، والخلأ والملأ ، ولا يلحق لفاعلها ذمّ ولا تبعة ، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأً ، وإن كان هو من حثالة الناس ، وسفلة الأعراب ، وبقايا الأحزاب ، البعداء عن العلوم والمعارف.

وأمّا عليّ وشيعته فلا حقّ لهم في بيان ظلامتهم عند مناوئيهم ، والوقيعة في خصمائهم ، ومبلغ إسفافهم إلى هوّة الضلالة ، على حدّ قوله تعالى (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ) (٢) وليس لأحدهم في الاجتهاد في ذلك كلّه نصيب ، ولو

__________________

(١) راجع كتاب صفّين : ص ١٠٦ [ص ٩٤] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٧٩ [٣ / ١٧٤ الأصل ١٤٦]. (المؤلف)

(٢) النساء : ١٤٨.

٤٧١

كان ضليعاً في العلوم كلّها ، فإن أحد منهم نال من إنسان من أولئك الظالمين فمن الحقّ ضربه وتأديبه ، أو تعذيبه وإقصاؤه ، أو التنكيل به وقتله ، ولا يؤبه باجتهاده المؤدّي إلى ذلك صواباً أو خطأ ، وعلى هذا عمل القوم منذ أوّل يوم أسّس أساس الظلم والجور ، وهلمّ جرّا حتى اليوم الحاضر. راجع معاجم السيرة والتاريخ فإنّها نعم الحكم الفصل ، وبين يديك كلمة ابن حجر في الصواعق (١) (ص ١٣٢) قال في لعن معاوية : وأمّا ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبّه ولعنه فله فيه أُسوة ، أي أُسوة بالشيخين وعثمان وأكثر الصحابة ، فلا يُلتفت لذلك ، ولا يُعوّل عليه ، فإنّه لم يصدر إلاّ من قوم حمقى ، جهلاء ، أغبياء ، طغاة ، لا يبالي الله بهم في أيّ وادٍ هلكوا ، فلعنهم الله وخذلهم ، أقبح اللعنة والخذلان ، وأقام على رءوسهم من سيوف أهل السنّة وحججهم المؤيّدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص أولئك الأئمة الأعيان. انتهى.

أتعلم من لعن ابن حجر؟ وإلى من تتوجّه هذه القوارص؟ انظر إلى حديث لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاوية ، وأحاديث لعن عليّ أمير المؤمنين ، وقنوته بذلك في صلواته ، ولعن ابن عبّاس ، وعمّار ، ومحمد بن أبي بكر ، ودعاء أمّ المؤمنين عائشة عليه في دبر الصلاة ، وآخرين من الصحابة ، إقرأ واحكم!!

الاجتهاد ما ذا هو؟ :

وممّا يجب أن يبحث في المقام هو أن يفهم معنى الاجتهاد ، الذي توسّعوا فيه ، حتى سُفكت الدماء من أجله وأُبيحت ، وغصبت الفروج وانتهكت المحارم ، وغُيّرت الأحكام من جرّائه ، وكاد أن يكون توسّعهم فيه أن يردّ الشريعة بدءاً إلى عقب ، ويفصم عروة الدين ، ويقطع حبله.

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٢١٩.

٤٧٢

ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمُنّة (١) لتبديل السنن المتّبعة التي لا تبديل لها؟ وهل هو من منح الله سبحانه على رعاع الناس ودهمائهم ، فيتقحّمونه كيف شاء لهم الهوى؟ أو أنّ له أصولاً متّبعة لا يعدوها المجتهد من كتاب وسنّة ، أو تأوّل صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النصّ ، أو أنّه اتّسعت الفسحة فيه وأطلق الصراح حتى نزا عليه كلّ أرنب وثعلب ، وتحرّاه كلّ بوّال على عقبيه ، أو أعرابيّ جلف جاف؟ أنا لا أكاد أُسوّغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد ، وإنّما المتسالم عليه بينهم ما يلي :

قال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (٢) (٤ / ٢١٨) : أمّا الاجتهاد : فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأُمور مستلزم للكلفة والمشقّة ، ولهذا يُقال : اجتهد فلان في حمل حجر البزّارة ، ولا يُقال : اجتهد في حمل خردلة.

وأمّا في اصطلاح الأصوليّين ، فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد فيه.

وأمّا المجتهد ، فكلّ من اتّصف بصفة الاجتهاد ، وله شرطان :

الشرط الأوّل : أن يعلم وجود الربّ تعالى ، وما يجب له من الصفات ، ويستحقّه من الكمالات ، وأنّه واجب الوجود لذاته ، حيّ ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلّم ، حتى يتصوّر منه التكليف. وأن يكون مصدّقاً بالرسول ، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات ، والآيات الباهرات ، ليكون فيما يسنده إليه من الأحكام محقّقاً ، ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام ، متبحّراً فيه كالمشاهير من المتكلّمين ، بل أن يكون مستند علمه في ذلك بالدليل المفصّل ، بحيث

__________________

(١) المُنّة : القوة.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام : ٤ / ١٦٩.

٤٧٣

يكون قادراً على تقريره وتحريره ، ودفع الشبه عنه ، كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول ، بل أن يكون عالماً بأدلّة هذه الأمور من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل.

الشرط الثاني : أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعيّة وأقسامها ، وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها ، والشروط المعتبرة فيها ، على ما بيّناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها ، وكيفيّة استثمار الأحكام منها ، قادراً على تحريرها وتقريرها ، والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها ، وإنّما يتمّ ذلك بأن يكون عارفاً بالرواة وطرق الجرح والتعديل ، والصحيح والسقيم ، كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وأن يكون عارفاً بأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكاميّة ، عالماً باللغة والنحو ، ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي ، وفي النحو كسيبويه والخليل ، بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يُعرف به أوضاع العرب ، والجاري من عاداتهم في المخاطبات ، بحيث يميّز بين دلالات الألفاظ من المطابقة ، والتضمين ، والالتزام ، والمفرد والمركّب ، والكلّي منها والجزئيّ ، والحقيقة والمجاز ، والتواطؤ والاشتراك ، والترادف والتباين ، والنصّ والظاهر ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمنطوق والمفهوم ، والاقتضاء والإشارة ، والتنبيه والإيماء ، ونحو ذلك ممّا فصّلناه ، ويتوقّف عليه استثمار الحكم من دليله.

وذلك كلّه أيضاً إنّما يُشترط في حقّ المجتهد المطلق المتصدّي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأمّا الاجتهاد في حكم بعض المسائل ، فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلّق بتلك المسألة ، وما لا بدّ منه فيها ، ولا يضرّه في ذلك جهله بما لا تعلّق له بها ، ممّا يتعلّق بباقي المسائل الفقهيّة ، كما أنّ المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في المسائل المتكثّرة ، بالغاً رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلاً ببعض المسائل الخارجة عنها ،

٤٧٤

فإنّه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإنّ ذلك ممّا لا يدخل تحت وسع البشر ، ولهذا نُقل عن مالك أنّه سُئل عن أربعين مسألة ، فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري.

وأمّا ما فيه الاجتهاد : فما كان من الأحكام الشرعيّة دليله ظنيٌّ ، فقولنا : من الأحكام الشرعيّة ، تمييز له عمّا كان من القضايا العقليّة واللغويّة وغيرها ، وقولنا : دليله ظنيّ ، تمييز له عمّا كان دليله منها قطعيّا ، كالعبادات الخمس ونحوها ، فإنّها ليست محلاّ للاجتهاد فيها ، لأنّ المخطئ فيها يُعدّ آثماً ، والمسائل الاجتهاديّة ما لا يُعدّ المخطئ فيها باجتهاده آثماً. انتهى.

وقال الشاطبي في الموافقات (٤ / ٨٩) ما ملخّصه : الاجتهاد على ضربين : الأوّل : الاجتهاد المتعلّق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأُمّة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعيّ لكن يبقى النظر في تعيين محلّه.

فلا بدّ من هذا الاجتهاد في كلّ زمان ، إذ لا يمكن حصول التكليف إلاّ به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال ، وهو غير ممكن شرعاً ، كما أنّه غير ممكن عقلاً.

وأمّا الضرب الثاني : وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع ، فثلاثة أنواع : أحدها المسمّى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكوراً مع غيره في النصّ ، فينقّح بالاجتهاد ، حتى يميّز ما هو معتبر ممّا هو ملغى.

الثاني المسمّى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أنّ النصّ الدالّ على الحكم لم يتعرّض للمناط ، فكأنّه أُخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي.

الثالث : وهو نوع من تحقيق المناط المتقدّم الذكر ، لأنّه ضربان : أحدهما : ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص ، كتعيّن نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في

٤٧٥

العتق في الكفّارات ، وما أشبه ذلك. والضرب الثاني : ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقّق مناط حكمه ، فكأنّ المناط على قسمين : تحقيق عامّ ، وهو ما ذكر ، وتحقيق خاصّ من ذلك العامّ.

إنّما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتّصف بوصفين : أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني : التمكّن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

أمّا الأوّل : فقد مرّ في كتاب المقاصد أنّ الشريعة مبنيّة على اعتبار المصالح ، وأنّ المصالح إنّما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ، لا من حيث إدراك المكلّف ، إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات ، واستقرّ بالاستقراء التام أنّ المصالح على ثلاث مراتب ، فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كلّ مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كلّ باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزّله منزلة الخليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التعليم ، والفتيا ، والحكم بما أراه الله.

وأمّا الثاني : فهو كالخادم للأوّل ، فإنّ التمكّن من ذلك إنّما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أوّلاً ، ومن هنا كان خادماً للأوّل ، وفي استنباط الأحكام ثانياً ، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلاّ في الاستنباط فلذلك جعل شرطاً ثانياً ، وإنّما كان الأوّل هو السبب في بلوغ هذه المرتبة ، لأنّه المقصود والثاني وسيلة.

هذا هو الاجتهاد عند الأصوليّين ، وأمّا الفقهاء فهو عندهم مرتبة راقية من الفقه يقتدر بها الفقيه على ردّ الفرع إلى الأصل ، واستنباطه منه ، والتمكّن من دفع ما يعترض المقام من نقد وردّ ، وإبرام ونقض ، وشُبه وأوهام.

قال الآمدي في الإحكام (١) (١ / ٧) : الفقه في عرف المتشرّعين مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعيّة الفروعيّة بالنظر والاستدلال.

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٢٢.

٤٧٦

وقال ابن نجيم في البحر الرائق (١ / ٣) : الفقه اصطلاحاً على ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعاً للأصوليّين : العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة المكتسبة من أدلّتها التفصيليّة بالاستدلال.

وفي الحاوي القدسي : اعلم أنّ معنى الفقه في اللغة الوقوف والاطلاع ، وفي الشريعة الوقوف الخاصّ ، وهو الوقوف على معاني النصوص وإشاراتها ، ودلالاتها ، ومضمراتها ، ومقتضياتها ، والفقيه اسم للواقف عليها.

وقال : الفقه قوّة تصحيح المنقول ، وترجيح المعقول ، فالحاصل أنّ الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها ، فليس الفقيه إلاّ المجتهد عندهم.

وأمّا استمداده فمن الأصول الأربعة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والقياس المستنبط من هذه الثلاثة ، وأمّا شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب ، وأمّا أقوال الصحابة فتابعة للسنّة ، وأمّا تعامل الناس فتابع للإجماع ، وأمّا التحرّي واستصحاب الحال فتابعان للقياس ، وأمّا غايته فالفوز بسعادة الدارين.

وقال ابن عابدين في حاشية البحر (١ / ٣) : في تحرير الدلالات السمعيّة لعليّ ابن محمد بن أحمد بن مسعود ، نقلاً عن التنقيح : الفقه لغة هو الفهم والعلم ، وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة بالاستدلال.

وقال ابن قاسم الغزّي في الشرح (١ / ١٨) : الفقه هو لغة الفهم ، واصطلاحاً العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة المكتسب من أدلّتها التفصيليّة.

وقال ابن رشد في مقدّمة المدوّنة الكبرى (ص ٨) : فصل في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع ، وأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه : أحدها كتاب الله عزّ وجلّ ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. والثاني : سنّة نبيّه عليه‌السلام الذي قرن الله طاعته بطاعته ، وأمرنا باتّباع سنّته ، فقال عزّ وجلّ :

٤٧٧

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) (١) وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢) وقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) وقال : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) (٤) والحكمة : السنّة. وقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٥) والثالث : الإجماع الذي دلّ تعالى على صحّته بقوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٦) لأنّه عزّ وجلّ توعّد باتباع غير سبيل المؤمنين ، فكان ذلك أمراً واجباً باتّباع سبيلهم ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تجتمع أُمّتي على ضلالة. والرابع : الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب والسنّة والإجماع ، لأنّ الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علماً ، وأوجب الحكم به فرضاً ، فقال عزّ وجلّ : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٧) وقال عزّ وجلّ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٨) أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس ، لأنّ الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو ممّا أنزل الله عليه وأمره بالحكم به حيث يقول : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٩).

__________________

(١) آل عمران : ١٣٢.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) الأحزاب : ٣٤.

(٥) الأحزاب : ٢١.

(٦) النساء : ١١٥.

(٧) النساء : ٨٣.

(٨) النساء : ١٠٥.

(٩) المائدة : ٤٩.

٤٧٨

نظرة في اجتهاد معاوية :

هاهنا حقّ علينا أن نميط الستر عن اجتهاد معاوية ، ونناقش القائلين به في أعماله ، أفهل كانت على شيء من النواميس الأربعة : الكتاب ، السنّة ، الاجماع ، القياس؟ أو هل علم معاوية علم الكتاب؟ وعند من درسه؟ ومتى زاوله؟ وقد كان عهده به منذ عامين (١) قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل كان يميّز بين محكماته ومتشابهاته؟ أو يفرّق بين مجمله ومبيّنه؟ أو يمكنه الحكم في عمومه وخصوصه؟ أو أحاط خبراً بمطلقه ومقيّده؟ أو عرف شيئاً من ناسخه ومنسوخه ، إلى غير هذه من أضراب الآي الكريمة ، ومزايا المصحف الشريف الداخل علمها في استنباط الأحكام منه؟

إنّ ظروف معاوية على عهد استسلامه لا يسع شيئاً من ذلك ، على حين أنّها تستدعي فراغاً كثيراً لا يتصرّم بالسنين الطوال ، فكيف بهذه الأويقات اليسيرة التي تُلهيه في أكثرها الهواجس والأفكار المتضاربة من نواميس دينه القديم ـ الوثنيّة ـ وقد أتى عليها ما انتحله من الدين الجديد ـ الاسلام ـ ، فأذهب عنه هاتيك ، ولم يجئ بعد هذا على وجهه بحيث يرتكز في مخيّلته ، ويتبوّأ في دماغه.

وكان قد سبقه جماعة إلى الإسلام وكتابه ، وهم بين حكم النبيّ ومحكماته ، وإفاضاته وتعاليمه ، وهم لا يُبارحون مُنتديات النبوّة ، وهتافها بالتنزيل والتأويل الصحيح الثابت ، قضوا على ذلك أعواماً متعاقبة ومُدداً كثيرة ، فلم يتسنّ لهم الحصول على أكثر تلكم المبادئ ، وانكفئوا عنها صفر الأكفّ ، خاوي الوطاب ، انظر إلى ذلك الذي حفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة ، حتى إذا تمكّن من الحفظ بعد ذلك

__________________

(١) هو وأبوه وأخوه من مسلمة سنة الفتح ، كما في الاستيعاب [٣ / ١٤١٦ رقم ٢٤٣٥] ، وكان ذلك في أُخريات السنة الثامنة للهجرة ، ووفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوليات سنة ١١. (المؤلف)

٤٧٩

الأجل المذكور نحر جزوراً شكراً على ما أتيح له من تلك النعمة بعد جهود جبّارة ، والله يعلم ماعاناه طيلة تلكم المدّة من عناء ومشقّة ، وهذا الرجل ثاني الأُمّة عند القوم في العلم والفضيلة ، وكان من علمه بالكتاب أنّه لم يعِ تنصيصه على موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا سمع قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ألقى السيف من يده ، وسكنت فورته ، وأيقن بوفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمن لم يقرأ الآية الكريمة إلى حينه ، وإن تقس موارد علمه بالكتاب ونصوصه ، قضيت منها العجب ، وأعيتك الفكرة في مبلغ فهمه ، وما ذا الذي كان يُلهيه عن الخبرة بأصول الإسلام وكتابه؟ ولئن راجعت فيما يؤول إلى هذا الموقف (الجزء السادس) من هذا الكتاب رأيت العجب العجاب.

وليس من البعيد عنه أوّل رجل في الإسلام عند القوم ، الذي بلغ من القصور والجهل بالمبادئ والخواتيم والأشكال والنتائج حدّا لا يقصر عنه غمار الناس والعاديون منهم الذين أشرقت عليهم أنوار النبوّة منذ بزوغها ، ولعلّك تجد في الجزء السابع من هذا الكتاب (٢) ما يلمسك باليد يسيراً من هذه الحقائق.

وأنت إذن في غنىً عن استحفاء أخبار كثير من أولئك الأوّلين الذين لا تعزب عنك أنباؤهم في الفقه والحديث والكتاب والسنّة ، فكيف بمثل معاوية الملتحق بالمسلمين في أُخْريات أيّامهم (٣)؟ وكانت تربيته في بيت حافل بالوثنيّة ، متهالك في الظلم والعدوان ، متفانٍ في عادات الجاهليّة ، ترفّ عليه رايات العهارة وأعلام البغاء ، وإذا قرع سمع أحدهم دعاء إلى وحي أو هتاف بتنزيل جعل إصبعه في أذنه ، وراعته من ذلك خاطرة جديدة لم يكن يتهجّس بها منذ آبائه الأوّلين.

نعم ؛ المعروفون بعلم الكتاب على عهد الصحابة أناس معلومون ، وكانوا

__________________

(١) الزمر : ٣٠.

(٢) أنظر الغدير : ٧ / ١٣٨ ـ ١٨٠.

(٣) مراده قدس‌سره أخريات أيامهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٨٠