إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٤

فأوغل في التشبيه إيغالا بتشبيه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم ، لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن ، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة ، وكان خالص الحمرة. وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة :

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل

فأوغل بقوله : «الوحل» بعد أن قال : «الوجي» وكان الرشيد كثير العجب بقول صريع الغواني :

إذا ما علت منّا ذؤابة شارب

تمشّت به مشي المقيّد في الوحل

ويقول : قاتله الله ما كفاه أن جعله مقيدا حتى جعله في وحل.

٢ ـ إيغال احتياط :

وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه قبل أن يقطعه ، فإذا أراد الإتيان بذلك أتى بما يفيد معنى زائدا تتمة للمبالغة ، كقوله تعالى : «ولا تسمع الصم الدعاء» ، ثم علم عز وجل أن الكلام يحتاج الى فاصلة تماثل مقاطع ما قبلها وما بعدها فأتى بها تفيد معنى زائدا على معنى الكلام حيث قال : «إذا ولّوا مدبرين». فإن قيل : ما معنى مدبرين؟ وقد أغنى عنها ذكر التولي؟ قلنا : ذلك لا يغنى عنها ، إذ التولي قد يكون بجانب دون جانب ، كما يكون الإعراض. وسيأتي المزيد منها عند الكلام على سورة النمل إن شاء الله تعالى.

٥٠١

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

اللغة :

(دائِرَةٌ) : الدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وفرق الراغب في مفرداته : بين الدائرة والدولة بأن الدائرة هي الخط المحيط ، ثم عبّر بها عن الحادثة ، وإنما تقال في المكروه ، والدولة في المحبوب. وعن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي موالي من يهود ، كثيرا عددهم ، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولايتهم ، وأوالي الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية مواليّ. وهم يهود بني قينقاع.

(حَبِطَتْ) أي بطلت التي كانوا يتكلفونها في رأي الناس.

الاعراب :

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) يجوز أن تكون الفاء استئنافية ، والكلام مستأنفا مسوقا لبيان كيفية ولائهم ولسببه

٥٠٢

ولما يئول اليه أمرهم ومصيرهم. ويجوز أن تكون عاطفة والكلام معطوفا على قوله : «إن الله لا يهدي القوم الظالمين». وعلى كل حال لا محل لها ، وترى فعل مضارع ، والرؤية إما بصرية أو علمية ، والذين مفعول به ، وفي قلوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومرض مبتدأ مؤخر ، والجملة الاسمية صلة الموصول ، وجملة يسارعون إما حال إذا كانت الرؤية بصرية ، وإما مفعول به ثان إذا كانت الرؤية علمية ، وفيهم جار ومجرور متعلقان بيسارعون. (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) الجملة في محل نصب على الحال من ضمير «يسارعون» وجملة نخشى في محل نصب مقول القول ، والمصدر المؤول من أن وما في حيزها مفعول نخشى ، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ، ودائرة فاعل (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) الفاء استئنافية ، وعسى من أفعال الرجاء وتعمل عمل «كان» ، والله اسمها ، وأن يأتي مصدر مؤول خبرها ، وقد تقدم أن الأكثر في خبر عسى أن يكون فعلا مضارعا مقترنا بأن ، وبالفتح متعلقان بيأتي ، أو أمر معطوف على الفتح ، ومن عنده متعلقان بمحذوف صفة لأمر (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) الفاء عاطفة أو سببية ، ويصبحوا معطوفة على يأتي ، أو منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ، لأنها سبقت بعسى ، وهي للرجاء ، ويصبحوا فعل مضارع ناقص ، الواو اسمها ، وعلى ما متعلقان بنادمين ، وجملة أسروا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وفي أنفسهم متعلقان بأسروا ، ونادمين خبر «أصبح» (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لبيان ما يقوله المؤمنون.

ويقول الذين فعل مضارع وفاعل ، وجملة آمنوا صلة الموصول ، وقرىء بنصب «يقول» عطفا على «أن يأتي» ، وقرىء من دون واو ، فهي

٥٠٣

مستأنفة أيضا. والهمزة للاستفهام التعجبي ، واسم الاشارة مبتدأ ، والذين خبر ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وجملة أقسموا صلة الموصول ، وبالله متعلقان بأقسموا ، وجهد أيمانهم مفعول مطلق أو حال (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر إن (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) جملة مستأنفة ، قيل : هي من كلام الله ، وعليه أكثر المعربين. وقيل : هي من قول المؤمنين ، وعليه الزمخشري وأبو حيّان. وأعمالهم فاعل حبطت ، والفاء عاطفة ، وأصبحوا فعل ماض ناقص ، والواو اسمها ، وخاسرين خبرها.

البلاغة :

في قوله تعالى : «حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين» فن سماه قدامة الإغراب والطرفة. وهو على ثلاثة أقسام :

١ ـ قسم يكون الإغراب منه في اللفظ ، وهو كثير.

٢ ـ قسم يكون الإغراب منه في المعنى ، كقول المتنبي :

يطمّع الطير فيهم طول أكلهم

حتى تكاد على أحيائهم تقع

فإنه عمد الى المعنى المعروف من كون الطير إنما تقع على القتلى وتتبع الجيوش ، ثقة بالشبع ، فتجاوزه بزيادة المبالغة المستحسنة لاقترانها بـ «تكاد» الى ما قال ، فحصل في بيته من الإغراب والطرفة ، ما لا يحصل لغيره.

٥٠٤

٣ ـ وقسم لا يكون الإغراب في معناه ولا في ظاهر لفظه ، بل في تأويله ، وهو الذي إذا حمل على ظاهره كان الكلام معيبا وإذا تؤوّل رده التأويل الى نمط من الكلام الفصيح ، فأماط عن ظاهره العيب.

والآية الكريمة منه ، فإن لقائل أن يقول : إن لفظة «أصبحوا» في الظاهر حشو لا فائدة فيه ، فإن هؤلاء المخبر عنهم بالخسران قد أمسوا في مثل ما أصبحوا ، ومتى قلت : أصبح العسل حلوا ، كانت لفظة «أصبح» زائدة من الحشو الذي لا فائدة فيه ، لأنه أمسى كذلك.

وقد تحيل الرمانيّ لهذه اللفظة في تأويل تحصل به الفائدة لجليلة التي لو لا مجيئها لم تحصل ، وهي أنه لما قال : لما كان العليل الذي قد بات مكابدا آلاما شديدة تعتبر حاله عند الصباح ، فاذا أصبح مفيقا مستريحا من تلك الآلام رجي له الخير ، وغلب على الظنّ برؤه وإفاقته من ذلك المرض ، وإذا أصبح كما أمسى تعيّن هلاكه ، بجريان العادة بهيجان الإعلال في الليل وسكونه عند الصباح. وشبهت حال الأشقياء بالعليل الذي أصبح من الألم على ما أمسى ، فهو ممن ييئس من إصلاحه ، وعلى هذا تكون لفظة «فأصبحوا» قد أفادت معنى حسنا جميلا ، وخرجت عن كونها حشوا غير مفيد. ولما أخبر الله سبحانه بأنه حبطت أعمالهم علم بالقطع أنهم أصبحوا خاسرين ، فلفظة «أصبحوا» لا يصلح غيرها في موضعها ، ولا يتم المعنى إلا بها. وما مثّل به الرماني من قوله : «أصبح العسل حلوا وقد أمسى كذلك» إنما يقال هذا في الأمور الواقعة في دار الدنيا ، لأن زمانها فيه صباح ومساء ، فلما أصبح فيه على الحال التي يمسي عليها فذكر الصباح فيه والمساء حشو لا فائدة فيه ، وأما يوم القيامة الذي لا مساء فيه فإن تمثيله بما أصبح في الزمن الذي يصاحبه مساء تمثيل غير مطابق له.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي

٥٠٥

اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان حال المرتدين على الإطلاق. وقد تقدم اعراب النداء كثيرا. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، ويرتد فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون وحرك بالفتحة لخفتها كما تقدم في قاعدة المضعّف ، ومنكم متعلقان بمحذوف حال ، وقرىء «يرتدد» بفكّ الإدغام. وعن دينه متعلقان بيرتد ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وجملة سوف يأتي الله في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ويأتي الله فعل وفاعل ، وبقوم متعلقان بيأتي ، وجملة يحبهم صفة لقوم ، وجملة يحبونه عطف على جملة يحبهم. وفي محبة الله للعبد ، وجب العبد لله ، أبحاث شيقة اشتجر حولها الخلاف ، وليس هذا مقام بحثها ، فليرجع إليها القارئ في المطوّلات (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أذلة صفة ثانية لقوم ، وعلى المؤمنين متعلقان بأذلة ، وهو صفة مشبهة ، وأعزة صفة ثالثة ، وعلى الكافرين متعلقان بأعزّة (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) جملة يجاهدون صفة رابعة لقوم ، وجملة ولا يخافون عطف على جملة يجاهدون ، فهي بمثابة صفة خامسة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الجملة مستأنفة ،

٥٠٦

واسم الاشارة مبتدأ ، وفضل الله خبره ، و «ذلك» قد يشار به الى المفرد والمثنى والمجموع ، وهو هنا يشير به الى الأوصاف التي أولها :يحبهم ويحبونه ، وجملة يؤتيه خبر ثان ، ولك أن تجعلها مستأنفة ، والهاء مفعول به أول ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان ليؤتيه ، والواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وواسع خبر أول ، وعليم خبر ثان.

البلاغة :

١ ـ محبة العبد لله بطاعته له ، وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبّب بالسبب.

٢ ـ الطباق بين أذلة وأعزّة.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

الاعراب :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق لتقرير الحكم فيمن يوالي الله ورسوله والمؤمنين. وإنما كافة ومكفوفة ، ووليكم خبر مقدم ، والله مبتدأ مرفوع ويجوز العكس ، ورسوله

٥٠٧

عطف على الله ، وكذلك الذين آمنوا ، وجملة آمنوا صلة الموصول (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) اسم الموصول بدل من الذين ، وجملة يقيمون صلة ، والصلاة مفعول به ، ويؤتون الزكاة عطف على ما قبلهء (وَهُمْ راكِعُونَ) الواو حالية ، وهم مبتدأ ، وراكعون خبر ، والجملة في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون الواو عاطفة ، والجملة معطوفة على ما سبقها ، فتكون مندرجة في خبر الصلة لاسم الموصول (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الواو استئنافية ، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، ويتولّ فعل الشرط ، والله مفعوله ، ورسوله عطف على الله ، والذين آمنوا عطف أيضا (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، وإن واسمها ، وهم ضمير فصل لا محل له ، والغالبون خبر إن ، أو «هم» مبتدأ ، والغالبون خبر «هم» ، وجملة «هم الغالبون» خبر «إن» ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفا لدلالة الكلام عليه ، أي : يغلب ، ويكون قوله : «فإن حزب الله هم الغالبون» دالّا عليه ، وقد رجح هذا القول ابن هشام في المغني.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ

٥٠٨

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) كلام مستأنف مسوق لخطاب بعض المؤمنين وتحذيرهم من المنافقين.

وقد تقدم إعراب كلمة النداء ، ولا ناهية ، وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، والذين مفعول به ، وجملة اتخذوا صلة الموصول ، ودينكم مفعول به أول ، وهزوا مفعول به ثان ، ولعبا عطف على «هزوا» (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) من الذين الجار والمجرور حال من الموصول الأول ، أو من فاعل اتخذوا ، وجملة أوتوا صلة ، وأتوا فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، والكتاب مفعول به ثان ، ومن قبلكم متعلقان بأتوا ، والكفار معطوف على الذين أوتوا ، وقرىء بالجر عطفا على الموصول المجرور بمن. قال مكّي : لو لا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض لقوته في الإعراب وفي المعنى. وأولياء مفعول به ثان لتتخذوا (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة ، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ، وإن شرطية ، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، والتاء اسمها ، ومؤمنين خبر كنتم ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي فاتقوا الله (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) الواو عاطفة ، على صلة الذين الواقع مفعولا به ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة ناديتم في محل جر بالإضافة ، والى الصلاة متعلقان بناديتم ، وجملة اتخذوها لا محل

٥٠٩

لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والواو فاعل ، والهاء مفعول به أول ، وهزوا مفعول به ثان ، ولعبا عطف عليه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) اسم الاشارة مبتدأ والباء حرف جر ، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ، ولا نافية ، ويعقلون فعل مضارع ، والواو فاعل ، والجملة صفة لقوم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩))

اللغة :

(تَنْقِمُونَ) : مضارع نقم ، وفيه لغتان : الفصحى حكاها ثعلب في فصيحه : نقم بفتح القاف ينقم بكسرها ، والأخرى : نقم بكسر القاف ينقم بفتح القاف ، حكاها الكسائي. ومعناه تسخطون وتكرهون ، وقيل : تنكرون. قال عبيد الله بن قيس الرّقيّات :

ما نقموا من بني أمية إلّا

أنّهم يحلمون إن غضبوا

الاعراب :

(قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة أهل الكتاب من بني إسرائيل. وقل : فعل أمر ، ويا حرف نداء ، وأهل الكتاب منادى مضاف (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) الجملة مقول القول ،

٥١٠

وهل حرف استفهام إنكاري وتنقمون فعل مضارع والواو فاعل ، ومنا متعلقان بتنقمون ، وإلا أداة حصر ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول تنقمون ، وقيل المصدر منصوب على أنه مفعول لأجله ، والمفعول به محذوف ، والأول أرجح ، وبالله متعلقان بآمنا ، والمعنى ما تكرهون منا إلا الإيمان أو لا تسخطون علينا إلا لأجل إيماننا (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) عطف على المصدر المؤول ، وجملة أنزل صلة الموصول ، وإلينا متعلقان بأنزل ، و «ما» الثانية عطف على «ما» الأولى ، وجملة أنزل صلة الموصول ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) الواو عاطفة ، وقرأ الجمهور بفتح «أن» فهي في تأويل مصدر محله الرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، والتقدير : وفسقكم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أننا على الحق ، وأنكم على الباطل ، فإن عنصريتكم وحبكم للرئاسة وجمع الأموال أهاب بكم الى ركوب هذا المركب الخشن. ويحتمل أن يكون محل المصدر النصب عطفا على «أن آمنا» ، والمعنى : وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان. أو تكون الواو للمعية ، ويكون المصدر المؤول مفعول معه ، والتقدير :وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون. ويحتمل أن يكون محله الجر عطفا على الله ، أي : وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله ، وبما أنزل ، وبأن أكثركم فاسقون.

البلاغة :

في هذه الآية فن طريف ، وهو توكيد المدح بما يشبه الذم.

وهو فنّ ذائع الشهرة ، ولكنه قليل الأمثلة. ولم أجد منه في القرآن إلا هذه الآية ، فإن الاستثناء بعد الاستفهام الجاري مجرى التوبيخ

٥١١

على ما عابوا به المؤمنين من الإيمان يوهم بأن يأتي بعد الاستفهام ما يجب أن ينقم على فاعله بما يذم به ، فلما أتى بعد الاستفهام ما يوجب مدح فاعله كان الكلام متضمنا تأكيد المدح بما يشبه الذم. وقد عرف علماء البلاغة هذا الفنّ بأنه استثناء صفة مدح من صفة ذم ، منفية عن الشيء ، بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. ومنه قول النابغة الذبياني :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

والتأكيد فيه واضح ، فذكر أداة الاستثناء وهي «غير» قبل ذكر ما بعدها بوهم إخراج شيء مما قبلها ، فاذا وليتها صفة مدح جاء التأكيد. وفلول السيوف من كثرة الضراب في الحروب من مجال الفخر ودواعي الشجاعة. ومن هذا النوع أن تثبت لشيء صفة مدح ، وتعقب ذلك بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى لذلك الشيء ، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش».

فذكر أداة الاستثناء ، وهي «بيد» الموازنة لـ «غير» وزنا ومعنى قبل ذكر ما بعدها ، ثم التعقيب بصفة مدح أخرى وهي كونه من قريش التي هي أفصح العرب ، تزيد تأكيد المعنى حسنا. وقال النابغة منه :

فتى كملت أوصافه غير أنه

جواد فما يبقي على المال باقيا

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠))

٥١٢

الاعراب :

(قُلْ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة اليهود بما يليق بتحديهم وتعنتهم وإيغالهم في الكفر.

وقل فعل أمر ، والجملة الاستفهامية مقول القول ، وهل حرف استفهام ، وأنبئكم فعل مضارع في محل نصب ، والكاف مفعوله الأول ، وبشرّ جار ومجرور متعلقان بمحذوف هو المفعول الثاني ، ومن ذلك جار ومجرور متعلقان بـ «شرّ» ، لأنه اسم تفضيل ، ومثوبة تمييز لشر ، وهو تمييز نسبة ، لأن الشر واقع على الأشخاص ، وسيأتي مزيد من التفصيل في باب البلاغة. وعند ذلك متعلقان بمحذوف حال (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) من اسم موصول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ، فإنه لما قال : هل أنبئكم بشر من ذلك؟ فكأن قائلا قال : من ذلك؟ فقيل : هو من لعنه الله ، والجملة لا محل لها لأنها مفسرة ويجوز أن يكون محل «من» الجر على البدلية من «شر» ، وجملة لعنه الله لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجملة غضب عليه عطف على الصلة (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) الواو عاطفة ، وجعل عطف على لعنه الله ، ومنهم متعلقان بمحذوف مفعول به أول ، والقردة هو المفعول الثاني ، والخنازير عطف على القردة ، وعبد فعل ماض وهو عطف على صلة «ما» ، كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت ، حذف الموصول وأقيمت الصفة مقامه (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) الجملة مفسرة لا محل لها ، واسم الإشارة مبتدأ ، وشر خبر ، ومكانا تمييز ، وأضل عطف على شر ، وعن سواء السبيل متعلقان بأضلّ.

٥١٣

البلاغة :

اشتملت هذه الآية على ضروب من أنواع البلاغة ندرجها فيما يلي :

١ ـ المجاز المرسل في قوله : «مثوبة» ، والعلاقة الضدية ، مثل : «فبشرهم بعذاب أليم». والمراد بهذا المجاز التهكم. ومجمل المعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم لعبا ولهوا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار : هل أنبئكم بشرّ من أهل ذلك الذي تنقمونه منا ، وشر من مثوبته؟ أي : عقابه. وقد أخرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم ، وإلا فلا شركة بين المؤمنين وبينهم في أصل العقوبة ، حتى يقال : إن عقوبة أحد الفريقين شرّ من عقوبة الآخر ، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شرّ فقيل لهم : هبوا الأمر كذلك ، ولكن لعنة الله تعالى وغضبه ، والإبعاد عن رحمته ، والطرد من ساحة رضاه ، ومسخ الصورة الى أقبح أنواع الحيوان وأرذله شرّ من ذلك الذي تزعمون أنه شر ، وأنت تعرف ما لنوعي القردة والخنازير من الخسة والحقارة ، وما لهما في صدور الدهماء والخاصة من القبح والتشويه وشناعة المنظر ، ونذالة النفس ، وحقارة القدر ، ووضاعة الطبع ، وسماجة الشكل والخلق ، وقبح الصوت ودناءة الهمة ، مما ليس لغيرهما من سائر أنواع الحيوان.

٢ ـ التهكم ـ وقد انطوى في المجاز المرسل. وتقدم الكلام على التهكم مفصلا.

٣ ـ المجاز المرسل : في قوله : «شر مكانا» ، وعلاقته المحلية.

فقد ذكر المكان وأراد أهله ، وقد تقدم أيضا.

٥١٤

الفوائد :

قد تقول : إنه لا بد في اسم التفضيل من مفضّل ومفضل عليه ، فكيف يقال : إنهم شر من المؤمنين ، والمؤمنون لا شر عندهم البتة؟

والجواب أنه جاء على سبيل التنزيل والتسليم للخصم على زعمه ، تبكيتا له ومناداة عليه بالحجة الدامغة ، أو أنه خاص بالكفار ، وهم طبقات متفاوتة في نسبة الشر إليها.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢))

الاعراب :

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة جاءوكم في محل جر بالإضافة ، وجاءوكم فعل وفاعل ومفعول به ، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) الواو حالية ، وقد حرف تحقيق ، وجملة دخلوا في محل نصب حال من الواو في «قالوا» ، وبالكفر جار ومجرور

٥١٥

متعلقان بمحذوف حال من فاعل دخلوا ، والواو الثانية حالية أيضا ، والجملة في محل نصب حال من الواو في «قالوا» أيضا ، وبه متعلقان بمحذوف حال من فاعل خرجوا ، أي : قد دخلوا كافرين وخرجوا كافرين (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) الواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وأعلم خبر ، وبما جار ومجرور متعلقان بأعلم وجملة كانوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجملة يكتمون في محل نصب خبر كانوا (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الواو عاطفة أو استئنافية ، وترى فعل مضارع ، وكثيرا مفعول به ، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ، وجملة يسارعون حال من «كثيرا» ، أو نعت له ، وفي الإثم متعلقان بيسارعون ، والعدوان عطف على الإثم (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وأكلهم عطف على الإثم والعدوان ، والسحت مفعول به للمصدر وهو «أكل» ، واللام جواب قسم محذوف ، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ، وما نكرة تامة في محل نصب على التمييز ، أو موصولة فهي فاعل ، وجملة كانوا لا محل لها على الحالين ، وجملة يعملون في محل نصب خبر كانوا.

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا

٥١٦

بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤))

الاعراب :

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) كلام مستأنف مسوق للتحضيض والتخويف للعلماء والأحبار منهم لصدوفهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفيها تعميم لتوبيخ العلماء من كل أمة وملة لهذه الخلة الشائنة ، ولذلك قال ابن عباس :هذه أشد آية في القرآن ، يعني في حقّ العلماء لتهاونهم في النهي عن المنكرات. وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها. ولولا أداة للتحضيض بمعنى «هلّا» ، وينهاهم الربانيون فعل مضارع ومفعول به وفاعل ، والأحبار عطف على قوله : «الربانيون» ، وعن قولهم متعلقان بينهاهم ، والإثم مفعول به لـ «قول» ، وأكلهم معطوف على قولهم ، والسحت مفعول به لأكل (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) تقدم إعرابها قريبا ، والعمل لا يقال فيه : صنع ، إلا إذا صار عادة وديدنا (وَقالَتِ الْيَهُودُ : يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) الواو استئنافية ، وقالت اليهود فعل وفاعل ، ويد الله مبتدأ ، ومغلولة خبر ، والجملة في محل نصب مقول القول (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) الجملة دعائية معترضة ، وغلت فعل ماض مبني للمجهول ، وأيديهم نائب فاعل ، ولعنوا عطف على غلت أيديهم (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) بل حرف إضراب وعطف ، ويداه مبتدأ ، ومبسوطتان خبر ، والجملة

٥١٧

عطف على جملة يد الله مغلولة ، وجملة ينفق يجوز أن تكون مستأنفة سيقت تأكيدا لكمال جوده سبحانه ، والمعنى : إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته ، فهو القابض الباسط. ولا أعلم كيف أجازوا أن تكون خبرا ثانيا لـ «يداه» تبعا لأبي حيّان؟ وكيف هنا شرطية في محل نصب حال (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) الواو واو القسم المحذوف والقسم المحذوف مجرور بالواو ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره : أقسم ، واللام واقعة في جواب القسم ، ويزيدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم ، وكثيرا مفعول به ، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ، وما اسم موصول فاعل يزيدن ، والمراد أنهم يزدادون حقدا وتماديا في الجحود ، وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وإليك متعلقان بأنزل ، ومن ربك متعلقان بمحذوف حال ، وطغيانا تمييز أو مفعول به ثان ليزيدن ، وكفرا عطف على «طغيانا» (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الواو استئنافية وألقينا فعل وفاعل ، وبينهم ظرف متعلق بألقينا ، والعداوة مفعول به ، والبغضاء عطف على العداوة والى يوم القيامة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) كلما نصب على الظرفية الزمانية ، والجملة في محل جر بالاضافة ، ونارا مفعول به ، وللحرب جار ومجرور متعلقان بأوقدوا ، وجملة أطفأها الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والجملة كلها مستأنفة أيضا (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) الواو استئنافية ، ويسعون فعل مضارع وفاعل ، وفي الأرض متعلقان بيسعون ، وفسادا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا ، ويجوز أن يكون حالا بمعنى مفسدين ، وأن يكون مفعولا لأجله ، أي : يسعون لأجل الفساد. والأوجه الثلاثة متساوية الرجحان

٥١٨

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وجملة لا يحب خبر ، والمفسدين مفعول به.

البلاغة :

حفلت هذه الآية بضروب من البلاغة نوجزها فيما يلي :

١ ـ المجاز المرسل في غلّ اليد وبسطها عن البخل والجود ، وعلاقة هذا المجاز السببية ، لأن اليد هي سبب الإنفاق ، والفائدة من هذا المجاز تصوير الحقيقة بصورة حسية تلازمها غالبا. وجعل بعضهم قوله : «بل يداه مبسوطتان» استعارة ، فالمستعار البسط ، والمستعار منه يد المنفق ، والمستعار له يد الحق ، وذلك ليتخيّل السامع أن ثم يدين مبسوطتين بالإنفاق ، ولا يدان في الحقيقة ولا بسط.

أثر حاسة البصر : وذلك لأن التصوير الحسي يجعلها أرسخ في الذهن ، وأكثر تأثيرا. وحاسة البصر هي في مقدمة الحواسّ المقدرة للجمال ، والتي تدركه وتنقله الى النفس ، وبهذا الصدد يقول «جوير» الناقد العصري المعروف : إن الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال على أتمّ وجه هي الإحساسات البصرية. حتى لقد ذهب «ديكارت» الفيلسوف الفرنسي الى أبعد من ذلك ، فعرّف الجمال بقوله : هو ما يروق في العين. ولما كان الجود والبخل معنويين لا يدركان بالحسّ وتلازمهما صورتان تدركان بالحس ، وهما بسط اليد للجود ، وغلها للبخل ، عبّر عنهما بلازمهما ، لفائدة الإيضاح والانتقال الى المحسوسات من المعنويات.

٢ ـ المشاكلة : بقوله : «غلت أيديهم» فقد دعا عليهم بما

٥١٩

افتاتوا به ، وأرجفوا فيه. ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله على الإطلاق ، وأكثرهم جمعا للمال من أي وجه أتى. وقد كان العرب يتفادون هذا الوصف الذميم ، ويتورعون عنه ، قال الأشتر :

بقّيت وفري وانحرفت عن العلا

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

ومعظم أهل السنة ذهبوا الى أن يد الله صفة من صفات ذاته سبحانه ، كالسمع والبصر والوجه ، فيجب علينا الايمان بها وإثباتها له بلا كيف ولا تشبيه.

٣ ـ التنكيت : بقوله : «بل يداه مبسوطتان». وكان السياق يقتضي أن يقول : يده مبسوطة ، فإنهم عبروا عنها بالمفرد بقولهم :

«يد الله مغلولة» ولكنه عدل عن المطابقة لنكتة تدق على الأفهام البدائية ، وهي نفي الجسمية عنه سبحانه ، لأنهم أرادوا أنه يعطي بيده ، والمرء لا يعطي بكلتا يديه ، فردّ عليهم مبطلا أن يكون له شيء مما هو جسم معروف ، له يد يمنى ويد يسرى. فلما أثبت أن كلتيهما يد نفى الجسمية ، لأن كلتيهما متساوية في الكرم والعطاء.

٤ ـ الكناية : في إيقاد الحرب عن الحرب واشتعالها.

٥ ـ الطباق : بين الإيقاد والإطفاء.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥))

٥٢٠