إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٤

يقع في النفس ، وهو أخفى من الإيماء. ومنه قوله تعالى : «وأوحينا الى أم موسى». ويظهر أن هذا بعناية من الله عز وجل ، ومنه ما يكون غريزيا دائما ، ومنه قوله تعالى : «وأوحى ربك الى النحل» ، وعلى الإعلام في الخفاء ، وهو أن تعلم إنسانا بأمر تخفيه عن غيره ، ومنه قوله تعالى : «شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم الى بعض» ، وأطلق على الكتابة والرسالة لما يكون فيها من التخصيص ، ووحي الله الى أنبيائه هو ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم بعد أن يكون أعدهم لتلقّيه بواسطة كالملك أو بغير واسطة.

رأي محمد عبده :

وعرفه الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد بأنه «عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله ، بواسطة أو بغير واسطة. والأول يتمثل لسمعه بصوت أو بغير صوت. ويفرّق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس ، وتنساق الى ما يطلب ، على غير شعور منها من أين أتى. وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور». ثم أفاض الأستاذ الامام في بيان وجه إمكانه ووقوعه.

(الْأَسْباطِ) جمع سبط ، وهو يطلق على ولد الولد. وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطا.

(الزبور) : بمعنى المزبور ، كالركوب بمعنى المركوب. وقرأه حمزة وخلف بضم الزاي ، وهو جمع وزن مفرده ، وقيل : هو مصدر.

وهو على كل حال بمعنى كتاب ومكتوب. وفي المختار : والزبر بالكسر ، والجمع زبور كقدر وقدور.

٣٨١

الاعراب :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) كلام مستأنف مسوق لتطمين رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الأنبياء الذين بعثهم الله الى البشر قبله ؛ وإن واسمها ، وجملة أوحينا خبر ، وإليك جار ومجرور متعلقان بأوحينا ، والكاف نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا ، و «ما» تحتمل أن تكون مصدرية فتكون مع ما بعدها مصدرا مؤولا في محل جر بالإضافة ، كوحينا وأن تكون اسم موصول بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي كالذي أوحيناه الى نوح ، وجملة أوحينا لا محل لها لأنها صلة الموصول. والى نوح جار ومجرور متعلقان بأوحينا ، والنبيين عطف على نوح ، ومن بعده متعلقان بمحذوف حال. وبدأ بذكر نوح لأنه أقدم نبي مرسل ذكر في كتب القوم.

وإنما تنهض الحجة دليلا على الناس إذا كانت مقدماتها معروفة عندهم ، ثم خص بعض النبيين بالذكر فقال : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) الواو عاطفة ، وأوحينا فعل وفاعل ، والى ابراهيم متعلقان بأوحينا ، وما بعده من أسماء النبيين معطوفة عليه (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) آتينا فعل وفاعل ، داود مفعول به أول ، وزبورا مفعول به ثان (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) رسلا مفعول به لفعل محذوف معطوف على أوحينا تقديره وآتينا ، وجملة قد قصصناهم صفة ، وعليك متعلقان بقصصنا ، ومن قبل متعلقان بمحذوف حال (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) عطف على ما تقدم (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) الواو عاطفة وكلّم الله فعل وفاعل ، وموسى مفعول به ، وتكليما مفعول مطلق مؤكد لرفع احتمال المجاز. قال الفراء : العرب تسمي ما وصل الى الإنسان كلاما

٣٨٢

بأي طريق وصل ، ما لم يؤكد بالمصدر ، فإن أكد به لم يكن إلا حقيقة (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) رسلا بدل من «رسلا» قبله أو منصوب على المدح ، ومبشرين صفة ، ومنذرين عطف على مبشرين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) هذه اللام لام «كي» وتتعلق بمنذرين أو بمبشرين ، فالمسألة من باب التنازع ، وسيأني ذكره في باب الفوائد ، ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف أي : أرسلناهم لذلك ، وأن حرف ناصب ولا نافية ، ويكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن وللناس متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وعلى الله متعلقان بمحذوف حال ، وحجة اسم يكون المؤخر ، وبعد الرسل ظرف زمان متعلق بمعنى النفي ، أي :

لتنتفي حجتهم واعتذارهم بعد إرسال الرسل. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) تقدم إعرابه كثيرا.

الفوائد :

١ ـ جميع أسماء الأنبياء ممنوعة من الصرف ما عدا ستة يجمعها قولك : «صن شمله» وهي : صالح ونوح وشعيب ومحمد ولوط وهود ، وتمنع من الصرف للعلمية والعجمة. والمراد بالعجميّ ما نقل عن لسان غير العرب بأي لغة كانت ، وتعرف عجمة الاسم بوجوه :

١ ـ نقل الأئمة. ٢ ـ خروج الاسم عن أوزان الأسماء العربية كإبراهيم. ٣ ـ أن يكون رباعيا أو خماسيا خاليا من حروف الذّلاقة ، وحروف الذّلاقة ستة : وهي الميم والرّاء والباء الموحّدة والنون والفاء واللام ويجمعها : (مر بنفل). ٤ ـ أن يجتمع فيه من الحروف ما لا يجتمع في كلام العرب ، كالجيم والقاف بفاصل نحو : جرموق وبغير فاصل نحو : قج وجقّة ، والصاد والجيم نحو :

٣٨٣

الصولجان ، والكاف والجيم نحو : السكرجة ، والراء بعد النون في أول الكلمة نحو : نرجس ، والزاي بعد الدال في آخر الكلمة نحو : مهندز.

٢ ـ التنازع : في العمل هو أن يتقدم فعلان متصرفان أو اسمان يشبهانهما في العمل ، أو فعل متصرف واسم يشبهه في العمل ، ويتأخر عنهما معمول ، وهو مطلوب لكل منهما من حيث المعنى. مثال الفعلين : «آتوني أفرغ عليه قطرا» ومثال الاسمين قوله :

عهدت مغيثا مغنيا من أجرته

فلم أتخذ إلا فناءك موئلا

ومثال المختلفين : «هاؤم اقرءوا كتابيه». وإذا تنازع العاملان جاز إعمال أيهما شئت ، فاختار البصريون الأخير لقربه واختار الكوفيون الأول لسبقه. وتفصيل الحديث في التنازع مبسوط في كتب النحو ، والآية من إعمال الثاني لأنه لو كان من إعمال الأول لأضمر في الثاني ، فكان يقال : مبشرين ومنذرين له ، ولم يقل كذلك ، فدل على مذهب البصريين. وله في القرآن نظائر.

٣ ـ أراد بقوله : «ورسلا لم نقصصهم عليك» المرسلين الى الأمم المجهول علمها وتاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك ، كأمم الشرق وأمم بلاد الشمال وأمم القسم الآخر من الأرض.

٤ ـ علم الكلام : قال ثعلب : لولا التأكيد بالمصدر بقوله :«وكلم الله موسى تكليما» لجاز أن تقول : قد كلمت لك فلانا ، يعني كتبت إليه رقعة ، وبعثت إليه رسولا ، فلما قال : «تكليما» لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله تعالى. وبمسألة الكلام : سمي علم أصول الدين بعلم الكلام ، وهي مسألة يبحث عنها في أصولها.

٣٨٤

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))

الاعراب :

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) هذه الجملة الاستدراكية مستأنفة لبيان جملة محذوفة لا بد منها ، لتكون هذه الجملة مستدركة عنها. والجملة المحذوفة هي ما روي في أسباب النزول : لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنّتوا في ذلك ما شاء لهم التعنت ، قال : لكن الله يشهد ، بمعنى أنهم لا يشهدون ولكن الله يشهد. ولكن مخففة مهملة والله مبتدأ وجملة يشهد خبر ، وبما جار ومجرور متعلقان بيشهد ، وجملة أنزل إليك صلة الموصول (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) الجملة مفسرة لا محل لها ، وأنزله فعل ومفعول به ، والفاعل مستتر تقديره هو ، وبعلمه متعلقان بمحذوف حال ، أي متلبسا بعلمه الخاص ، أو حال كونه معلوما لله تعالى. والملائكة الواو عاطفة والملائكة مبتدأ خبره جملة يشهدون (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) الواو استئنافية ، وكفى فعل ماض ، والباء حرف جر زائد والله فاعل مجرور لفظا مرفوع

٣٨٥

محلا ، وشهيدا تمييز (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الجملة مستأنفة ، وإن واسمها ، وجملة كفروا صلة الموصول وجملة صدوا عطف عليها وعن سبيل الله متعلقان بصدوا (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) الجملة خبر إن ، وضلالا مفعول مطلق ، وبعيدا صفة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) الجملة مستأنفة لبيان مصيرهم. وإن واسمها ، وجملة كفروا صلة ، وجملة ظلموا عطف على الصلة ، وجملة لم يكن الله خبرها ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ، والله اسمها ، وليغفر اللام لام الجحود ، ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود.

والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر يكن ، أي : مريدا ليغفر لهم ، وقد تقدم تقرير ذلك. ولا الواو حرف عطف ، ولا نافية ، ليهديهم عطف على ليغفر ، وطريقا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إلا أداة استثناء ، وطريق مستثنى متصل ، وجهنم مضاف اليه مجرور وعلامة جره الفتحة ، لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وخالدين حال من مفعول يهديهم ، وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين بمثابة التأكيد ، لئلا يحمل على طول المكث.

وسيأتي مزيد بحث عنه (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) الواو استئنافية وكان واسمها وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيسيرا أو بمحذوف حال ويسيرا خبر كان.

الفوائد :

معنى الخلود في اللغة : بقاء الشيء مدة طويلة ، على حال واحدة ، لا يطرأ عليه تغيير ، ولا فساد. كقولهم للأثافي ، أي : حجارة الموقد :خوالد. وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها. والأبد عبارة عن مدة

٣٨٦

الزمان الممتدّ الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان. وتأبّد الشيء : بقي أبدا. ويعبّر به عن كل ما يبقى مدة طويلة. وفي لسان العرب :

الأبد : الدهر ، وفيه تساهل وفي المثل : (طال الأبد على لبد) يضرب ذلك لكل ما قدم. وقالوا : أبد بالمكان ـ من باب ضرب ـ أبودا : أقام به ولم يبرحه. ولم يكن عندهم شيء بمعنى اللانهاية يدور في كلامهم.

وفسر الخلد في اللسان بدوام البقاء في دار لا يخرج منها. والمراد بالسكنى الدائمة في العرف ما يقابل السكنى الموقتة المتحوّلة ، كسكنى البادية. فالذين لهم بيوت في المدن يسكنونها يقال في اللغة : إنهم خالدون فيها. قال في اللسان : وخلد بالمكان يخلد خلودا ـ من باب نصر ـ وأخلد أقام ، وخلد كضرب ونصر خلدا وخلودا أيضا : أبطأ عنه الشيب. ومن كبر ولم يشب ولم تسقط أسنانه يقال له : المخلد بكسر اللام ، وقيل : بفتحها. وقال زهير :

لمن الدّيار غشيتها بالفدفد

كالوحي في حجر المسيل المخلد

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لأمر المكلفين بصورة عامة بالايمان بعد أن سدت عليهم منافذ الاعتذار ، والنداء عام للناس جميعا لا أهل مكة وحدهم ، وإن كان

٣٨٧

الغالب أن «يا أيها الناس» خطاب لأهل مكة ، و «يا أيها الذين آمنوا» خطاب لأهل المدينة. وقد حرف تحقيق ، وجاءكم الرسول فعل ومفعول به وفاعل ، وبالحق جار ومجرور متعلقان بجاءكم ، ومن ربكم متعلقان بمحذوف حال (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) الفاء الفصيحة ، وآمنوا فعل أمر وفاعله ، أي : إذا كان الأمر كما عرفتم فآمنوا يكن الايمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهّركم من الأدناس الحسية والمعنوية ، ويؤهلكم للسعادة الأبدية. وهذا هو التقدير المتبادر الى الذهن ، وعليه الكسائيّ فهو خبر لكان المحذوفة مع اسمها. وأما الخليل وسيبويه فيقدّران : واهتدوا بالايمان خيرا لكم ، أي : مما أنتم عليه.

وقال الفراء : فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، فانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف. وقال الزمخشري : وانتصابه بمضمر ، وذلك أنه لما بعثهم على الايمان علم أنه يحملهم على أمر ، فقال : خيرا لكم ، أي : اقصدوا أو ائتوا خيرا لكم مما أنتم فيه. ولكم متعلقان بـ «خيرا» (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة وإن شرطية ، وتفكروا فعل مضارع فعل الشرط ، والجواب محذوف تقديره :فلا يضره كفركم ، لأنه غني عنكم. ونبه على غناه بقوله : «فإن لله ما في السموات والأرض» فالفاء للتعليل ، وإن حرف مشبه بالفعل ولله متعلقان بمحذوف خبرها المقدم ، وما اسم موصول اسمها المؤخر ، وفي السموات والأرض متعلقان بمحذوف صلة الموصول (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) تقدم إعرابها كثيرا.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها

٣٨٨

إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١))

اللغة :

(لا تَغْلُوا) لا تتجاوزوا الحد المعقول. وأصل الغلوّ في كل شيء مجاوزة حده. وغلا بالجارية عظمها ولحمها إذا أسرعت في الشباب فجاوزت لداتها ، يغلو بها غلوّا وغلاء. ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي ، وهي أبيات جميلة ، يذكر فيها صاحبته وما مضى من أيامه وأيامها :

إذ ودّها صاف ورؤيتها

أمنية وكلاهما غنم

لفّاء مملوء مخلخلها

عجزاء ليس لعظمها حجم

خمصانة قلق موشّحها

رود الشباب غلا بها عظم

وكأن غالية تباشرها

تحت الثياب إذا صفا النجم

الاعراب :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتحذير أهل الكتاب من المغالاة. ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف ، ولا ناهية وتغلوا فعل مضارع مجزوم بلا ، وفي دينكم متعلقان بتغلوا

٣٨٩

(وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) الواو عاطفة ، ولا ناهية وتقولوا فعل مضارع مجزوم ، وعلى الله متعلقان بتقولوا ، وإلا أداة حصر ، والحق مفعول مطلق على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إلا القول الحق ، أو مفعول به لأنه تضمن معنى القول ، نحو : قلت قصيدة (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) كلام مستأنف مسوق للتعريف بالسيد المسيح عليه السلام. وإنما كافة ومكفوفة ، والمسيح مبتدأ وعيسى بدل منه ، وابن مريم بدل أيضا أو صفة ، ورسول الله خبر المبتدأ ، وكلمته عطف على رسول ، وجملة ألقاها حالية ، ولا بد من تقدير «قد» معها ، والعامل في الحال معنى «كلمته» ، لأن معنى الكلمة أنه مكون بها من غير أب. والى مريم جار ومجرور متعلقان بألقاها وروح عطف على كلمته ، ومنه متعلقان بمحذوف صفة لروح ، ومن لابتداء الغاية (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) الفاء الفصيحة ، أي : فإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالله إيمانا يليق به تعالى ، بالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا ورسله عطف على لفظ الجلالة ، والواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتقولوا فعل مضارع مجزوم بها ، وثلاثة خبر لمبتدأ محذوف ، أي : ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ، وجملة آلهتنا ثلاثة في محل نصب مقول القول (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) الجملة مستأنفة ، وانتهوا فعل أمر وفاعل وخيرا تقدم إعرابها قبل قليل ، فجدّد به عهدا ، ولكم متعلقان بـ «خيرا» (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد الوحدانية. وإنما كافة ومكفوفة ، والله مبتدأ وإله خبر ، وواحد صفة (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ، أي سبحه تسبيحا ، وأن وما في حيزها مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض أي : من أن يكون ، والجار والمجرور متعلقان بسبحان ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم ،

٣٩٠

وولد اسمها المؤخر ، والجملة التنزيهية في محل نصب على الحال ، أي : منزها (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) له متعلقان بخبر مقدم محذوف وما اسم موصول مبتدأ وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ، وجملة الصلة لا محل لها من الاعراب ، وما في الأرض عطف على ما في السموات ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه ، أي : إذا كان يملك جميع ما فيهما فكيف يتوهم حاجته الى ولد (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) تقدم إعرابه كثيرا.

الفوائد :

تعقب أحد الأذكياء اعراب قوله تعالى : «ثلاثة» فقال : ومن المشكلات أيضا قوله تعالى : «ثلاثة» ، ذهبوا في رفع ثلاثة الى أنها خبر لمبتدأ محذوف ، والمعنى : ولا تقولوا : آلهتنا ثلاثة ، وهو أيضا باطل لانصراف التكذيب الى الخبر فقط. وإذا قلنا : ولا تقولوا :

آلهتنا ثلاثة ، كنا قد نفينا الثلاثة ولم ننف الآلهة ، جل الله عن ذلك.

والوجه أن يقال : الثلاثة صفة المبتدأ الأخير ، ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ، ثم حذفت الخبر الذي هو «لنا» حذفك «لنا» في قولك «لا إله إلا الله» فبقي ولا تقولوا : آلهة ثلاثة ولا إلهان ، فصح الفرق.

ولا يخلو كلامه من ذكاء نادر ، فتدبر ذلك والله يعصمك.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا

٣٩١

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

اللغة :

(يَسْتَنْكِفَ) الاستنكاف : الامتناع من الشيء ، أنفة وانقباضا منه. قيل : أصله من نكف الدمع إذا نحّاه عن خده بأصبعه حتى لا يظهر ، ونكف منه أنف ، وأنكفه عنه برأه. وفي المصباح : نكفت من الشيء نكفا من باب تعب ، ونكفت أنكف من باب قتل ، لغة.

واستنكفت إذا امتنعت أنفة واستكبارا.

الاعراب :

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من التنزيه ، والمعنى لن يأنف المسيح ولا يتبرّأ من أن يكون عبدا لله ، ولا هو بالذي يترفع عن ذلك لأنه من أعلم خلق الله بعظمة الله ، وما يجب له على العقلاء من خلقه من الشكر والعبودية ، التي يتفاضلون بها. ولن حرف نفي ونصب واستقبال ، ويستنكف فعل مضارع منصوب بها ، والمسيح فاعل ، وأن وما في حيّزها مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض ، والتقدير : عن أن يكون .. ، والجار والمجرور متعلقان بيستنكف ، وعبدا خبر يكون ، ولله متعلقان

٣٩٢

بمحذوف صفة لـ «عبدا» (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) الواو عاطفة ، ولا نافية ، والملائكة عطف على المسيح ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي ويستنكفون والمقربون صفة للملائكة (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) الواو استئنافية ، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويستنكف فعل الشرط وعن عبادته متعلقان بيستنكف (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) يجوز في الفاء أن تكون جوابا للشرط ، والتقدير : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيعذّبه عند حشره اليه ، ومن لم يستنكف ولم يستكبر فيثيبه. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا ، أي : فيجازيه ، ثم عطف عليه قوله : فسيحشرهم ، والهاء مفعول به ، واليه متعلقان بيحشرهم ، وجميعا حال من الهاء ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الفاء للتفريع ، والجملة بعدها لا محل لها من الاعراب لأنها بمثابة الاستئناف ، وأما حرف شرط وتفصيل ، والذين اسم موصول مبتدأ ، وجملة آمنوا صلة ، وجملة عملوا الصالحات عطف على الصلة ، والفاء رابطة ، ويوفيهم فعل مضارع ، وفاعله مستتر تقديره هو ، والهاء مفعوله الأول ، وأجورهم مفعوله الثاني ، ويزيدهم عطف على فيوفيهم ، ومن فضله متعلقان بيزيدهم ، والجملة خبر الذين (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الجملة معطوفة على ما قبلها وقد تقدم اعرابها ، وعذابا مفعول مطلق ، وأليما صفة (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) عطف على ما تقدم ، ولهم جار ومجرور متعلقان بـ «وليا» ، ومن دون الله متعلقان بمحذوف حال ، ووليا مفعول به ، ولا نصيرا عطف عليه.

٣٩٣

الفوائد :

استدل بهذه الآية القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء ، وهم أبو بكر الباقلاني والحليميّ من أئمة الأشعرية وجمهور المعتزلة ، وقرر الزمخشريّ وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع ، وأطال البيضاوي وابن المنير في الرد عليه. والمنصف يرى أن التفاضل في هذا الباب من قبيل الرجم بالغيب ، إذ لا يعلم ذلك إلا بنص من الشارع ، ولا نصّ. وليس للخلاف في هذا فائدة ولا عائدة في إيمان ولا عمل ، ولكنه من توسيع مسافة التفرّق بالمراء والجدل.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف لتقرير ما انتهت اليه الأمور من إقامة الحجج الباهرة على المخالفين ، وإهابة الله تعالى بالناس كافة الى اتباع برهانه والاهتداء بالنور الذي جاء به.

وقد حرف تحقيق ، وجاءكم برهان فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ، ومن ربكم متعلقان بمحذوف صفة لبرهان (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)

٣٩٤

الواو عاطفة ، وأنزلنا فعل وفاعل ، وإليكم متعلقان بأنزلنا ، ونورا مفعول به ، ومبينا صفة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) الفاء للتفريع ، والجملة لا محل لها ، وأما حرف شرط وتفصيل ، والذين مبتدأ ، وجملة آمنوا صلة ، وبالله متعلقان بآمنوا ، واعتصموا به عطف على آمنوا (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) الفاء رابطة لجواب «أما» وجملة يدخلهم خبر الذين ، في رحمة متعلقان بيدخلهم ومنه متعلقان بمحذوف صفة لرحمة وفضل معطوف على رحمة (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) عطف على يدخلهم ، واليه متعلقان بمحذوف حال من «صراطا» قدم عليه ، وصراطا مفعول به ثان ليهديهم ، أو مفعول به لفعل محذوف دل عليه «يهديهم» ، ومستقيما صفة.

البلاغة :

المجاز المرسل في قوله : «في رحمة منه» ، لأن الرحمة لا يحل فيها الإنسان ، لأنها معنى من المعاني ، وإنما يحل في مكانها وهو الجنة.

فاستعمال الرحمة في مكانها مجاز أطلق فيه الحالّ وأريد المحل ، فعلاقته الحالية.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً

٣٩٥

فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

الاعراب :

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) كلام مستأنف مسوق لذكر إرث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب. ويستفتونك فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به ، وقل فعل أمر والفاعل أنت ، والله مبتدأ ويفتيكم فعل مضارع ومفعوله ، والفاعل هو والجملة خبر ، وجملة الله يفتيكم في محل نصب مقول القول ، وفي الكلالة متعلقان بيستفتونك على إعمال الأول ، أو بيفتيكم على إعمال الثاني (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) كلام مستأنف لتفصيل الحكم. وإن شرطية وامرؤ فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده ، وجملة هلك مفسرة لا محل لها وليس فعل ماض ناقص وله متعلقان بخبر مقدم محذوف ، وولد اسمها المؤخر ، والجملة صفة لامرؤ له متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وأخت مبتدأ مؤخر ، والجملة حالية لأنها وقعت بعد واو الحال (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، ولها متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ونصف مبتدأ مؤخر ، وما اسم موصول مضاف اليه ، وجملة ترك صلة ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) الواو استئنافية ، هو مبتدأ ، وجملة يرثها خبره ، وإن شرطية ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وهو فعل الشرط ، ولها متعلقان بمحذوف خبر يكن المقدم ، ولد اسمها المؤخر ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أي فهو يرثها. (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) الفاء

٣٩٦

استئنافية ، وإن شرطية ، وكانتا فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والألف في «كانتا» اسمها ، واثنتين خبرها (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الفاء رابطة ، ولهما متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والثلثان مبتدأ مؤخر ، ومما متعلقان بمحذوف حال ، وجملة ترك صلة ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط ، وفاعل ترك مستتر يعود على الأخ (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، وكانوا فعل الشرط والواو اسمها وإخوة خبرها ، ورجالا بدل من «إخوة» ونساء عطف على «رجالا» والفاء رابطة لجواب الشرط ، وللذكر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومثل حظ الأنثيين مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الجملة في محل نصب على الحال ، ولك أن تجعلها مستأنفة بيانية ، ويبين الله فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين ، وأن تضلوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله على حذف مضاف ، أي : كراهية أن تضلوا ، ومفعول يبين محذوف وهو عام ، والله الواو استئنافية ، والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بقوله : «عليم» ، وعليم خبر «الله»

الفوائد :

اختتمت صورة النساء بذكر الأموال وأحكام الميراث ، كما افتتحت بذلك ، لتحصل المشاكلة بين المبدأ والختام. وتتلخص آيات المواريث في السورة بثلاثة :

١ ـ الأولى في بيان إرث الأصول والفروع.

٢ ـ والثانية في بيان إرث الزوجين والإخوة والأخوات من الأم.

٣٩٧

٣ ـ والثالثة وهي هذه الآية في إرث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب.

وأما أولو الأرحام فسيأتي حكمهم في سورة الأنفال. والمستفتي عن الكلالة هو جابر بن عبد الله لما عاده النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال : يا رسول الله ، إني كلالة فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت.

نبذة من أقوال علماء اللغة في الكلالة :

قيل : إن أصل الكلالة في اللغة ما لم يكن من النسب لحّا ، أي :لاصقا بلا وساطة ، وقيل : إنه ما عدا الوالد والولد من القرابة.

وقيل : ما عدا الولد فقط. وقيل الإخوة من الأم. وقال في لسان العرب عند ذكره وهو المستعمل : وقيل : الكلالة من العصبة من ورث معه الإخوة ، ويطلق هذا اللفظ على الميت الذي يرثه من ذكر ، وقيل :

بل على الورثة غير من ذكر ، وقيل : على كل منهما. والمرجح هو القرينة. والجمهور على أن الكلالة من الموروثين من لا ولد له ولا والد. هذا وفي الكلالة أحكام مبسوطة في المطولات ، ولا مجال لها هنا.

آخر آية أنزلت :

روى الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن البراء قال :آخر سورة نزلت كاملة سورة براءة ، أي التوبة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : «يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة» أي من

٣٩٨

آيات الفرائض. وبهذا لا تنافي في ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا. على أنه لا سبيل الى القطع بآخر آية نزلت من القرآن ، وإنما نقول : إن هذه الآية من آخر ما نزل قطعا ، ويجوز أن تكون آخرها كلها ، والله أعلم.

٣٩٩

سورة المائدة

مدنية بناء على المشهور من أن المدنيّ ما نزل بعد الهجرة ولو في مكة.

وآياتها مائة وعشرون آية ، أو مائة وثنتان وعشرون آية ، أو مائة وثلاث وعشرون آية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١))

اللغة :

(وفى) بالوعد وفاء ، وأوفى به إيفاء : أي أتى به تاما لا نقص فيه. وقد جمع بينهما الشاعر :

أما ابن طوف فقد أوفى بذمته

كما وفى بقلاص النجم حاديها

ويقال لمن لم يوف الكيل : أخسر الكيل ، ولمن لم يوف العهد :غدر ونقض. ونقض العهد والوعد ، وهما شىء واحد.

٤٠٠