إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٤

الاعراب :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) : كلام مستأنف مسوق لبيان ما فعلوه ، وما صدر عن بعضهم بعد أخذ الميثاق. وإذ ظرف لما مضى متعلق باذكر محذوفا ، والخطاب للنبي ليعدّد عليه ما صدر عنهم ، وجملة قال موسى من الفعل والفاعل في محل جر بالإضافة ، ولقومه متعلقان بقال (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الجملة في محل نصب مقول القول ، ويا حرف نداء ، وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة ، واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ، وعليكم متعلقان بنعمة (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) إذ ظرف لما مضى متعلق بالنعمة ، وجملة جعل في محل جر بالاضافة ، وفيكم متعلقان بجعل على أنه مفعول به أول لجعل ، وأنبياء مفعوله الثاني ، وجعلكم ملوكا عطف على ما تقدم ، وملوكا مفعول به ثان (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة ، وآتاكم فعل ومفعول به أول ، والفاعل هو ، وما اسم موصول مفعول به ثان ، وجملة لم يؤت أحدا صلة الموصول «ما» ، ومن العالمين متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، والمراد بالعالمين الأمم الخالية الى زمانهم وعالم زمانهم ، من خلق البحر ، وتظليل الغمام ، والمن والسلوى ، وغير ذلك من الأمور العظيمة (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) الجملة استئنافية وادخلوا فعل أمر وفاعل ، والأرض مفعول به على السعة ، أو منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بادخلوا ، والمقدسة صفة للأرض (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) التي صفة ثانية للأرض ، وجملة كتب الله صلة ، ولكم جار ومجرور متعلقان بكتب (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) الواو عاطفة ، ولا ناهية وترتدوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، وعلى أدباركم متعلقان بمحذوف

٤٤١

حال من فاعل ترتدوا (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) الفاء عاطفة ، وتنقلبوا معطوف على ترتدوا فهو مجزوم مثله ، ويجوز أن تكون الفاء هي السببية لتقدم النهي عليها ، فهو منصوب بأن مضمرة بعدها ، وخاسرين حال.

الفوائد :

المنادى المضاف الى ياء المتكلم أربعة أقسام :

١ ـ ما فيه لغة واحدة ، وهو المعتل بالياء أو بالألف ، فإن ياءه المضاف إليها واجبة الثبوت والفتح نحو : يا قاضيّ ويا فتاي.

٢ ـ ما فيه لغتان : وهو الوصف المشبه للفعل المضارع ، ونعني به اسمي الفاعل والمفعول ومبالغة اسم الفاعل ، فان ياءه ثابتة دائما ، وهي إما مفتوحة وإما مكسورة ، نحو : يا مكرمي ويا ضاربي.

٣ ـ ما فيه ست لغات : وهو ما عدا ذلك ، وليس أبا ولا أمّا ، نحو : يا غلامي ، فالأكثر فيه حذف الياء والاكتفاء بالكسرة ، نحو : يا غلام ، ثم ثبوتها ساكنة على الأصل ، نحو يا غلامي ، أو مفتوحة ، نحو : يا غلامي. ثم قلب الكسرة فتحة والياء ألفا ، نحو : يا حسرتا.

ثم حذف الألف المنقلبة والاجتزاء بالفتح ، فتقول : يا حسرة ، ثم حذف الياء والاكتفاء بنيتها وضم الاسم المضاف للياء ، مثل : يا غلام.

٤ ـ ما فيه عشر لغات : وهو الأب والأم ، ففيهما مع اللغات الست المتقدمة أربع لغات أخر ، وهي أن تعوض تاء التأنيث من ياء

٤٤٢

المتكلم وتكسرها وهو الأكثر ، أو تفتحها أو تضمها وهو قليل ، وربما جمع بين التاء والألف ، فقيل : يا أبتا ويا أمتا.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣))

اللغة :

(جَبَّارِينَ) : الجبار : العاتي المتمرد ، فعّال ، من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه ، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد. والمراد هنا أنهم ذوو قوّة.

الاعراب :

(قالُوا : يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) الجملة مستأنفة ، وقالوا فعل وفاعل ، وجملة النداء وما بعدها مقول قولهم ، وفيها متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم ، وقوما اسمها المؤخر ، وجبارين : صفة لـ «قوما» (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) الواو عاطفة على ما تقدم ، وإن واسمها ، وجملة لن ندخلها خبرها ، وحتى حرف

٤٤٣

غاية وجر ، ويخرجوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها والجار والمجرور متعلقان بندخلها ، ومنها متعلقان بيخرجوا (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) الفاء استئنافية ، وإن شرطية ، ويخرجوا فعل الشرط ، والفاء رابطة لأن الجملة بعدها اسمية لا تصلح جوابا ، وإن واسمها وداخلون خبرها ، والجملة في محل جزم جواب الشرط (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) الجملة استئنافية ، وقال رجلان :فعل وفاعل ، ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ، وجملة يخافون لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجملة أنعم الله صفة ثانية أو معترضة فتكون لا محل لها ، ولابن هشام قول فيها نورده في باب الفوائد ، وعليهما متعلقان بأنعم (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) الجملة في محل نصب مقول قول الرجلين (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) الفاء استئنافية ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بـ «غالبون» وجملة دخلتموه في محل جر بالاضافة ، والفاء رابطة لجواب إذا ، وإن واسمها ، وغالبون : خبرها (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لتوصيتهم بالاتكال على الله أولا ، والأخذ بأسباب الحيطة والحذر ثانيا ، والفاء في قوله : «فتوكلوا» جواب أمر محذوف لا بد من تقديره : تنبّهوا فتوكلوا على الله ، وعلى الله متعلقان بتوكلوا ، كما قالت العرب : زيدا فاضرب ، تقديره : تنبه فاضرب زيدا ، وكثيرا ما يأتي معمول ما بعد الفاء متقدما عليها. وإن شرطية ، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، والتاء اسمها ومؤمنين خبرها ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أي : فتوكلوا.

٤٤٤

الفوائد :

١ ـ قال ابن هشام في صدر حديثه عن هذه الآية : قوله تعالى :«قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما» فإن جملة : «أنعم الله عليهما» تحتمل الدعاء فتكون معترضة والإخبار فتكون صفة ثانية ، ويضعف من حيث المعنى أن تكون حالا ، ولا يضعف في الصناعة لوصفها». هذا ما قاله ابن هشام ، ولم يبين ابن هشام رحمه لله وجه الضعف من حيث المعنى ، فإن جعلها حالا يقتضي أن قولهم في وقت إنعامه فقط ، مع أن قولهم لا يتقيد بذلك. والحاصل أن الحالية تقتضي تقييد العامل مع أن المعنى ليس على التقييد.

٢ ـ عبارة السمين : وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين :في هذه الجملة خمسة أوجه ، أظهرها أنها صفة ثانية فمحلها الرفع ، وجيء هنا بأفصح الاستعمالين من كونه قدّم الوصف بالجار على الوصف بالجملة لقربه من المفرد. الثاني أنها متعرضة ، وهو أيضا ظاهر. الثالث : أنها حال من الضمير في «يخافون» ، قاله مكيّ.

الرابع : أنها حال من «رجلان» ، وجاءت الحال من النكرة لتخصصها بالوصف. الخامس : أنها حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور ، وهو «من الذين» لوقوعه صفة لموصوف ، وإذا جعلتها حالا فلا بد من إضمار «قد» مع الماضي ، على خلاف في المسألة.

٣ ـ الرجلان اللذان أنعم الله عليهما هما يوشع بن نون ، وهو الذي نبئ بعد موسى. وكالب بن يوقنا ، وكالب بفتح اللام وكسرها.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ

٤٤٥

أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

اللغة :

(أَبَداً) : ظرف زمان ، وهو هنا تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول.

(يَتِيهُونَ) : يسيرون في الأرض متحيرين لا يهتدون طريقا.

والتيه : المفازة التي يتاه فيها.

(تَأْسَ) : تندم وتحزن والأسى : الحزن. ولامه يحتمل أن تكون من واو لقولهم : رجل أسواة ، أي : كثير الحزن ، ويحتمل أن تكون من ياء ، فقد حكي : رجل أسيان ، وفي مختار الصحاح :«وأسي على مصيبته من باب «صدي» أي : حزن ، وقد أسي له أي حزن له.

الاعراب :

(قالُوا : يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) كلام مستأنف

٤٤٦

مسوق للدلالة على تماديهم في العصيان. وقالوا : فعل وفاعل ، وجملة النداء وما بعدها في محل نصب مقول قولهم ، وإن واسمها ، وجملة لن ندخلها خبر ، وأبدا ظرف زمان متعلق بندخلها ، وما داموا ما :مصدرية ظرفية ، وداموا هي دام الناقصة ، والواو اسمها ، وفيها متعلقان بمحذوف خبرها ، وهذا الظرف بدل من «أبدا» لأنه بمثابة البيان له ، فهو بدل مطابق أو كل من كل ، وقيل : هو بدل بعض من كل ، لأن الأبد يعم الزمن المستقبل كله ، وديمومة الجبارين فيها بعضه (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) الفاء الفصيحة ، كأنهم قد أضمروا كلاما ينطوي على الاستهانة والسخرية بالله ورسوله. واذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ، وأنت تأكيد للفاعل المستتر ، وربك عطف على الفاعل المستتر في «اذهب» ، وجاز للتأكيد بالضمير ، كما نصّ على ذلك ابن مالك في الخلاصة :

وإن على ضمير رفع متصل

عطفت فافصل بالضمير المنفصل

فقاتلا عطف على «اذهب» ، والألف فاعل قاتل (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان إصرارهم على أنهم لن يتقدموا ، وإن واسمها ، والهاء للتنبيه وهنا اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية ، والظرف متعلق بـ «قاعدون» ، وقاعدون خبر إن (قالَ : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) الجملة مستأنفة مسوقة للبثّ والشكوى الى الله ، والحسرة ورقة القلب ، وهي من الوسائل التي تستمطر فيها الرحمة ويستنزل النصر. وقال فعل ماض والفاعل هو ، ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة ، وقد تقدم القول مسهبا في المنادى المضاف الى ياء المتكلم ، وإن واسمها ، والجملة مقول القول ،

٤٤٧

وجملة لا أملك خبر إن ، وإلا أداة حصر ، ونفسي مفعول به ، وأخي من طريف الإعراب وهو يحتمل الرفع والنصب والجر ، وكلها متساوية.

أوجه الرفع :

فالرفع من ثلاثة أوجه هي :

١ ـ أن يكون عطفا على الضمير المستتر في «أملك».

٢ ـ أن يكون عطفا على محل إن واسمها.

٣ ـ أن يكون مبتدأ حذف خبره ، والتقدير : وأخي لا يملك إلا نفسه.

وجها النصب :

والنصب من وجهين :

١ ـ أن يكون معطوفا على اسم إنّ.

٢ ـ أن يكون معطوفا على نفسي.

وجه الجر :

والجر من وجه واحد :أن يكون معطوفا على الياء المجرور باضافة نفس إليها.

(فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء استئنافية ، وافرق فعل

٤٤٨

دعاء بمعنى : احكم لنا بما نستحقه ، واحكم عليهم بما يستحقونه.

وبيننا ظرف متعلق بـ «افرق» ، وبين القوم الفاسقين عطف على «بيننا» (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة ، وفاعل «قال» مستتر تقديره : الله تعالى ، والفاء زائدة في الاعراب لتمكين التأكيد ، وإن واسمها ، ومحرمة خبرها ، وعليهم متعلقان بمحرمة ، وأربعين ظرف زمان متعلق بيتيهون ، فيكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة ، أو متعلقان بمحرمة ، فيكون التحريم مقيدا بهذه المدة ، وسنة تمييز ، وجملة فانها محرمة مقول القول ، وجملة يتيهون في الأرض حالية ، أي : حالة كونهم تائهين ضاربين في متاهات الأرض ومناكب الصحاري تتخبطهم الحسرة ، وتتعاورهم الحيرة. (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا عرفت هذا فلا تحزن ، ولا ناهية ، وتأس فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وعلامة جزمه حذف حرف العلة ، وعلى القوم متعلقان بـ «تأس» ، والفاسقين صفة لقوم.

الفوائد :

قد يتساءل متسائل فيقول : كيف قال موسى : إني لا أملك إلا نفسي وأخي ، مع أنه كان معهما الرجلان المذكوران ، وهما يوشع وكالب؟ فالجواب أنه لم يطمئن الى ثباتهما بعد أن رأى الأكثرية الساحقة مصرة على التعنت ، ولم تكن النبوة قد هبطت على يوشع بن نون ، فلم يذكر معه إلا النبي المعصوم ، وهو أخوه هارون. وهنا أقاصيص مطوّلة ، يرجع إليها القارئ في المطولات من التفاسير.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ

٤٤٩

مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩))

اللغة :

(قُرْباناً) : القربان : بضم القاف ، وفيه وجهان :

١ ـ إنه اسم لما يتقرب به الى الله عز وجل ، من صدقة أو نسك أو غير ذلك ، كالحلوان بضم الحاء أيضا : اسم ما يحلى ، أي : يعطى.

يقال : قرب صدقة ، وتقرب بها ، لأن «تقرّب» مطاوع «قرّب».

٢ ـ أن يكون مصدرا في الأصل ، ثم أطلق على الشيء المتقرّب به كقولهم : نسج اليمن ، ويدلّ على ذلك أنه لم يثن ، والموضع موضع تثنية ، لأن كلّا من قابيل وهابيل له قربان يخصّه ، والأصل أن يقول : قربانين. وقال أصحاب الرأي الأول : لا حجة في هذا ، لأن المعنى : إذ قرّب كل واحد منهما قربانا ، كقوله تعالى : «فاجلدوهم ثمانين جلدة» ، أي كل واحد منهم ثمانين جلدة.

٤٥٠

(تَبُوءَ) : ترجع.

الاعراب :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الجملة معطوفة على الفعل المقدر في قوله : «وإذ قال موسى لقومه» ، يعني : اذكر يا محمد لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم ، وهما : هابيل وقابيل ، وقصة القربان وسببه. وقصة قتل قابيل لهابيل طفحت بها المطوّلات من التفاسير.

واتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ، وعليهم متعلقان بـ «اتل» ، ونبأ مفعول به ، وابني مضاف الى «نبأ» وحذفت النون للاضافة ، وآدم مضاف الى «ابني» ، وبالحق متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف ، أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، أو حال من الفاعل ، فيكون التقدير : حال كونك ملتبسا بالحق ، أي : بالصدق ، أو من المفعول به ، أي : اتل نبأهما ملتبسا بالحق والصدق (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بنبإ ، أي : اتل قصتهما وخبرهما الواقع في ذلك الوقت ، أو هو بدل منه ، أي : واتل عليهم النبأ ، نبأ ذلك الوقت ، على تقدير حذف المضاف وجملة قربا في محل جر بالاضافة ، وقربا فعل وفاعل ، وقربانا مفعول به ، فتقبل : الفاء عاطفة وتقبل فعل ماض مبني للمجهول ، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على «قربانا» ، ومن أحدهما جار ومجرور متعلقان بتقبل ، ولم يتقبل من الآخر عطف على تقبل (قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) جملة لأقتلنك في محل نصب مقول القول ، واللام موطئة للقسم ، وأقتلنك فعل مضارع مبني على الفتح لوجوب توكيده بالنون الثقيلة ، والكاف مفعول به ، وإنما كافة ومكفوفة ، وجملة إنما يتقبل

٤٥١

الله من المتقين مقول القول. (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) اللام موطئة للقسم ، وان شرطية ، وبسطت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والتاء فاعل ، وإلي متعلقان ببسطت ، ويدك مفعول به ، والجملة مستأنفة مبينة لما أراد قوله ، ولتقتلني اللام لام التعليل ، وتقتلني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، والجار والمجرور متعلقان ببسطت ، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس ، وأنا اسمها ، والباء حرف جر زائد ، وباسط اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبرها ، ويدي مفعول به لباسط لأنه اسم فاعل ، وإليك متعلقان بباسط ، ولأقتلك اللام لام التعليل ، وأقتلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والجملة جواب القسم لتقدمه على الشرط ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) الجملة تعليلية ، وإن واسمها ، وجملة أخاف الله خبرها ، ورب العالمين بدل من الله أو صفة (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) الجملة تعليل ثان لامتناعه عن المقاتلة بعد التعليل الأول ، وإن واسمها ، وجملة أريد خبرها ، والفاعل مستتر تقديره أنا ، وأن تبوء مصدر مؤوّل في محل نصب مفعول به لأريد ، وبإثمي جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب على الحال من فاعل تبوء ، أي : ترجع حاملا له ، أو ملابسا له. فتكون الفاء عاطفة ، وتكون فعل مضارع ناقص معطوف على تبوء تبعه في النصب واسمها أنت ، ومن أصحاب النار متعلقان بمحذوف خبر تكون (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية وذلك اسم اشارة في محل رفع مبتدأ ، وجزاء الظالمين خبر.

٤٥٢

البلاغة :

١ ـ في قوله : «إنما يتقبل الله من المتقين» الكلام الجامع المانع ، فقد جمعت هذه الجملة الكثير من المعاني بكلام مختصر ، فقد اشتملت على فحوى القصة من أولها الى آخرها ، والقصة مطولة يجدها القارئ في المطوّلات. وخلاصة المعنى أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متّق ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك؟ فقد كنت وكنت. قال : إني أسمع الله يقول : إنما يتقبل الله من المتقين.

٢ ـ في قوله : «إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك» فن الاتساع.

وهو أن يأتي المتكلم بكلام يتسع فيه التأويل بحسب ما تحتمله ألفاظه ، فيتّسع التأويل فيه على قدر عقول الناس وتفاوت أفهامهم. وهو في الآية في إرادته إثم أخيه ، لأن معناه : إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب.

ولما لم يكن بدّ من إرادة أحد الأمرين : وهما إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه ، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول فاضطر الى الثاني ، فلم يرد إذن إثم أخيه لعينه ، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية الى القتل ، ولم تكن حينئذ مشروعة ، فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة.

ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم ، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتل الكافر ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان ، فيحبط عنه إثم القتل الذي كان به الشهيد

٤٥٣

شهيدا ، أعني بقي الإثم على قاتله وأحبط عنه ، إذ ذلك لا ينقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها ، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه ، فدلّ على أنه أمر لازم تبع لا مقصود.

أقوال للعلماء :

هذا وقد أقاض علماء التفسير والنحو والبلاغة في هذه الآية ، ويتلخص مما أوردوه أن هناك ثلاثة تأويلات :

أ ـ إنه على حذف همزة الاستفهام أي : إني أريد أأن تبوء؟وهو استفهام استنكاري لأن إرادة المعصية معصية.

ب ـ أن «لا» محذوفة ، تقديره : إني أريد أن لا تبوء بإثمي ، كقوله تعالى : «يبين الله لكم أن تضلوا» أي : أن لا تضلوا.

ج ـ إن الإرادة على حالها ، وهي إما ارادة مجازية أو حقيقية ، وجازت إرادة ذلك به لمعان ذكرها المفسرون ، ومن جملتها أنه ظهرت له قرائن تدل على قرب أجله ، وأن أخاه كافر ، وأن ارادة العقوبة بالكافر حسنة.

٣ ـ جاء الشرط بلفظ الفعل ، وهو قوله : بسطت ، والجواب بلفظ اسم الفاعل ، وهو قوله : «ما أنا بباسط» لإفادة أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا العمل المنكر ، ولذلك أكده بالباء الزائدة المؤكدة للنفي.

٤٥٤

المتنبي والاتساع :

وعلى كل حال تبدو هذه الآية والاتساع فيها مما يدق على الأفهام ، ولكنها دقة لازمة تنطوي على الكثير من المعاني المتصيّدة من الكلام. وقد رمق المتنبي سماءها فكثيرا ما كان يجنح الى هذا الضرب من البلاغة فيدق كلامه. فمن اتساعه قوله :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا الى أرواحنا سبلا

فظاهر الكلام يوحي بالبداهة الأولى أن «لها» جار ومجرور متعلقان بوجدت ، ولكن فيه تعدّي فعل الفعل الظاهر الى ضميره المتصل ، وذلك ممتنع ، فيجب أن يقدر صفة في الأصل لـ «سبلا» فلما تقدم عليه صار حالا ، كما أن قوله : «الى أرواحنا» ، كذلك إذ المعنى : سبلا مسلوكة الى أرواحنا. ولك في «لها» وجه غريب ، وهو أن تقدر «لها» جمعا للهاة ، كحصى وحصاة ، وتكون «المنايا» مضافة إليها ، ويكون إثبات اللهوات للمنايا استعارة ، شبهت بشيء يبتلع الناس ، ويكون أقام اللها مقام الأفواه لمجاورة اللهوات للنعم ، فاللهاة بالفتح هي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.

ومن ذلك قوله في الغزل.

كشفت ثلاث ذوائب من شعرها

في ليلة فأرت ليالي أربعا

واستقبلت قمر السماء بوجهها

فأرتني القمرين في وقت معا

فليس المعنى كما يظنه الناس من أنه رأى قمرين في وقت واحد القمر ووجهها ، وإنما التحقيق أنها لما استقبلت قمر السماء ارتسم خياله في وجهها فرآهما في وقت واحد ، كما تقابل الأشكال المرآة ، فتنطبع

٤٥٥

الصورة فيها ، فترى المرآة والأشكال المنطبقة فيها في وقت واحد معا.

وقد أخطا التبريزي حين شرح البيت وقد قال : يجوز أنه أراد قمرا وقمرا ، لأنه لا يجتمع قمران حقيقيان في ليلة ، كما لا تجتمع الشمس والقمر. وقد تشبث أحد الشعراء بأهداب المتنبي فنظم بيتين أشبه ما يكونان بالشعوذة والألاعيب وهما :

رأت قمر السماء فذكرتني

ليالي وصلها بالرقمتين

كلانا ناظر قمرا ولكن

رأيت بعينها ورأت بعيني

وأحسن ما يمكن أن يقال فيهما : إن معنى قمرين : قمر حقيقي وهو قمر السماء ، وقمر مجازي وهو وجه المحبوبة ، فهو يقول : هي رأت القمر المجازي وهو قمر السماء ، وأنا رايت وجهها وهو القمر الحقيقي ، لأنها هي نظرت الى قمر السماء وهو نظر الى وجهها ، فصحّ أنه رأى بعينها وهي رأت بعينه. وهذه مبالغة وإفراط في الوصف ، ولكن الشعراء درجوا على أن يجعلوا المحبوب هو القمر الحقيقي ، والذي في السماء هو القمر المجازي. وقال آخرون في شرحهما :يتسير هذا الشاعر الى أن قمر السماء من عشاق محبوبته ، وأن محبوبته رأته ذات ليلة فكسته برؤيتها له نور جمالها ومحاسن صفاتها ، وألقت عليه شبهها ، وأعارته اسمها. فأذكرت هذا العاشق بتلك الليالي التي وصلت بالرقمتين وأنها بوصالها له أفنته وغلبت عليه بصفاتها ، حتى صارت معه كالقمر الواحد ، وكلاهما ينظره. ولهذا قال كلانا ناظر قمرا أي : قمر واحد تعدّد مظهره ، ولكنها تنظره بعينه ، وهي عين المحبة ، لأن المحب صار محبوبا وهو ينظر بعينها ، لأنها أعارته عينا رآها بها ، فكأن المبصر لها نفسها. والكلام في الاتساع طويل نجتزىء منه هنا بما تقدم.

٤٥٦

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

اللغة :

(طوّعت) : وسّعت وزيّنت ، من طاع المرعى له : إذا اتسع.

(سَوْأَةَ) : السّوءة : بفتح السين : العورة ، وما لا يجوز أن ينكشف من الجسد. والسوءة : الفضيحة. وخص السوءة بالذكر لأن الاهتمام بسترها آكد.

الاعراب :

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الفاء عاطفة ، وطوعت فعل ماض ، وله متعلقان بطوعت ، ونفسه فاعل ، وقتل أخيه مفعول به ، فقتله عطف أيضا ، فأصبح عطف أيضا ، واسمها ضمير مستتر تقديره هو ، ومن الخاسرين : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) الفاء عاطفة ، وبعث فعل ماض والله فاعل وغرابا مفعول به ، وجملة يبحث في الأرض في محل نصب صفة

٤٥٧

لـ «غرابا» ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيبحث (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) اللام للتعليل ويريه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والهاء مفعول به ، وكيف : اسم استفهام في محل نصب على الحال ، والجار والمجرور متعلقان ببعث ، فالضمير المستتر في الفعل يعود لله ، ويجوز أن يتعلقا بيبحث ، أي : ينبش ويثير التراب للإراءة ، فالضمير المستتر يعود للغراب. وجملة الاستفهام معلقة للرؤية البصرية ، فهي في محل نصب مفعول به ثان سادّة مسده ، لأن رأي البصرية قبل تعديتها بالهمزة متعدية لواحد ، فاكتسبت بالهمزة مفعولا آخر هو المفعول الأول ، وقد تقدم نظيرها في قوله تعالى : «رب أرني كيف تحيي الموتى» (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) الجملة مستأنفة ، كأنها قيلت لتكون جوابا على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال عند ما شاهد الغراب يفعل ذلك؟ ويا حرف نداء ، وويلتا كلمة جزع وتحسر ، وقد ناداها كأن الويل غير حاضر عنده ، فناداه ليحضر ، أي : أيها الويل احضر ، فهذا أوان حضورك.

ويجوز أن تجعل المنادى محذوفا وتنصب الويل على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أماته العرب ، والألف بدل من ياء المتكلم ، والجملة مقول القول ، والهمزة للاستفهام والتعجب كأنه يتعجب من نفسه :

كيف لم يهتد الى ما اهتدى اليه الغراب؟ وعجزت فعل وفاعل ، والجملة مندرجة في مقول القول ، وأن حرف مصدري ونصب ، وأكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن ، والمصدر المؤول منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بعجزت ، أي : أعجزت ، واسم أكون ضمير مستتر تقديره أنا ، ومثل خبر أكون ، وهذا اسم اشارة مضاف اليه ، والغراب بدل من اسم الاشارة (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) الفاء عاطفة ، وأواري فعل مضارع معطوف على أن أكون ،

٤٥٨

وهذا أولى من جعلها سببية ، لأنها مسبوقة بالاستفهام ، وأواري فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ، لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء ، وهنا لا تنعقد ، تقول : أتزورني فأكرمك ، والمعنى : إن تزرني أكرمك ، ولو قلت هنا : إن أعجز عن أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي ، لم يصحّ ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب ، ولهذا اعتبرنا العطف أولى. وسوءة أخي مفعول به ، فأصبح الفاء عاطفة ، وأصبح فعل ماض ناقص ، واسمها ضمير مستتر تقديره هو ، ومن النادمين خبرها.

البلاغة :

المجاز في قوله : «يا ويلتا» ، لأنه نادى ما لا يعقل. وأصل النداء أن يكون لمن يعقل.

الفوائد :

هذه القصة التي أوردها القرآن تصلح نواة لقصة عظيمة ، وهي بحاجة الى القلم المبدع ، ليعد منها قصة فنية رائعة. روي أن آدم مكث بعد مقتل هابيل مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب منحول ، فقد صح أن الأنبياء لا يقولون الشعر. وروى ميمون ابن مهران عن ابن عباس أنه قال : من قال إن آدم قال شعرا فهو كذب ، ولكنه كان ينوح عليه ، ويصف حزنه نثرا من الكلام ، شبه المرثية ، فتناسخته القرون ، فلما وصل الى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية نظمه شعرا فقال :

٤٥٩

تغيّرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغير قبيح

وقد ذكروا بعد هذا البيت ستة أبيات ، ولم يكتفوا بذلك بل لفقوا حديثا فحواه أن إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات ، قال الزمخشري : «وكل ذلك كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون». يشير الزمخشري الى البيت الثاني وهو :

تغيّر كل ذي لون وطعم

وقل بشاشة الوجه المليح

ورووه على الإقواء ، أي : بجر المليح. ويرويه بعضهم «بشاشة» بالنصب من غير تنوين ، ورفع «الوجه المليح» فليس بلحن. وقد خرجوه على حذف التنوين من «بشاشة» ، ونصبه على التمييز. وقد أشار شاعرنا الفيلسوف أبو العلاء المعري الى هذه القصة في رسالة الغفران ، فارجع إليها إن شئت ، والله يعصمك. وإنما خص بني إسرائيل بهذه القصة كما سيأتي ، لأن القتل ديدنهم ، حتى تناول الأنبياء.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

٤٦٠