إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٤

(العقود) : جمع عقد بالفتح ، وهو مصدر استعمل اسما فجمع ، وهو العهد الموثق شبه بعقد الخيل ونحوه ، قال الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدّوا العناج وشدّوا فوقها الكربا

وهو في الأصل موضوع للأجسام الصلبة ، كعقد الحبل وعقد البناء ، ثم يستعار ذلك للمعاني ، نحو عقد البيع والعهد وغيرهما ، فالعقد أخصّ من العهد ؛ والمراد بالعقود ما يتعاقدون عليه.

(البهيمة) كل ذات أربع في البر والبحر ، وقيل : ما لا نطق له ، وذلك لما في صوته من الإبهام ، ولكن خص في التعارف بما عدا السباع والطير ، قاله الراغب. وروي عن الزجّاج أن البهيمة من الحيوان ما لا عقل له مطلقا. وفي القاموس : البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء ، أو كل حيّ لا يميز ، جمعه بهائم.

(الْأَنْعامِ) : هي الإبل والبقر والغنم والجواميس. وإضافة بهيمة الى الأنعام للبيان. كشجر الأراك. أي : أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام. وذهب بعضهم الى أن الاضافة على معنى التشبيه ، أي :

أحلت لكم البهيمة المشابهة للأنعام ، قيل : في الاجترار وعدم الأنياب ، والأولى أن يقال : إن وجه الشبه المقتضي للحل هو كونها من الطيبات التي هي الأصل في الحلّ. وقال الحريري في درة الغواص : «ومن ذلك أنهم يظنون الأنعام بمعنى النّعم ، وقد فرقت العرب بينهما فجعلت النعم اسما للإبل خاصة ، أو للماشية التي هي فيها ، وجعلت الأنعام اسما لأنواع المواشي. حتى إن بعضهم أدخل فيها الظباء وحمر

٤٠١

الوحش تعلقا بقوله تعالى : «أحلت لكم بهيمة الأنعام». وقال الراغب :النعم يختص بالإبل ، وجمعه أنعام. سميت بذلك لأنها من أعظم النعم عندهم. لكن الأنعام تقال للإبل والبقر والغنم ، ولا يقال لها أنعام حتى يكون في جملتها الإبل». وقال ابن برّي : هو من التغليب ، إذ غلبوا النعم على غيرها ، ولا فرق بينهما في الحقيقة وكونها شاملة.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كلام مستأنف مسوق للقيام بموجب العقد. وقد تقدم اعراب النداء. وأوفوا فعل أمر وفاعل ، وبالعقود جار ومجرور متعلقان بأوفوا (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الجملة مفسرة لأنها تفصيل بعد الإجمال ، بناء على أن العقود شاملة لجميع الاحكام التي شرعها الله تعالى ، وأمر المكلفين بالإيفاء بها وأحلت فعل ماض مبني للمجهول ، ولكم متعلقان بأحلت ، وبهيمة نائب فاعل ، والانعام مضاف اليه (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إلا أداة استثناء ، وما مستثنى ، قيل : هو منقطع ، لأن اللفظ ليس من جنس البهيمة ، والتحريم لما طرأ من الموت ونحوه ، وجملة يتلى عليكم صلة الموصول ، وغير حال من ضمير «لكم» ، ومحلي مضاف الى «غير» والصيد مضاف الى «محلي» ، وجملة وأنتم حرم من المبتدأ والخبر حال من «محلي الصيد» كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يكون عليكم حرج (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) الجملة تعليل للحكم ، وإن واسمها ، وجملة يحكم خبرها ، وما يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة ، وهي على كل حال منصوبة بنزع الخافض ، أي : يحكم بإرادته ، أو بالذي يريده ، ولا عبث في أحكامه ولا خلل ولا ظلم.

٤٠٢

الفوائد :

أفاض العلماء والمفسرون في ذكر المقصود من العقود ، وعندنا أنها عامة شاملة لكل عهود الله التي عهد بها الى عباده من عبادات ومعاملات ، بها انتظام أمر الدنيا والآخرة معا ، وجميل قول الراغب :

«العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب : عقد بين الله تعالى وبين العبد ، وعقد بين العبد ونفسه ، وعقد بين العبد وغيره من البشر».

وقد توسّع الفقهاء وعلماء التشريع فيها ، ووضعوا المصنفات الطويلة بصددها ، وتناولوا الاحكام الشرعية فيها ، مما يسهل إليه الرجوع في مظانه.

جملة بليغة :

والأساس الذي تنهض عليه العقود في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة ، وهي «أوفوا بالعقود» وهي تفيد بقوة ورشاقة أنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به ، وليس لأحد أن يقيّد ما أطلقه الشارع إلا بنص منه ، فكل قول أو فعل يعدّه الناس عقدا فهو عقد يجب أن يوفوا به ، كما أمر الله تعالى ، ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام ، مما ثبت في الشرع ، كالعقد بالإكراه ، أو على إحراق دار أحد أو شجرة بستان ، أو على الفاحشة ، أو على أكل شيء من أموال الناس بالباطل ، كالربا والمسير والرشوة.

العرف والتراضي :

وينتظم في ذلك جميع الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات

٤٠٣

وغيرها من المعاملات الدنيوية ، فالاصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع ، وهذا في منتهى الوضوح والإحكام. هذا وقد صنّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا سماه «مدارك القياس» في موضوع العقود استوفى فيه هذا الموضوع ، مؤيدا بدلائل الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح ، فليرجع اليه من شاء.

رواية عن الفيلسوف الكنديّ :

ذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال : نعم أعمل مثل بعضه. فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فاذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث ، وحلّل تحليلا عاما ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، لا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.

أي مجلدات كثيرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

٤٠٤

وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

اللغة :

(الشعائر) : جمع شعيرة ، وهي العلامة. ثم جعلت علامة لشعائر الحجّ ومناسكه.

(الهدي) ما يهدى الى الكعبة ليذبح هناك ويتقرب به الى الله ، قال :

يقولون : من هذا الغريب بأرضنا

أما والهدايا إنني لغريب

(القلائد) : جمع قلادة وهي ما يعلق في العنق. وكانوا يعلقون في أعناق الإبل من الهدي نعلا أو حبلا أو عروة مزادة أو لحاء شجر وغيره ليعرف ، فلا يتعرض له أحد. فهو على حذف مضاف ، أي :ولأصحاب القلائد.

(آمِّينَ) بتشديد الميم المكسورة ، أي : قاصدين.

(يَجْرِمَنَّكُمْ) : مضارع جرمه الشيء إذا حمله عليه وجعله يجرمه أي يكسبه ويفعله ، وهو يجري مجرى «كسب» في تعديه الى مفعول واحد واثنين.

(الشنآن) : شدة البغض. يقال : شنئت الرجل أشنؤه ، أي : أبغضه. وهذا المصدر سماعي مخالف للقياس من وجهين : تعدي فعله

٤٠٥

وكسر عينه ، لأنه لا ينقاس إلا في مفتوحها اللازم. وله مصادر كثيرة ، أنهاها بعضهم الى ثلاثة عشر مصدرا ، وأشهرها : شنئا وشنئا وشنئا وشنأة وشنآنا وشنآنا ومشنأ ومشنأة ومشنوءة.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) يا أيها الذين آمنوا تقدم اعرابها كثيرا ، ولا ناهية وتحلوا مضارع مجزوم بها والواو فاعل وشعائر الله مفعول به (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ولا الشهر الحرام عطف على شعائر ، والحرام صفة للشهر ، وهو شهر الحج ، وهو ذو القعدة ، وأكد الطبري أنه رجب. وما بعده عطف عليه أيضا. ولا آمّين أي : ولا تحلوا قوما آمّين ، فهو صفة لموصوف محذوف ، والمعنى : لا تحلّوا قتالهم ما داموا قاصدين البيت الحرام. وهذا رمز للسلام الذي نادى به القرآن. والبيت مفعول لآمّين لأنه اسم فاعل (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) الجملة حال من الضمير في «آمّين» أي : حال كون الآمّين مبتغين فضلا. وفضلا مفعول به ، ومن ربهم متعلقان بيبتغون ، أو بمحذوف صفة لـ «فضلا» ورضوانا معطوف عليه (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) الواو عاطفة ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة حللتم في محل جر بالإضافة ، والفاء رابطة لجواب إذا ، واصطادوا (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) الواو حرف عطف ، ولا ناهية ، ويجرمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا ، والكاف مفعوله الأول ،

٤٠٦

وشنآن قوم فاعل ، وأن صدوكم مصدر مؤوّل منصوب بنزع الخافض وهو علة للشنآن متعلق به ، وعن المسجد جار ومجرور متعلقان بصدوكم ، وأن تعتدوا مصدر مؤول مفعول به ثان ليجرمنكم ، والمعنى : ولا يكسبنكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام الاعتداء ولا يحملنكم عليه (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) الواو عاطفة ، وتعاونوا فعل أمر والواو فاعل ، وعلى البر متعلقان بتعاونوا ، والتقوى عطف على البر (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتعاونوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التاءين مجزوم بلا ، أي :لا تتعاونوا ، وعلى الإثم متعلقان به ، والعدوان عطف عليه (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) عطف أيضا ، وجملة إن واسمها وخبرها لا محل لها لأنها تعليلية.

الفوائد :

كانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة ، ومختلفة في رجب ، فشدّد تعالى أمره. وهذا هو وجه التخصيص بذكره.

وقيل الشهر مفرد محلى بأل الجنسية ، فالمراد عموم الأشهر الحرم ، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب.

٤٠٧

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

اللغة :

(أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) : الإهلال رفع الصوت به لغير الله ، وهو قولهم عند ذبحه : «باسم اللّات والعزّى» ويقال : «أهلّ فلان بالحج» إذا رفع صوته بالتلبية. ومنه : «استهلّ الصبيّ» إذا رفع صوته بالبكاء عند الولادة.

(الْمُنْخَنِقَةُ) قال صاحب القاموس : خنقه خنقا ككتف فهو خنق ، وانخنقت الشاة بنفسها ، ولا يسري على هذا الفعل حكم المطاوعة ، وإنما المطاوع هو اختنق ، وعلى هذا تشمل المنخنقة التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بسبب ، ولهذا تفصيل في كتب الفقه.

(الْمَوْقُوذَةُ) : هي التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر غير محدّد حتى ماتت. قال في القاموس : الوقذ : شدة الضرب. وقال في شرحه تاج العروس : الموقوذة هي التي تقتل بعصا أو بحجارة لا حدّ لها حتى انحلّت قواها وماتت. ولا يخفى ما في الوقذ من تعذيب للحيوان.

٤٠٨

(الْمُتَرَدِّيَةُ) : هي التي تردّت من مكان مرتفع فماتت.

(النَّطِيحَةُ) هي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح.

وسيأتي بحث ممتع عن هذه الصيغة في باب الفوائد.

(ذَكَّيْتُمْ) أي أدركتم ذكاته ، وهو يضطرب وتشخب أوداجه.

والذكاة والتذكية في أصل اللغة إتمام فعل خاص ، يقال : ذكت النار تذكو ذكوّا وذكا وذكاء إذا تم اشتعالها ، وذكت الشمس إذا اشتدت حرارتها ، وذكى وذكي كرمى ورضي تمت فطنته ، قال في اللسان : «والذّكاء شدة وهج النار ، يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها ورفعتها ، والذّكا : تمام إيقاد النار ، مقصور يكتب بالألف» والذّكاء في الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول.

(النُّصُبِ) : قال الراغب في مفرداته : نصب الشيء وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر ، والنّصيب : الحجارة تنصب على الشيء ، وجمعه نصائب ونصب بضمتين ، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها ، قال : «كأنّهم إلى نصب يوفضون» وقد يقال في جمعه أنصاب. وقال في اللسان : «والنّصب بالفتح والنّصب بالضم والنّصب بضمتين الداء والبلاء والشرّ وفي التنزيل : «مسّني الشيطان بنصب وعذاب» والنّصيبة والنّصب بضمتين كلّ ما نصب فجعل علما ، فالنصب مفرد وجمع ، قال الأعشى :

وذا النّصب المنصوب لا تعبدنّه

لعاقبة والله ربّك فاعبدا

واستعماله اليوم للنصب التذكاري سليم لا غبار عليه.

٤٠٩

(الأزلام) جمع زلم بفتحتين وكصرد أي بضم ففتح : قدح صغير لا ريش له ولا نصل ، وهي سهام كانوا يستقسمونها في الجاهلية ، جمعه أزلام ، كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب بالقداح أي أجالها ، وكانت ثلاثة مكتوب على إحداها : أمرني ربي ، وعلى الثاني : نهاني ربي ، والثالث غفل ، ليس عليه شيء. فإن خرج الآمر مضى لطيته ، أي : لنيته التي انتواها ، وإن خرج الناهي لم يفعل وأمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الاستقسام.

(المخمصة) : المجاعة.

(مُتَجانِفٍ) : منحرف مائل ، من الجنف وهو الميل والجور.

الاعراب :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أجمله في السابق وهو قوله تعالى : «إلا ما يتلى عليكم».

وحرمت فعل ماض مبني للمجهول وعليكم متعلقان بحرمت ، والميتة نائب فاعل ، والدم ولحم الخنزير معطوفان على الميتة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) عطف أيضا ، وما اسم موصول ، وأهل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هو ، والجملة صلة الموصول ، ولغير الله متعلقان بأهل ، وبه متعلقان بأهلّ أيضا (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) كلها معطوفة داخلة في حكم المحرمات (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) إلا أداة استثناء وما اسم موصول مستثنى متصل منصوب ، وجملة ذكيتم صلة الموصول ، وجملة الاستثناء حالية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)

٤١٠

الجملة معطوفة على المحرمات (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) المصدر المؤوّل معطوف أيضا ، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام (ذلِكُمْ فِسْقٌ) مبتدأ وخبر ، والجملة مستأنفة ، واسم الاشارة راجع الى الاستقسام بالأزلام خاصة ، وقيل : الى جميع ما تقدم (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) اليوم ظرف زمان متعلق بيئس وأراد به مطلق الحال ، لا يوما بعينه ، على حد قول أبي العلاء المعري :

الآن لما ابيضّ مسربتي

وعضضت من نابي على جذم

حلبت هذا الدهر أشطره

وأتيت ما آتي على علم

فقوله : «الآن» أراد به الزمان الحاضر ، والمسربة : شعر الصدر ، وهو آخر ما يشيب من الإنسان ، فبياض المسربة كناية عن بلوغه غاية الشوط في الشيب ، وخاتمة المطاف في العمر. ومعنى البيتين : صارت عادتي أني أفعل ما أفعله على علم عندي من طول تجربتي لحوادث الدهر ، والجملة مستأنفة ، والذين اسم موصول فاعل وجملة كفروا صلة ، ومن دينكم متعلقان بيئس ، أي : من إبطال أمر دينكم (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) الفاء الفصيحة ، ولا ناهية ، وتخشوهم فعل مضارع مجزوم بلا ، واخشوني فعل أمر وفاعل ومفعول به ، والجملة لا محل لها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) اليوم ظرف زمان متعلق بأكملت ، ولكم متعلقان بها أيضا ، ودينكم مفعول به لأكملت ، والجملة مستأنفة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) عطف على ما تقدم ، وعليكم متعلقان بأتممت ونعمتي مفعول به لأتممت (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الواو استئنافية ، ورضيت فعل وفاعل ، لكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لـ «دينا» ، ودينا مفعول به أو تمييز ، لأن معنى رضيت جعلت. وإذا كانت بمعنى الرضا كانت «دينا» حالا من

٤١١

الإسلام ولكم متعلقان برضيت (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ، واضطر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ونائب الفاعل هو يعود على من ، وفي مخمصة متعلقان باضطر (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غير متجانف نصب على الحال ولإثم جار ومجرور متعلقان بمتجانف ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وإن واسمها وخبراها ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من».

الفوائد :

صيغة «فعيل» إذا كانت بمعنى مفعول يستوي فيها المذكر والمؤنث ، فلا تلحقها علامة التأنيث ، إذ تقول العرب : عين كحيل لا كحيلة ، وكف خضيب لا خضيبة ، فكيف لحقت التاء «نطيحة» وهي بمعنى منطوحة؟ وقد قيل في الجواب : إن التاء هنا للنقل من الوصفية الى الاسمية ، أو إن فعيلا هنا بمعنى فاعل ، كأنه قال :

والناطحة التي تموت بالنطاح ، أي تنطح غيرها ، وغيرها ينطحها ، فتموت. وقال الكوفيون : إنما يمتنع إلحاق التاء بفعيل بمعنى مفعول إذا كان وصفا لموصوف مذكور ، كعين كحيل ، فأما إذا لم يسبق للموصوف ذكر فلا يمتنع إلحاق التاء. وهذا تعليل جميل ، فإن «ذبيحة» و «نطيحة» ونحوهما إذا لم يسبقهما موصوف لم يعلم : أهي مذكر أم مؤنث؟مثل : رأيت جريحة ، أما إذا علم فلا ، نحو : رأيت امرأة جريحا ، أو رأيت جريحا ملقاة في الطريق.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما

٤١٢

عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

اللغة :

(الْجَوارِحِ) : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والعقاب.

(مُكَلِّبِينَ) : المكلّب اسم مفعول من كلّب ، أي : المضرى بالصيد من هذه الجوارح ، والمروّض منها على الافتراس ، لأن الترويض أكثر ما يكون للكلب ، فاشتقّ من لفظه لشيوع الغلبة عليه.

الاعراب :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) جملة مستأنفة مسوقة للاجابة عن سؤالهم : ماذا أحل لهم؟ ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به ، وماذا : تقدم أن لنا في اعرابها وجهين : إما أن نجعل ماذا كلها اسم استفهام مبتدأ ، وجملة أحل لهم خبره ، وإما أن نجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر ، وجملة أحل لهم صلة الموصول. والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك ، وقد نصوا على أن فعل السؤال يعلّق عن العمل وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنه سبب العلم ، فكما يعلق العلم فكذلك يعلق سببه (قُلْ : أُحِلَّ لَكُمُ

٤١٣

الطَّيِّباتُ) جملة قل استئنافية ، وجملة أحل لكم الطيبات في محل نصب مقول القول ، ولكم متعلقان بأحل والطيبات نائب فاعل (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) الواو عاطفة ، وما اسم موصول معطوف على الطيبات ، وجملة علمتم صلة الموصول ، ومن الجوارح متعلقان بمحذوف حال ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما اسم الموصول وهو «ما» ، والثاني أنه العائد المحذوف على اسم الموصول ، أي : علمتموه.

ومكلبين حال من علمتم ، أفادت أن التعليم يحتاج الى الخبرة التامة والمقدرة المتناهية ، وأن على المتعلم أن يأخذ العلم عن أربابه الأكفياء.

وأجاز بعضهم أن تكون الواو استئنافية وما شرطية في محل رفع على الابتداء ، وجواب الشرط هو فكلوا ، وهو اعراب سائغ (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) جملة تعلمونهن حال ثانية أو استئنافية ، ومما متعلقان بتعلمونهن ، وجملة علمكم الله صلة الموصول. ومفعولا علمتم وتعلمونهن الثانيين محذوفان ، والتقدير : وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهن ، تعلمونهن ذلك (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الفاء الفصيحة أو رابطة لجواب الشرط على الاعراب الثاني ، ومما متعلقان بكلوا ، وجملة أمسكن صلة «ما» وعليكم متعلقان بأمسكن (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) الواو عاطفة ، والجملة عطف على جملة فكلوا ، وجملة فكلوا لا محل لها ، أو في محل جزم جواب الشرط (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) عطف على ما تقدم ، وإن واسمها وخبرها.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ

٤١٤

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

اللغة :

(حِلٌّ) : مصدر بمعنى حلال ، فلا يثنى ولا يجمع.

(مُحْصِنِينَ) : أعفاء ، أحصنوا أنفسهم بالزواج ، ولم يتطلعوا الى الزنا فعلا ولا قصدا.

(أَخْدانٍ) : جمع خدن بكسر الخاء ، وهو يقع على المذكّر والمؤنّث.

الاعراب :

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) كلام مستأنف مسوق لتكرير ذكر الطيبات التي أحلت لكم يوم السؤال عنها ، أو اليوم الذي أكملت لكم دينكم. وقيل : ليس يوما معينا. واليوم ظرف زمان متعلق بأحل ، وأحل فعل ماض مبني للمجهول ، ولكم متعلقان بأحل ، والطيبات نائب فاعل (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) الواو استئنافية ، وطعام مبتدأ ، والذين مضاف اليه ، وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل ، والكتاب مفعول به ثان ، والجملة صلة

٤١٥

الموصول ، وحل خبر طعام ، ولكم متعلقان بحل ، وطعامكم حل لهم عطف على ما تقدم (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الواو استئنافية أو عاطفة ، والمحصنات مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبله ، أي : حلّ لكم ، ومن المؤمنات متعلقان بمحذوف حال من المحصنات ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم عطف على ما تقدم ، ومن قبلكم متعلقان بمحذوف حال (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) الظرف إذا متعلق «بحل» المحذوفة ، آتيتموهن فعل ماض وفاعل ومفعول به أول ، والجملة في محل جر بالإضافة ، وأجورهن مفعول به ثان ، ومحصنين حال وغير مسافحين حال ثانية ، ولا متخذي أخدان عطف على مسافحين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الواو استئنافية ، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ، ويكفر فعل الشرط ، وبالايمان متعلقان بيكفر ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وقد حرف تحقيق ، وحبط عمله فعل وفاعل ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو حرف عطف وهو مبتدأ وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال ومن الخاسرين متعلقان بمحذوف خبر «هو».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا

٤١٦

صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

اللغة :

(الْمَرافِقِ) : جمع مرفق بكسر الميم وفتح الفاء ، وبفتح الميم وكسر الفاء ، وهو الموصل بين الساعد والعضد. وجمعه وثنّى الكعبين لأن للانسان مرفقا واحدا في كل يد ، فناسب أن يذكر بالنسبة للجميع بالجمع ، بعكس الكعبين فان الكعبين هما العظمان الناشزان من جانبي القدم ، فناسب أن يذكر الاثنان من كل رجل. وسبب آخر وهو أن جمع المرفق لفظ مأنوس في الكلام ، أما جمع الكعب فهو لفظ لا يخلو ذكره في الكلام ، إذ يجمع على كعاب وكعوب وأكعب ، وهذا أمر مرّده الى الذوق وحده.

(الْغائِطِ) : المطمئن من الأرض والمنخفض منها ، ويقصد به هنا قضاء الحاجة كما سيأتي في باب البلاغة.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام الوضوء لأداء فريضة الصلاة ، وهي أعظم الطاعات بعد الايمان. وإذا ظرف مستقبل

٤١٧

متضمن معنى الشرط متعلق بقوله فاغسلوا ، وجملة قمتم في محل جر بالإضافة ، والى الصلاة متعلقان بقمتم ، والفاء رابطة ، وجملة اغسلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ووجوهكم مفعول به (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) وأيديكم عطف على وجوهكم ، والى حرف جر يدل على معنى الغاية والانتهاء مطلقا ، ودخولها في الحكم وخروجها منه أمر يدور مع الدليل ، فمما فيه دليل على الخروج قوله تعالى : «فنظرة الى ميسرة» لأن الإعسار علة الإنظار ، وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منتظرا في كلتا الحالين معسرا وموسرا. وكذلك «ثم أتموا الصيام الى الليل» ولو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظت القرآن من أوله الى آخره ، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه في القرآن : «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى» ومعلوم أنه لا يسري به الى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله تعالى :

«إلى المرافق» و «إلى الكعبين» لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ العلماء بالأحوط ، فحكموا بدخولها في الغسل. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) عطف على ما تقدم.

وقد كثر الاختلاف حول هذه الباء ، فقال بعضهم هي زائدة ، وقال بعضهم : هي للتبعيض ، كقول عمر بن أبي ربيعة :

فلثمت فاها آخذا بقرونها

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وقال بدر الدين بن مالك : وفيه تأييد لمذهب الشافعي في مسح بعض الرأس. وأنكر ذلك محب الدين أبو البقاء العكبري ، وقال الشيخ شهاب الدين القرافي : إذا قلت : مسحت بالمنديل ، وكتبت

٤١٨

بالقلم ، وطفت بالبيت ، فمن المعلوم أنك ما مسحت بكل المنديل ، ولا كتبت بكل القلم ، ولا طفت بكل البيت ، علوا وسفلا ، وظهرا وبطنا ، وإنما مسحت ببعض ذا وكتبت ببعض ذا وطفت بظاهر ذا ، واختار ابن هشام والزمخشري أن تكون الباء للإلصاق ، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. وقد أخذ مالك وأحمد بالاحتياط فأوجبا الاستيعاب ، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح ، وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما روي أنه مسح على ناصيته ، وقدّر الناصية بربع الرأس. وإنما أطلنا في هذا البحث لطرافته ، ورياضته للذهن. والجار والمجرور متعلقان بامسحوا ، وسيأتي مزيد بحث عنه. (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب :وأرجلكم ، بالفتح ، أي : واغسلوا أرجلكم الى الكعبين ، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين. وقرأها الباقون : ابن كثير وحمزة وأبو عمرو بالجر ، والظاهر أنه عطف على الرأس ، أي :وامسحوا بأرجلكم الى الكعبين. ومن هنا اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما ، فجماهير أهل السنة على أن الواجب هو الغسل وحده ، والشيعة والإمامية أنه المسح. وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية : يجب الجمع بينهما. وقد رأى ابن جرير الجمع بين القولين للاحتياط. وقد عللوا تأخيره في قراءة النصب بأن صب الماء مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث المسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقد أطالوا في التخريج والتأويل إطالة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب ، وهي ناشئة عن الولع بالتحقيق والوصول الى ما هو أجدى وأسلم ، ولهذا جنح ابن جرير الى الجمع ، وفيه من حسن النية ، وسلامة الطوية

٤١٩

الشيء الكثير. (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، وكنتم كان واسمها ، وهي فعل الشرط ، وجنبا خبر كنتم ، وجملة اطهروا جواب الشرط (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) الواو عاطفة وإن شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسمها ومرضى خبرها ، أو حرف عطف ، وعلى سفر متعلقان بمحذوف خبر ثان لكنتم ، وجاء عطف على كنتم ، وأحد فاعل جاء منكم متعلقان بمحذوف صفة لأحد ، ومن الغائط متعلقان بجاء ، وأو حرف عطف ، ولامستم النساء عطف على ما تقدم (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) الفاء حرف عطف ولم تجدوا عطف أيضا ، وماء مفعول به ، والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة فتيمموا صعيدا في محل جزم جواب الشرط ، وطيبا صفة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) عطف على ما تقدم ، ومنه متعلقان بامسحوا (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة من شرائع الدين. وما نافية ، يريد الله فعل وفاعل ، واللام للتعليل ، ويجعل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، وأن المضمرة والفعل المضارع مصدر مؤول مفعول يريد والجعل إما بمعنى الإيجاد والخلق فيتعدى لمفعول به واحد ، وعليكم متعلقان به ، ومن حرف جر زائد ، وحرج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول بجعل : وإما من الجعل ، أي : التصيير ، فيكون عليكم هو المفعول الثاني (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك وهي هنا مهملة لأنها مخففة ويريد فعل مضارع ، وفاعله هو واللام للتعليل ، ويطهركم منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والجار والمجرور متعلقان بيريد. وليتم نعمته عليكم عطف عليه ، ولعل واسمها ، وجملة تشكرون في محل رفع خبرها ، وجملة الرجاء حالية.

٤٢٠