إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٢

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٤

هل هي إلا حظة أو تطليق

أو صلف أو بين ذاك تعليق

وهذا بيت طريف ، تستنكر الشاعرة حالة الزوجة مع زوجها ، وتصفها بأنها ليست سوى حظة صغيرة بحظوة الزوج بها ، أو تطليق لها ، أو صلف ، أي عدم حظوة من الزوج. يقال : نساء صلائف وصالفات : لم يحظهنّ الزوج ، أو تعليق بين ذلك المذكور من الأحوال.

والحظ النصيب والجد ، ولعل الحظة واحد الحظّ ، وصلفت المرأة صلفا إذا لم تحظ عند زوجها وأبغضها.

الاعراب :

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة لتقرير حكم من أهم الأحكام ، ومعالجة لأخطر موضوع اجتماعي. وأن شرطية وامرأة فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده ، ولا يجوز رفعها على الابتداء ، لأن الشرط يتقاضى الفعل ، وجملة خافت من بعلها مفسرة لا محل لها ، ومن بعلها متعلقان بخافت أو بمحذوف حال ، لأنه كان صفة في الأصل لـ «نشوزا» فلما قدم عليها أعرب حالا. ونشوزا مفعول به وإعراضا عطف على «نشوزا» (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) الفاء رابطة ، ولا نافية للجنس ، وجناح اسمها ، وعليهما متعلقان بمحذوف خبرها ، وأن يصلحا بينهما مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض أي : في أن يصلحا ، والجار والمجرور متعلقان بجناح أو بمحذوف صفة له ، وبينهما ظرف متعلق بمحذوف حال ، لأنه كان صفة لـ «صلحا» ثم تقدمت الصفة على الموصوف فأعربت حالا. وصلحا مفعول مطلق وتفاصيل الصلح مبسوطة في كتب الفقه (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) الواو اعتراضية ، والجملة من

٣٤١

المبتدأ والخبر معترضة لا محل لها (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) الواو اعتراضية أيضا ، وأحضرت فعل ماض مبني للمجهول ، والأنفس نائب فاعل ، والشحّ مفعول به ثان ، والجملة معترضة أيضا (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) الواو عاطفة أو استئنافية ، وإن شرطية وتحسنوا فعل الشرط وتتقوا عطف عليه ، وجواب الشرط محذوف للعلم به ، أي : فالاحسان والاتقاء خير ، والفاء تعليلية ، وإن واسمها ، وجملة كان خبرها ، وبما تعملون متعلقان بـ «خبيرا» ، وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وخبيرا خبر كان (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) الواو استئنافية ، ولن حرف نفي ونصب واستقبال ، وتستطيعوا مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون ، وأن تعدلوا مصدر مؤول مفعول به لتستطيعوا ، وبين النساء ظرف متعلق بتعدلوا (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) الواو حالية ، ويسميها بعضهم وصلية ، ولو شرطية ، وحرصتم فعل وفاعل (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا عرفتم ذلك فلا تميلوا ، فتكون الجملة لا محل لها ، ولا ناهية ، وتميلوا مضارع مجزوم بلا ، وكل الميل مفعول مطلق ، فتذروها الفاء هي السببية ، فتنصب تذروها بأن مضمرة بعدها ، لأنها وقعت في جواب النهي ، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة ، فتجزم «تذروها» عطفا على تميلوا ، وكالمعلقة الكاف اسم بمعنى مثل فتكون في محل نصب على الحال من الهاء في تذروها ، أو هي جارّة فيتعلق الجار والمجرور بمحذوف على الحالية كما تقدم ، أي :

مشابهة للمعلقة. (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تقدم اعراب مثيلتها قريبا (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، ويتفرقا فعل الشرط وألف الاثنين فاعل ، ويغن جواب الشرط علامة جزمه حذف حرف العلة ، والله فاعل ، وكلّا

٣٤٢

مفعول به ، ومن سعته متعلقان بـ «يغن» (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) تقدم إعرابه كثيرا.

الفوائد :

١ ـ إذا وقع ما هو فاعل في المعنى بعد أداة مختصة بالأفعال أعرب فاعلا لفعل محذوف يفسّره الفعل المذكور بعده ، لأن اختصاص هذه الأدوات بالفعل يحتم ذلك ، وإلا وقع التناقض ، وذلك مثل أدوات الشرط. وأجاز الكوفيون وبعض البصريين إعرابه مبتدأ ، وساغ الابتداء به إذا كان نكرة تقدمت أداة الشرط عليه ، أما إذا كانت الأداة مترجحة بين الفعل والاسم نحو : «أبشر يهدوننا» فيجوز إعرابه «بشر» مبتدأ ، وهو الأرجح ، وجملة يهدوننا خبره ، ويجوز إعرابه فاعلا لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعده ، وهو «يهدوننا» ، لأن همزة الاستفهام تتعاور كلّا من الاسم والفعل.

٢ ـ يجوز حذف ما علم من شرط إذا كانت الأداة «إن» أو «من» حال كونها مقرونة بـ «لا» النافية ، كقول الأحوص :

فطلّقها فلست لها بكفء

وإلا يعل مفرقك الحسام

أي وإلّا تطلقها يعل مفرقك الحسام. وقد يتخلف واحد من «إن» والاقتران بلا ، وقد يتخلفان معا. فالأول ما حكاه ابن الأنباري في الإنصاف عن العرب : من يسلّم عليك فسلم عليه ، ومن لا فلا تعبأ به. أي : ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به. والثاني نحو :

٣٤٣

«وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا» فحذف الشرط مع انتفاء الاقتران بـ «لا» ، أي : وإن خافت امرأة خافت ...

والثالث كقوله :

متى تؤخذوا قسرا بظنّة عامر

ولم ينج إلا في الصفاد أسير

أي متى تثقفوا تؤخذوا ، فحذف الشرط مع انتفاء الأمرين.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢))

الاعراب :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ، ولله متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ، وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وما في الأرض عطف على ما في السموات (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) الواو استئنافية ، واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق ووصينا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة أوتوا الكتاب صلة

٣٤٤

والكتاب مفعول به ثان لـ «أوتوا» وجملة قد وصينا لا محل لها لأنها جواب للقسم المقدّر ، ومن قبلكم متعلقان بمحذوف حال ، وإياكم عطف على الذين ، أي : ووصيناكم (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أن مفسرة بمعنى أي ، لأن التوصية في معنى القول ، أو مصدرية ، وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ، أي : بأن اتقوا والجار والمجرور متعلقان بوصينا (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو حرف عطف ، وإن حرف شرط جازم ، وتكفروا فعل الشرط والجواب محذوف تقديره : فلن تضروه شيئا ، والفاء عاطفة ، وإن حرف مشبه بالفعل ولله متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم ، وما اسم موصول اسم إنّ المؤخر ، وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وما في الأرض عطف على ما في السموات (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) الواو عاطفة وكان واسمها وخبراها (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «ما» المقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وما في الأرض عطف على ما في السموات (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) الواو استئنافية وكفى فعل ماض ، والباء حرف جر زيد بالفاعل وهو الله ، ووكيلا تمييز.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

٣٤٥

الاعراب :

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) إن شرطية ويشأ فعل الشرط ، ويذهبكم جواب الشرط وأيها الناس تقدم إعرابه ويأت عطف على بذهبكم ، وبآخرين جار ومجرور متعلقان بيأت (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) الواو حالية أو استئنافية ، وكان واسمها ، وقديرا خبرها ، وعلى ذلك متعلقان بـ «قديرا» (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) من اسم شرط جازم مبتدأ ، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، واسمها مستتر يعود على «من» ، وجملة يريد خبرها ، وثواب الدنيا مفعول به (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الفاء رابطة للجواب ، وعند ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ، ولفظ الجلالة مضاف اليه ، وثواب الدنيا والآخرة مبتدأ مؤخر ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) الواو استئنافية ، وكان واسمها وخبراها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥))

٣٤٦

اللغة :

(القسط) العدل. وفي المصباح المنير : قسط يقسط قسطا ، من باب ضرب : جار وعدل أيضا ، فهو من الأضداد ، قاله ابن القطّاع. وأقسط بالألف : عدل ، والاسم القسط بالكسر.

(تَلْوُوا) : تميلوا ألسنتكم معرضين عن الحق. ويقال : لواني الرجل حقي ، والقوم يلوونني ديني وذلك إذا مطلوه ليّا. فالمراد باللي المطل ، قال الأعشى :

يلوينني ديني النّهار وأقتضي

ديني إذا وقذ النّعاس الراقدا

وهذا البيت من أبيات جياد أولها :

إن الغواني لا يواصلن امرأ

فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعراب نظائره (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) كلام مستأنف مسوق للقيام بالقسط مع الغنيّ والفقير على السواء ، وكونوا فعل أمر ناقص والواو اسمها ، وقوامين خبرها ، وبالقسط متعلقان بقوامين (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) شهداء خبر ثان لكونوا ، ولله جار ومجرور متعلقان بشهداء والواو حالية ، ولو شرطية ، وعلى أنفسكم متعلقان بمحذوف خبر لكان المحذوفة هي واسمها بعد لو الشرطية ، أي : ولو كانت الشهادة على أنفسكم ،

٣٤٧

وجواب لو محذوف ، أي فلا تحجموا عن أداء الشهادة. (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) عطف على أنفسكم (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) إن شرطية ويكن فعل مضارع ناقص فعل الشرط واسم يكن ضمير مستتر تقديره : المشهود عليه ، وغنيا خبر يكن ، أو حرف عطف وفقيرا عطف على «غنيا» ، فالله الفاء رابطة لجواب الشرط ، والله مبتدأ وأولى خبر وبهما متعلقان بأولى ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) الفاء الفصيحة ولا ناهية ، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، والهوى مفعول به ، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول لأجله من «تعدلوا» ، إما من العدل فيكون التقدير كراهية أن تعدلوا وإما من العدول فيكون التقدير : بغية أن أن تعدلوا (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) الواو عاطفة وإن شرطية ، تلووا فعل الشرط ، أو تعرضوا عطف عليه ، وجواب الشرط محذوف دلت عليه الفاء الرابطة ، والتقدير يعاقبكم ، وإن واسمها ، وجملة كان خبرها وبما تعملون متعلقان بـ «خبيرا» ، وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وخبيرا خبر «كان» والجملة كلها تعليل لما تقدم لا محل لها.

الفوائد :

١ ـ اختلف النحاة في عود الضمير في قوله : «بهما» ، والقاعدة أنه إذا عطفت بـ «أو» كان الحكم في عود الضمير أو الاخبار وغيرهما لأحد الشيئين أو الأشياء ، فتقول : زيد أو عمرو أكرمته ، ولا يقال : أكرمتهما ، وعلى هذا يرد الاعتراض الآتي : كيف ثنى الضمير في قوله «بهما» والعطف بـ «أو»؟ وتقرير الجواب يتلحص فيما يلي :

٣٤٨

أ ـ إن الضمير في «بهما» ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين ، بل على جنس الغني والفقير ، والجنس واحد.

ب ـ إن «أو» ليست للتخيير بل للتفصيل ، وهذا ما جنح اليه أبو البقاء ، فقال ما معناه : إن كل واحد من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا ، وقد يكونان غنيين وقد يكونان فقيرين ، فلما كانت الأقسام عند التفصيل على ذلك ، ولم تذكر ، أتى بـ «أو» لتدل على التفصيل ، فعلى هذا يكون الضمير في «بهما» عائدا على المشهود له والمشهود عليه. على أيّ وصف كانا عليه.

عبارة ابن جرير :

أما ابن جرير فقال : أريد : فالله أولى بغنى الغنيّ وفقر الفقير ، لأن ذلك منه لا من غيره ، فلذلك قال : «بهما» ولم يقل «به».

وقال آخرون : أو بمعنى الواو في هذا الموضع.

٢ ـ كثر حذف «كان» واسمها بعد «إن» و «لو» الشرطيتين.

لأن «إن» أمّ الأدوات الجازمة ، و «لو» أم الأدوات غير الجازمة ، كما أن «كان» أمّ بابها. وهم يتوسّعون في الأمهات ما لم يتوسعوا في غيرها. ومن أمثلة حذف كان واسمها بعد إن في الشعر قول النعمان بن المنذر :

قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا

فما اعتذارك من قول إذا قيلا

أي : إن كان المقول صدقا وإن كان المقول كذبا. ومن أمثلة حذفها مع اسمها بعد «لو» قول الآخر :

٣٤٩

لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السهل والجبل

أي : ولو كان الباغي ملكا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) كلام مستأنف مسوق للأمر بالثبات على الايمان.

وآمنوا فعل أمر والواو فاعل ، وبالله متعلقان بآمنوا ، ورسوله عطف على الله ، والكتاب عطف أيضا ، والذي صفة للكتاب ، وجملة نزل على رسوله صلة الموصول (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) والكتاب عطف أيضا ، أي جنس الكتاب ، فالمراد الكتب المنزّلة ، والذي صفة وجملة أنزل صلة الموصول ومن حرف جر ، وقبل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى ، والجار والمجرور متعلقان بأنزل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكفر فعل الشرط ، وبالله متعلقان بيكفر ،

٣٥٠

وما بعده عطف عليه (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) فقد الفاء رابطة لجواب الشرط ، وقد حرف تحقيق ، وضل فعل ماض وضلالا مفعول مطلق ، وبعيدا صفة. والجملة في محل جزم جواب الشرط ، وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من».

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧))

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كلام مستأنف مسوق لوصف ترجح اليهود والمنافقين في مهاوي الفتن والقلق. وإن واسمها ، وجملة آمنوا صلة ، وكرر العطف تبيانا لمآلهم وصيرورتهم وترجحهم بين الكفر والايمان ، وكفرا تمييز (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) الجملة خبر إنّ ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويكن فعل مضارع ناقص ، والله اسمها وليغفر اللام لام الجحود ، ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها ، والجار والمجرور ـ لام الجحود والمصدر المؤول ـ متعلقان بمحذوف خبر يكن ، أي : مريدا ليغفر لهم ، والجار والمجرور «لهم» متعلقان بيغفر ولا ليهديهم عطف على ما تقدم وسبيلا مفعول به ثان ليهديهم ، أو منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بيهديهم.

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ

٣٥١

أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠))

اللغة :

(بَشِّرِ) البشارة : الخبر السارّ ، وسمي الخبر السار بشارة لأنه يظهر سرورا في البشرة ، أي ظاهر الجلد. وسيأتي مزيد منه في باب البلاغة.

(العزة) : معروفة ، وأصلها في اللغة : الشدة. ومنه قيل للارض الصلبة الشديدة عزاز بفتح العين ، وقيل : قد استعزّ على المريض : إذا اشتد ، ومنه قيل : عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا أي : اشتدّ.

الاعراب :

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) كلام مستأنف مسوق للتنديد بالمنافقين. وبشر المنافقين فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ، والباء

٣٥٢

حرف جر وأن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بـ «بشّر» ، ولهم متعلقان بمحذوف خبر أن المقدم ، وعذابا اسمها المؤخر ، وأليما صفة (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين نعت للمنافقين أو منصوب على الذم لأنهم يوالون اليهود ، وجملة يتخذون صلة الموصول ، والواو فاعل والمؤمنين مفعول به أول ، وأولياء مفعول به ثان ، ومن دون المؤمنين متعلقان بمحذوف حال من فاعل يتخذون أو صفة لأولياء (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، ويبتغون فعل مضارع والواو فاعل ، وعندهم ظرف متعلق بيبتغون ، والعزة مفعول به ، والجملة مستأنفة مسوقة للإنكار عليهم ، ولك أن تجعلها نصبا على الحال ، أي : متوهمين أن لديهم العزة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) الفاء للتعليل وإن واسمها ، ولله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، وجميعا حال ، والجملة تعليلية لا محل لها (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق ، ونزل فعل ماض وفاعله مستتر ، وعليكم متعلقان بنزل ، وفي الكتاب متعلقان بنزل أيضا أو بمحذوف حال. وأن المفتوحة الهمزة هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وهي في تأويل مصدر مفعول «نزل» ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة سمعتم في محل جر بالإضافة ، وآيات الله مفعول به وجملة إذا وشرطها وجزاؤها خبر «أن» وجملة يكفر بها حالية. وجملة ويستهزأ بها عطف عليها ، وبها جار ومجرور سد مسد نائب الفاعل في الفعلين (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الفاء رابطة لجواب إذا ، ولا ناهية وتقعدوا فعل مضارع مجزوم بلا ، ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال ، وحتى حرف غاية وجر ويخوضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، والجار

٣٥٣

والمجرور متعلقان بتقعدوا ، وفي حديث متعلقان بيخوضوا وغيره صفة لحديث (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) إن واسمها ، واذن حرف جواب وجزء مهمل لتوسطه ، ومثلهم خبر إن ، ولم يطابق بين الاسم والخبر فأفرد «مثل» وأخبر بها عن الجمع كما طابق في موضع آخر فقال : «وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون» لأن «مثل» بمعنى المصدر ، وتقدير المعنى إن عصيانكم مثل عصيانهم والجملة لا محل لها لأنها تعليل للنهي (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) الجملة تعليل ثان للمثلية ، وسيأتي مزيد من هذه المثلية في باب البلاغة ، وإن واسمها وخبرها. وفي جهنم متعلقان بجامع ، وجميعا حال.

البلاغة :

١ ـ التهكم في قوله «بشر». والتهكم في الأصل اللغوي تهدّم البناء ، يقال : تهكمت البئر إذا تهدمت ، والغضب الشديد والتندّم على الأمر الفائت. وفي الاصطلاح البلاغي هو الاستهزاء والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجلال في موضع التحقير ، والبشارة في موضع التحذير ، والوعد في موضع الوعيد. وإنما بسطنا القول في هذا الفن بشيء من التفصيل لأن القرآن طافح بأمثلة التهكم ، وستأتي في مواضعها. ومن طريف هذا الفن في الشعر قول ابن الرومي :

فيا له من عمل صالح

يرفعه الله الى أسفل

وله في وصف ابن حصينة الأحدب من أبيات غاية في التهكم الذي وضع المديح موضع الهزء والسخرية :

٣٥٤

لا تظنّنّ حدبة الظهر عيبا

فهي في الحسن من صفات الهلال

وكذاك القسيّ محدودبات

وهي أنكى من الظّبا والعوالي

وإذا ما علا السنام ففيه

لقدوم الجمال أي جمال!!

وأرى الانحناء في منسر البا

زي ولم يعد مخلب الرئبال

ما رأتها النساء إلا تمنّت

لو غدت حلية لكل الرجال

وختم ابن الرومي هذه الصورة الفنية الساخرة بقوله :

وإذا لم يكن من الهجر بدّ

فعسى أن تزورني في الخيال

٢ ـ الاستعارة التصريحية التبعية في قوله «بشر» لأن البشارة الخبر السار ، وسمي بشارة لأنه يظهر سرورا في البشرة ، أي :ظاهر الجلد.

٣ ـ التشبيه في قوله : «إنكم إذن مثلهم» ، والمثلية بين الكافرين والمنافقين تظهر في الآية بين القاعدين والمقعود معهم ، فإن الذين يشايعون الكفرة ويوالونهم ويمدون أيدي الاستخذاء والذل إليهم مع قدرتهم على الصمود والتحدي هم مثل الكفرة ، وإن لم يكونوا منهم ، بل إن شرهم أشد والخطر منهم أجدر بالحذر ، لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين ، والراضي بالكفر كافر.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ

٣٥٥

وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

اللغة :

(يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) ينتظرون ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق.

وفي المصباح : «تربصت الأمر تربّصا : انتظرته. والرّبصة وزان غرفة : اسم منه ، وتربصت الأمر بفلان : انتظرت وقوعه به. ويغلب أن تردفه كلمة الدوائر ، وهي تكون دائما في الشر ، لأنها دائرة ، أي الأمور التي تدور وتحدث في الزمن من النوائب والمحن ، ولكنها هنا محتلة للخير والشر معا ، بدليل التفصيل بقوله : «فإن كان لكم فتح» إلخ ...

(نَسْتَحْوِذْ) : مضارع استحوذ ، وهو ما شذّ قياسا وفصح استعمالا ، لأن من حقه نقل حركة حرف علته الى الساكن قبلها وقلبها ألفا. كاستقام واستعاد ونحوهما. والاستحواذ : التغلب على الشيء والاستيلاء عليه ، يقال : حاذ وأحاذ ، فهو ثلاثي ورباعي بمعنى.

وأحوذ ، ومن لغة من قال أحوذ قول لبيد في صفة غير وأتن :

إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها

وأوردها على عوج طوال

الاعراب :

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) اسم الموصول صفة للمنافقين أو منصوب

٣٥٦

على الذم ، وجملة يتربصون بكم صلة الموصول (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟) الفاء استئنافية ، وإن شرطية ، وكان فعل ماض ناقص فعل الشرط ، ولكم متعلقان بمحذوف خبرها المقدم ، وفتح اسمها المؤخر ، ومن الله متعلقان بمحذوف صفة لفتح ، وقالوا فعل وفاعل في محل جزم جواب الشرط ، وجملة ألم نكن معكم في محل نصب مقول القول ، ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر نكن (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) الواو عاطفة وإن شرطية ، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، وللكافرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم ، ونصيب اسمها المؤخر (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) قالوا فعل وفاعل في محل جزم جواب الشرط ، وجملة ألم نستحوذ عليكم في محل نصب مقول القول (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نمنعكم عطف على نستحوذ ، ومن المؤمنين متعلقان بنمنعكم (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الفاء استئنافية ، والله مبتدأ ، وجملة يحكم خبر ، وبينكم ظرف متعلق بيحكم ، وكذلك يوم القيامة (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) الواو عاطفة ، ولن حرف نفي ونصب واستقبال ، ويجعل مضارع منصوب بلن ، والله فاعل ، وللكافرين متعلقان بيجعل بمثابة مفعولها الاول ، وسبيلا مفعولها الثاني. وعلى المؤمنين متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لسبيلا وتقدمت عليه.

البلاغة :

في هذه الآية مجاز مرسل ، وذلك في قوله «فتح» فقد سمى الظفر الذي ناله المسلمون فتحا باعتبار ما يئول اليه الظفر. لأنه أمر تبتهج له النفوس ، وتطمئن اليه القلوب ، وتتفتح له أبواب السماء.

٣٥٧

وقد رمق الشعراء سماء هذا المعنى وكان السابق في هذا الميدان أبا تمام الطائي في قصيدته فتح الفتوح التي مدح بها المعتصم بالله ، ووصف وقعة عمورية ، وقد قالها سنة مئتين وثلاث وعشرين للهجرة.

وعمّورية من أعظم بلاد الروم في آسية الصغرى. وكان السبب في زحف المعتصم إليها أن تيوفيل بن ميخائيل ملك الروم خرج الى بلاد المسلمين فبلغ زبطرة ، وهي بلدة في آسية الصغرى بين ملطية وسميساط ، وفيها ولد المعتصم ، فاستباحها قتلا وسبيا ، ثم أغار على ملطيه وغيرها ، فقتل وسبى ومثّل بالأسرى. وبلغ الخبر المعتصم فاستعظمه ، وقيل : إن عربية صاحت وهي في أيدي الروم : وا معتصماه! فأجاب وهو على سريره : لبيك ، لبيك. ونهض ونادى بالنفير وسار الى عمورية. وتقول الرواية العربية : إنها المدينة التي ولد فيها تيوفيل ، وحاصرها واستدل على عورة في السور فرمى السور من هذه الناحية فتصدع ، ودخل العرب المدينة ، وذبحوا سكانها وأحرقوها وسبوا نساءها وأولادها ، وكان أبو تمام في صحبته وشهد الواقعة بنفسه ، وكان المنجمون قد زعموا للمعتصم أن الزمان لا يوافق الفتح ، وأن المدينة لا تفتح إلا في وقت نضج التين والعنب ، فلم يسمع المعتصم لقولهم وسار بجيشه ففتحها. ونجد أبا تمام يتحدث عن هذا كله في قصيدته فكأنها سجل تاريخي لهذه الموقعة العظيمة ، وقد استهلها بقوله :

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والريب

٣٥٨

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به

نظم من الشعر أو نثر من ا

لخطب فتح تفتح أبواب السماء له

وتبرز الأرض في أثوابها القشب

ثم يقول مخاطبا المعتصم :

لقد تركت أمير المؤمنين بها

للنار يوما ذليل الصخر والخشب

ويتحدث عن هزيمة ملك الروم :

لما رأى الحرب رأي العين توفلس

والحرب مشتقة المعنى من الحرب

ولى وقد ألجم الخطي منطقه

بسكتة تحتها الأحشاء في صخب

تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت

جلودهم قبل نضج التين والعنب

ومن البلاغة بالمكانة العالية أنه سمى ظفر المسلمين فتحا ، وسمى ظفر الكافرين نصيبا ، تعظيما لشأن الأولين وتنويها بأن النتيجة الحتمية هي للصابرين المؤمنين المتذرعين بالعقيدة التي لا تتحلحل ولا تهون ،

٣٥٩

وللإشعار بأن ظفر الكافرين ما هو في عمر الزمن إلا حظ دنيّ ، ولحظة من الدنيا يصيبونها ، وملاوة من العيش يسبحون في تيارها.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

اللغة :

(مُذَبْذَبِينَ) : المذبذب : الذي يذبّ عن كلا الجانبين. أي :يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد. وفي الذبذبة تكرير ليس في الذّب ، كأن تكرير الحروف إشعار بتكرير المعنى ، فهم مترجحون متطوحون في سيّال الحيرة ، كلما مال بهم الهوى الى جانب دفعوا الى جانب آخر.

الاعراب :

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط آخر من أعمالهم القبيحة. وإن واسمها ، وجملة يخادعون الله خبرها ، والواو واو الحال ، وهو مبتدأ وخادعهم خبر ، والجملة نصب على الحال (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) الواو عاطفة

٣٦٠