دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-039-0
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢٠٧
الجزء ١ الجزء ٢

الوارد في حرية أوّل مملوك يملكه يختص بحالة عدم النزاع والخصومة وناظر للمورد المذكور،وتعبير الامام عليه‌السلام في الذيل «القرعة سنة» يدل على حجية القرعة فيما شابه المورد المذكور من الموارد التي ليس فيها نزاع ولا يختص به.

٥ ـ القرعة أصل أو أمارة‌

نحن نعرف الفارق بين الأمارة والأصل فان ما جعله الشارع حجّة من جهة قوّة كاشفيته هو امارة والا فهو أصل. وقد وقع الخلاف في القرعة وانها أمارة أو أصل. وكأن بعض الأخبار يوحي بكونها أمارة ففي صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم الى الله إلاّ خرج سهم المق» (١) فانّه قد يستفاد منها كاشفيتها الظنّية بل القطعية عن الواقع.

وهذا البحث لا نرى له ثمرة مهمّة فان القرعة حتى لو كانت امارة لا تتقدّم على غيرها امارة كان أو أصلا بل جميع القواعد الاخرى من امارات واصول تتقدّم على القرعة باعتبار ان موضوع حجية القرعة هو الأمر المجهول ومع وجود قاعدة شرعية تحدّد الموقف الشرعي لا تبقى جهالة في المورد ليرجع الى القرعة.

أجل يمكن ظهور الثمرة بناء على حجيّة الامارة في لوازمها غير الشرعية ـ كما هو رأي المشهور من أعلام الاصوليين ـ فان القرعة لو كانت امارة ودلّت على شي‌ء كانت حجّة في لوازمها غير الشرعية‌

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم حديث ٦.

٢١

بخلاف ما لو كانت أصلا.

والمناسب كون القرعة أصلا فان السيرة لو لاحظناها وجدنا ان العقلاء يأخذون بالقرعة لا من باب كاشفيتها بل من باب انّها الموقف العملي الأخير لحلّ المشكلة حيث لا حلّ غيره.

واما الصحيحة السابقة فلا دلالة لها على الأمارية إذ هي لا تدلّ على ان جعل الشارع الحجية لها ناشئ من كاشفيتها بل لعل المقصود انّها أصل ولم تعتبر الحجية لها من جهة الكشف غايته ان المتقارعين إذا أجروا القرعة وتوكلوا على الله سبحانه فهو من جهة انّهم أوكلوا أمرهم إليه يقرّر لها اصابة الواقع نظير من يدخل في عملية اصلاح بين طرفين طالبا بذلك رضا الله عزّ وجلّ فإنّه يسدّده ويجعل كلامه مؤثّرا ومواقفه مصيبة للواقع.

والصحيحة نفسها تدلّ على ان تقدير اصابة الواقع لها مختص بحالة تفويض الأمر الى الله سبحانه ، وهل يحتمل التفصيل وان القرعة امارة في حالة تفويض الأمر الى الله عزّ وجلّ وأصل في غير الحالة المذكورة!

٦ ـ اختصاص القرعة بالامام‌

هناك كلام في ان القرعة هل هي من الوظائف الخاصة بالامام عليه‌السلام بحيث لا تحق لغيره أو تعمّ نوّابه المجتهدين أو تعمّ غيرهما أيضا؟ اختار الشيخ النراقي في عوائده (١) كونها‌

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٢٢٨.

٢٢

وظيفة للإمام عليه‌السلام ونوّابه.

والمناسب التفصيل بين ما اذا كان هناك نزاع يحتاج حلّه الى قضاء الحاكم الشرعي وبين ما اذا لم يكن ذلك ، ففي الأوّل تكون وظيفة للحاكم كسائر ما يستعين به الحاكم في باب القضاء من البيّنة والقسم وفي الثاني لا يكون وظيفة له.

والوجه فيما ذكرناه : ان حلّ الخصومة بما انّه مطلوب شرعا ولا يحتمل اختصاص مطلوبيته بزمان حضور الامام عليه‌السلام فلا معنى معه لاحتمال كونها وظيفة خاصة بالامام عليه‌السلام بل ينبغي ثبوت ذلك لحكام الشرع أيضا كسائر ما يستعان به لحلّ النزاع.

واما إذا لم يكن هناك نزاع فلا موجب للاختصاص بالامام عليه‌السلام ولا بنوّابه وتكفينا عمومات حجية القرعة من بناء العقلاء واطلاق القرعة سنة وانّها لكل أمر مجهول.

أجل ورد في مرسلة حمّاد عمّن ذكره عن أحدهما عليهما السّلام : «القرعة لا تكون إلاّ للإمام» (١) وفي رواية يونس : «رجل كان له عدّة مماليك فقال : أيّكم علّمني آية من كتاب الله فهو حرّ فعلّمه واحد منهم ثم مات المولى ولم يدر أيّهم الذي علّمه انّه قال: يستخرج بالقرعة. قال : ولا يستخرجه إلاّ الامام لأنّ له على القرعة كلاما ودعاء لا يعلمه غيره» (٢).

الا ان المرسلة مضافا الى ضعف سندها بالارسال يمكن ان تكون ناظرة الى باب النزاع والخصومة وانّه مع وجوده تكون عملية‌

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١٣ من أبواب كيفية الدعوى حديث ٩.

(٢) وسائل الشيعة باب ٢٤ من أبواب العتق حديث ١.

٢٣

الاقتراع خاصة به ، انّها ناظرة الى ذلك والا فهل يحتمل عدم حجية القرعة في مثل زماننا وابقاء الخصومة والنزاع على ما هما عليه؟!

واما رواية يونس فمضافا الى ضعف سندها باسماعيل بن مرار الذي لم يرد في حقّه توثيق الا بناء على وثاقة جميع رجال كامل الزيارات ، ومضافا الى كون الرواية مقطوعة بمعنى ان المسؤول هو يونس دون الامام عليه‌السلام يمكن ان يقال بظهورها في الاستحباب بقرينة التعليل المذكور فيها فان الدعاء ليس لازما عند الاقتراع جزما ، ولو كان لازما يلزم اختصاص القرعة بزمان حضور الامام عليه‌السلام وهو أمر غير محتمل كما تقدّم.

٧ ـ القرعة رخصة أو عزيمة‌

وقع البحث في ان عملية الاقتراع في موارد تمشكل الأمر لازمة بحيث ليس للمكلف الحياد عنها أو جائزة يمكنه تركها. وبكلمة اخرى :هل عملية الاقتراع رخصة أو عزيمة؟

ولعل السبب الباعث على ذلك ان أدلّة مشروعية القرعة لا يفهم منها الالزام والحتمية فقولهم عليهم‌السلام : «القرعة سنّة» أو «ليس من قوم تقارعوا ثم فوّضوا أمرهم الى الله إلاّ خرج سهم المحق» لا يستفاد منه إلاّ الرجحان والمشروعية لا أكثر.

والتساؤل السابق يأتي نفسه في نتيجة القرعة ، فلو تقارع الطرفان وعينت القرعة إحدى النتيجتين فهل يتحتم الأخذ بذلك؟

والمناسب في الجواب عن كلا التساؤلين ان يفصّل بين ما إذا كان اتخاذ القرار على طبق القرعة لازما ـ كما إذا تنازع شخصان في طفل‌

٢٤

كل منهما يدّعي أنّه ولده أو كالمولود الذي ليس له فرج الذكور ولا فرج الاناث ـ فيكون الأخذ بها وبنتيجتها لازما وإلاّ فلا. هذا هو المناسب.

وليس من المناسب التفصيل بين وجود واقع مجهول يراد تعيينه ـ كمثال الطفل المتنازع فيه ـ فيكون الأخذ بالقرعة وبنتيجتها لازما وبين ما إذا لم يكن واقع مجهول ـ كمن قال أوّل عبد أملكه حر ـ فلا لزوم.

والوجه في وهن ما ذكر : ان الواقع قد يكون له تعين مجهول وبالرغم من ذلك لا يكون الأخذ بالقرعة لازما كالدار التي اختلف في ملكيتها شخصان وتصالحا على تقسيمها نصفين أو تنازل أحدهما للآخر عنها.

وقد لا يكون تعين للواقع وبالرغم من ذلك يلزم الأخذ بالقرعة ، كما لو نذر المكلّف اكرام أوّل داخل عليه فدخل عليه ثلاثة وهو لا يستطيع اكرام أكثر من واحد فان الأخذ بالقرعة لازم عليه بالرغم من عدم تعين الواقع.

٨ ـ مورد القرعة‌

والمورد الذي تجري فيه القرعة هو كل موضوع فقد القواعد الشرعية القابلة لتعيين الحال فيه ، فانّا لو أخذنا سيرة العقلاء بنظر الاعتبار وجدنا ان العقلاء انّما يتمسكون بالقرعة في خصوص المورد المذكور ، ولا أقل هي دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو ما ذكرناه. ولو أخذنا النصوص بنظر الاعتبار وجدناها تحدّد موضوع‌

٢٥

القرعة بالمجهول وهو لا يصدق مع امكان تعيين الحال من خلال قاعدة شرعية.

وبهذا يتّضح ان الشبهات الحكمية لا يمكن تطبيق القرعة فيها ، فلو شككنا في حرمة التدخين أو نحو ذلك فلا يمكن الرجوع إليها لأنّه في مورد الشبهات الحكمية لا بدّ من وجود قاعدة تحدّد الموقف امّا بالبراءة فيما إذا كان الشك في أصل التكليف أو بالاحتياط فيما إذا كان الشك في المكلّف به أو بالتخيير فيما إذا كان الدوران بين المحذورين أو بالاستصحاب فيما إذا كان الشك في بقاء الحالة السابقة.

وهكذا لا تجري القرعة في الشبهة الموضوعية التي يمكن تحديد الحال فيها من خلال قاعدة شرعية ، كما لو شككنا في ان الدار المتنازع فيها هي لزيد أو لعمرو وكان أحدهما صاحب يد أو بيّنة.

وعليه فينحصر مورد القرعة بالشبهات الموضوعية الفاقدة للقاعدة التي يمكن تحديد الموقف من خلالها ، كما لو اختلف شخصان في دار ولكل منهما بيّنة بلا يد.

وبهذا تتضح عدّة امور :

أ ـ التأمّل في صحّة ما ذكره الشيخ العراقي في نهاية الأفكار (١) من ان القرعة انّما لا تجري في الشبهات الحكمية من جهة ظهور عنوان المجهول والمشتبه في كونه وصفا لذات الشي‌ء المردّد بين الأشياء وليس وصفا لحكمه ، ومن الواضح ان الاشتباه في موارد الشبهات الحكمية ليس في ذات الشي‌ء بل في حكمه ، فنحن نعلم مثلا ان هذا لحم‌

__________________

(١) نهاية الأفكار ٤ : ١٠٥.

٢٦

الأرنب وانّما نشك في حكمه وانّه يحرم أكله أو يحل.

ووجه التأمّل : ان تحديد الاشتباه بخصوص ما ذكر أوّل الكلام وعهدته عليه.

وكان بامكانه التمسك لإخراج الشبهات الحكمية عن دليل القرعة بما ذكرناه من عدم صدق عنوان المجهول بعد امكان الاستعانة بقاعدة من القواعد الشرعية.

ب ـ ان الاستصحاب وغيره من القواعد والاصول متقدّم على القرعة بالورود ، بمعنى انّها بجريانها ترفع عنوان المجهول الذي هو موضوع حجيّة القرعة.

ج ـ ورد في كلمات غير واحد من الاصوليين ان دليل القرعة لا يمكن التمسّك بعمومه في مورد إلاّ بعد الانجبار بعمل الأصحاب وذلك من جهة كثرة التخصيصات الطارئة عليه ، وحيث ان كثرة التخصيص أمر مستهجن فيكشف ذلك عن كون الموضوع لحجية القرعة معنى خاصا لا يلزم منه كثرة التخصيص ، وبما ان ذلك المعنى الخاص مجهول لنا فنبقى غير قادرين على التمسّك بعموم دليل القرعة.

قال الشيخ الأعظم في الرسائل : «ذكر في محله ان أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم» (١).

ووجه النظر : ان محذور التخصيص الكثير غير وارد بعد اختصاص موضوع القرعة بالمجهول الذي لا يصدق مع امكان تطبيق أي قاعدة من القواعد الشرعية فان المورد المذكور نادر وقليل ولا يلزم‌

__________________

(١) الرسائل الطبع القديم : ٤٢٣.

٢٧

من التزام القرعة فيه أي محذور.

٩ ـ كيفية القرعة‌

ورد في بعض الروايات كيفيات خاصّة للقرعة وقراءة دعاء خاص عندها ، ففي صحيحة الفضيل بن يسار : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مولود ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء. قال : يقرع عليه الامام أو المقرع يكتب على سهم عبد الله وعلى سهم أمة الله ثم يقول الامام أو المقرع : اللهمّ أنت الله لا إله إلاّ أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. بيّن لنا أمر هذا المولود حتى يورث ما فرضت له في الكتاب. ثم يطرح السهمان في سهام مبهمة ثم تجال السهام على ما خرج ورث عليه» (١).

الا ان الذي يقرأ النصوص يفهم ان الغرض لا يتعلّق بكيفية خاصة كما وان الدعاء ليس أمرا لازما. أجل الدعاء وسيلة مهمّة للتسديد والوصول الى الهدف في حياة المؤمن خصوصا في هذا المجال وبه يتحقق استمداد العاجز من القادر على كلّ شي‌ء ف «ليس من قوم تقارعوا ثم فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج سهم المحق».

١٠ ـ الاستخارة بين نصوص أهل البيت : والمتشرّعة‌

من الجدير في البداية تعرّف معنى الاستخارة في اللغة ثم في نصوص أهل البيتعليهم‌السلام.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٤ من أبواب ميراث الخنثى حديث ٢.

٢٨

الاستخارة لغة تعني طلب الخيرة (١). واستخير الله أي : أطلب من الله الخير (٢).

واما النصوص فقد وردت الاستخارة فيها في معنيين :

الأوّل : المعنى اللغوي المتقدّم نفسه. وقد دلّت على ذلك عدّة روايات. وبعضها دل على رجحان ان يكون ذلك بعد صلاة ركعتين ، ففي صحيحة عمرو بن حريث : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : صلّ ركعتين واستغفر الله فو الله ما استخار الله مسلم إلاّ خار له البتة» (٣).

وهذه نكتة مهمة في باب الآداب الاسلامية ، فالمؤمن متى ما أقدم على عمل كدرس أو تدريس أو زواج أو شراء دار أو ما شاكل ذلك طلب من الله سبحانه ان يقدّر له الخير والصلاح فيه ليكون بذلك لائقا ومعدا لمدّ يد المعونة إليه.

وفي حديث الصدوق باسناده عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا أراد أحدكم أمرا فلا يشاور فيه أحدا من الناس حتى يبدأ فيشاور الله تبارك وتعالى. قال: قلت : جعلت فداك وما مشاورة الله؟ قال : تبتدأ فتستخير الله فيه أوّلا ثم تشاور فيه فانّه إذا بدأ بالله أجرى له الخيرة على لسان من يشاء من الخلق» (٤).

ومن الراجح للمؤمن ان يكرّر الاستخارة ـ بمعنى طلب الخيرة ـ

__________________

(١) الخيرة على وزن عنبة.

(٢) لسان العرب ٤ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٣) وسائل الشيعة باب ١ من أبواب صلاة الاستخارة حديث ١.

(٤) المصدر السابق باب ٥ حديث ٢.

وسند الشيخ الصدوق الى هارون وان كان ضعيفا ب «محمّد بن علي الكوفي» المعروف بالصيرفي وبأبي سمينة لكنها صحيحة بطريق البرقي.

٢٩

خصوصا في الامور المهمّة ، ففي حديث ناجية عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كان إذا أراد شراء العبد أو الدابة أو الحاجة الخفيفة أو الشي‌ء اليسير استخار الله فيه سبع مرّات فاذا كان أمرا جسيما استخار الله مائة مرّة» (١).

الثاني : الاستخارة بمعنى طلب المشورة من الله سبحانه ، فالمؤمن إذا أقدم على عمل معين وهو لا يعرف ان فيه مصلحة أو لا يستشير الله عزّ وجلّ ليتعرّف من خلال ذلك وجود المصلحة وعدمها.

اما كيف تتحقق الاستشارة من الله سبحانه؟ ذلك اما من خلال الرقاع أو المصحف الشريف أو بالقبض على مقدار من خرز المسبحة وما شاكل ذلك.

وقد ورد في غالب الطرق المذكورة روايات تتسم بشكل عام بضعف السند. ويمكن مراجعة تلك الروايات في كتاب وسائل الشيعة (٢).

وقد قام صاحب الجواهر والحدائق (٣) باستعراض مجموعة من تلك الطرق بل وألّف السيّد رضي الدين بن طاوس رسالة خاصّة في هذا المجال سمّاها برسالة الاستخارات.

ونلفت النظر الى ان مسألة الاستخارة لم تختص بها معاجم الحديث الشيعية بل وردت في معاجم حديث العامة أيضا ، ففي كنز‌

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٥ من أبواب صلاة الاستخارة حديث ١.

والرواية ضعيفة بناجية نفسه لعدم ثبوت وثاقته.

(٢) وسائل الشيعة. كتاب الصلاة. أبواب صلاة الاستخارة وما يناسبها.

(٣) جواهر الكلام ١٢ : ١٥٥ ـ ١٧٦. الحدائق الناضرة ١٠ : ٥٢٤ ـ ٥٣٣.

٣٠

العمّال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا هممت بأمر فاستخر ربّك فيه سبع مرّات ثم انظر الى الذي يسبق إلى قلبك فان الخير فيه» (١).

وفي مستدرك الحاكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سعادة ابن آدم استخارته الى الله، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله» (٢).

الا انها كما ترى ناظرة الى الاستخارة بالمعنى الأوّل.

وبعد هذه اللمحة الموجزة عن الاستخارة نطرح تساؤلات ثلاثة :

التساؤل الأوّل‌

كيف نثبت اعتبار الاستخارة بشكلها المتداول اليوم بين المؤمنين؟

يمكن الاستعانة بالطريقين التاليين :

١ ـ التمسك بروايات القرعة ، ففي صحيحة محمد بن حكيم : «كل مجهول ففيه القرعة» (٣) ، فانّها باطلاقها تشمل كل مجهول بما فيه المورد الذي يقدم عليه المؤمن ويشك في وجود المصلحة وعدمها.

وقد تقدّم ان القرعة لا تنحصر بكيفية معينة بل يمكن ان تتحقق من خلال المسبحة وغيرها.

بل ان روايات القرعة الاخرى الناظرة الى حالة وجود التنازع من قبيل صحيحة أبي بصير : «... ليس من قوم تقارعوا ثم فوّضوا أمرهم الى الله إلاّ خرج سهم المحق» (٤) يمكن التمسك بها بعد الغاء خصوصية‌

__________________

(١) كنز العمال ٧ : ٨١٣.

(٢) مستدرك الحاكم ١ : ٥١٨.

(٣) وسائل الشيعة باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم حديث ١١.

(٤) المصدر السابق حديث ٦.

٣١

النزاع ، فانّه يمكن ان يفهم منها ان تمام النكتة تمكن في وجود حق مجهول يراد تعرّفه ، وبتفويض الأمر الى الله سبحانه يمكن الوصول الى ذلك الحق المجهول ـ وهو وجود المصلحة وعدمها في المقام ـ من خلال الاقتراع الذي له أنحاء متعددة من جملتها الاستعانة بالمسبحة.

٢ ـ نحن لسنا بحاجة في اثبات مشروعية الاستخارة بأشكالها المتداولة اليوم إلى قيام دليل خاص بل تكفينا أدلّة الحث الشديد على الدعاء والتي تجعل منه عبادة بأسمى معانيها (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (١) اذ من الواضح ان الذي يقبض المسبحة ونحوها من وسائل الاستخارة يأخذ بالدعاء والالحاح على الله سبحانه في تشخيص واقع الأمر المجهول عليه ، وأي محذور في ان يطلب المؤمن أثناء دعائه تشخيص الواقع المجهول له من خلال المسبحة وغيرها؟

ان المسألة ما دامت مسألة دعاء فهي لا تحتاج بعد ذلك الى دليل خاص يدل على المشروعية وتكفي أدلّة مشروعية الدعاء ورجحانه.

كما ان المسألة بعد هذا لا تبقى منحصرة بالمسبحة وبطريقة خاصة بل من حق المؤمن الاستعانة بأي وسيلة شاء ـ سواء كانت هي المسبحة أو القرآن الكريم أو الرقاع الخاصة أو أي وسيلة اخرى ـ ما دام هو يدعو الله سبحانه ويطلب منه من خلال تلك الوسيلة الخاصة تشخيص الواقع المجهول له.

وأيضا ما دامت القضية ترجع الى كونها مصداقا من مصاديق‌

__________________

(١) غافر : ٦٠.

٣٢

الدعاء فمن الراجح اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب والالحاح عليه سبحانه في اراءة الطريق من خلال المسبحة أو غيرها من الوسائل.

والأجدر بالمؤمن ان يجمع بين كلا معنيي الاستخارة ، فاذا أراد الاقدام على قضية معينة وكان شاكّا في سلامة نتائجها استخار بالمعنى الثاني من خلال المسبحة أو غيرها فاذا تشخص له الموقف الذي يلزمه اتخاذه استخار الله سبحانه بالمعنى الأوّل بمعنى طلب تقدير الخير والموفقية في الموقف الذي صمم على اتخاذه.

وينبغي الالتفات الى ان من أحسن وسائل الاستخارة بالمعنى الثاني وأقواها ان يدعو الله عزّ وجلّ أوّلا بتقدير الموفقية والخير فيما سوف يتخذه من موقف ويدعو منضما الى ذلك بأن يلهم سبحانه قلبه بما هو سداد فيفكر ويهتدي في تفكيره الى ذلك أو يسترشد بعض اخوانه فيوفقون في ارشاده الى ذلك.

ان هذا الطريق كما هو عقلائي في نفسه ويدخل تحت مصداقية الدعاء قد دلّت عليه بعض الروايات ، ففي رواية هارون السابقة :«... تبتدأ فتستخير الله فيه أوّلا ثم تشاور فيه فانه إذا بدأ بالله أجرى له الخيرة على لسان من يشاء من الخلق» (١).

وفي حديث الامام الصادق عليه‌السلام : «إذا عرضت لأحدكم حاجة فليستشر الله ربّه فان أشار عليه اتبع وان لم يشر عليه توقف. قال : قلت : يا سيدي كيف أعلم ذلك؟ قال: يسجد عقيب المكتوبة ويقول : اللهمّ‌

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٥ من أبواب صلاة الاستخارة حديث ٢.

٣٣

خر لي مائة مرّة ثم يتوسّل بنا ويصلّي علينا ويستشفع بنا ثم تنظر ما يلهمك تفعله فهو الذي أشار عليك به» (١).

وينبغي ان لا يغيب علينا ان الاستخارة بالمعنى الثاني بعد دخولها في مصداقية الدعاء فمن المناسب الاقتصار فيها على الحدود العقلائية للدعاء ، فكما لا يليق للعاقل ان يدعو بنزول مائدة عليه من السماء بل اللائق ان يدعو بالموفقية في سعيه وطلبه للرزق كذلك من المناسب اقتصاره في الاستخارة بالمعنى الثاني على مثل ذلك فيستخير عند تحيره وعدم معرفته بالمصلحة وعدم وجود من يمكنه الاستعانة به في مقام الاستشارة.

وإذا قيل : بناء على ادخال الاستخارة بالمعنى الثاني في مصداقية الدعاء ينبغي الحكم باستحبابها كما يحكم باستحباب الدعاء.

كان الجواب : ان الطلب من الله سبحانه بأن يرزق عبده أموالا وأولادا دعاء جزما فاذا حكم باستحباب مثله فليحكم باستحباب الاستخارة بالمعنى الثاني أيضا واذا لم يحكم باستحباب مثل ذاك لم يحكم باستحباب الاستخارة أيضا.

التساؤل الثاني‌

هل من الصحيح ايكال أمر الاستخارة الى شخص ثان وعدم تصدي صاحب القضية نفسه لها كما هو المتداول بين المتشرعة من المؤمنين يومنا هذا؟ أجاب صاحب الجواهر عن ذلك بأولوية استخارة المؤمن نفسه لنفسه لخلو النصوص من الاشارة الى فكرة النيابة بل‌

__________________

(١) المصدر السابق باب ٤ حديث ٣.

٣٤

لعل الأصل يقتضي عدم مشروعية ذلك لأنّها من المستحبات المشتملة على التضرّع والدعاء ممّا لا يجري الاستنابة فيه وان تعارف في زماننا هذا بل وما تقدّمه بين العلماء فضلا عن العوام الاستنابة في ذلك (١).

هذا والمناسب الجزم بجواز ذلك لأنّ القضية ما دامت ترجع الى مصداقية الدعاء فما أجدر ان يكون الدعاء للمؤمن بلسان لم يرتكب به ذنبا فيدعو المؤمن لأخيه المؤمن من خلال المسبحة أو غيرها بارشاده الى طريق الصواب والموفقية.

بل لعل الأجدر من زاوية هو النيابة حيث توحي بأن الشخص لا يرى لنفسه اللياقة في التحدث وطلب الحاجة من الله سبحانه. وقد جرت العادة في ان طالب الحاجة من السلطان العظيم لا يتقدّم إليه بنفسه بل بواسطة شفيع. وهو سبحانه وان كان كما ورد في الدعاء : «الحمد لله الذي اناديه كلّما شئت لحاجتي وأخلو به حيث شئت لسري بغير شفيع فيقضي لي حاجتي» الا ان تقديم الشفيع أكثر تأدّبا واحتراما.

وبعد هذا البيان لإثبات جواز الاستنابة في الاستخارة لا نبقى بحاجة الى ما ذكره البعض من التمسك بأدلّة رجحان قضاء حاجة المؤمن بتقريب ان المؤمن إذا طلب من أخيه الاستخارة له فمن باب رجحان اجابة دعوته تشرع الاستخارة له.

التساؤل الثالث‌

قد يعترض على مشروعية الاستخارة بالنهي عن الاستقسام‌

__________________

(١) جواهر الكلام ١٢ : ١٧٥.

٣٥

بالأزلام في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ...) (١) حيث قيل ان المراد به النهي عمّا كان متداولا زمن الجاهلية من الضرب بالسهام لاستعلام الخير والشر في الأفعال وتمييز النافع من الضار، فمن يريد سفرا أو زواجا أو ما شاكل ذلك يضرب بالسهام لتشخيص ما فيه الخير فيعمل به، والاستخارة المتداولة يومنا هذا من خلال الرقاع أو غيرها لتمييز ما فيه المصلحة عمّا ليس فيه ليست إلاّ كالاستقسام بالأزلام المنهي عنه.

ومن الغريب تسليم المحقّق الأردبيلي في كتابه زبدة البيان بهذا الاعتراض وحكمه بحرمة بعض أقسام الاستخارة المشابهة للاستقسام بالأزلام (٢).

وهكذا قد يعترض على مشروعية الاستخارة بالنهي عن التفؤل بالقرآن الكريم الوارد في رواية الشيخ الكليني عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمّد بن عيسى عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا تتفأل بالقرآن» (٣).

هكذا قد يعترض على الاستخارة.

ويمكن مناقشة الاعتراض الأوّل بأن المقصود بالاستقسام بالأزلام هو الميسر الذي قيل عنه بأنّه عبارة عن شراء جزور‌

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) زبدة البيان في أحكام القرآن : ٦٢٦.

(٣) وسائل الشيعة باب ٣٨ من أبواب قراءة القرآن حديث ٢.

٣٦

وتقسيمها الى عشرة أقسام سبعة ذات نصيب وثلاثة بلا نصيب ويكتب ذلك على سهام عشرة ، ومن خرج له أحد السهام السبعة دفعت له حصّة من الجزور بلا ثمن مقابل ، ومن خرج له أحد السهام الثلاثة تكفّل بدفع ثلث قيمة الجزور من دون ان يحصل على شي‌ء من اللحم.

ان المقصود من الاستقسام بالأزلام هو ما ذكر دون التفسير المتقدّم بقرينة سياق الآية فان جميع ما ذكر فيها هو من أقسام اللحوم المحرّمة.

هذا مضافا الى ان انطباق جملة «وان تستقسموا بالأزلام» على المعنى الثاني الذي ذكرناه واضح وليس فيه أي عناية لأنّه تطلب قسمة الجزور من خلال الأزلام وبواسطتها ، وهذا بخلافه على المعنى الأوّل فانه وان كانت فيه استعانة بالأزلام ولكن ليس فيه استقسام ولا قسمة ولا طلب للأقسام.

ثم انّه لو تنزلنا عن كلتا هاتين القرينتين فيكفينا الشك واحتمال ارادة المعنى الثاني لأننا أثبتنا فيما سبق مشروعية الاستخارة بواسطة أدلّة مشروعية القرعة وأدلّة مشروعية الدعاء ، وبعد ثبوت المقتضي للمشروعية يشك في وجود المانع والمعارض ، وحيث انّه مجمل وذو احتمالين فلا يمكن التمسّك به وتبقى أدلّة المشروعية بلا معارض.

كما ويمكن مناقشة الاعتراض الثاني بأن الرواية الناهية عن التفؤل بالقرآن الكريم مضافا الى ضعف سندها بالارسال لا بدّ من حملها على النهي عن التفؤل بمعنى محاولة تعرّف الحوادث المستقبلية من سرور وخيرات من دون تعميم للاستخارة بمعنى محاولة تعرّف‌

٣٧

وجود مصلحة أو مفسدة في ايقاع فعل معين بقرينة رواية اليسع القمي التي تحث على الاستخارة بالقرآن الكريم بلسان : «وافتتح المصحف فانظر الى أوّل ما ترى فيه فخذ به إن شاء الله» (١).

مناقشة ابن إدريس‌

رفض ابن إدريس بعض أقسام الاستخارة واقتصر على الاستخارة ذات الصلاة والدعاء بعدها. واستند في ذلك الى ان رواة بقيّة الأقسام فطحية لا يعتمد على روايتهم(٢).

ووافقه على ذلك المحقق الحلّي قائلا : «اما الرقاع فيتضمن افعل ولا تفعل وفي خبره الشذوذ فلا عبرة بها» (٣).

وقد اتضح لنا من خلال ما تقدّم اننا في غنى عن خبر صحيح لإثبات كل نوع من أنواع الاستخارة بعد كونها جميعا من مصاديق الدعاء والتوجه الى الله سبحانه في جعل الرقاع ونحوها وسيلة لتعرّف وجدان الفعل الذي يراد الاقدام عليه للمصلحة أو المفسدة.

١١ ـ تطبيقات لقاعدة القرعة‌

١ ـ إذا اختلط مال شخص بمال آخر فما هو الحكم؟

٢ ـ شخص عقد على امرأة معينة ثم حصل له التردّد فيها بين ثنتين فما هو الحكم؟

٣ ـ الامارة مقدّمة على الأصل إلاّ في مورد واحد. ولما ذا؟

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٦ من أبواب صلاة الاستخارة حديث ٦.

(٢) السرائر ١ : ٣١٤.

(٣) المعتبر ٢ : ٣٧٦.

٣٨

٤ ـ قطيع من الغنم تحقق وطء واحد منها من دون امكان تشخيصه فما هو حكمه؟

٥ ـ لو علم المكلف بأنّه نذر شيئا ولا يدري ما هو فما هو حكمه؟

٦ ـ إذا علم بنجاسة أحد انائين فلما ذا لا يستعان بالقرعة لتشخيصه؟

٧ ـ إذا وجد شخص مقتول وادّعى اثنان ان كل واحد منهما هو القاتل وهكذا لو تحقّقت سرقة وادّعاها اثنان فما هو الحكم؟

٨ ـ إذا كان لدينا اناءان احدهما نجس والآخر طاهر وعلمنا بوقوع نجاسة في أحدهما فهل يمكن تطبيق قاعدة القرعة؟ ولما ذا؟

٣٩
٤٠