دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-039-0
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢٠٧
الجزء ١ الجزء ٢

هذا لو لم يفرض ان قيمة الفرش قد نقصت بالتنجيس نفسه ، اما إذا نقصت بالتنجيس نفسه وقبل ان يغسل ثبت الضمان لقاعدة الاتلاف حيث تم اتلاف وصف كمالي من أوصاف الفرش بعملية التنجيس نفسها.

وبالجملة : إذا لم تنقص قيمة الفرش بالتنجيس نفسه واحتاج تطهيره الى اجرة أو فرض نقصان القيمة على تقدير التطهير فلا ضمان لتلك الاجرة ولا لذاك النقصان لعدم صدق اليد ولا الاتلاف ، وسبب الضمان لا يعدو أحد هذين الأمرين اما اليد أو الاتلاف.

ثم أضاف قدس‌سره قائلا :

وامّا التسبيب فهو ليس سببا مستقلاّ للضمان في مقابل السببين المذكورين بل هو يوجب الضمان لو صدق عنوان المتلف على السبب.

وعليه فينبغي التفصيل في موارد التسبيب بين ما إذا صدق على السبب انه متلف وبين ما إذا لم يصدق عليه ذلك ، ففي الأوّل يضمن لقاعدة الاتلاف دونه في الثاني.

مثال صدق ذلك : ما لو أرسل شخص دابته واتلفت زرع الغير أو أعطى شخص سكينا بيد صبي وأمره بضرب شخص ، فانه يصدق على الشخص المذكور عنوان المتلف وينسب إليه اتلاف زرع الغير وجرح الشخص ، باعتبار ان المباشر اما لا إرادة له أو ذو إرادة ضعيفة بحيث يعدّ آلة بيد السبب ، وينسب العرف بنحو الحقيقة الاتلاف إليه لا إلى المباشر.

ومثال عدم صدق ذلك : ما لو توسطت في البين الارادة التامة للمباشر ، كما لو أمر شخص شخصا آخر كبيرا باتلاف زرع الغير أو‌

١٦١

جرحه وقام بتنفيذ ذلك. ان الاتلاف في مثل ذلك ينسب الى المباشر ـ باعتبار توسط إرادته التامّة ـ وليس إلى السبب. هذا ما أفاده قدس‌سره في هذا المقام (١).

وهناك مسألة ثانية بحثها الفقهاء ترتبط بالمسألة المتقدّمة ، وهي ان زيدا لو نجّس المصحف الشريف أو المسجد ـ اللذين يجب تطهيرهما فورا ـ واحتاج تطهيرهما إلى بذل اجرة معينة فهل يختص ضمانها بزيد أو يعم كل فرد مسلم؟

انه بناء على تمامية قاعدة التسبيب يمكن الحكم بضمان زيد للأجرة ، بتقريب ان زيدا صار بفعله سببا لخسارة الآخرين قيمة التطهير ، فاذا تصدّى بعض الناس للتطهير جاز له الرجوع عليه للقاعدة المذكورة.

بل ويمكن الحكم بضمانه للخسارة حتى بناء على انكار قاعدة التسبيب وحصر سبب الضمان بالاتلاف واليد ، بتقريب ان الآخر المتصدي للتطهير وان تصدّى بإرادته إلاّ انّه لما كان ملزما من قبل الشارع بالتطهير فإرادته تصبح إرادة مغلوبة وفي حكم العدم ، وبذلك يسند الاتلاف عرفا الى السبب ويكون استقرار الضمان عليه دون غيره.

ولا ينقض على ذلك بما ذكره السيّد الخوئي قدس‌سره من ان لازم ذلك ان المعسر لو تزوج وأولد أطفالا وهو عاجز عن القيام بنفقتهم وفرض ان المسلمين قاموا بالانفاق عليهم من باب وجوب حفظ النفس‌

__________________

(١) التنقيح ٢ : ٣٢٣.

١٦٢

المحترمة على كل مسلم ، ان لازم ذلك ضمان ذلك المعسر المتزوّج بما ينفقه الناس على أطفاله ، والحال ان ذلك لا يمكن التزامه (١).

وهكذا لا ينقض بما لو فرض ان شخصا ابرأ شخصا آخر من دين مانع من الاستطاعة فترتب على ذلك تحقق عنوان الاستطاعة للحج في حقّه ووجوبه عليه ، فبناء على عدّ الإرادة المغلوبة بحكم العدم يلزم ضمان المبرأ لنفقات الحج ، وهو بعيد أيضا.

ان هذين النقضين وأمثالهما قابلان للدفع ، باعتبار ان العرف يفهم من حكم الشارع بجواز زواج المعسر وابراء المديون عدم كونهما ضامنين. وهذه الدلالة الالتزامية العرفية هي المانع من الحكم بالضمان ، وهذا بخلافه في مثال تنجيس المسجد أو المصحف الشريف فإنّه لا توجد مثل هذه الدلالة.

وعلى أي حال ان قاعدة التسبيب لها نتائج تظهر في الأمثلة المذكورة وغيرها ، وقد أنكرها بعض الأعلام بدعوى عدم تمامية دليل عليها ، ومن ثمّ أنكر الثمرات المترتبة عليها في الأمثلة السابقة ، كضمان قيمة تطهير الفرش وقيمة النقص الطارئ بسبب التطهير واجور تطهير المسجد والمصحف.

إلاّ ان من القريب جدّا دعوى انعقاد السيرة العقلائية عليها والحكم بضمان المسبب لخسارة الآخرين فيما إذا كان تسبيبه تسبيبا غير مأذون به شرعا. وحيث ان السيرة المذكورة لم يثبت ردع عنها فتكون ممضاة.

__________________

(١) التنقيح ٢ : ٣٢١.

١٦٣

٤ ـ اعتبار الجهل في صحة التمسك بالقاعدة‌

قد يفرض ان الشخص الغار عالم بما يترتب على فعله من الخديعة ووقوع الغير في الخسارة وقد يكون جاهلا بذلك. وهكذا الحال بالنسبة إلى الشخص المغرور قد يفرض جهله بواقع الحال وقد يفرض علمه.

فان فرض علم الغار وجهل المغرور فذلك هو القدر المتيقن من قاعدة الغرور.

واما إذا فرض علم المغرور فلا اشكال في انتفاء عنوان الغرور سواء كان الطرف الآخر عالما أو جاهلا.

واما إذا كانا جاهلين معا فقد ادعى البعض صدق عنوان الغرور ، بدعوى ان عناوين الأفعال ليست متقومة بقصد تلك العناوين ، فمن قام أو قعد يصدق عليه عنوان القائم أو القاعد وان لم يكن قاصدا لذلك بل كان غافلا ، فمن قدّم طعام الغير إلى آخر يصدق عليه انّه غار ولو لم يكن ملتفتا لكونه طعام الغير بل معتقدا بكونه طعام نفسه (١).

وهناك من قال بأن عنوان الغرور لا يصدق مع جهل الغار بيد ان قاعدة الغرور تشمل مثل ذلك ملاكا وان لم تشمله عنوانا (٢).

وكلتا الدعويين كما ترى.

اما الاولى فلتقوّم صدق الغرور عرفا بعلم الغار وجهل المغرور.

واما الثانية فلأن ملاك الضمان في باب الغرور ليس إلاّ التسبيب‌

__________________

(١) القواعد الفقهية للسيد البجنوردي ١ : ٢٢٥.

(٢) القواعد الفقهية للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ٢ : ٢٩٥.

١٦٤

للخسارة ، ومعه فان تمّت قاعدة التسبيب كانت هي بنفسها دليلا على الضمان ، وان لم تتم وأنكرنا انعقاد السيرة العقلائية عليها فلا معنى للحكم بالضمان من باب صدق قاعدة الغرور ملاكا لأن ملاكها بقطع النظر عن صدق عنوان الغرور ليس سببا للضمان حسب الفرض.

وعليه فالمناسب في حالة جهلهما معا عدم التمسك بقاعدة الغرور لإثبات الضمان بل بقواعد اخرى ، كقاعدة الاتلاف أو اليد أو التسبيب حسب اختلاف الموارد.

٥ ـ تطبيقات‌

١ ـ إذا دفع شخص للخيّاط قطعة قماش وقال له : ان كانت تكفي قميصا فقصّها فلما قصّها اتضح العكس فهل يضمن؟

٢ ـ شخص أراد الزواج ومدح له ثان أخلاق امرأة معينة فلما تزوجها ظهر له سوء أخلاقها فهل يكون المادح غارّا ويلزمه ضمان المهر؟

٣ ـ الطبيب إذا عالج المريض وأخطأ في علاجه فتارة يفرض انّه يعالج المريض مباشرة باجراء عملية له واخرى يصف له الدواء ويسبب له بعض المضاعفات فهل يكون ضامنا في الحالتين المذكورتين؟ وما هو التوجيه الفني لذلك؟

٤ ـ الختّان إذا أخطأ وسبّب ضررا للمختون فهل يكون ضامنا ولما ذا؟

٥ ـ إذا مدح البائع سلعته فلما اشتراها المشتري اتضح له الخلاف وسبّب ذلك له بعض الخسائر فهل يضمن البائع ذلك ولما ذا؟

١٦٥

٦ ـ شخص قدّم طعاما للغير باعتقاد انّه له ثم اتضح انّه لغيره فهل يكونان ضامنين؟ ولما ذا؟

٧ ـ شخص دعي لمأدبة فاصطحب معه شخصا آخر فهل يكون ضامنا لما أكله الآخر؟

٨ ـ إذا قال شخص لآخر توجد في معرض الكتاب كتب تباع بسعر زهيد فسافر إليه فلم يجد الأمر كما أخبر فهل يجوز تغريمه اجور السفر؟

٩ ـ شخص له قطعة فرش فرشها في الشارع الذي تمرّ به السيارات لينزل منها ما التصق بها من تراب فمرت سيارة مثقلة بالحديد فشقت قطعة الفرش فهل يكون صاحب السيارة ضامنا؟

١٦٦

قاعدتا الاقرار‌

١ ـ مضمون القاعدتين‌

٢ ـ قاعدة واحدة أو قاعدتان‌

٣ ـ مدرك القاعدتين‌

٤ ـ استثناءات من قاعدة قبول الاقرار‌

٥ ـ الاقرار بالدلالة الالتزامية‌

٦ ـ التفكيك في الاقرار الواحد‌

٧ ـ اختصاص القبول بموارد السلطنة الفعلية‌

٨ ـ تطبيقات‌

١٦٧
١٦٨

هناك قاعدتان تداول ذكرهما على لسان الاعلام في باب الاقرار والمسائل المرتبطة بذلك احداهما باسم «اقرار العقلاء على أنفسهم جائز» ، وثانيتهما باسم «من ملك شيئا ملك الاقرار به».

اما القاعدة الاولى فهي الأصل الأساسي الذي تعتمد عليه مسائل كتاب الاقرار ، فانا لو ألقينا نظرة على تلك المسائل لرأيناها بشكل عام تعتمد على قاعدة «اقرار العقلاء على أنفسهم جائز».

واما القاعدة الثانية فنادرا ما تذكر على لسان الفقهاء ، فنجد ذكرها في كلمات الشيخ الطوسي قدس‌سره في مسألة العبد المأذون في التجارة ، فقد ذكر ان العبد المذكور لو أقرّ بمال يتعلّق بالتجارة بأن قال مثلا هذا يستحق عليّ ثمن المبيع في هذا البيع وأمثال ذلك قبل اقراره لأن من ملك شيئا ملك الاقرار به (١).

__________________

(١) رسالة من ملك شيئا ملك الاقرار به الملحقة بآخر المكاسب للشيخ الأنصاري.

١٦٩

وبقي ذكرها مستمرا على لسان من جاء بعد الشيخ من الفقهاء ، فقد أشار إليها المحقّق الحلّي في الشرائع في مسألة العبد المأذون أيضا.

وأشار لها الشهيد الأوّل في قواعده بعنوان «كل من قدر على إنشاء شي‌ء قدر على الاقرار به» (١).

وحينما وصل الأمر الى الشيخ الأعظم الأنصاري نراه قد ألّف رسالة في القاعدة المذكورة ذكر في مقدّمتها : «اشتهر على ألسنة الفقهاء من زمان الشيخ قدس‌سره إلى زماننا قضية كليّة يذكرونها في مقام الاستدلال بها على ما يتفرّع عليها كأنها بنفسها دليل معتبر أو مضمون دليل معتبر ، وهي ان من ملك شيئا ملك الاقرار به ...» (٢).

ويبدو ان هناك كلاما في ان القاعدتين المذكورتين هل هما قاعدة واحدة أو ان الاولى مستند للثانية أو هما متباينتان ولا ربط لإحداهما بالاخرى غايته قد تلتقيان في بعض الموارد. وسيتضح إن شاء الله تعالى ان الاحتمال الثالث هو الصحيح.

والذي نريد ان نفهمه من هذا الخلاف ان قلّة التعرض لقاعدة من ملك صار سببا لأن ينتابها شي‌ء من الغموض ومن ثمّ صار سببا لتوهم انّها والاولى قاعدة واحدة أو ان الاولى مدرك للثانية.

ونمنهج الحديث حول القاعدتين ضمن النقاط التالية :

١ ـ مضمون القاعدتين.

٢ ـ قاعدة واحدة أو قاعدتان.

__________________

(١) القواعد والفوائد ٢ : ٢٧٩.

(٢) الرسالة الملحقة في آخر المكاسب للشيخ الأنصاري.

١٧٠

٣ ـ مدرك القاعدتين.

٤ ـ استثناءات من قاعدة قبول الاقرار.

٥ ـ الاقرار بالدلالة الالتزامية.

٦ ـ التفكيك في الاقرار الواحد.

٧ ـ اختصاص القبول بموارد السلطنة الفعلية.

٨ ـ تطبيقات.

١ ـ مضمون القاعدتين‌

المقصود من قاعدة «اقرار العقلاء على أنفسهم جائز» ان كل عاقل إذا اعترف بشي‌ء هو في غير صالحه كان ملزما باعترافه ، فلو اعترف بأن الدار التي اسكن فيها ليست هي لي بل لزيد اخذ باعترافه وكان ملزما به.

وهكذا لو قال : اني لم أدفع المهر لزوجتي وهو بعد في ذمّتي كان ذلك منه اعترافا على نفسه وكان ملزما به.

اما إذا قال : الدار التي يسكن فيها زيد ليست هي له بل قد غصبها منّي لم يكن ذلك منه مقبولا بل احتيج في تصديقه إلى اثبات بالبينة لأنّه ليس اعترافا على نفسه بل هو ادّعاء في صالح نفسه ونفعها ، والادّعاء المقبول هو ما كان في ضرر المدعي ولم يكن في صالحه لا ما كان في صالحه.

ومنه يتضح ان كلمة «على» المذكورة على لسان القاعدة يراد بها الاشارة الى حيثية كون الادّعاء في ضرر المدّعي ، فهو عليه وليس له.

كما اتضح ان المقصود من كلمة «جائز» الواردة على لسان‌

١٧١

القاعدة هو الجواز بمعنى النفوذ والالزام وليس بمعنى الاباحة ، فالاقرار على النفس جائز يراد به ان الاقرار على النفس نافذ وتكون ملزمة به.

هذا بالنسبة الى القاعدة المذكورة.

واما قاعدة «من ملك شيئا ملك الاقرار به» فالمقصود منها ان كل من كان من حقّه القيام بتصرف معيّن فمتى ما أخبر عن تحقق ذلك التصرف قبل اخباره من دون مطالبة باثبات ذلك ، فلو اخبر الزوج الذي من حقّه طلاق زوجته متى ما شاء : انّي طلقت زوجتي قبل منه الاخبار المذكور وحكم بتحقق طلاق الزوجة بلا ان يطالب باثبات ما اخبر عنه من خلال البينة.

وهكذا الحال لو أوكلنا تصرّفا معينا إلى شخص فقلنا لأحد أصدقائنا : أنت وكيلي في شراء الدار الفلانية فجاء بعد فترة مخبرا باني اشتريتها بسعر كذا قبل منه ذلك بلا ان يطالب بالاثبات.

ومن هذا يتجلى ان المقصود من جملة : «ملك شيئا» السلطنة على التصرف المعين. كما وان المقصود من جملة : «ملك الاقرار به» نفوذ الاخبار عن تحقق ذلك التصرف المعين بلا مطالبة بالحجة على تحققه.

واتضح أيضا من خلال كل ما ذكرناه ان معنى كلمة الاقرار في القاعدة الاولى والقاعدة الثانية متغاير ، ففي القاعدة الاولى يراد منها الاعتراف في غير صالح النفس بينما في القاعدة الثانية يراد منها الاخبار عن تحقق التصرّف المعيّن.

٢ ـ قاعدة واحدة أو قاعدتان‌

من خلال ما ذكرناه في معنى القاعدتين يتضح ان القاعدتين‌

١٧٢

لا ترجعان إلى قاعدة واحدة بل لكل واحدة معنى يغاير المعنى المقصود من الثانية.

وبعد المغايرة بينهما لا وجه أيضا لدعوى ان قاعدة اقرار العقلاء هي مستند لقاعدة من ملك.

ان هاتين الدعويين قد نقلهما الشيخ الأنصاري عن بعض (١). وقد اتضح التأمل في كل منهما.

والمناسب ان يقال : إن القاعدتين متغايرتان مفهوما بيد انّهما قد يلتقيان موردا.

فاذا اخبر شخص بانّي قد أوقفت داري على الفقراء أو اوصيت بها إليهم قبل منه وكان ذلك موردا لكلتا القاعدتين.

وإذا قال : اني سرقت أو قتلت فلانا كان ذلك موردا لقاعدة اقرار العقلاء ولم يكن موردا لقاعدة من ملك لأن السارق والقاتل ليسا مسلّطين على القتل والسرقة.

واذا اخبر الوكيل عن شخص في بيع داره بتحقق بيعها قبل ذلك منه لقاعدة من ملك دون قاعدة اقرار العقلاء لأن الاخبار المذكور من الوكيل ليس اخبارا على نفسه بل هو اخبار عن قضية ترتبط بغيره.

وعليه فالنسبة بين القاعدتين من حيث المورد هي العموم من وجه.

__________________

(١) رسالة من ملك شيئا ملك الاقرار به الملحقة بآخر المكاسب.

١٧٣

٣ ـ مدرك القاعدة‌

بالنسبة إلى قاعدة «اقرار العقلاء على أنفسهم جائز» قد يستدل عليها بالأدلة الأربعة.

اما الكتاب الكريم فلقوله تعالى : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا)(١)، وقوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) (٢) ، وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٣) ، وقوله : (كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) (٤).

واما السنّة الشريفة فيكفي الحديث المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (٥).

واما العقل فباعتبار ان العاقل لا يكذب على نفسه بما يضرّه فاذا أقرّ على نفسه حصل القطع بصدق المضمون المقرّ به.

واما الاجماع فواضح إذ لا مخالف في المسألة.

والكل كما ترى.

اما الآيات الكريمة فلأن المهم منها هو الآية الأخيرة ـ وإلاّ فما قبلها أجنبي عن المقام ـ وهي تدل على ان الانسان يجب ان يشهد بالحق ولو كان ذلك في غير صالح نفسه ، وغاية ما يقتضيه هذا ان ما ثبت كونه‌

__________________

(١) آل عمران : ٨١.

(٢) التوبة : ١٠٢.

(٣) الاعراف : ١٧٢.

(٤) النساء : ١٣٥.

(٥) وسائل الشيعة باب ٣ من أبواب الاقرار حديث ٢.

١٧٤

حقّا تلزم الشهادة به ، وبالالتزام العرفي تدل على وجوب قبوله ، ولا تدل على انه لو شهد شخص على نفسه بشي‌ء واحتملنا كونه مشتبها يلزم قبول ذلك أيضا.

وبكلمة اخرى : هي تدل على ان الحق إذا شهد به يلزم قبوله ، وهذا أمر مسلّم غير قابل للشك وإلاّ لم يكن الحق حقّا ، ولا تدل على ان كل ما شهد به ما دام هو على النفس يلزم قبوله حتى ولو لم يحرز كونه حقّا.

وامّا الحديث المشهور فهو كما قال صاحب الوسائل رواه جملة من علمائنا في كتبهم الاستدلالية من دون ان يعرف له مستند غير ذلك (١).

أجل رواه الاحسائي في كتابه عوالي اللآلي ناسبا له للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، والكتاب المذكور ليس موردا للاعتماد.

واما شهرة العمل به ـ على تقدير كونه حديثا ـ فهي لو تمّت كبرى وصغرى فلا يمكن التعويل عليها في المقام لاحتمال ان استنادهم إليه ليس لثبوت حجيته لديهم كحديث بل لأن مضمونه مضمون عقلائي لا يحتاج إلى رواية.

واما حكم العقل فهو غير ثابت بعد احتمال اشتباه المقرّ في اقراره. على انه لا ينفع في موارد تراجع المقر وادّعائه الخطأ في اقراره.

واما الاجماع فلأنّه محتمل المدرك ـ بل جزمي المدرك ـ لاحتمال استناد المجمعين إلى المدارك السابقة ، وهو انّما يكون حجّة من باب كاشفيته يدا بيد عن موافقة المعصوم عليه‌السلام ، ومع احتمال المدرك لا يجزم بكاشفيته المذكورة لاحتمال استناد المجمعين إلى المدرك ـ ومعه يجب‌

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٣ من أبواب الاقرار حديث ٢.

(٢) مستدرك الوسائل ١٣ : ٣٦٩ باب ٣ من أبواب بيع الحيوان حديث ٣.

١٧٥

تقييم المدرك في نفسه بقطع النظر عن دعوى الاجماع ـ وليس الى المعصوم عليه‌السلام.

والمناسب ان يتمسك لتوجيه حجية الاقرار على النفس بالسيرة العقلائية المنعقدة على قبول الاقرار المذكور والزام المقرّ به حتى مع تراجعه ، وحيث انه لم يردع عنها فيستكشف امضاؤها.

هذا كلّه بالنسبة إلى مدرك قاعدة اقرار العقلاء.

واما قاعدة من ملك شيئا فقد ملك الاقرار به فقد يستدل عليها بما يلي :

١ ـ ما ذكره الشيخ العراقي من ان السلطنة على ايقاع الشي‌ء واقعا تلازم السلطنة على اثباته والاخبار عنه ، فالمسلط على بيع داره مثلا مسلّط على اثبات ذلك بالاخبار عن تحققه (١).

وفيه : ان الملازمة المذكورة ليست ثابتة عقلا ـ لإمكان التفكيك في نظر العقل ـ ولا شرعا.

أجل غاية ما يمكن ادعاؤه هو الملازمة العقلائية ، بمعنى ان العقلاء يرون ان الشخص إذا كان من حقّه ثبوتا بيع داره فمن حقّه اثبات ذلك من خلال الاخبار عنه.

وهذا شي‌ء له وجاهة ولكنّه بالتالي يرجع الى التمسّك بالسيرة العقلائية وليس إلى الملازمة المذكورة.

٢ ـ التمسك بما دلّ على عدم جواز اتهام الامين ، كما في صحيحة مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) القواعد الفقهية للسيد البجنوردي ١ : ٧.

١٧٦

قال : ليس لك ان تتّهم من قد ائتمنته ...» (١).

وفيه : ان ما ذكر يتم في مثل الوكيل الذي قد ائتمنه الموكل على القيام بتصرف معين ولا يتم في مثل الزوج إذا أخبر عن طلاق زوجته.

٣ ـ التمسك بالسيرة العقلائية الجارية على ان الوكيل إذا أوكل إليه بيع دار أو طلاق زوجة وما شاكل ذلك ثم جاء بعد فترة وأخبر بتحقق ذلك قبل منه. وهكذا إذا أخبر الزوج بطلاق زوجته أو صاحب الدار ببيعها أو وقفها أو هبتها قبل ذلك منه بلا مطالبة بالبيّنة. وهكذا الحال في كل من كان من حقه ايقاع تصرّف معين فانّه يقبل منه اخباره عن تحققه.

وفيه : ان السيرة المذكورة وان كانت مسلمة في الجملة إلاّ انّها لا تدل على المطلوب، فان القبول في باب الوكالة يحتمل ان يكون اما من باب ان الوكيل تفترض وثاقته عادة وإلاّ لما اوكل إليه الأمر ومن ثمّ يكون القبول من باب حجية خبر الثقة ، أو من باب انّه قد ائتمن ، وليس لك ان تتهم من قد ائتمنته كما ورد في الصحيحة السابقة.

وهكذا الحال في اخبار الشخص عن طلاق زوجته أو الوصية بماله فانّه يقبل منه اما لوثاقته أو لكون المورد من موارد الاقرار على النفس.

ومن ثمّ لا يمكن ان نخرج بنتيجة كليّة ، وهي ان كل من ملك شيئا ملك الاقرار به ، فان السيرة العقلائية لو تمّت ـ ولم نحتمل استناد العقلاء إلى قواعد اخرى ـ فهي خاصة بموارد خاصة ولا يمكن التعميم‌

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٤ من أبواب الوديعة حديث ١٠.

١٧٧

إلاّ بمقدار ما انعقدت عليه السيرة.

٤ ـ وقد يتمسك بالإجماع المنعقد على التمسك بالقاعدة. قال الشيخ الأنصاري: «الانصاف ان القضية المذكورة في الجملة اجماعية ، بمعنى انه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلينا كلامهم إلاّ وقد عمل بها في بعض الموارد بحيث يعلم انّه لا مستند سواها» (١).

وفيه : انه محتمل المدرك ـ لاحتمال استناد المجمعين الى السيرة أو غيرها من المدارك المتقدّمة ـ بل ان أصل تحققه غير محرز ، فان أول من تمسك بالقاعدة في حدود علمنا هو الشيخ الطوسي ولا يعلم بتمسك من قبله بها.

والنتيجة التي نخرج بها هي ان ثبوت القاعدة المذكورة بنحو القضية الموجبة الكلية أمر غير ثابت بل لا بدّ من الاقتصار على المتيقن من السيرة العقلائية.

٤ ـ استثناءات من قاعدة قبول الاقرار‌

تقدّم ان قاعدة اقرار العقلاء على أنفسهم جائز هي من القواعد التي انعقدت عليها سيرة العقلاء بيد انه يستثنى من ذلك بعض الموارد ، كموارد الاتهام ، كما لو فرض ان شخصا أقرّ بكونه سارقا واحتملنا ان غرضه من وراء ذلك قطع يده ومن ثمّ اعفاؤه عن الخدمة العسكرية ، ان الاقرار في مثل ذلك لا يكون نافذا لأن مدرك حجيته على ما تقدّم هو السيرة العقلائية ، وهي خاصة بموارد عدم الاتهام.

__________________

(١) رسالة من ملك الملحقة بآخر المكاسب.

١٧٨

كما ويستثنى من ذلك باب الزنا فان من أقرّ على نفسه بالزنا لا يحكم عليه به بل لا بدّ من اقراره بذلك أربع مرّات للروايات الخاصة في المجال المذكور.

٥ ـ الاقرار بالدلالة الالتزامية‌

تارة يكون الاقرار بالدلالة المطابقية ، كأن يقول شخص : الدار التي أسكنها هي لزيد ، واخرى يكون بالدلالة الالتزامية ، كأن يقول الشخص. الدار التي أسكنها اشتريتها من زيد ، فان ذلك يتضمن الاعتراف بكونها لزيد غايته يدّعي انتقالها منه إليه فيكون كلامه المذكور من الناحية الاولى حجّة عليه وملزما به.

وهكذا لو قال أحد المتخاصمين للآخر في مال معين : بعنيه ، فانه يستبطن الاعتراف بكونه للآخر فيكون ملزما بذلك.

والوجه في الالزام بالاقرار التضمني في الحالات المذكورة هو السيرة العقلائية التي هي المدرك لحجية الاقرار فانها لا تفرق بين وجوه الاقرار.

٦ ـ التفكيك في الاقرار الواحد‌

إذا ادّعى شخص ان المرأة الفلانية هي زوجتي فهذه الدعوى تستبطن من ناحية الاعتراف بوجوب الانفاق عليها وبحرمة التزوّج باختها وامّها وبنتها وبحرمة التزوّج بزوجة اخرى اضافة إليها لو كانت رابعة. هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى يتضمن الادّعاء المذكور وجوب تمكين نفسها منه وجواز النظر إليها وبحرمة الزواج بزوج آخر‌

١٧٩

غيره وما شاكل ذلك.

واللوازم المذكورة من الناحية الاولى تعدّ اقرارا من الشخص على نفسه بينما هي من الناحية الثانية تعدّ اقرارا منه لنفسه وليس على نفسه.

وعليه يكون الشخص المذكور ملزما باللوازم المذكوره من الناحية الاولى لقاعدة «اقرار العقلاء على أنفسهم جائز» بينما لا يكون له الحق في تطبيقها من الناحية الثانية لعدم وجود المثبت لها ، فان المثبت ليس إلاّ قاعدة الاقرار ، وهي تختص بما يتضمن الاقرار على النفس دون ما يتضمن الاقرار للنفس.

والمستند في التفكيك المذكور هو السيرة العقلائية المنعقدة على التمسك بالقاعدة فانّها تفكك بين الآثار بالشكل الذي ذكرناه.

أجل يمكن ان يقال بالنسبة الى الانفاق بعدم الزامه به لأنّه ثابت في مقابل تمكين الزوج من نفسها فاذا لم يحصل التمكين لم يجب عليه الانفاق.

ومن هذا القبيل أيضا ما لو قال شخص : زيد له عليّ ألف دينار كثمن للدار التي اشتريتها منه ، فان هذا الكلام يتضمن ادعاءين : ادّعاء اشتغال ذمّته لزيد بألف دينار وادّعاء عدم ملكية زيد للدار بالفعل ، وهو من الناحية الاولى اقرار على النفس فيقبل ويلزم بدفع ألف دينار بينما من الناحية الثانية ليس هو اقرارا على النفس بل للنفس فلا يكون حجّة.

ويمكن ان يقال بأن زيدا ما دام لا يلزم بتسليم الدار إلى المدّعي فلا يكون المدّعي بدوره ملزما بتسليم الثمن بل له حق الامتناع من باب المقاصة.

١٨٠