دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-039-0
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢٠٧
الجزء ١ الجزء ٢

أ ـ ان يكون المقصود اثبات السلطنة للمالك بشكل مطلق بما في ذلك السلطنة على أسباب النقل والانتقال كالبيع والاجارة والهبة و... بل بما في ذلك تفاصيل أسباب النقل ، فكل مالك مسلّط مثلا على بيع ماله بالعربية وبغيرها وبالقول وبالمعاطاة وبالماضوية وبغيرها و... وهكذا بالنسبة الى الهبة والاجارة و....

وعلى أساس هذا الاحتمال يمكن التمسّك بالقاعدة المذكورة لإثبات صحة البيع بالمعاطاة وبغير العربية وبغير الماضوية و....

ولربما يظهر هذا الاحتمال من صاحب الجواهر حيث استدل على شرعية المعاطاة المقصود بها الاباحة بعموم سلطنة الناس على أموالهم (١).

ب ـ ان يكون المقصود اثبات السلطنة على أسباب النقل والانتقال من دون نظر إلى تفاصيلها ، فالمالك له حق بيع ماله واجارته وهبته و... وليس لها نظر إلى تفاصيل الأسباب ، فهي لا تدل على السلطنة على البيع بالمعاطاة أو بغير العربية أو بغير الماضوية وانّما تدل على السلطنة على أصل البيع وعلى أصل الاجارة وعلى أصل الهبة لا أكثر.

وهذا الاحتمال هو المختار للشيخ الأعظم حيث ذكر في مبحث المعاطاة عند الاستدلال على شرعيتها وافادتها الملك ما نصّه : «واما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الناس مسلّطون على أموالهم فلا دلالة فيه على المدعى لأنّ عمومه باعتبار أنواع السلطنة فهو انّما يجدي فيما إذا شك في ان هذا النوع من السلطنة ثابتة للمالك وماضية شرعا في حقّه أم لا ،

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٢ : ٢١٨.

١٠١

اما إذا قطعنا بأن سلطنة خاصة كتمليك ماله للغير نافذة في حقّه وماضية شرعا لكن شك في ان هذا التمليك الخاص هل يحصل بمجرّد التعاطي مع القصد أم لا بدّ من القول الدال عليه فلا يجوز الاستدلال على سببية المعاطاة في الشريعة للتمليك بعموم تسلّط الناس على أموالهم» (١).

ج ـ ان يكون المقصود نفي الحجر عن كل تصرف مشروع ، فالحديث لا يدل على شرعية البيع والسلطنة عليها ولا على شرعية الاجارة والسلطنة عليها ولا على ... وانّما يدل على ان البيع مثلا إذا كان مشروعا بقطع النظر عن حديث السلطنة فصدوره من المالك لا يتوقف على كسب الاجازة من الغير ، فالزوجة إذا أرادت هبة بعض أموالها أو بيعها فلا يتوقف ذلك على موافقة الزوج مثلا. وهكذا الحال بالنسبة الى غير البيع.

فالحديث على هذا يدلّ على ان كل سبب ثبتت مشروعيته في نفسه فالمالك غير محجور عليه ولا يتوقف صحته على موافقة الآخرين ، اما ما هي الأسباب المشروعة فذلك ساكت عنه ولا يمكن من خلاله اثبات مشروعية هذا السبب وذاك عند الشك.

وهذا الاحتمال هو ظاهر الآخوند الخراساني في حاشيته على المكاسب (٢).

د ـ ان يكون المقصود اثبات السلطنة بلحاظ التصرّفات غير الناقلة فيجوز للمالك ان يخيط ثوبه المملوك له ويجوز له أيضا ان‌

__________________

(١) كتاب المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري ـ قسم البيع ـ منشورات دار الحكمة : ٤١.

(٢) حاشية المكاسب للشيخ الآخوند : ١٢ ، ١٤.

١٠٢

يضعه في هذا المكان أو ذاك وغير ذلك من التصرّفات غير الناقلة. واما بيعه وهبته ونحو ذلك من الأسباب الناقلة فلا يدل على شرعيتها ، فان عنوان «ماله» والاضافة الخاصة المذكورة لا بدّ من انحفاظها بعد ذلك ، فمثل البيع والهبة لا يدل الحديث على شرعيتهما لأنه بذلك يزول عنوان «ماله» والحديث لا ينظر إلى حيثية ازالة المال عن الملك بل إلى كل تصرّف بعد انحفاظ الاضافة الخاصة.

وهذا الاحتمال هو ظاهر الشيخ الايرواني في حاشية المكاسب (١).

هذه احتمالات أربعة في مفاد قاعدة السلطنة.

ولا معنى للنظر الى لفظ القاعدة وان الظاهر منه أي واحد من الاحتمالات المذكورة فان ذلك وجيه لو كان سند القاعدة باللفظ المذكور تامّا وصادرا من المعصوم عليه‌السلام ، اما بعد عدم تمامية السند وكون المدرك السيرة العقلائية والروايات الدالّة على ان الإنسان ما دام صحيحا له الحق ان يصنع بماله ما شاء فلا بدّ من ملاحظة ذلك دون لفظ حديث السلطنة.

اما السيرة فالقدر المتيقن انعقادها على الاحتمال الثالث وان المالك ليس بمحجور عليه في التصرف في ملكه ولا تتوقف صحة تصرّفه على كسب موافقة الآخرين بعد ان كان السبب قد ثبتت شرعيته في نفسه. ان هذا ممّا يجزم بانعقاد السيرة عليه بخلاف الاحتمالين الأولين فإنّه لا جزم بانعقادها عليهما. وينبغي الاقتصار على القدر المتيقن وهو الاحتمال الثالث عند الدوران بينه وبين الأولين.

__________________

(١) حاشية المكاسب للشيخ الايرواني ١ : ٧٧.

١٠٣

واما الاحتمال الرابع فيجزم بعدم تقيد السيرة به. وهل يحتمل عدم انعقاد السيرة على جواز بيع المالك ملكه أو اهدائه.

واما المدرك الثاني فلا يبعد نظره إلى الاحتمال الثالث أيضا ـ أو لا أقل هو القدر المتيقن عند اجمال النص ـ ، أي ان كل مالك لشي‌ء له الحق ان يصنع به ما شاء ما دام صحيحا بلا حاجة إلى كسب الاجازة من غيره كأولاده وغيرهم.

٤ ـ حدود قاعدة السلطنة‌

لم تمض الشريعة الاسلامية قاعدة السلطنة على اطلاقها بل أجرت عليها بعض التعديلات بنحو التخصيص أو التخصص ، ونذكر لذلك بعض الأمثلة :

أ ـ موارد التبذير والاسراف ، فمن حق كل انسان أن يتصرّف في أمواله ما دام لم يصل تصرّفه حدّ الاسراف والتبذير وإلاّ منع لقوله تعالى : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) (١).

وعلى هذا فليس من حق المالك لشي‌ء اتلافه بإلقائه في البحر أو احراقه بالنار وما شاكل ذلك من التصرّفات التي يصدق عليها عنوان السرف والتبذير ، ومثل المورد المذكور خارج عن قاعدة السلطنة بالتخصيص.

ب ـ موارد الضرائب المالية ، فليس من حق المالك لأموال تتعلّق بها ضريبة الزكاة أو الخمس التصرّف فيها قبل اخراج‌

__________________

(١) الاسراء : ٢٦ ـ ٢٧.

١٠٤

الضريبة المتعلقة بها.

وهذا يرجع اما الى تخصيص قانون السلطنة ، بمعنى ان المالك للأموال المتعلق بها الضريبة هو مالك لها جميعا ولكنه ممنوع من التصرّف فيها قبل اخراج الضريبة ، أو إلى التخصص ، بمعنى ان المالك للأموال المتعلق بها الضريبة ليس هو مالكا لمجموعها بل هو مالك لما عدا مقدار الضريبة ، فمقدار الضريبة ليس مملوكا له بل هو مملوك لأربابها ، وذلك المقدار حيث انّه مشاع فيكون المالك ممنوعا من التصرّف باعتبار ان المال المشترك لا يجوز التصرف فيه إلاّ بموافقة جميع الملاك.

ج ـ موارد صرف المال في المجال المحرم ، فليس من حق المالك أن يشتري بأمواله خمرا أو بعض آلات اللهو والفساد أو بعض كتب الضلال أو اقراضه وبيعه بشكل ربوي وما شاكل ذلك ، فان قانون السلطنة قد طرأ عليه التخصيص في المجالات المذكورة.

د ـ التصرّف بعد الموت بالمقدار الزائد على الثلث ، فان من حق كل إنسان ما دام حيّا أن يهب جميع أمواله أو يوقفها أو ... واما بعد موته فله الحق في أمواله بمقدار الثلث دون ما زاد ، فله الحق أن يوصي باهداء مقدار من أمواله بعد وفاته لبعض أصدقائه أو الفقراء ما دام ذلك لا يتجاوز مقدار الثلث وإلاّ توقف مضي الوصية على اجازة الورثة.

وهذا في روحه لا يرجع إلى التخصيص بل الى التخصيص ، بمعنى ان الشخص بعد وفاته لا يكون مالكا إلاّ بمقدار الثلث لا انّه مالك للمجموع ويمنع من التصرّف في المقدار الزائد على الثلث.

ه ـ موارد مرض الموت ، فان المشهور اختار ان المالك إذا تمرّض‌

١٠٥

بمرض الموت فليس من حقّه اهداء أمواله أو بيعها بأقل من ثمن المثل إلاّ إذا كان ذلك التصرّف في حدود الثلث.

و ـ موارد الشفعة ، فان لكل مالك لدار مشتركة بينه وبين غيره بيع حصّته متى ما أحب ، ولكن متى ما أراد بيعها لإنسان آخر غير الشريك فمن حق الشريك أن يعمل حق الشفعة ، بمعنى الزام المالك ببيعها عليه دون غيره.

فالمالك إذا باع حصّته بثمن معيّن فمن حق الشريك متى ما اطّلع على البيع أن يقول أعملت حق الشفعة فيأخذ بذلك الحصة التي بيعت بعد دفع الثمن الى المالك.

ي ـ إذا أراد المالك احداث حمّام مثلا في ملكه وكان ذلك موجبا للإضرار بجاره فإنّه ليس من حقّه ذلك ما دام الجار يتضرّر بذلك وهو لا يتضرّر بترك احداث مثل ذلك.

وهذا المورد ـ وهكذا سابقاه ـ يرجع في روحه إلى التخصيص كما هو واضح.

٥ ـ التسلّط على الحقوق‌

لا اشكال في ثبوت السلطنة للمالك على ما يملكه. وهل هناك سلطنة على الحقوق أيضا؟ فلو كان لشخص خيار المجلس فهل له سلطنة على اسقاطه؟ ولو ثبت له حق في مكان معيّن بسبب التحجير ـ فيما إذا كان من المباحات العامة ـ أو بسبب السبق إليه ـ فيما لو كان مسجدا ـ فهل له سلطنة على اسقاطه؟ والزوجة لها حق النفقة والمبيت عندها هل لها سلطنة على اسقاطه؟ والعمّة والخالة لهما الحق في أن لا‌

١٠٦

يجيزا عقد بنت الأخ والاخت هل لهما سلطنة على اسقاطه؟ والزوج له حق الزواج بالثانية والثالثة والرابعة هل له سلطنة على اسقاطه؟ إلى غير ذلك من الأمثلة.

والجواب : ان بعض الحقوق قابل لذلك ، كما في الخيار وحق النفقة والمبيت وبعضها لا يقبل ذلك كالزواج بالثانية.

ولربما يصطلح على الثاني الذي لا يقبل الاسقاط بالحكم ، فجواز الزواج بالثانية حكم شرعي وليس حقّا ليقبل الاسقاط ، وهذا كما هو الحال في شرب الماء والحليب واشباه ذلك فان لكل انسان الحق في ذلك ولكنه لا يقبل الاسقاط ، وهو لأجل ذلك يكون في الحقيقة حكما شرعيّا وليس حقّا.

وعليه فنخرج بهذه النتيجة ، وهي ان كل ما يقبل الاسقاط يكون حقّا وما لا يقبله يكون حكما شرعيا.

وبعد هذا نعود إلى التساؤل من جديد. لما ذا صارت الحقوق قابلة للإسقاط وما هي النكتة في ذلك؟ فهل ذلك لقاعدة السلطنة وان كل إنسان كما هو مسلّط على أمواله مسلّط على حقوقه؟

والجواب : انّه متى ما استظهرنا من النص الشرعي ان هذا أو ذاك حق شرعي فهذا بنفسه يستبطن افتراض قابليته للإسقاط وإلاّ لم يكن حقّا بل حكما شرعيا.

وعليه فالدليل على قابلية الحقوق للإسقاط هو نفس الدليل على تشريع الحقوق المذكورة بلا حاجة الى التماس دليل آخر من قاعدة السلطنة أو غيرها.

١٠٧

٦ ـ التسلّط على النفس والأعضاء‌

هل الانسان مسلّط على نفسه وأعضائه كما هو مسلّط على أمواله؟ كلا ليس مسلّطا على ذلك ، فان السلطنة المذكورة لا دليل عليها ، ويكفي عدم الدليل للحكم بانتفائها.

بل قد يقال بدلالة الدليل على نفي السلطنة المذكورة. فبالنسبة الى النفس دلّ قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١) على نفي السلطنة عليها وان الإنسان ليس له سلطنة على نفسه بإلقائها في التهلكة من خلال الانتحار وغيره.

واما بالنسبة إلى الأعضاء ـ كالتبرّع بالكلية أو العين أو اليد أو الرجل ـ فقد يستدل على حرمة ذلك بأحد الوجوه التالية :

أ ـ التمسك بالسيرة العقلائية الجارية على التجنب عن كل ما يوجب الضرر. وحيث انه لم يردع عنها شرعا فتكون ممضاة.

وفيه : ان سيرة العقلاء وان جرت على ما ذكر إلاّ انّها ليست بنحو الالزام بل قد يقدمون عليه إذا كان لداع عقلائي ، كالتبرع بالكلية لمن كان بحاجة ماسة إلى ذلك.

وكيف يقال بلزوم التجنب عمّا يوجب الضرر والحال ان لازم ذلك حرمة الأكل الزائد أو الجماع الكثير أو الخروج من المكان الدافئ إلى البارد وما شاكل ذلك.

ب ـ التمسك بحديث نفي الضرار حيث ورد في الحديث الشريف :

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

١٠٨

«لا ضرر ولا ضرار» (١) ، وحيث ان إرادة النهي عن الاضرار من الفقرة الثانية «ولا ضرار» أمر قريب جدّا فيلزم الحكم بحرمة الاضرار.

وفيه : ان المنصرف إليه النهي المذكور تحريم الاضرار بالآخرين دون الاضرار بالنفس.

ج ـ التمسّك بما دلّ على حرمة الجناية على النفس وظلمها بتقريب ان قطع مثل اليد أو الرجل نحو ظلم لها فيحرم لقوله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٢).

وفيه : ان صدق عنوان ظلم النفس فرع حرمة مثل قطع اليد في المرحلة السابقة،والمفروض فقدان ذلك.

والتأمّل في صدق عنوان الظلم أوضح لو فرض ان الداعي للقطع كان عقلائيا كالتبرّع بالكلية للحفاظ على نفس محترمة.

د ـ التمسّك بما دلّ على ان علّة تحريم الخمر اضرارها ـ كما قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) (٣) ـ فانّه بعد ضمّ ما دل على «ان الله حرّم الخمر بعينها فقليلها وكثيرها حرام» (٤) الى ذلك يثبت ان كل ما كان مضرّا فلا فرق بين كثيره وقليله في التحريم.

وفيه : ان هذا حكم خاص بالخمر ولا يمكن التعدّي منه إلى غيره لاحتمال وجود خصوصية فيه.

__________________

(١) راجع الحديث في الجزء الأول عند البحث عن قاعدة لا ضرر.

(٢) النحل : ١١٨.

(٣) البقرة : ٢١٩.

(٤) وسائل الشيعة باب ١٥ من أبواب الأشربة المحرّمة حديث ٤.

١٠٩

ذ ـ التمسك ببعض الروايات الدالة على ان علّة تحريم بعض المحرمات اضرارها ببدن الإنسان ، من قبيل رواية المفضل بن عمر : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : لم حرّم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ قال : ان الله تبارك وتعالى ... علم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم ...» (١) بتقريب ان علّة تحريم المحرّمات إذا كان هو الاضرار بالنفس فيلزم حرمة كل ما يوجب الضرر كقطع اليد أو الرجل وإلاّ لما صلح ان يكون علّة لتحريم المحرّمات.

وفيه : ان الحديث وان دلّ على حرمة الاضرار بالنفس ولكن لم يبين ان الضرر بأي درجة يكون محرّما ، وليس له اطلاق من هذه الناحية ليتمسك به ، ولعل المحرم حصّة خاصّة من الضرر.

بل ان بعض الأحاديث يستفاد منها عدم حرمة الاضرار بالنفس كالأحاديث التي ترشد الى رجحان عدم تناول بعض الأطعمة لكونها مضرّة.

ومن خلال هذا كلّه يتضح عدم تمامية دليل على حرمة مطلق الاضرار بالنفس ليثبت من خلاله حرمة قطع الانسان بعض أعضائه.

والمناسب ان يقال : ان الاضرار بالنفس إذا كان بحدّ يعلم بمبغوضية الشارع له ـ كقطع الانسان يديه ورجليه مثلا ـ فهو محرّم ، وإذا لم يكن بالحدّ المذكور ـ كإخراج الدم من بعض الأعضاء أو التسبيب الى طرو الحمى ـ فيكون جائزا لا من باب التمسك بقاعدة السلطنة بل لأصل البراءة عن حرمة مثل ذلك.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث ١.

١١٠

اذن الاضرار بالنفس إذا لم يكن بالدرجة التي يعلم بمبغوضيتها شرعا فارتكابه جائز لا من باب سلطنة الانسان على نفسه وأعضائه ، فان السلطنة المذكورة لم تثبت ، بل لأننا ما دمنا نشك في حرمة مثل ذلك فمقتضى أصل البراءة الجواز.

٧ ـ السلطنة والضرر‌

قد تتعارض أحيانا قاعدة السلطنة مع قاعدة نفي الضرر فما هو الموقف في مثل ذلك؟

فمثلا إذا أراد المالك أن يحدث في ملكه حمّاما أو بالوعة وكان ذلك موجبا للإضرار بالجار فسوف تتعارض قاعدة حرمة الاضرار بالجار مع قاعدة تسلّط المالك على ملكه ، فان مقتضى قاعدة السلطنة جواز احداث المالك للحمام أو البالوعة في ملكه بينما مقتضى قاعدة نفي الضرر عدم جواز مثل ذلك. ومعه فأي من القاعدتين هو المقدّم؟

والمناسب أن يقال : تارة يفترض ان المالك لا يتضرّر من عدم احداث الحمام والبالوعة واخرى يتضرّر.

فعلى الأوّل يكون المناسب عدم جواز احداث ذلك لحرمة الاضرار بالآخرين.

ولا يعارض ذلك بقاعدة السلطنة لقصورها عن شمول مثل الحالة المذكورة فان السلطنة الثابتة للمالك بالسيرة العقلائية قاصرة عن الشمول لما إذا كان اعمال السلطنة مستلزما للإضرار بالآخرين.

وهكذا موثقة سماعة الدالة على ان المالك ما دام حيّا صحيحا فله‌

١١١

أن يصنع بماله ما شاء (١) قاصرة عن الشمول لمثل هذه الحالة فانّها ليست في مقام البيان من الجهة المذكورة ، فلا تريد أن تقول ان له حقا في ان يصنع بماله ما شاء وان استلزم ذلك الاضرار بالآخرين.

واما إذا فرض تضرّر المالك من عدم احداثه للحمام والبالوعة فالمورد يدخل في تعارض الضررين : ضرر المالك وضرر الجار. وفي مثله حيث لا دليل على حرمة احداث المالك لما ذكر في ملكه فلا يعود محذور في التمسّك بأصل البراءة لإثبات جواز ذلك.

٨ ـ تطبيقات‌

١ ـ إذا شك في حلية لحم الأرنب وكان لإنسان أرنب فهل يمكن التمسّك بقاعدة السلطنة لإثبات جواز أكله؟

٢ ـ إذا شك في شرطية معلومية العوضين في باب البيع فهل يمكن التمسك بقاعدة السلطنة لإثبات جواز البيع في حالة عدم معلومية العوضين؟

٣ ـ هل يمكن التمسك بقاعدة السلطنة لإثبات ان البيع المعاطاتي مفيد للتمليك دون مجرّد الاباحة؟

٤ ـ إذا شك في لزوم البيع المعاطاتي فهل يمكن التمسّك بقاعدة السلطنة لإثبات اللزوم؟ وبأي بيان؟

٥ ـ من حق الإنسان أن يتناول الأطعمة المباحة. هل بامكانه اسقاط الحق المذكور بقاعدة السلطنة؟

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١٧ من أبواب الوصايا حديث ١١.

١١٢

٦ ـ من حق الرجل الزواج بالثانية ، هل بامكانه اسقاط الحق المذكور؟ وإذا لم يمكنه ذلك فما هو الطريق لتوصل الزوجة الاولى إلى عدم تزوج زوجها بزوجة ثانية؟

٧ ـ هل يمكن التمسك بقاعدة السلطنة لإثبات جواز طلاق الزوجة نفسها إذا اشترط لها الزوج ذلك في العقد؟ وما هي الطريقة الشرعية للتوصل إلى ذلك إذا لم يمكن التمسّك بقاعدة السلطنة؟

٨ ـ كيف نوجّه اخراج الدم من الرأس في عزاء سيّد الشهداء عليه‌السلام. وهكذا الضرب على الظهر بالسلاسل الحديدية؟ وهل الجواز موقوف على اثبات سلطنة الإنسان على جوارحه؟

١١٣
١١٤

قاعدة الميسور‌

١ ـ مضمون القاعدة‌

٢ ـ مدرك القاعدة‌

٣ ـ الاستصحاب والقاعدة‌

٤ ـ اطلاق الأدلّة الأولية والقاعدة‌

٥ ـ تطبيقات‌

١١٥
١١٦

من القواعد المهمّة التي يستفيد منها الفقيه كثيرا ـ على تقدير تماميتها ـ قاعدة الميسور. فاذا تعذّر غسل الوجه في الوضوء تعيّن الاكتفاء بالباقي من دون انتقال الى التيمم ، واذا تعذّر غسل بعض المواضع في الغسل تعيّن الاكتفاء بالباقي من دون انتقال إلى التيمم أيضا ، وإذا تعذّر الامساك في تمام يوم الصوم تعيّن الاكتفاء بالباقي ، وهكذا في بقية الموارد.

وقد بحث الشيخ الأعظم في الرسائل القاعدة المذكورة في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين ـ مبحث الشك في جزئية جزء أو شرطية شرط ـ حيث انجر كلام الاصوليين إلى ما لو تعذّر جزء معين من أجزاء الواجب لسبب وآخر (١) فهل يلزم الاتيان ببقية الأجزاء أو لا؟

ان وجوب باقي الأجزاء وعدمه يرتبط بملاحظة ان جزئية الجزء‌

__________________

(١) طبيعي لا بدّ من افتراض ذلك في غير الصلاة إذ الصلاة لا اشكال في عدم سقوط وجوبها بتعذّر بعض أجزائها.

١١٧

المتعذّر هل هي مختصة بحالة امكان الاتيان بالجزء أو هي مطلقة؟

فعلى تقدير اختصاصها بحالة الامكان يلزم الاتيان بالباقي لأنّه يعد كاملا ولم ينقص منه شي‌ء على التقدير المذكور ، بينما على تقدير عدم الاختصاص لا يلزم الاتيان بالباقي لأنّه ناقص ، والناقص لم يتعلّق به الوجوب وانّما تعلّق بالكامل.

ومن هنا انجر البحث إلى انّه هل يوجد أمر بالناقص بناء على كون جزئية الجزء المتعذّر مطلقة وغير خاصة بحالة التمكّن؟

وأحد الطرق التي طرحت ليثبت من خلالها الأمر بالناقص هي قاعدة الميسور. وبهذه المناسبة انجر البحث الى قاعدة الميسور.

ان الشيخ الأعظم تعرّض لقاعدة الميسور في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين للمناسبة المذكورة. وأخذ بقية الاصوليين يبحثون القاعدة المذكورة في المورد المذكور بالرغم من كونها أجنبية بتمام معنى الكلمة عن علم اصول الفقه.

وقد بحث القاعدة المذكورة قبل الشيخ الأعظم استاذه الشيخ النراقي في كتابه المعروف بعوائد الأيّام (١).

هذا هو منشأ البحث عن قاعدة الميسور في علم الاصول والتسلسل التاريخي لذلك.

ونمنهج الحديث عن القاعدة المذكورة ضمن النقاط التالية :

١ ـ مضمون القاعدة.

٢ ـ مدرك القاعدة.

__________________

(١) عوائد الأيّام (العائدة ٢٧) : ٨٨.

١١٨

٣ ـ الاستصحاب والقاعدة.

٤ ـ اطلاق الأدلّة الأولية والقاعدة.

٥ ـ تطبيقات.

١ ـ مضمون القاعدة‌

يراد بالقاعدة المذكورة انّه لو كان لدينا واجب مركب من مجموعة أجزاء وتعذّر الاتيان ببعض تلك الأجزاء فمن اللازم الاتيان بالباقي فان الأجزاء الميسورة لا يسقط وجوبها بتعذّر الأجزاء التي تعسر الاتيان بها بالرغم من اقتضاء القاعدة الأولية لعدم وجوب الباقي لأن الأمر كان متعلّقا بالمركب الكامل التام ولم يتعلّق بالناقص ، فوجوب الناقص على هذا يحتاج إلى دليل خاص لأنّه مخالف للقاعدة الأولية ، وذلك الدليل الخاص هو قاعدة الميسور فانّها تثبت الأمر بالناقص وعدم سقوطه بسقوط الأمر بالكل.

ومن الطبيعي ان هذا البحث لا نحتاجه في مثل الصلاة لأنّه بتعذّر بعض أجزائها لا يسقط وجوب الباقي لقاعدة لا تسقط الصلاة بحال المستفادة من ضرورة الفقه ومن بعض الروايات الخاصّة (١).

وانما نحتاج إلى هذا البحث في غير الصلاة من الواجبات الاخرى.

وينبغي الالتفات الى ان مورد القاعدة ـ كما قلنا ـ المركب ذو الأجزاء ، اما ما وجب بنحو العموم الافرادي فلا شك في عدم سقوط‌

__________________

(١) ورد المضمون المذكور في رواية واحدة وهي صحيحة زرارة الواردة في المستحاضة حيث قال عليه‌السلام : «... ثم تصلي ولا تدع الصلاة على حال فان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الصلاة عماد دينكم» وسائل الشيعة باب ١ من أبواب الاستحاضة حديث ٥.

١١٩

وجوب الباقي بتعذر البعض ، فاذا تعذّر صوم بعض الأيّام في شهر رمضان لم يسقط وجوب صوم الباقي لأنّ صوم كل يوم من أيّام الشهر واجب بوجوب مستقل ، ولا مجال لتوهم سقوط الوجوب في مثله بتعذّر صوم بعض الأيّام وإلاّ كان ذلك خلف فرض الاستقلالية.

وهكذا لو وجب اكرام كل فرد من أفراد العلماء وتعذّر اكرام بعض فانّه لا يسقط وجوب اكرام الباقي لنفس النكتة المتقدّمة وبلا حاجة الى الاستعانة بقاعدة الميسور.

اذن مورد القاعدة الاجزاء الواجبة بوجوب واحد دون الافراد الواجب كل واحد منها بوجوب استقلالي.

٢ ـ مدرك القاعدة‌

قد يتصوّر ان القاعدة المذكورة بديهية لا تحتاج إلى دليل إذ من الواضح ان من تعذّر عليه قضاء قسم من دينه وتمكن من قضاء قسمه الآخر فلا يسقط وجوب قضاء الثاني بتعذّر الأوّل ، وهل يحتمل احتياج اثبات مثل ذلك إلى دليل؟!

بيد ان التصور المذكور خاطئ لأن ما ذكر وجيه في الافراد الواجبة بوجوبات مستقلة، وقد أشرنا الى عدم نظر القاعدة إلى ذلك بل للمركب الذي يتألف من أجزاء متعددة وجب مجموعها بوجوب واحد من دون استقلالية ، ومن الجلي ان ثبوت الوجوب للناقص بعد ما لم يكن هو المتعلّق له يحتاج إلى دليل.

والمعروف الاستدلال لها بروايات ثلاث :

١٢٠