دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-039-0
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢٠٧
الجزء ١ الجزء ٢

وانّما عبّر باليد لأنّها الوسيلة عادة لتحقق الاستيلاء.

والمهم تحقيق المقصود من التعبير ب «على اليد» فما المقصود من كونه عليها؟ فهل المقصود الاشارة بذلك الى الحكم التكليفي أو الى الحكم الوضعي؟

ظاهر الشيخ النراقي في عوائد الايام احتمال كون المقصود هو الحكم التكليفي ، أي على اليد حفظ ما أخذت إلى زمان ادائه ، ومعه فلا يكون الحديث ناظرا الى الحكم الوضعي ، وهو الضمان.

وكأن الشيخ الأعظم قدس‌سره في مبحث المقبوض بالعقد الفاسد ناظر الى ذلك حينما ذكر ان الحمل على إرادة الحكم التكليفي وجيه لو كانت النسبة الى فعل من أفعال المكلف بأن قيل هكذا : على اليد حفظ ما أخذته ، انّه في مثل ذلك يتولّد ظهور في ارادة الحكم التكليفي ، بخلاف ما لو كانت النسبة إلى نفس المال ـ كما هو الحال في الحديث ـ فان الكلام يكون ظاهرا آنذاك في إرادة الضمان ، فحينما يقال : عليك دينار فالمراد : انّك ضامن ومشغول الذمّة بدينار (١).

هذا ما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره.

والمناسب ان يقال : بعد ان حصرنا المدرك بالسيرة العقلائية فليس لنا الا الرجوع اليها، وهي تقتضي الضمان لا مجرّد الحكم التكليفي ، فمن استولى على سيارة غيره مثلا ودفعها إلى ثان جاز لدى العقلاء رجوع صاحبها الى الأوّل ومطالبته بها.

__________________

(١) كتاب المكاسب : ١٨٠ ، منشورات دار الحكمة.

١٤١

٤ ـ ضمان المنافع والاعمال‌

وقع البحث في ان قاعدة على اليد هل تشمل المنافع والاعمال أو لا؟ فمثلا لو استولى شخص على سيارة غيره بدون اذنه وأرجعها بعد يوم دون حدوث أي نقصان فيها ولكنه انتفع منها بركوبها في مسافة قصيرة فهل يمكن التمسك بقاعدة على اليد لإثبات ضمان المنفعة في الفترة المذكورة؟

ويصطلح على مثل المنفعة المذكورة بالمنفعة المستوفاة في مقابل ابقاء السيارة بلا انتفاع منها طيلة الفترة.

ويصطلح على المنافع التي يمر الزمن دون استفادة منها بالمنافع غير المستوفاة.

وقد وقع البحث في ان قاعدة على اليد هل تدل على ضمان المنافع المستوفاة وغير المستوفاة أو لا؟

وهكذا الكلام بالنسبة إلى الأعمال ، فلو فرض ان شخصا قدّم قطعة قماش إلى خيّاط فخاطها ثم انكشف انّها ليست له وقد اشتبه في تقديمها إلى الخيّاط. ان الاجارة في مثل ذلك فاسدة ، ولكن هل يمكن اثبات ضمان عمل الخيّاط بقاعدة على اليد؟

استشكل في شمول القاعدة لمثل ذلك اما لأنّ عنوان الأخذ لا يصدق إلاّ بالنسبة الى الاعيان دون المنافع والاعمال أو لأن الذيل المذكور في القاعدة هو «حتى تؤدي» ، والاداء حيث لا يمكن تحققه بالنسبة الى غير الاعيان فتختص القاعدة بها.

ونعود هنا من جديد لنقول : ان المناسب الرجوع الى السيرة‌

١٤٢

العقلائية دون القاعدة بألفاظها الخاصة لضعف سند الحديث. وإذا رجعنا الى السيرة فلا يبعد قضاؤها بالضمان في المنافع لأنها مال فوّت على صاحبه. وهكذا في الأعمال باعتبار تحقق الأمر بعمل الخياطة ، والأمر بالعمل بنفسه موجب من موجبات الضمان في نظر العقلاء كما ستأتي الإشارة إليه.

٥ ـ المثل أو القيمة وبدل الحيلولة واجرة الرد‌

لا اشكال في ان العين المأخوذة من الغير بدون كسب موافقته يلزم ردّها كاملة إليه. ولو تلفت فبناء على قاعدة على اليد وقاعدة لا يصلح ذهاب حق أحد هدرا لزوم ضمان التالف. وهل يلزم الضمان بالمثل أو بالقيمة؟

قد يقال المناسب لقاعدة على اليد ضمان المثل فان تعذّر فالقيمة.

ثم انّه على تقدير تعذر المثل فهل المدار على قيمة العين يوم الاستيلاء عليها أو يوم تعذر المثل أو يوم المطالبة أو يوم الدفع والاداء؟

قد يقال : المناسب لقاعدة على اليد كون المدار على قيمة يوم الاداء لأن العين بالاستيلاء عليها بدون اذن تكون بنفسها ثابتة في الذمّة حتى مع تعذر المثل ، فان القاعدة تقول : على اليد ما أخذت ، أي ان نفس ما أخذته ثابت في الذمّة وتنشغل به الى ان تؤديه فهو باق في الذمة حتى بعد تعذر المثل ولا ينتقل الى القيمة إذ لا موجب لذلك فان مقتضى اطلاق على اليد ما أخذت بقاء ما استولي عليه في ذمّة المستولي حتى بعد تلفه بل وحتى بعد تعذّر المثل ، أجل عند تلف العين‌

١٤٣

وتعذر مثلها لا بدّ من الانتقال الى القيمة آنذاك لأنّها البديل الممكن فتثبت قيمة المثل حين المطالبة وارادة الدفع.

كما ان هناك سؤالا آخر ، وهو ان العين لو كانت موجودة وليست بتالفة ولكن تعذر الوصول اليها كالخاتم الذي يقع في البحر فهل يلزم ضمان بدل الحيلولة ، بمعنى ان المستولي على الخاتم بلا اذن صاحبه هل يلزمه دفع خاتم مماثل للسابق كبديل عن الحيلولة الحاصلة في فترة يوم أو يومين إلى ان يخرجه الغواصون؟

وبكلمة اخرى : نفترض ان العين لم يتحقق تلفها وبالامكان ردّها بعد يوم أو يومين فهل يلزم دفع البديل في الفترة المذكورة؟

ولربما يستدل بقاعدة على اليد على ضمان بدل الحيلولة.

وهناك تساؤل ثالث أو رابع وهو ان العين إذا كانت موجودة وبالامكان ردّها ولكن كان ردّها يحتاج الى اجور فهل الاجور على المستولي بلا اذن؟

قد يقال : نعم هي عليه لقاعدة على اليد.

وبالجملة : ان قاعدة على اليد قد يتمسك بها لإثبات وجوب المثل مع وجوده أو القيمة مع عدمه. وهكذا قد يتمسك بها لإثبات وجوب بدل الحيلولة واجور الردّ.

هذا والمناسب في ضوء ما ذكرناه الرجوع إلى السيرة العقلائية وهي تقتضي وجوب المثل مع امكانه والقيمة مع عدمه. ولا يبعد انها تقتضي اعتبار قيمة يوم الدفع وتقتضي أيضا تعلّق الاجور بالمستولي على العين.

١٤٤

واما بدل الحيلولة ففي اقتضائها لذلك تأمل ، ومع الشك يرجع الى البراءة.

٦ ـ عموم القاعدة للجاهل والصغير‌

بعد وضوح ضمان من وضع يده على مال الغير إذا كان عالما بالغا قد يتساءل عن الضمان لو كان جاهلا بكونه مال الغير أو كان غير بالغ فهل يكون ضامنا أيضا أو لا؟

قد يجاب بأن الأحكام حيث تختص بالعالم البالغ فمن المناسب عدم استقرار الضمان في المقام.

وما ذكر قابل للتأمّل لأن الحكم بالضمان حكم وضعي وهو لا مانع من شموله للجاهل والصغير وانما الذي لا يشملهما هو الحكم التكليفي بالخصوص.

وعليه فوجوب الرد مثلا لا يشمل غير البالغ بخلاف الضمان لو تحقق التلف عنده فانه لا محذور في شموله له ، غايته يكون المكلف بالدفع من أموال الصبي هو وليه.

وهكذا الحال فيمن وضع يده على مال الغير وهو جاهل بذلك متخيلا انّه ملكه فانّه ضامن له لو تلف عنده بل ولو لم يتلف أيضا ، كل ذلك للسيرة العقلائية وليس لحديث على اليد لعدم تمامية سنده.

٧ ـ استثناء يد الامانة والاحسان‌

ان كل من استولى على مال غيره كان ضامنا له اما لحديث على اليد أو للسيرة العقلائية. ويستثنى من ذلك نحوان من اليد :

١٤٥

يد الأمانة ويد الاحسان.

اما يد الأمانة فلا اشكال في عدم ضمانها حتى مع تحقق التلف عندها ، وذلك اما لأن السيرة العقلائية التي هي المدرك لضمان اليد ضيقة من الأول ومحدودة من البداية بحدود اليد غير الامانية ، فان العقلاء إذا ائتمنوا شخصا وأودعوا عنده مالا وتلف لديه فلا يحكمون عليه بالضمان إلاّ إذا فرّط وتعدى.

أو للروايات الخاصة القاضية بأن يد الأمانة لا تكون ضامنة إلاّ مع التعدي والتفريط كما في صحيحة مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السّلام : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ليس لك ان تتهم من قد ائتمنته ...» (١).

والصحيحة المذكورة تدل بوضوح على الضمان مع تحقق التعدي والتفريط.

ثم ان الأمانة تارة تكون مالكية واخرى شرعية.

والمراد بالاولى الأمانة التي يقوم بها مالك الشي‌ء نفسه ، وبالثانية الأمانة التي يقوم بها الشارع من قبل المالك ، كما هو الحال في اللقطة ، فان الشارع ما دام قد جوّز التقاط الشي‌ء الضائع فلازم ذلك جعله الملتقط أمينا على الشي‌ء ومن ثمّ تكون أمانته من قبل الشارع امانة شرعية.

والأمين في كلتا الحالتين لا يكون ضامنا ما دام لم يفرط.

هذا كلّه في يد الامانة.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٤ من أحكام الوديعة حديث ١٠.

١٤٦

واما يد الاحسان فهي ليست ضامنة أيضا لقوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (١).

أجل يد الاحسان هي في واقعها مصداق من مصاديق يد الامانة وليست شيئا مغايرا لها. وذكرها بالخصوص لأجل اشارة الآية الكريمة لها بالخصوص.

والذي ينبغي الالتفات إليه ان اليد لا يصدق عليها كونها محسنة إلاّ إذا كان التصرف مأذونا به من قبل المالك ، فمن اودع عنده مال وأخذ يتاجر به لغرض تحصيل الأرباح للمالك من دون ان يأذن المالك بذلك وخسر في تجارته يكون ضامنا بالرغم من كون غرضه الاحسان لصاحب المال ، وليس ذلك إلاّ لعدم صدق عنوان الاحسان بعد عدم اذن المالك.

ثم انّه بعد استثناء يد الامانة والاحسان يبقى تحت القاعدة كل يد لم تكن من أحد القسمين حتى وان لم تكن يد غصب كاليد التي تستولي على شي‌ء جهلا بكونه لغيرها.

وبذلك يتضح عدم اختصاص الضمان باليد العدوانية ، بل قد يصطلح على كل يد غير امانية باليد العدوانية.

٨ ـ أسباب اخرى للضمان‌

للضمان أسباب متعددة كانت من جملتها اليد. وهناك أسباب اخرى له يجدر الالتفات إليها من جملتها :

__________________

(١) التوبة : ٩١.

١٤٧

أ ـ الاتلاف ، فان من أتلف مال غيره فهو له ضامن حتى لو لم يكن صاحب يد عليه ،كمن رمى زجاجة الغير بحصاة وكسرها فإنّه ضامن لها لإتلافها وليس لليد لعدم تحققها.

والمستند في ذلك ليس حديث «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» فان ذلك لم يثبت كونه حديثا حتى على سبيل الارسال بل المستند المهم لذلك السيرة العقلائية الممضاة بعدم الردع.

ب ـ الأمر بالعمل ، فان من أمر غيره بعمل معيّن ولم يتبانيا على التبرع فهو ضامن متى ما قام الغير بالعمل ، فلو فرض ان شخصا قال للبنّاء : ابن داري أو قال للحمّال:احمل متاعي الى البيت أو قال للخيّاط : خط ثوبي أو قال للطبيب : عالج ولدي المريض وما شاكل ذلك كان ذلك موجبا لضمان الآمر حتى ولو لم تتحقق اجارة ونحوها.

والمستند في ذلك هو السيرة العقلائية أيضا الممضاة بعدم الردع.

وهذا السبب للضمان قد لا نجد له اشارة في كلمات الاعلام خصوصا المتقدّمين منهم ولكن الأمر كما ذكرنا للسيرة العقلائية.

ج ـ الاقدام على الضمان. وقد نقل الشيخ الأعظم في المكاسب هذا السبب للضمان كتوجيه لقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفساده ، فالبيع إذا كان صحيحا فيه ضمان ، بمعنى انّه لو تلف المبيع عند المشتري يكون تلفه من كيسه ولا حقّ له في الرجوع على البائع حتى ولو لم يكن التلف عن تفريط ، وكذلك الحال لو اتضح فساد البيع لسبب وآخر فان تلف المبيع يكون على المشتري ولو لم يكن عن تفريط. ولكن لما ذا ذلك والحال ان المبيع مع افتراض فساد البيع ليس ملكا للمشتري ليكون تلفه منه بل هو ملك البائع؟

١٤٨

ان سبب ذلك على ما ذكر الشهيد الثاني في المسالك (١) والشيخ الطوسي في المبسوط (٢) هو التمسك بقاعدة الاقدام على الضمان.

هذا ولكن القاعدة المذكورة على ما أشار إليه الشيخ الأعظم : «مطلب يحتاج الى دليل» (٣). والسيرة العقلائية لم يثبت انعقادها على الضمان بمجرّد الاقدام من دون تحقق الاتلاف أو اليد أو الأمر بالعمل.

د ـ الغرور ، بمعنى ان من غرّ غيره وأوقعه في الضمان يكون هو الضامن ويستقر عليه. فلو فرض ان شخصا قدّم طعاما إلى غيره موحيا له انّه ملكه وقد أباح له أكله فاذا أكله واتضح بعد ذلك انّه لغير من قدّمه فمن حقّ المالك الرجوع على الآكل لقاعدة الاتلاف ولكن الآكل بدوره له الحق في الرجوع على من قدّمه له لقاعدة الغرور.

ويأتي البحث عن هذه القاعدة بشكل مستقل إن شاء الله تعالى.

ه ـ التسبيب لخسارة الغير. ويأتي التحدّث عن ذلك ضمن قاعدة الغرور.

٩ ـ تطبيقات‌

١ ـ لو دفعت قطعة قماش الى خيّاط فتجاوز الحد المقرّر له اشتباها وتحقق منه تلف القماش بمعنى نقصان قيمته فهل يكون ضامنا بعد الالتفات الى كون يده يد أمانة؟

٢ ـ شخص دفع الى غيره خمسا باعتقاد انّه متعلّق بذمّته ثم‌

__________________

(١) مسالك الافهام ١ : ٢٣٣.

(٢) المبسوط ٢ : ١٢٦ ، ٣ : ٨٥ ، ٨٩.

(٣) كتاب المكاسب : منشورات دار الحكمة ، ١٩١.

١٤٩

اتضح اشتباهه وعدم تعلّقه بذمّته. وفي مثل ذلك تارة نفترض بقاء الخمس واخرى نفترض تلفه ، وعلى كلا التقديرين تارة نفترض علم المدفوع إليه بواقع الحال واخرى نفترض جهله. ما هو الحكم من حيث الضمان في الحالات المذكورة؟

٣ ـ إذا دخل شخص بيته فرأى فيه طعاما فأكله باعتقاد انّه راجع إليه ثم اتضح انّه لغيره فهل يكون ضامنا ولماذا؟

٤ ـ شخص دفعت إليه أموال كأجور لعبادات استيجارية وسرقت منه بعد ان وضعها في بيته ، على من تكون الخسارة؟

٥ ـ شخص تعلّق بذمّته الخمس وفرزه في مال معين ، وفي الطريق سرق منه قبل ايصاله الى مصرفه أو يفرض انّه دفعه لشخص ثقة ليوصله الى مصرفه وفرض سرقته من ذلك الثقة فعلى من الخسارة في الحالتين المذكورتين؟

٦ ـ إذا غصب شخص شيئا من غيره وانتقل ذلك الشي‌ء الى شخص ثان ، من هو الضامن في الحالة المذكورة؟

٧ ـ لو فتح شخص باب دار غيره ودخل سارق وأخذ ما فيها ، على من يكون الضمان؟

٨ ـ لو غصب شخص أرضا وزرع فيها حبّا فلمن يكون الناتج وما ذا يستحق صاحب الأرض.

٩ ـ إذا كان لشخص دين على آخر وامتنع من ادائه وصرف في سبيل تحصيله مقدارا من المال فعلى من تكون خسارة ذلك المقدار؟

١٠ ـ إذا دفع الغاصب الشي‌ء الذي غصبه لشخص ثان ، وهذا الثاني دفعه بدوره الى الشخص الأوّل الغاصب فالمالك يرجع على من؟

١٥٠

قاعدة الغرور‌

١ ـ مضمون القاعدة‌

٢ ـ مدرك القاعدة‌

٣ ـ قاعدة التسبيب‌

٤ ـ اعتبار الجهل في صحة التمسك بالقاعدة‌

٥ ـ تطبيقات‌

١٥١
١٥٢

من القواعد التي يشار إليها في الفقه ويتمسك بها بصفتها مدركا للضمان في موارد محدودة وقليلة قاعدة الغرور والتي قد يعبّر عنها أيضا بقاعدة المغرور يرجع على من غرّه ، فيشار إليها في باب النكاح في مسألة ما لو زوّج شخص امة غيره من شخص آخر جاهلا بكونها لغيره وأولدها طفلا ، فان الزوج يضمن لمولى الامة لأجل الدخول بها عشر قيمتها ان كانت بكرا ونصف العشر ان كانت ثيبا ، كما يضمن قيمة الولد ، ويرجع الزوج بكلتا الغرامتين اللتين غرمهما للمولى على ذلك الشخص الغار لقاعدة الغرور (١).

كما يشار إليها في باب الغصب في مسألة ما لو قدم الغاصب الطعام المغصوب لغيره موحيا له انّه ملكه ، فان المالك إذا رجع على الآكل لقاعدة الاتلاف أو على اليد رجع هو بدوره على‌

__________________

(١) العروة الوثقى ، كتاب النكاح ، فصل نكاح العبيد والاماء ، مسألة : ٢٠.

١٥٣

الغاصب لقاعدة الغرور (١).

ان قاعدة الغرور ذكرت في هذين الموردين وما شاكلهما من دون اشارة إلى تفاصيلها وما يرتبط بها من أبحاث.

ولو تمّت القاعدة المذكورة مدركا حصلنا على سبب آخر للضمان مضافا الى أسبابه الاخرى وهي : اليد ، الاتلاف ، الأمر بالعمل ، والاقدام على الضمان في رأي ، والتسبيب لخسارة الآخرين.

بيد انها محل اختلاف بين الفقهاء فمنهم من قبلها كسبب من أسباب الضمان ومنهم من رفض ذلك.

ونمنهج الحديث حول القاعدة ضمن النقاط التالية :

١ ـ مضمون القاعدة.

٢ ـ مدرك القاعدة.

٣ ـ قاعدة التسبيب.

٤ ـ اعتبار الجهل في صحة التمسك بالقاعدة.

٥ ـ تطبيقات.

١ ـ مضمون القاعدة‌

يقصد بالغرور الخديعة. يقال غرّه غرورا بمعنى خدعه خدعة.

وينبغي عدم الخلط بين الغرور والغرر ، فالأوّل يراد به الخديعة بينما الثاني يراد به كل جهالة تشتمل عليها المعاملة.

والمقصود من القاعدة ـ على هذا ـ ان كل من خدع غيره وأوقعه‌

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٧ : ١٤٥.

١٥٤

في الخسارة ضمن تلك الخسارة ، فالغاصب إذا قدّم الطعام المغصوب لغيره ضمن ذلك الغير الآكل قيمة الطعام لصاحبه لقاعدة على اليد أو الاتلاف ولكنه بدوره يرجع على الغاصب الغار لقاعدة الغرور.

ولا ينبغي ان نفهم من هذا ان قاعدة الغرور ترادف القاعدة الثانية المعروفة بقاعدة التسبيب إلى الضمان ، كلا ان القاعدتين وان التقتا في كثير من مواردهما إلاّ انّهما قد يفترقان في بعض الموارد الاخرى ، كما لو فرض ان الطبيب وصف للمريض علاجا خاصّا اشتباها وتضرّر بذلك المريض ، انّه في مثل ذلك لا يمكن التمسّك بقاعدة الغرور لأن الطبيب ما دام مشتبها فلا يصدق عليه عنوان الغار ولكنّه سبّب الخسارة والضرر على المريض فتشمله قاعدة التسبيب ويحكم بضمانه لأجلها ـ بناء على تماميتها ـ دون قاعدة الغرور.

وهكذا لو فرض ان انسانا نجّس مسجدا أو المصحف الشريف واحتاج التطهير الى بذل اجرة معينة ، ان تلك الاجرة يجب بذلها على من يتمكن منها. والسبب في خسارتها هو ذلك الشخص المنجّس ، فبناء على تمامية قاعدة التسبيب وكون المثال مصداقا لها يلزم ضمانه لأجلها وليس لقاعدة الغرور.

وهكذا لو فرض ان انسانا نجّس فرش الغير واحتاج تطهيره الى اجرة معينة ، فان ضمانها لو ثبت على المنجس فهو لقاعدة التسبيب وليس لقاعدة الغرور.

وهكذا لو فرض ان تاجرا استورد بضاعة معينة بمقدار كبير أوجب خسارة بقية التجار الذين لديهم تلك البضاعة ، ان ضمان الخسارة المذكورة لو ثبت فهو لقاعدة التسبيب دون قاعدة الغرور.

١٥٥

وبهذا ننتهي إلى ان قاعدة التسبيب قد تصدق من دون قاعدة الغرور ، والعكس ليس بصحيح ، فان قاعدة الغرور لا تنفك عن قاعدة التسبيب عادة ، فالنسبة بينهما على هذا هي العموم والخصوص المطلق.

ودعوى ان بالامكان صدق قاعدة الغرور دون قاعدة التسبيب ، كما لو مدح شخص امرأة فتزوجها آخر اغترارا بالمدح ، فانه في مثل ذلك لا تصدق قاعدة التسبيب لأن المادح لم يصدر منه التزويج بينما تصدق قاعدة الغرور ، ومعه تكون النسبة هي العموم من وجه.

مدفوعة : بان نفس المدح نحو تسبيب عرفا لزواج الآخر‌

٢ ـ مدرك القاعدة‌

أهم ما يمكن التمسك به للقاعدة وجهان :

الوجه الأوّل‌

التمسك بالسيرة العقلائية بدعوى انها منعقدة على ضمان الغار ، وحيث انه لم يرد ردع عنها شرعا فتكون ممضاة.

ودعوى السيرة مقبولة في الجملة وليس في جميع موارد القاعدة.

انها مقبولة في مثل الغاصب الذي قدّم الطعام المغصوب للغير وأكله ايحاء بأنه ملكه أو في مثل من ركب سيارة باعتقاد انها سيارته التي يضعها في مكانها المقرّر وإذا بها سيارة شخص آخر وضعت مكان الأوّل عن قصد وعمد.

وليست مقبولة فيما إذا قال شخص لآخر : ان التجارة الفلانية مربحة فتاجر بها وإذا الأمر بالعكس ، أو فرض ان شخصا عنده بضاعة‌

١٥٦

معينة بكمية كبيرة لم يفصح عنها وأوهم الآخرين عدم وجود تلك البضاعة عنده فلما استورد الآخرون تلك البضاعة إذا به يعرضها في السوق ، الأمر الذي يوجب خسارة ذلك المستورد ، انه في المثالين المذكورين ولا أقل الثاني لا يحكم العقلاء بضمان الغار.

وعليه فليس بامكاننا ان نستفيد من السيرة العقلائية الضمان بشكل مطلق في موارد الغرور بل يختلف ذلك باختلاف الموارد.

الوجه الثاني‌

التمسك بالأحاديث العامة والخاصة.

اما الحديث العام فهو ما اشتهر بلسان «المغرور يرجع على من غرّه». وقد نسب بعض الفقهاء ذلك الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في جواهر الكلام وحاشية الارشاد ومستمسك العروة الوثقى وغيرها (١).

بيد انه باللسان المذكور لا توجد رواية منسوبة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى في معاجم الحديث للعامة فضلا عن الخاصة. أجل يوجد بألسنة اخرى منسوبا الى غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سيتضح.

وعليه فدعوى انجبار ضعف سند الحديث بعمل الأصحاب كما يتراءى من المستمسك وغيره ضعيفة باعتبار ان الجملة المذكورة لم يثبت كونها حديثا ليتم انجبارها بناء على تمامية كبرى الانجبار واحراز الصغرى وان الأصحاب استندوا إلى ما ذكر وهو معتمدهم في مقام الفتوى ، وهذا غير ثابت أيضا.

نعم ورد ما يقرب من مضمون الجملة السابقة منسوبا الى أمير‌

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٧ : ١٤٥. وقد نقل في هامش الجواهر ذلك عن حاشية الارشاد للمحقق الثاني. مستمسك العروة الوثقى ١٤ : ٣٥٠.

١٥٧

المؤمنين عليه‌السلام ، فالبيهقي في سننه نقل عن الشافعي عن علي عليه‌السلام : في المغرور يرجع بالمهر على من غرّه (١).

بيد ان الحديث المذكور على تقدير تمامية سنده خاص بخصوص المهر ولا يعمّ غيره.

واما الأحاديث الخاصة فكثيرة. والمهم منها :

١ ـ صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «امرأة شهد عندها شاهدان بأن زوجها مات فتزوجت ثم جاء زوجها الأوّل. قال : لها المهر بما استحل من فرجها الأخير، ويضرب الشاهدان الحد ، ويضمنان المهر بما غرّا الرجل ، ثم تعتد وترجع الى زوجها الأوّل» (٢) ، بتقريب ان الباء في جملة «بما غرّا الرجل» سببية ، أي : يضمنان بسبب انّهما غرّا الرجل فيتمسك بعموم التعليل ويثبت بذلك ان مطلق الغرور يوجب الضمان.

وهي تامّة السند أيضا ، فان كلاّ من الصدوق والشيخ رواها بطريقه الخاص. وكلا الطريقين ولا أقل طريق الصدوق تام ، إذ رواها بسنده إلى إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وطريق الصدوق الى إبراهيم صحيح على ما في المشيخة. وإبراهيم وأبو بصير من ثقات أصحابنا.

أجل يبقى ان صاحب الوسائل روى جملة «بما غرّا» بعنوان نسخة ، ولكن إذا رجعنا إلى المصدر الأصلي ، وهو الفقيه والتهذيب رأيناها ثابتة في كليهما فلا مشكلة من هذه الناحية.

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٧ : ٢١٩ باب من قال يرجع المغرور بالمهر على الذي غرّه.

(٢) وسائل الشيعة باب ١٣ من أبواب الشهادات حديث ٢.

١٥٨

٢ ـ ما رواه رفاعة بن موسى : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ... عن البرصاء ، فقال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة زوّجها وليّها وهي برصاء ان لها المهر بما استحل من فرجها وان المهر على الذي زوّجها ، وانّما صار عليه المهر لأنّه دلسها ...» (١).

ودلالتها واضحة ، فانّها تدل بعموم التعليل على ان كل مدلس ـ الذي هو تعبير آخر عن الغار ـ ضامن.

إلاّ ان سندها يشتمل على سهل الذي وقع محلاّ للكلام. ولكنها تصلح على أي حال لدعم الصحيحة الاولى.

٣ ـ ما رواه إسماعيل بن جابر : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نظر الى امرأة فأعجبته فسأل عنها فقيل : هي ابنة فلان ، فأتى أباها فقال : زوجني ابنتك فزوّجه غيرها فولدت منه فعلم بها بعد انها غير ابنته وانّها امة. قال : ترد الوليدة على مواليها ، والولد للرجل ، وعلى الذي زوّجه قيمة ثمن الولد يعطيه موالي الوليدة كما غرّ الرجل وخدعه» (٢).

ودلالتها واضحة. إلاّ ان سندها يشتمل على محمّد بن سنان الذي وقع محلاّ للكلام أيضا. ولكنها تصلح للدعم كما تقدّم.

وبهذا يتّضح ان ثبوت الضمان بقاعدة الغرور أمر صحيح.

ويتضح أيضا ان مناقشة السيّد الخوئي قدس‌سره للقاعدة باعتبار ان المدرك المهم لها هو رواية إسماعيل ورفاعة ، وكلتاهما ضعيفة السند (٣) قابلة للتأمّل.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٢ من أبواب العيوب والتدليس حديث ٢.

(٢) المصدر السابق باب ٧ من أبواب العيوب والتدليس حديث ١.

(٣) مباني العروة الوثقى ٢ : ١٣٢.

١٥٩

ووجه التأمّل : ان صحيحة أبي بصير تام الدلالة والسند فلا يضر بعد ذلك ضعف الروايتين.

على ان اتفاق روايات ثلاث ـ بل أكثر ـ وبلسان متقارب على مطلب واحد قد يورث للفقيه الاطمئنان بحقانية المطلب.

ويتضح بهذا أيضا ان التمسك بالإجماع لإثبات القاعدة أمر غير وجيه لأن حجيته هي باعتبار كاشفيته عن رأي المعصوم عليه‌السلام يدا بيد ، ومع احتمال المدرك له ـ وهو السيرة والروايات ـ لا يمكن الجزم بكاشفيته عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

٣ ـ قاعدة التسبيب‌

هناك قاعدة باسم قاعدة التسبيب ـ ويعبّر عنها على لسان القدماء بقاعدة السبب أقوى من المباشر ـ وقع الكلام في حجيتها. ومضمونها ان شخصا لو سبب لثان الوقوع في خسارة فهو ضامن لتلك الخسارة.

مثال ذلك : ما لو نجّس شخص قطعة فرش لغيره وكانت طهارتها أمرا ضروريا واحتاج التطهير إلى اجرة معينة ، فبناء على تمامية قاعدة التسبيب يلزم المنجس ضمان تلك الاجرة كما ويلزمه ضمان النقص الطارئ على العين بسبب التطهير لو فرض نقصان قيمتها بذلك.

هذا ولكن السيّد الخوئي قدس‌سره رفض الضمان بتقريب ان سبب الضمان منحصر بأمرين : الاتلاف واليد ، وكلاهما غير متحقق ، إذ بالتنجيس لم يتحقق اتلاف قطعة الفرش ولا الاستيلاء عليها ليلزم ضمان اجرة التطهير أو قيمة النقص الطارئ.

١٦٠