محك النظر

أبو حامد الغزالي

محك النظر

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: رفيق العجم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

للتعيين والمعيّن. فالقضيّة المعيّنة تلك التي يكون موضوعها واحدا ، لأنّ التعيين هو التحديد وامتياز الشيء من غيره. وإذا كانت القضيّة الشخصيّة اصطلاحا تأثّر به الغزالي بابن سينا وذكره في المقاصد والمعيار ، فإنّ القضيّة المعيّنة تفاعل بها الغزالي مع اللغة العربيّة وأصول الفقه. ولقد استخدمها في المحكّ ومقدّمة المستصفى. وكنّا وضّحنا أيضا معنى المطلق ، وذكرنا أنّه يحمل بمعناه العموميّة ، ويدلّ على غير المعيّن وغير المقيّد في الفقه.

ويستعمل الغزالي المطلقة العامّة في المحكّ ومقدّمة المستصفى ليشير إلى القضيّة الكليّة. والإطلاق العامّ هو يحمل معنى على معنى ليتشكّل حكم عامّ. وقد عرف الجرجاني المطلقة العامّة قائلا : «هي التي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع أو سلبه عنه» (١).

فعمليّة الإطلاق العامّ تعني إطلاق مفهوم على عموم الموضوع ، وهذا يفيد في الأصول بإطلاق الأحكام العامّة تعميما أو تخصيصا. بينما تدل المطلقة الخاصّة على إطلاق الحكم أو حمل المفهوم على حال معيّنة مقيّدة ، وهذا يفيد في الفقهيّات التي تميّز بين الأحكام العامّة والحكم الخاصّ.

ويوحي الاختلاف بتبنّي الخلفيّة الإسلامية تماما والخروج من المصطلحات المنطقية. وبهذا نرى التحوّل في كتابة الغزالي ، الذي انتقل من منطقيّ ناسخ في المقاصد ، إلى مستخدم للتعابير في المعيار (القضيّة العامة والقضيّة الخاصّة) ، حتى بلغ مداه عالما إسلاميا أصوليا في المحكّ.

فسخّر القالب المنطقي للإطلاق العامّ والخاص الفقهيين. وقد حدّد غرضه في تنقيح النظريّات والاستفادة منها بالفقهيّات ، إذ قال : «إيّاك أن تسامح بهذا في النظريات ، فتغلط ومثاله من الفقه ..» (٢) ويتناول الغزالي في

__________________

(١) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٤٩.

(٢) الغزالي ، المحكّ ، ص ٢٥.

٤١

المحكّ ، وفي معظم أمثلته على القضيّة ، أقوالا فقهيّة ، مبيّنا مثلا ضرورة الاحتراز من القضايا المهملة ، وعدم اعتبارها قضايا عامة أو كليّة. فيذكر :

أن المطعوم (١) ربويّ ، قضيّة مهملة ، لا يصحّ اعتبارها عامة في قياس ، كما فعل الشافعي (٢). وظهرت في المحكّ القضايا ذوات الجهة أيضا بشيء من الاختصار. وحلّ تعبير الاستحالة مكان الامتناع.

لم يغضّ الغزالي الطرف عن تقابل القضايا ، فقد ذكرها ، وتحدّث عن القضيّتين المتنافيتين التي تصدق إحداها وتكذب الأخرى. ومثالهما : العالم حادث ، العالم ليس بحادث (٣). كما وضع مجموعة شروط لتقابل القضايا ، تتطابق في جملتها مع ما جاء في المعيار. لكنّها تختلف بأمثلتها المستوحاة من الإسلام. فأورد مثلا قرآنيا ليؤكد على ضرورة وحدة الحكم ، أو المحمول ، في المتقابلتين ، قال : «العالم قديم ، العالم ليس بقديم. وأردت بأحد القديمين ما أراد اللّه تعالى بقوله : (كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ ..) (٤). وذكر مثالا فقهيا ليصرّ على وحدة الإضافة في المتقابلتين ، أيضا : إذ «المرأة مولى (٥) عليها ، المرأة ليس بمولى عليها. وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع وإلى العصبة ...» (٦). فلم تعد القضيّتان متقابلتين هنا ، لأنّ المرأة مولّى عليها بمعنى ، وليس مولّى عليها بمعنى آخر.

__________________

(١) المطعوم من طعم وطعام. ويستعمل الفقهاء التعبير للدلالة على الأطعمة من تمر وقمح ورز وشعير وسفرجل وغيرها. وغرض الغزالي ضرورة الحذر وتبيان كم القضيّة فيقال بعض المطعوم ربويّ مثلا.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٥.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٢٧.

(٥) أي عليها وليّ أمر وكيل ومسئول.

(٦) المصدر نفسه ، ص ٢٧.

٤٢

وتطرّق الغزالي إلى عكس القضايا في تفصيله الرابع ، عقب التقابل ، جاعلا للعكس دورا في الاستدلال والبرهان والدليل الفقهيّ. فإذا لم تتطابق ، مثلا ، القضية المطلوبة مع الدليل النصّي والفقهيّ ، اعتمد العكس. وربما حصل المراد في حينها. «وهذا أيضا ـ أي العكس ـ يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على المطلوب نفسه ، ويصادف على عكسه فيمكن التوصّل منه إلى المطلوب ...» (١) وهكذا يدخل الغزالي المنطق ضمن علوم المسلمين ، جاعلا العكس أداة استدلال تدعم عمليّات الاجتهاد والأحكام. فيرى أنّنا بعكس القول أو الحكم ، نعمل على حلّ التنافي بينهما وبين النصّ. ويؤدي التوافق بين الحالين إلى حصول الاجتهاد. ولم يغب عن باله حالات العكس ، وشروطها ، لكنه تميّز من المعيار بذكر الأمثلة الفقهيّة واستخدام التعابير الأصولية ، فقال : «وأعني بالعكس أن تجعل محكوما عليه والمحكوم عليه حكما ، ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضيّة صادقة ..» (٢) ، كما ذكر القضايا الأربع وعكسها ، لكنّه اصطلح على تسميتها الإسلامية : «نافية عامّة ، ونافية خاصّة ، ومثبتة عامة ، ومثبتة خاصّة». وسبق أن وضّحنا العامّ والخاصّ وتميّز المحكّ بهما. والنفي هنا بمعنى السلب : «وما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة» (٣). أما الإثبات فبمعنى التأكيد ، ويسمى بالمنطق الإيجاب والموجب.

أما بحث القياس فلم يستطع الغزالي في «محكّ النظر» مجاوزة عادته التي دأب عليها في بداية فقرة القياس من كلّ مصنّف. وربّما كرّر من دون شهوة ، واقتضاء ذلك وحدة المضمون القياسيّ ، وعدم اختلافه في عناصره وأسسه بين كتاب وآخر. وها هو يبدأ بحثه في هذه الفقرة بالقول : «إنّ القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة ألّفت تأليفا مخصوصا ونظّمت نظما

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٣٠.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٣٠.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٣٠.

٤٣

مخصوصا بشرط مخصوص ، يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر. والخلل يدخل تارة من الأقاويل التي هي مقدّمات القياس ، إذ تكون خالية عن شروطها ، وأخرى من كيفيّة الترتيب والنظم وإن كانت المقدمة صحيحة يقينيّة ، ومرة منهما جميعا ..» (١) فكل ما جاء في الفقرة شبيه بما تصدّر القياس في المعيار والمقاصد.

ومن ثم يسير الغزالي على وتيرة توزيع القياس إلى صورة ومادّة ، جاعلا من صحة الاثنين طريقا لتكوين الصحيح من الفاسد. وكان البحث في المحكّ أشدّ اختصارا منه في المعيار. لكنه اختلف بنيويا ، وخصوصا في المصطلح والأبعاد والغرض. إذ نجد أن الغزالي انعتق من المحافظة على التعابير المنطقيّة والمعاني الفلسفيّة ، وأخذ بتطبيع المصطلحات بالمضامين الإسلامية تماما.

وأحدث الغزالي في المحكّ موضوعات جديدة ، أبرزها حصر مدارك الأقيسة الفقهيّة وطريقا الإلحاق. وبرزت هذه الجدّة مترافقة مع الميل التامّ نحو معاينة المسائل الدينيّة والخصوصيّات اللغوية ، التي ستظهر جليّة خلال تحليلنا. وسنستنير في المقارنة بين القياس في المحكّ والمعيار ، فنميّز خطّ التحوّل ، كشفا لتوجّه الإمام ، وإبرازا للمصطلحات والمفردات بمعانيها وأغراضها.

بدأ الغزالي تصفّحه أنواع الأقيسة ، فذكر النوع الأول منها هو الحمليّ ، الذي احتبسه على ثلاثة أشكال ، سمّي الشكل منه بالنظم.

والنظم اصطلاح جديد بزغ في المحك واعتمد. وهو يشير في حقيقته إلى دلالات دينية ولغويّة. ف‍ «النظم ، هي العبارات التي تشتمل عليه المصاحف صيغة ولغة» (٢). و «النظم في اللغة جمع اللؤلؤ في السلك ، وفي

__________________

(١) الغزالي ، محكّ النظر ، ص ٦ ـ ٧.

(٢) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٦٦.

٤٤

الاصطلاح تأليف الكلمات والجمل مترتّبة المعاني متناسبة الدّلالات على حسب ما يقتضيه العقل ...» (١). و «النظم الطبيعي هو الانتقال من موضوع المطلوب إلى الحدّ الأوسط ثمّ منه إلى محموله حتى يلزم منه النتيجة» (٢).

فاللفظة تحمل دلالات وجذورا دينيّة ولغوية. مما يؤكد بدء اتّسام معاني الغزالي المنطقيّة بالسّمات الإسلامية البحتة.

أما النظم الأول من القياس الحمليّ فصورته بأن «تكون العلّة حكما في إحدى المقدّمتين محكوما عليه في الأخرى ..» (٣). ونرى الغزالي يضع تعبيري الحكم والمحكوم عليه ، ويستحدثهما بدلا من الموضوع والمحمول ، مثلما صنع في مبحث القضيّة من هذا الكتاب. كما يدخل العلّة مكان الحدّ الأوسط ، إذ يقول : «فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدّمتين علّة .. فإنّه إذا قيل لك لم قلت إنّ النبيذ حرام فنقول لأنه مسكر ..» (٤). ومن ثمّ درجت العلّة في المحكّ وفي مقدمة المستصفى ، كما سنرى. وتقوم العلّة بربط الحكم في الكبرى بالمحكوم عليه في الصغرى. بينما تقوم في الفقه بربط الأصل بالفرع. وقد أعطى أبو البقاء تعريفا لها اقترب من وجهة نظر الغزالي ، فقال : «العلة ما يتوقف عليه الشيء ... اللّه أوجب الحكم لأجل هذا المعنى ، والشارع على ذكره قد أثبت الحكم بسبب .. فيضاف الحكم إلى اللّه تعالى إيجابا وإلى العلّة تسبّبا.

كما يضاف الشبع إلى اللّه تخليقا وإلى الطعام تسبيبا (٥). هناك إذا علّة أوجبت معنى الحكم في الأصل ، وهي توجب الحكم بالفرع. كما أنّ هناك علّة تعاقبية سندها الحقيقي اللّه. وينحو الغزالي فلسفيّا هذا المنحى.

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ١٦٦.

(٢) المرجع نفسه ، ص ١٦٦.

(٣) الغزالي ، المحكّ ، ص ٣١.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٣٢.

(٥) الكفوي ، الكليّات ، ص ٢٥٠.

٤٥

وكان أن وضّح الغزالي مثاله عن الخمرة ودور العلة ، قائلا : «إنّ في هذا القياس مقدّمتين إحداهما قولنا لكلّ نبيذ مسكر والأخرى قولنا كلّ مسكر حرام» (١). فالنتيجة : إنّ النبيذ حرام. وقياس التعليل هذا عند الأصوليين مرده إلى أنّ النبيذ محرّم قياسا على الخمر ، والعلّة الجامعة أو الحدّ المشترك هو الإسكار. ويظهر ذلك أيضا في جواب المطالب ، «لم» يكون النبيذ حراما؟ لأنّه مسكر.

ولم تكن مسألة التماس العلّة واجتلابها مجرّد اصطلاح يدخل على الشروح توفيقا وتجميعا ، إنّما كان تطويعا للمنطق بالأصول ، وتمثّله على ضوء المعطيات والسمات الإسلامية. وتعني العلّة في الأصول في ما تعنيه : أنّ هناك الأصل وهناك الفرع ، وما يجمع بين الأصل والفرع أو بين الشاهد والغائب هو العلّة. وكان هذا رأي الجويني في البرهان (٢). ـ علما أنّ الجويني ، أستاذ الغزالي ، كان قد نقد بعض آراء المنطق الأرسطويّ وتبنّى آراء أخرى (٣) ـ فسار التلميذ على المنوال نفسه ، موسّعا دائرة تبنّي القالب الأرسطويّ ، وكيّفه في خدمة العلوم الإسلاميّة ، كما يظهر تدريجيّا خلال استعراض القياس في كتبه. وما يمكن قوله إنّ استغناء الغزالي عن استعمال الحدّ الأوسط واستعاضته عنه بالعلّة يعتبر تحوّلا تامّا في النظرة ، وتحويلا للمنطق نحو المفاهيم الأصوليّة. فلقد تعدّت العمليّة مجرّد إعطاء الأمثلة الفقهيّة وتطعيم الألفاظ ، مثلما كان الأمر في المعيار. وبلغ المزج طورا أحدث بنية تركيبيّة جديدة على صعيد المضمون والمصطلح والأبعاد. إذ العلة للجمع بين الأصل والفرع ، أمّا الأوسط فللتداخل بين الأصغر والأكبر ـ ولا ينفي هذا عدم استعمال ابن سينا العلّة حدّا أوسط. لكن ذلك كان في حكم النقل عن أرسطو ـ ولكلّ منها أبعاد منطقيّة.

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٣١.

(٢) أنظر النشار ، مناهج البحث ، ص ١٣٠ ، نقلا عن مخطوط البرهان للجويني.

(٣) المرجع نفسه ، ص ٧٧ ، استنادا إلى مخطوط البرهان.

٤٦

وأصبح القياس في تحاليله إسلاميّا من دون أن يغفل بعض الأمثلة الطبيعيّة والفلسفيّة (١) من التي وردت في المعيار والمقاصد. وبهذا انقلبت الأدوار ، فقد طعّم المعيار بأمثلة فقهيّة ولغويّة. بينما طعّم المحكّ بأمثلة منطقيّة وفلسفيّة. وتميّز الغزالي في عرضه الأشكال الثلاثة بربطه شروط الشكل بشروط اليقين ومادّة المقدّمات ، وخصوصا في المجالات الفقهيّة.

«فإن نازعك الخصم في قولك كلّ مسكر حرام فإثباته بالنقل ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : «كلّ مسكر حرام» فإن لم تتمكّن من تحقيق تلك المقدمة بحسّ ولا غيره ، ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره ، لم ينفعك القياس ...» (٢).

ولم يوفّر الإمام التعابير البديلة بالموضوع والمحمول ، فتارة استخدم المحكوم عليه والحكم وأخرى استعمل الموصوف والصفة (٣) ، وطورا الخبر والمبتدأ (٤). ونال الإثبات والنفي حظّا من ذلك واستبدلهما بالإيجاب والسلب. وكانا قد وردا في معرض ذكره شروط النظم الأوّل والثاني. أمّا الإيجاب والإثبات فيدلاّن على حكم مؤكد ثابت بالاقتصاد لا يحتمل النفي ، ويأخذ دلالة الحدّ بالحدّ الآخر. ف‍ «الإيجاب أقوى من الاقتضاء ، لأنّه إنّما يستعمل في ما إذا كان الحكم ثابتا بالعبارة أو الإشارة أو الدّلالة» (٥). أمّا «الإثبات فهو الحكم بثبوت شيء لآخر ـ وله معنى الإيجاب نفسه ـ ...

ويطلق على العلم إثبات المعلوم على ما هو به (٦). وطغى الإيجاب والقضيّة الموجبة على المعيار والمقاصد. بينما ظهر الإثبات في المحكّ ومقدّمة المستصفى. وعلى الرغم من كون الإيجاب والإثبات يشكلان معنى

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٣١ ، ص ٣٢.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٣٣.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٣٣.

(٤) المصدر والصفحة نفسهما ، والمعيار ص ٧١.

(٥) الجرجاني ، التعريفات ، ص ٢٨.

(٦) الكفوي ، الكليّات ، ص ١٣.

٤٧

واحدا ، إلاّ أنّ استخدام كلّ منهما له أبعاده المعيّنة. ونرجّح من جهتنا أن للإيجاب بعدا منطقيّا رياضيّا يعبّر عن الكمّ. أمّا الإثبات فيدلّ على الحكم ويرمز إلى البعد الكيفيّ الذي يخدم في المسائل الفقهيّة والأحكام. إذ يحمل شيئا على شيء من دون دلالة كميّة أو رياضيّة. وربّما وعى الغزالي ما رجّحناه ، فأحسن استخدام الاصطلاح تبعا لغرض كلّ كتاب واتّجاهه المنطقيّ أو الفقهيّ. وربما كان تداوله للمصطلح لا واعيا. وفي الحالين يكون الإمام قد أصاب هدفه. فكان اختيار اللفظ تعبيرا عن توجّه المضمون وشكل المعالجة. والحال نفسها في استخدام الغزالي لمصطلحي السلب والنفي. وهما يدلاّن على المعنى نفسه. ويؤدّيان إلى نزع الشيء عن الشيء الآخر. وجاء تعبير السلب في المقاصد والمعيار ، بينما كان النفي في المحكّ والمستصفى بشكل أظهر. ويأتي النفي بمعنى سلب الصفات ، أو انتزاع حكم عن الموضوع ، وهو يفيد في الأحكام.

ويعطي أبو البقاء مثالا دينيّا على ذلك فيقول : «قوله تعالى (وَمٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ) إنّما جيء به في مقابلة العبيد (١) ، أي جيء بالحكم لنزعه عن العبيد. فيدلّ النفي إذا على نزع الحكم أو نزع الصفة عن الموضوع. وهذه وقائع الشرعيّات. بينما يفيد السلب في الدلالات الرياضيّة التي لها أبعاد كميّة. ويعمل منطقيّا على انتزاع أو استبعاد التداخل بين الحدود.

وعلاوة على كلّ هذا التوجّه لم ينبذ الغزالي القواعد الأساسية لأنواع الأقيسة وأشكالها (٢). إذ قال في النظم الثاني : «من نظم القياس أن تكون العلّة ، أعني المعنى المتكرّر في المقدّمتين ، حكما ... أعني أن يكون خبرا فيهما ولا يكون مبتدأ ...» (٣). فالعلّة والمبتدأ والخبر مفاهيم دينيّة

__________________

(١) الكفوي ، الكليّات ، ص ٣٥٥.

(٢) الغزالي ، المحكّ ، ص ٣٢ ـ ٤٤.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٣٥.

٤٨

ولغويّة ، لكنّ شروط التركيب تنطلق من قاعدة القياس السلجستي. ولم تكن الشروح مغايرة كثيرا عن المنطلقات. إذ استمرت عمليّة عكس إحدى مقدّمات النظم الثاني والثالث ، فاستحال القياس إلى النظم الأوّل. وذكر الغزالي القواعد نفسها الواردة في المعيار ، إلاّ أنّ أمثلته كانت دينية وفقهيّة ، ولا سيّما تعابيره في الحدود والقضايا. ونادى بنافية عامّة ومثبتة خاصة .. ومن أمثلته الفقهيّة أنّ : «الربويّ والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد هو البرّ فيلزم بالضرورة بينهما التقاء ، وأقلّ درجات الالتقاء أن يوجب حكما خاصّا» (١). وهذا يجدّد رأينا بأن بنية الشرح والتحليل والأمثلة متكاملة وذات منحى واحد. إنما حلّ في المحكّ الحكم والمحكوم عليه والخاصّ والعامّ والنافي والمثبت والمبتدأ والخبر والعلّة. وطرحت جزئيا التعابير المنطقيّة المقابلة كالتي وردت في المعيار والمقاصد. فالمنحى المنطقيّ الصوريّ واحد ، أمّا الأبعاد والخلفيّات فلكلّ طابع سماته ورموزه.

وكانت الحال كذلك في الأقيسة الشرطيّة. فالمتصل أصبح في المحكّ بحسب قول الغزالي : «ولنسمّ هذا النمط نمط التلازم (٢). وقد أخذ بالتلازم في المحكّ والقسطاس ومقدّمة المستصفى. وتطلق الملازمة والتلازم على معنى اللزوم. ولازم الشيء ما يتبعه ويردفه (٣). واللّزوم هو عدم المفارقة ، وهناك لزوم شيء عن شيء ، بمعنى كون الأول ناتجا عن الثاني. واللزوم فقهيّا ما حكم فيه بصدق قضيّة على تقدير قضيّة أخرى لعلاقة بينهما. ولم تكن المسألة مجرّد اختلاف بين لفظين وشرحين ـ (الشرطي والتلازم) ـ ، بالرغم من أنّ مضمونهما واحد ، بل يخفي اختلاف التعبير اختلافا في التحليل. فالتلازم يشير إلى الأحكام المهيّأة

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٣٧.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٣٩.

(٣) الكفوي ، الكليّات ، ص ٣١٨.

٤٩

الجاهزة. كما تشير المقدّمة المتلازمة إلى المقدّمة التوكيديّة (الدوغماطيّة). وتتأتّى توكيديّتها من ورودها بالتواتر أو بالنصّ الشرعيّ ، الذي يجعلها تأخذ هذا الشكل المترابط. بينما يحمل الشرطي المتصل في معناه إمكانية الاحتمال. فهو علاقة منطقية أكثر منه علاقة نصيّة قائمة ومترابطة. «والشرطيّ هو الذي يتوقف عليه الشيء ، ولم يدخل في ماهيّة الشيء ، ولم يؤثر فيه» (١). لذلك تعبّر القضايا الشرطية عن العلاقة الصوريّة أكثر ممّا تعبّر عن تداخل الحدود وتصوّر خلفيّات منطقيّة محدّدة. والشرط في العربيّة «إلزام الشيء في البيع ونحوه كالشرطيّة (٢). واستعمل تعبير الشرطيّ المتّصل في المقاصد والمعيار. والاتصال بمعنى الترابط والتتابع بين حالين ، ويعرّفه الجرجاني فيقول : «هي ـ المتصلة ـ التي يحكم فيها بصدق قضية أو لا صدقها على تقدير أخرى (٣). والاتصال عكس الانفصال يؤدّي إلى ترابط حكمين أو قضيّتين تسبقان بأداة شرط. وربما توحي القضايا الشرطيّة بنوع من مفهوم الاحتمال العقلي. أمّا تعبير التلازم فيوحي بالارتباط الحتميّ ، كونه يستند على التلازم مع المعنى النصّي. مثل الوضوء للصلاة. وأمّا القول : إذا كانت الشمس طالعة فالنهار قائم ، فيستند على الاحتمال بين الاصطلاحين ودور كلّ منهما في البحث لا أكثر دون اليقين. لأن التلازم والاتصال في النهاية يصبّان في معنى واحد ، لكنّنا نميّزهما في دورهما المنطقيّ. وكانت أمثلة الغزالي على نمط التلازم في المحكّ (٤) مشابهة لأمثلة الشرطي المتصل في المعيار.

ووضع التعاند في المحكّ أيضا بديلا عن الشرطيّ المنفصل ،

__________________

(١) الجرجاني ، التعريفات ، ص ٨٦.

(٢) الكفوي ، الكليّات ، ص ٢١٤.

(٣) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٣٤.

(٤) الغزالي ، المحكّ ، ص ٣٩ ـ ٤١.

٥٠

و «النمط الثالث نمط التعاند وهو على ضد نمط التلازم ، والمتكلمون يسمّونه السبر والتقسيم ، والمنطقيون يسمّونه الشرطي المنفصل ونحن سمّيناه التعاند ...» (١) وكان الغزالي قد أورد تسميات للسبر والتقسيم والتعاند في المعيار (٢) ، من دون أن يعتمدها مصطلحا ، مسوّغا في ذلك المفاهيم المنطقيّة ضمن المعاني الإسلاميّة. ويقابل التعاند الشرطي المنفصل ، كما يعني التنافي والتضاد بين القضيتين. والاستدلال التعاندي يشبه السبر والتقسيم ، إذ يسقط أحد المتعاندين. وعرّف الجرجاني التعاند والعنادية قائلا : «هي القضية التي يكون الحكم فيها بالتنافي ... كما بيّن الفرد والزوج» (٣).

وورد استعمال الشرطي المنفصل في المعيار والمقاصد ، وقد شرحنا الاشتراط ، أمّا الانفصال فيعني وجود النقيضين إثباتا للآخر ، فهنا عدم اجتماع ، ويعبّر الاشتراط المنفصل عن قضيّة احتمالية اقترنت بأداة الشرط آخذة شكل التنافي ، (إمّا هذا وإمّا ذاك ..). ويمكن لها أن تكون واقعيّة تجريبيّة أو شكليّة رمزيّة. بينما يوحي التعاند بمدلول الحكمين المتنافيين ، أو الحكم المجزّأ إلى جزءين متباينين ، ليفيد استدلاليّا الأخذ بأحدهما. فهو عمليّة تنقيب بين مجموعة أشياء ، صفتها التعاند لنزع غير المطلوب وإبقاء الحكم الصحيح. وهذه هي الطريقة التقسيميّة الفرزيّة ، التي ربّما ميّزت لنا الفرق بين الاحتمال المنطقيّ الرياضيّ والتقسيم والفرز. فالاحتمال يدفع الذهن إلى البحث والتقصّي والاكتشاف واضعا الشكوك. بينما التقسيم يمدّنا بأحكام قائمة ثابتة واقعة ، وما على الباحث سوى التفتيش بينها لأخذ المطلوب وفرزه عن غيره. على أنّنا نرجو أن نوفّي الأمر بحثا وتحليلا في فصل العلاقات المنطقيّة بالباب الثاني ، توضيحا للفرق والأبعاد ، وزيادة

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٤٢.

(٢) الغزالي ، المعيار ، ص ١٠٠.

(٣) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٠٦.

٥١

على ما ذكرنا. وقد كانت أمثلة التعاند في المحكّ (١) شبيهة بأمثلة الشرطيّ المنفصل في المعيار. وليس ضروريّا أن تتألف مقدّمة التعاند من قسمين وقضيّتين ، فربّما تكوّنت من ثلاث. ف‍ «إنّا نقول هذا الشيء إمّا مساو وإمّا أقلّ وإمّا أكثر فهذه ثلاثة ، ولكنّها حاصرة. فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين ، وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث ...» (٢) وبهذا الشرح يقترب الغزالي من السبر والتقسيم.

ما إن يختم فصل أشكال القياس في المحكّ حتى تتيسّر مادّته وتتخيّر دربا سرى عليه الغزالي في كتبه السابقة ، من دون استحداث طرق ومنازل ، اللهمّ سوى المعاني الإسلامية والأغراض الأصولية. وقيل مادّة القياس تمييزا من الصورة ، إذ ورد التعبير عند كلّ المناطقة من دون استثناء.

والمادّة : «هي التي يحصل الشيء معها» (٣). وهذا التعريف يستند على نظرة أرسطو الفلسفية ، التي ترى أنّ المادة شيء ما بالقوة ، يكتمل حين تحقّقه الصورة. وقد اصطلح الغزالي والمشائية الإسلامية عليها ليشيروا إلى مضمون المقدمات القياسيّة ، يقينيّة كانت أو ظنيّة.

أما «صورة الشيء فما به يحصل الشيء بالفعل» (٤). وأصابت منطقيّا في دلالتها على النظم وصورته ومعاييره ، من دون تناول يقينيّة قضاياه.

ويقول أبو البقاء عنها : «تطلق الصورة على ترتيب الأشكال ووضع بعضها من بعض واختلاف تركيبها ... وقد تطلق على ترتيب المعاني التي ليست محسوسة ، فإنّ للمعاني ترتيبا أيضا وتركيبا وتناسبا ...» (٥). وكان أن ورد تعبيرا المادّة والصورة في المقاصد والمعيار ، بينما استعيض عنهما في

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٤٣.

(٣) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٣١.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٩٢.

(٥) الكفوي ، الكليّات ، ص ٢٢٦.

٥٢

المحكّ والمستصفى باليقين والنظم. وتكلّم الغزالي عن يقينيّة المقدّمات وظنيّتها لينصاغ القياس المنتج (١). ولم يخرج عن صوريّة القياس في شروحه ، ولا سيّما إنه لم يعزل الصورة تماما عن المعاني الأرسطوية والإسلامية. ويمثّل على المادة قائلا : إنّها بمثابة الخشب للسرير أو القماش للقميص (٢).

وأمّا اليقين فاصطلاح إسلامي يستخدم في مواضع عدة : «فاليقين في اللغة ، العلم الذي لا شكّ معه ، وفي الاصطلاح اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاد أنّه لا يمكن إلاّ كذا مطابقا للواقع» (٣). ويستعمل أيضا في المعرفة الإيمانية مقابل اصطلاح الاعتقاد في المعرفة العقلية. إذ قال الجرجاني : اليقين «عند أهل الحقيقة رؤية العيان بقوّة الإيمان لا بالحجّة والبرهان.

وقيل مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار ... (٤). وقد نزع الغزالي ومعظم فلاسفة المسلمين نزعات صوفيّة مختلفة. وليس مستغربا أو مستهجنا اختلاط معارفهم بالمفاهيم والمصطلحات الصوفيّة ، التي فعلت فعلها في رؤيتهم وتحاليلهم. وأشرق اليقين لفظا مكان الاعتقاد عند الغزالي ، وحلّت المكاشفة اليقينية محلّ الاعتقاد العقليّ. كما يشير اليقين إلى المقدمات التي لا تقبل الشكّ» ، فالظن أحد طرفي الشكّ بصفة الرجحان (٥). ويستعمل لفظ الظنّ «عند الفقهاء من قبيل الشكّ ، لأنهم يريدون به التردّد بين وجود الشيء وعدمه ، سواء استويا أو ترجّح أحدهما ..» (٦).

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٤٥.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٤٤.

(٣) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٧٨.

(٤) المرجع نفسه ، ص ١٧٨.

(٥) المرجع نفسه ، ص ١٩٦.

(٦) الكفوي ، الكليّات ، ص ٢٣٩.

٥٣

لذلك يقول الغزالي : «القياس المنتج لا ينصاغ إلاّ من مقدمات يقينيّة ، إن كان المطلوب يقينيّا أو ظنيّا ، إن كان المطلوب فقهيّا» (١).

واليقيني في المحكّ هو الذي لا يقبل الاحتمال أو الإمكان ، ويكون بمثابة البديهيّات العقليّة والاعتقادات الدينية. فالعلوم الدينية قضاياها جازمة ، كما يقول الغزالي. ف‍ «لنسمّ هذا الجنس اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم ومذاهبهم ...» (٢). وسبق أن تكلمنا عن رفض الغزالي لموادّ قضايا أرسطو وأقيسته ، واعتماده المادّة الإسلامية مضمونا. وها نحن نجده يعتمد هذه المعاني بما تحمله المصطلحات والتعابير والرموز اللغوية ، فحوى ومعنى ، مثلما شرحنا.

ونستطرد بأنّ الظنّ له دلالات فقهيّة إلى جانب دلالاته العقلية ، كما لليقين دلالات لغويّة وصوفيّة وأصوليّة دينية. وقد ترسّخت هذه المفاهيم متميّزة من غيرها منذ المحكّ. وبهذا انتقلت مادّة القياس فيه إلى مضامين دينية ، بعد أن كانت خليطا ، في المقاصد والمعيار ، من التأثر بابن سينا والتصنيف العقليّ المنطقيّ ، زيادة على بعض المعاني والمرادفات الإسلامية. ومن مواد المقدمات اليقينية التواتر الذي يحصّله الغزالي بقوله : « ... زاد الظنّ ، وهكذا لا يزال يترقّى قليلا قليلا في القوّة إلى أن ينقلب الظنّ على التدريج يقينا إذا انتهى الخبر إلى حدّ التواتر ...» (٣). وتتعلق هذه الشروح بالحديث الشريف وبتواتر المعلومات الإسلامية بشكل محصور ومحدّد.

وقد صنّفت أنواع المقدّمات متشابهة مع المعيار ، وقال الغزالي فيها : «اعلم أنّ مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافّة ، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظنّ بها اليقين. ومجامعها في ما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام ...» (٤). ولم يلبث أن ذكرها بالتفصيل كالآتي : (الأوليّات ، والمشاهدات الباطنة ، والمحسوسات الظاهرة ، والتجريبيّات ، والتواتر ، والوهميّات ، والمشهورات). وكان

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٤٥.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٤٦.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٤٧.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٤٧.

٥٤

شرحه لها في المحك مماثلا لشرحه في المقاصد والمعيار. ووردت الأمثلة نفسها تقريبا ، مع تفصيل في المحكّ بين الإحساس وقسمته إلى باطن وظاهر. ومن عمليات الطرح والإبدال بين المعيار والمحكّ ما طرأ على الأوليّات التي سيطرت على المحك والمستصفى ، وخفت ضوء ما يقابلها من اصطلاح عقليّ ، يدّعي بديهة العقل.

وكان أن استخدم الغزالي بديهة العقل في المعيار والمقاصد بشكل ظاهر على الأوّليّ. والبديهي من المهمّ في مصادر اليقين. وقد عرّفه الجرجاني قائلا : «هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب سواء احتاج إلى شيء آخر من حدس أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج (١). أمّا الأولي ف‍ «هو الذي بعد توجّه العقل إليه ، لم يفتقر إلى شيء أصلا من حدس أو تجربة ، أو نحو ذلك ، كقولنا الواحد نصف الاثنين ..» (٢). ونرى أنّ الأوليّ والبديهيّ لهما المعنى نفسه ، لكنهما يختلفان في دلالات كلّ لفظة لغويّا ، وفي ما توحيان به. فالأوليّ نظرة عددية ، أوّل وثان ، بمعنى غير المتكرر والمتكثّر ، والذي لا يحتاج إلى استدلال وترابط وتضايف. ويوحي من خلال بعده بتصنيف معيّن في مادة القضايا ، لأنّ الأوليّ منها هو النصّ والشرع وكلام الخالق ، فهو الأول والواحد والأصل. بينما البديهيّ معنى عقليّ نفسيّ بمفهوم الإدراك المباشر. وقد طغى التعبير بحسب أغراض ومعطيات كلّ كتاب ، عقليّة منطقيّة كانت أو دينيّة أصوليّة. وملخّص مادة القياس ويقينيّته في المحكّ خليط من الإحساس والتجربة والتواتر والعقل.

وتدلّ كلّ لفظة على اتّجاه معيّن في المعرفة. إلا أنّها جميعها تشير إلى تعدّد مصادر اليقين ، وتثبت تعدديّة الخلفيّة المعرفيّة عند الإمام. وقد شكّ بها الغزالي وصولا للحقيقة ، وما لبث أن أصرّ مجدّدا ، في كتبه الأخيرة ، على كونها مصادر اليقين (٣).

__________________

(١) الجرجاني ، التعريفات ، ص ٢٩.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٦.

(٣) الغزالي ، مقدمة المستصفى ، ص ٢٩.

٥٥

جرى الفنّ المخصّص للواحق القياس مجرى نظيره في المعيار.

وانتخب الغزالي بعضا من الأمثلة الدينيّة والفقهيّة المحض. ففي معرض حديثه عن عدم جواز إهمال شروط تركيب الاستدلال انتقى المثال : «هذا يجب عليه الرجم وهذا يجب عليه الرجم وهذا قد زنا وهو محصّن ، فإذا يجب عليه الرجم ، ولكن ترك مقدّمة الحكم وذكر مقدّمة المحكوم عليه لأنه يراه مشهورا» (١).

واستوى الاستقراء والتمثيل ، بالشرح والتحليل ، مع ما جاء في مضمونهما بالمقاصد والمعيار. وسرت شروحهما فقهيّة الطابع. ومن الأمثلة التي ردّدها الغزالي : «قولنا في الفقه الوتر ليس بفرض (٢) لأنه يؤدّى على الراحلة ، فيقال ولم قلتم إنّ الفرض لا يؤدّى على الراحلة ، فنقول عرفنا ذلك بالاستقراء ، فإنّا رأينا القضاء (٣) والأداء (٤) والمنذور (٥) وسائر

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٥٩.

(٢) الفرض ، فرضت الشيء أفرضه فرضا وفرضته للتكثير أوجبته. والفرض السنّة ، فرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أوجب وجوبا لازما ، والفرض التوقيت وكلّ واجب مؤقت ... والفرض والواجب سيّان عند الشافعي. ابن منظور ، لسان العرب ، ج‍ ٧ ، ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣. وفرض الصلاة وغيرها إنما هو لازم للعبد كلزوم الحزّ للقدح. المرجع نفسه ص ٢٠٥.

(٣) القضاء ، الحكم ... القاضي معناه في اللغة القاطع للأمور المحكم لها. والقضاء أيضا مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه. وكلّ ما أحكم أو أتم أو ختم. المرجع نفسه ، ج‍ ١٥ ، ص ١٨٦.

(٤) الأداء ، تأدى القوم تأديا إذا أخذوا العدّة التي تقوّيهم على الدهر .. أدّى للصلاة أي تهيّأ .. أدّيته على أفعلته .. أدّى الشيء أوصله ، والاسم الأداء وهو أدى للأمانة منه .. تأدّيت إلى فلان من حقه إذا أدّيته وقضيته. المرجع نفسه ، ج‍ ١٤ ، ص ٢٤ ـ ٢٦.

(٥) المنذور ، النذر النحب ، وهو ما ينذره الإنسان فيجعله على نفسه نحبا واجبا. المرجع نفسه ، ج‍ ٥ ، ص ٢٠٠.

٥٦

أصناف الفرائض لا تؤدّى على الراحلة ..» (١). وأبت أقيسة الدلالة والعلّة وأبحاث الخلل في القياس أن تخالف قاعدة المعيار في القالب والإطار. ولكنها تسلّحت في المثال وأصالة المعاني (٢). وقد أضاف الغزالي جملة من الموضوعات ، فحصر فيها مدارك الأقيسة الفقهيّة ، وتحدّث عنها شارحا. فقال : «الحكم الشرعي تارة يكون مدركه أصل العلم وتارة يكون مدركه ملحق بأصل العلم .. ويكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات اللّه عليه ... وأما الملحق بالأصل فله أقسام ، وتشترك في أمر واحد وهو أنّ ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل ... حتى يتّسع الحكم ، فإنّ اتّساع الحكم ... يزيد في الموصوف ، أي في عمومه ...» (٣).

وقبل المقارنة بين هذه المسائل والمدارك الأصوب التعرّف على دلالات اصطلاحين فقهيّين ، يتداولان ويستعملان كثيرا ، وهما : الأصل والفرع.

يقول الجرجاني عن الأصل : «هو ما يبتنى عليه غيره ...» (٤). واصطفى الغزالي الأصل في كتبه المنطقية ليعرب ، في ما يعرب فيه ، عن نوع من المقدّمات. ومن ثمّ فالأصل مقطوع بصحّته وهو أعلى أنواع اليقين. ومصدر يقينيّته متأتّ من الشرع الدينيّ والأحاديث الشريفة. والأصل جمعه أصول ، و «هو في اللغة عبارة عمّا يفتقر إليه ولا يفتقر إلى غيره ...» (٥). ويتداول الاصطلاح في الفقه وينزل بمقدّمات القياس أو بإحداها. إذ تنتظم هذه المقدّمات على شيء من الترتيب القياسيّ استنتاجا

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٦٢.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٧٣ ـ ٨٣.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٨٤ ـ ٨٥.

(٤) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٨.

(٥) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٨.

٥٧

لمقدّمة ما. ويوضّح الجرجاني الاستدلال من الأصول بقوله : الأصل «في الشرع عبارة عمّا يبنى عليه غيره ، ولا يبنى هو على غيره. والأصل ما يثبت حكمه بنفسه ويبنى عليه غيره» (١). أما الفرع : ف‍ «هو اسم لشيء يبنى على غيره» (٢). وقد استخدم الغزالي التعبير دلالة على النتائج المرتبطة بالأصول. فجعل على عادة الفقهاء والأصوليّين الحكم يرتكز على الأصل والفرع تجمعهما العلّة ، أو (الجامع). وتحدّث عن الأقيسة الفقهيّة في المحكّ ومقدّمة المستصفى بشكل موسّع. وتمسك بالأصول والفروع وبكيفيّة الحكم وعمليّة الحذف وإبقاء الجامع. فقال : «اعلم أنّ للإلحاق طريقين أحدهما ألاّ يتعرّض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به ، فأما العلّة فلا يتعرّض لها البتة ...» (٣). وهذا وجه من أوجه الأقيسة الفقهيّة. أما الوجه الثاني : «فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلّة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة المعاني ...» (٤). والوجهان السابقان يتمّان بعدم التعرّض للملحق. وهناك طريق آخر مؤدّاه : «أن يتعرّض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق ...» (٥). وإذا أعدنا النظر في شروحات الغزالي للأقيسة الفقهيّة نراه يتناولها بالفهم الأصولي الذي سنفصّله في الفصل الثالث من الباب الثاني. لكن ما يعنينا هنا أنّ هذه الشروح تقابل تفسيراته في اللواحق بالمعيار. فقد بيّن هنا أنّ النتيجة تستند على الأصل مباشرة ، وربّما اختفت علّة الأصل. وكان أن سمّي هذا في المعيار بقياس العلّة الشرعية. أمّا القياس الذي يعتمد على مدرك ملحق بأصل العلم ، فيرتكز على عمليتين ضمنيّتين : أولاهما تقابل قياس التمثيل ، إذ يردّ الغائب إلى الشاهد ، أي نجد مقدّمة ليست من الأصول إنما

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ١٨.

(٢) المرجع نفسه ، ص ١١٠.

(٣) الغزالي ، المحكّ ، ص ٨٥.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٨٩.

(٥) المصدر نفسه ، ص ٩٠.

٥٨

ملحقة بالأصول فنقيس عليها. وبذلك ننتقل من حكم جزئي إلى حكم جزئي. لكنّ لهذا الردّ شروط : أهمّها أن تكون هذه المقدمة الملحقة بالأصل تتمتّع بارتباط فيه ، وحتّى نحدّد هذا الارتباط نقوم بالعملية الثانية ، وهي حذف بعض الأوصاف غير المشتركة مع الأصل. أي نجري السبر والتقسيم وهو قريب من قياس الشرطي المنفصل. وعند ما يتكلم الإمام على أوجه مصاعب الأقيسة الفقهية يذكر تلك التي لا يرد فيها أحد أطراف القياس السلجستي. فلا يرد الأصل ، أي المقدّمة الكبرى ، أو لا ترد العلّة مصرّحة ، أي يختفي الحدّ الأوسط ، إذ ينقص عدد المقدّمات أو الحدود. وربّما تعرّضنا للمعنى مباشرة ، أي للنتيجة فنستدلّ بالنتيجة على المنتج. ولبيان الرأي والشرح سنقارن عمليّة الإلحاق بالعمليّات الاستدلاليّة المنطقية ، ومن نماذجها ما تحدّث الغزالي فيه عن الإلحاق ، خلال مثاله : إذا قلنا قارب الأعرابي في رمضان ، لزمته الكفارة (١). فمن زنى كان أولى بأن تلزمه الكفارة ، لأنّ مقارفة (٢) الأهل حلال ، خلافا لمباشرة الأجنبي. وهكذا يردّ مباشرة الأهل إلى الزنى ، فيقيس حالة جزئية على حال أخرى ، ثم يحذف أوجه الاختلاف بين الحالين. فالذي يحذف مقاربة الأهل وتبقى الكفارة لازمة. ويرى الإمام أنّ مقارفة الأهل أولى بالإسقاط والحذف من وجوب الكفارة. ويبقى في حال القياس السابق الردّ إلى العلّة المشتركة بوجوب التكفير لارتكاب المحرميّة في رمضان. وبهذا يبقي الغزالي العلّة المشتركة ، مثلما ثبت في شروحه السابقة الأصل ، من دون حذف أي جزء منه (٣). ومن أمثلته على الجهل بالعلّة وضرورة إدراكها وذكرها تأمينا

__________________

(١) الكفارة ، الكفّار ، الزرّاع ، تقول العرب للزرّاع كافرا لأنه يكفر البذر المبذور بتراب الأرض .. ما كفّر به من صدقة أو صوم أو نحو ذلك ، كأنه غطّى عليه بالكفارة. وتكفير اليمين فعل ما ، يجب بالحنث فيها. والاسم الكفارة .. وسمّيت الكفّارات لأنها تكفّر الذنوب ، أي تسترها مثل كفّارة الإيمان .. ابن منظور ، لسان العرب ، ج‍ ٥ ، ص ١٤٦ ـ ١٤٨.

(٢) مقارفة بمعنى المقاربة والجماع.

(٣) الغزالي ، المحكّ ، ص ٨٨.

٥٩

لشروط القياس واكتمال حدوده ما وفّره من شرح في الربويّ. وكيف يكون الزبيب بمعنى التمر ...

قبل أن تتّضح العلّة وهي الكيل والطعم ، والتي تستشفّ من المعنى وتساعد على الإلحاق يلفت الغزالي النظر بقوله : أما إذا ذكر نصّ من صاحب الشرع يمنع الإلحاق ، كما يرى ، فلا بدّ من وقف القياس ، أي لا يمكن قياس جزء على جزء. فإذا أصاب بول الصبيّ ثوبا ما ، يكفي رشّه بالماء. وبالوقت نفسه لا يمكن إلحاق الصبيّة به ، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ذكر أن الصبيّة بخلاف الصبي فحسم الأمر (١) ، ومنع قياس الحالة على الحال فسقط الإلحاق. وذكر الغزالي أيضا مثالا فقهيّا لكيفيّة التعرّض للمعنى بعينه من دون الفوارق وحذفها ، فقال :

«قولنا الوضوء طهارة حكميّة فتفتقر إلى النيّة كالتيمّم ، فإنّا لا نحصر لفوارق ولا نتعرض لحذفها ، بل تعرّضنا لمعنى جامع ، والفوارق كثيرة ، وليس الجامع مناسبا ولا مؤثّرا ...» (٢). وملخص القول : إنّ الغزالي سخّر لخدمة المعاني الفقهية القياس المنطقيّ العقليّ بجوانبه المختلفة ، كالسلجستي والتمثيل والتعليل والشرطيّ المنفصل. وجعل منها جميعا ضوابط وأطر للقياس الفقهيّ ، مرتكزها المعايير العقلية من حدّ مشترك وحدّ أكبر وغيرهما. وكان أفضل النماذج تعبيرا عن ذلك ، ردّه بعض الأقيسة إلى التمثيل لافتقاده الحدّ الأوسط فيها. وبهذا يتمحور استدلاله حول الحد الأوسط عماد السلجستي. فإن فقد فالجامع أو شبه الجامع يكون بين قضيّتين فرعيّتين وجزئيّتين.

وأخيرا يمكن القول إن بنية كتاب المحك قد تبدّلت عن الكتب المنطقية التي سبقتها ، فغدت إسلامية الروح عربية الطابع اللغوي ، بعدا وتصورا.

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٩٠.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٩١.

٦٠