محك النظر

أبو حامد الغزالي

محك النظر

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: رفيق العجم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال ، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال. والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياء لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيّل للإبصار ، إذ ليس للتخيّل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها ، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل ، فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا ، وإنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة ، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل ، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين ، وحيث يستمر في نظره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية وغيرهما ، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما ، فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب ، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزها عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا بل عارضا أو لازما في الوجود ، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور متخيّلة هي التي يعبّر عنها المتكلمون بالوجوه أو الأحوال أو الأحكام ، ويعبّر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ، ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وتارة يعبّرون عنها بأنها غير موجودة في خارج بل في داخل يعني خارج الذهن وداخله. ويقول أرباب الأحوال أنها أمور ثابتة ثم تارة يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة ، وقد دارت فيه رءوسهم وتاهت عقولهم ، والعجب أنه أول منزل ينفصل به

٨١

المعقول عن المحسوس. إذ من هاهنا يأخذ العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة ، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي ، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكا في مجرد الاسم كاشتراك العاقد والكوكب في اسم المشتري ، وإن هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل ، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصة فإن كشف غطائها يقرع أبوابا مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفّل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار.

٨٢

الفصل الثالث

من فن السوابق في أحكام السوابق

المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرق إليه التصديق والتكذيب

كقولنا مثلا العالم حادث والبارئ تعالى قديم ، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات ، فإن قلت العالم ليس بقديم والباري ليس بحادث كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزءين يسمّي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا ، ويسمّي المتكلمون أحدهما موصوفا والآخر صفة ، ويسمّي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه ، ويسمّي المنطقيون أحدهما موضوعا وهو المخبر عنه والآخر محمولا وهو الخبر ، ولنصطلح نحن على تسمية الفقهاء فنسمّيهما حكما ومحكوما عليه ولنسمّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضية ولنسميهما إذا استعملناهما في سياق قياس مقدمة ، فإذا استفدناهما من قياس نتيجة. وما دام غير مستنتج من القياس دعوى إن كان لنا خصم ومطلوبا إن لم يكن لنا خصم. فإن هذه الاصطلاحات إذا لم تتحرر اختبطت المخاطبات والتعليمات بل ربما اضطرب الفكر على الناظر المنفرد بنفسه. فإن فكر الناظر أيضا لا ينتظم إلا بألفاظ وآمال يرتّبها في نفسه. ولنذكر من أحكام القضايا وأقسامها ما يليق بهذا الإيجاز ويتّضح الغرض بتفصيلات أربعة :

٨٣

التفصيل الأول

إن القضية بعد انقسامها إلى النافية مثل قولنا العالم ليس بقديم وإلى المثبتة مثل قولنا العالم حادث تنقسم بالإضافة إلى المحكوم عليه إلى التعيين والخصوص والعموم والإهمال والقضايا بهذا الاعتبار أربعة :

الأولى : قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد المشار إليه باليد عرض.

الثانية : قضية مطلقة خاصة كقولك بعض الناس كاتب وبعض الأجسام ساكن.

الثالثة : قضية مطلقة عامة كقولك كل جسم متحيّز وكل سواد لون وكل حركة عرض.

الرابعة : قضية مهملة كقولنا الإنسان في خسر ، وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينا مشارا إليه أو لا يكون عينا. فإن لم يكن عينا فإما أن يحصر بسور بين مقداره بكلية فتكون مطلقة عامة أو بجزئية فتكون مطلقة خاصة أو لا يحصر بسور بل بمهمل. والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما ، فإن سكت عنهما بقيت القضية مهملة ، ومن طرق المغالطين المحتالين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة.

فإن المهملات قد يعني بها الخصوص فيصدق طرف النقيض فيها إذ قد يقال ليس الإنسان في خسر ويراد به الأنبياء والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقد يقال الإنسان في خسر ويراد به أكثر الخلق. فإيّاك وأن تسامح بهذا في النظريات فتغلط ، ومثاله من الفقه إن طلبت استيضاحا أن يقول الشافعي مثلا معلوم أن المطعوم ربويّ والسفرجل مطعوم فليكن ربويا. فإذا قيل فلم قلت إن المطعوم ربوي فيقول الدليل عليه أن البر (١) والشعير والتمر والرز

__________________

(١) البر : الحبوب بمعنى اليوم وهي بضم الباء.

٨٤

مطعومات وهي ربوية ، فينبغي أن يقال له قولك العموم ربويّ أردت به كل المطعومات أو بعضها ، فإن أردت به البعض لم تلزم النتيجة. إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي ، ويكون هذا خللا في نظر القياس مخرجا له عن كونه منتجا كما سيأتي وجهه. وإن أردت به الكل فمن أين عرفت هذا وليس يظهر هذا بما ذكرته من البر والشعير والتمر والرز ما لم تبيّن أن كل المطعومات ربويّة ، وهذا المثال وإن كان في هذا المقام واضحا فإنه يتفق في أمثاله عند تراكم الأقيسة صور غامضة يجب الاحتراز عنها.

التفصيل الثاني

إن الحكم المنسوب إلى المحكوم عليه في القضية لا يخلو عن ثلاثة أقسام : وهي الإمكان والوجود والاستحالة. مثال الحكم الذي نسبته نسبة الإمكان قولك الإنسان كاتب الإنسان ليس بكاتب ، إذ الكتابة بالإضافة في حيّز الإمكان. ومثال الواجب قولك السواد لون والسواد ليس بلون ، إذ نسبة اللون إلى السواد نسبة الوجوب والضرورة. ومثال الممتنع قولك السواد علم والسواد ليس بعلم والإنسان حجر والإنسان ليس بحجر. فإن قلت لا استحالة في قولك الإنسان ليس بحجر بل هو واجب ولا وجوب في قولك السواد ليس بلون بل هو ممتنع فكيف جمعت بين النفي والإثبات؟ فاعلم أني لم أقصد ذكر الامتناع والوجوب في جملة القضية المسلّمة على الحكم والمحكوم عليه ولكني أخذت الحكم مفردا وبيّنت نسبته إلى المحكوم عليه. ثم القضية قد تتضمن النفي والإثبات ويكون بعضه صادقا وبعضه كاذبا وليس الغرض ذلك.

التفصيل الثالث في بيان نقيض القضية

وهذا ممّا يحتاج إليه ، إذ ربّ مطلوب لا يقوم على نفسه دليل ولكن يقوم الدليل على بطلان نقيضه فيتسلّق من إبطاله إلى إثبات نقيضه ، فلا بد

٨٥

من معرفته. وربما يظنّ أن نقيض القضية جلي لا يحتاج إلى البيان ، ومع ذلك فإنه مثار لجملة من الأغاليط لا تحصى ، فإن الأمور في أوائلها تلوح جلية ولكن إذا لم يهتم الناظر بتنقيحها وتحقيقها اعتاص عليه التفصيل بين القضيتين المتنافيتين. وأعني بالقضيتين المتنافيتين كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة ، كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث ، وهما قضيتان تصدق إحداهما وتكذب الأخرى ، وإنما يلزم صدق إحداهما من كذب الأخرى بستة شروط.

الأول : أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدا بالذات لا بمجرد اللفظ ، فإن اتّحد الاسم دون المعنى لم يتناقضا ، كقولك النور مدرك بالبصر النور ليس بمدرك بالبصر ، فهما صادقان إن أردت بأحدهما الضوء وبالآخر نور العقل ، وكذلك لا يتناقض قول الفقهاء المضطر مختار المضطر ليس بمختار في مسئلة المكره ، وقولهم المضطر آثم المضطر غير آثم إذ المضطر قد يعبّر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متّحد والمعنى مختلف.

الثاني : أن يكون الحكم واحدا والإثم متناقضا كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم ، وأردت بأحد القديمين ما أراد اللّه تعالى بقوله (كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ) (١) وكذلك أيضا لم يتناقض قول الخصمين المكره مختار والمكره ليس بمختار ، إذ ذكرنا أن المختار عبارة عن معنيين مختلفين.

الثالث : أن تتّحد الإضافة في الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقض ، إذ يكون أبا لبكر ولا يكون أبا لخالد ، وكذلك تقول زيد أب ، زيد ابن ، فيكون أبا لشخص وابنا لآخر ، والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي هي نصف العشرين. وليست نصف الثلاثين.

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٣٩.

٨٦

وفي النظريات الفقهية والعقلية أغاليط كثيرة هذا منشأها كقولك المرأة مولّى عليها المرأة ليس بمولّى عليها وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع وإلى العصبة والأجنبي.

الرابع : أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مرو بالقوة وليس بمرو بالفعل وهما صادقتان ، والسيف بالغمد صارم وليس بصارم وهما صادقتان ، والفاسق شاهد وليس بشاهد. ومن هذا خلط المختلفون في أن اللّه تعالى في الأزل خالق وأن اللّه تعالى في الأزل ليس بخالق.

الخامس : التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي أسود البشرة ليس بأسود الأسنان فيصدقان. وعن هذا الغلط تخيّل من بعد عن التحصيل أن العالمية حال بجملة زيد إذا قلنا زيد عالم وزيد عبارة عن جملته ، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد لم نرد به أنه في كل البلد بل في بعضه ، وإن كانت بغداد عبارة عن كل البلد. ولكن أعني بالعادة والحس بيان أن زيدا في بغداد في مكان يساوي مساحة بدنه ، وكذلك أعني وضوح الأمر إذ تقول إن زيدا عالم بحر لا يجري من قلبه أو دماغه.

السادس : التساوي في الزمان والمكان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث وهما صادقان ، ولكنه حادث عند أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق ، وتقول الصبي ينبت له أسنان الصبي لا ينبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر بعده ولا ينبغي أن نطول بتعديد الشروط والأمثلة فلنجمل له ضبطا وهو أن القضية المناقضة هي التي تسلب مثلا ما تثبته الأولى بعينه أو تثبت ما سلبته الأولى ونفته ، وفي ذلك الوقت والمكان والحال وتلك الإضافة بعينها ، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل. وكذا في الجزء والكل.

ويحصل ذلك بأن لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبديل النفي

٨٧

بالإثبات فقط هذا إذا كانت القضية قضية في عين ، فإن كانت عامة زادت شريطة أخرى وهي أن تكون إحداهما عامة والأخرى خاصة ليلزم التناقض وإلا يتصور أن يجتمعا في الصدق أو الكذب ولا يكون التناقض ضروريا ، فإن القضيتين العامتين في نسبة الممكنات كاذبتان ، كقولنا كل إنسان كاتب لا أحد من الناس كاتب والخاصتان صادقتان ، كقولك بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب ، فتأمّل هذه الشروط واستخرج من نفسك بقية الأمثلة.

التفصيل الرابع في بيان عكس القضية

وهذا أيضا يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على نفس المطلوب ويصادف على عكسه ، فيمكن التوصل منه إلى المطلوب ، وأعني بالعكس أن تجعل الحكم محكوما عليه والمحكوم عليه حكما ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضية صادقة ، فعند ذلك تقول هذه قضية منعكسة ، أي عكسها أيضا صادق. والقضايا بهذا الاعتبار أربع :

الأولى : نافية عامة ولسنا نتكلم في قضية العين فإنها لا تستعمل في النظريات بل في الأعمال والصناعات والعادات. فالنافية العامة تنعكس مثل نفسها نافية عامة ، فمهما صدق قولنا لا متحيّز واحد عرض صدق قولنا لا عرض واحد متحيّز. وإذا صدق قولنا لا سواد واحد علم صدق قولنا لا علم واحد سواد ، فإن ما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة.

الثانية : النافية الخاصة ولا يصدق عكسها البتّة ، فإنك إذا قلت بعض اللون ليس بسواد لم يمكن أن تقول وبعض السواد ليس بلون ولا أمكنك أن تقول كل السواد ليس بلون.

الثالثة : المثبتة العامة ولا تنعكس مثل نفسها فإنك مهما قلت بعض الألوان سواد صدق قولك بعض السواد لون ، فإن كون كل سواد لون لا

٨٨

يخرج عن الصدق قولنا بعض السواد لون ولا يلتفت إلى فحوى الخطاب فليس ذلك من مقتضى وضع اللفظ وهو خارج عن غرضنا هذا وإن كان صحيحا في موضعه.

الرابعة : المثبتة الخاصة وهي تنعكس كنفسها فإنك مهما قلت بعض الجماد جسم صدق قولك بعض الجسم جماد. واقتصر من السوابق على هذا القدر فالزيادة غلبة لا تليق بحجم هذا الكتاب.

٨٩

الفن الثاني من محك القياس في المقاصد وهو طرفان

أحدهما في نظم القياس والآخر في محك النظم وشرطه وهو المقدمات. واعلم إني أعني بالقياس قضايا ألّفت تأليفا يلزم من تسليمها بالضرورة قضية أخرى وهذا ليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها.

أما النمط الأول : فنظمه من ثلاثة أوجه :

النظم الأول : أن تكون العلة حكما في إحدى المقدمتين محكوما عليه في الأخرى ، مثل قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم منه أن كل جسم حادث ، وقولنا في الفقه كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام. وعادة الفقهاء في الصيغة أن يقولوا النبيذ مسكر فينبغي أن يكون حراما قياسا على الخمر ، ولا ينكشف الغطاء ولا تنقطع المطالبة إلا بالنظم الذي ذكرناه. ومثل هذه الأقيسة إذا لم يمكن ردّها إلى هذا النظم لم تكن النتيجة لازمة ولم تنقطع المطالبة. فإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا القياس مقدمتين.

إحداهما : قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تنقسم إلى جزءين بالضرورة مبتدأ وخبر وحكم ومحكوم عليه فيكون مجموع أجزائها أربعة أمور تتكرّر في المقدمتين فتعود إلى ثلاثة بالضرورة ،

٩٠

لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء وبطل الازدواج بينهما ولا تتولد النتيجة ، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ولم تتعرض.

في المقدمة الثانية : لا للنبيذ ولا للمسكر ولكن قلت والقتل حرام أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى. فبالضرورة لا بد من أن يكون أحد الأجزاء الأربعة متكرّرا في المقدمتين فيرجع إلى ثلاثة ، فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدمتين علة وهو الذي يمكن أن يقرن بقولك لأنه في جواب المطالبة. فإنه إذا قيل لك لم قلت إن النبيذ حرام فتقول لأنه مسكر ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة ، ولنسمّ ما يجري مجرى النبيذ محكوما عليه وما يجري مجرى الحرام حكما ، فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام فنحكم على النبيذ بأنه حرام ونشتق للمقدمتين اسمين مختلفين من الأجزاء والمعاني التي تشتمل عليها لتسهل علينا الإشارة إليهما في التفهيم والمخاطبة ، ولا يمكن اشتقاق اسمين مختلفين لهما من العلّة. فإن العلّة داخلة فيهما جميعا فنشتقه من الجزءين الآخرين ، فالمقدمة التي فيها تعرض للمحكوم عليه نسمّيها المقدمة الأولى والتي فيها الحكم نسمّيها الثانية اشتقاقا من ترتيب أجزاء النتيجة. فإنا نقول في النتيجة فالنبيذ حرام فيكون النبيذ أولا والحرام ثانيا. والمقدمة التي فيها المحكوم عليه لا يتصور أن يكون فيها الحكم ، وهي مقدمة ، والتي فيها الحكم لا يتصور أن يكون فيها المحكوم عليه ، وهي مقدمة بل هما خاصتان للمقدمتين. واعلم أن النتيجة إنما تلزم من هذا القياس إذا كانت المقدمتان مسلمتين يقينا إن كان المطلوب عقليا أو ظنا إن كان المطلوب فقهيا. فإن نازعك الخصم في قولك كل مسكر حرام فإثباته بالنقل وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلم «كل مسكر حرام» فإن لم تتمكن من تحقيق تلك المقدمة بحس ولا غيره ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره لم ينفعك القياس ، ومهما سلّمنا لم يتصور النزاع في النتيجة البتّة ، بل كل عقل صدق المقدمتين فهو مضطر للتصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال. وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف ، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر فقد

٩١

جعلت المسكر وصفا فإذا قلت المسكر حرام فقد حكمت على الوصف ، فبالضرورة يدخل فيه الموصوف ، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر وكل مسكر حرام وبطل قولنا النبيذ حرام مع أنه مسلّم أنه مسكر بطل قولنا إن كل مسكر حرام ، إذ ظهر لنا مسكر ليس بحرام. ومهما صدقت القضية العامة لم يمكن أن يخرج منها بعض المسمّيات ، وهذا النظم له شرطان حتى يكون منتجا ، شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة ، فإن كانت نافية لم ينتج لأنك إذا نفيت شيئا عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكما على المنفي عنه ، فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل ، إذ وقعت المباينة بين الخل والمسكر فحكمك على المسكر بالنفي أو الإثبات لا يتعدّى إلى الخل البتة.

الشرط الثاني : أن تكون المقدمة الثانية عامة حتى يدخل بسبب عمومها المحكوم عليه فيه ، فإنك لو قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربويا ، إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل بل ربما كان الربوي بعضا آخر ، نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم حكم الربا في السفرجل ، ولكن يحتاج إلى إثبات المقدمة بعموم قوله صلّى اللّه عليه وسلم «لا تبيعوا الطعام بالطعام» أو بمدرك آخر ، وسنذكر مدارك المقدمات في الطرف الثاني من هذا الفن ، فإن قلت بما ذا فارق هذا النظم النظمين بعده فاعلم أن العلة إما أن توضع بحيث تكون حكما في المقدمتين أو محكوما عليه في المقدمتين أو توضع بحيث تكون حكما في إحدى المقدمتين محكوما عليه في الأخرى وهذا الآخر هو النظم الأول ، وهو الأوضح ، فإن الثاني والثالث لا يتّضح غاية الاتضاح بالبرهان المحقق إلا بالرد إليه فلذلك قدّمته وسمّيته النظم الأول الأوضح.

النظم الثاني : من نظم القياس أن تكون العلة ، أعني المعنى المتكرر في المقدمتين حكما في المقدمتين ، أعني أن يكون خبرا فيهما ولا يكون مبتدأ في أحدهما خبرا في الآخر ، ولا مبتدأ فيهما جميعا ، مثاله قولنا إن

٩٢

الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري ليس بمؤلف وكل جسم مؤلف فالباري ليس بجسم ، فها هنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمتكرر في المقدمتين هو المؤلف فهو العلّة وتراه خبرا في المقدمتين غير مبتدأ به بخلاف المسكر في النظم الأول ، إذ كان خبرا في إحداهما مبتدأ في الأخرى ووجه لزومه النتيجة يمكن تفهيمه مجملا ومفصلا ومحقّقا. أما المجمل فهو أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر ولا يكون بينهما التقاء واتصال لا يجوز أن يخبر بأحدهما عن الآخر ، فالتأليف ثابت للجسم ومنفي عن الباري ، فلا يكون بين معنى الجسم والباري التقاء ، فلا يقال الباري جسم ولا يقال الجسم باري. وأما بالتحقيق والتفصيل فينبغي أن يرد إلى النظم الأول بعكس المقدمة النافية. ولنعدل إلى مثال آخر تصاونا عن ترديد لفظ الباري. فإن قول القائل إنه ليس بجسم كأنه سوء أدب كما أن قوله هو جسم كفر ، فإن من قال للملك أنه ليس بحجام ولا بحائك فقد أساء الأدب إذا وهم إمكان ما صرح بنفيه ، إذ لا يتعرض إلا لنفي ما له إمكان في المادة والجسمية أشد استحالة في ذاته تعالى عن قول الزائغين من الحياكة والحجامة في الملك ، فنقول مثلا الأجسام ليست أزلية ، إذ كل جسم مؤلّف ولا أزلي واحد مؤلف فيلزم منه لا جسم واحد أزلي ، إذ صار المؤلف ثابتا للجسم مسلوبا عن الأزلي ولا يبقى بين الأزلي والجسم ارتباط الخبر والمخبر. وتفصيله بأن تنعكس المقدمة النافية فإنها نافية عامة ، وقد قدّمنا أن النافية العامة تنعكس مثل نفسها فإذا صدق قولنا ولا أزلي واحد مؤلف صدق قولنا ولا مؤلف واحد أزلي وهو عكسه ، فنضيف إليه قولنا وكل جسم مؤلف فيعود إلى النظم الأول ، فيكون وجه دلالته ولزوم نتيجته ما سبق. وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا القضية النافية ، أما الإثبات فلا. وأما النظم الأول فهو أكمل لأنه ينتج القضايا الأربعة ، أعني المثبتة العامة والمثبتة الخاصة والنافية العامة والنافية الخاصة. ولم نفرد تفصيل هذه الآحاد استثقال التطويل فإن قلت فلم لا ينتج هذا النظم الإثبات فاعلم أن هذا لا ينتج إلا النفي ، ومن شرطه أن تختلف المقدمتان أيضا في النفي

٩٣

والإثبات ، فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر ، فإنا نحكم على السواد والبياض جميعا باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد ، ونظم القياس فيه أن يقال كل سواد لون وكل بياض لون فكل سواد بياض أو كل بياض سواد واللون هو المتكرّر وقد جعل خبرا في المقدمتين ، ولم ينتج بين المعنيين لا اتصالا ولا انفصالا ، نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي ، وبرهانه عكس المقدمة النافية ليعود إلى النظم الأول.

النظم الثالث : أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين جميعا. فهذا إذا جمع شروطه كان منتجا ، ولكن نتيجة خاصة لا عامة ، مثاله كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون ، وكذلك إذا قلت كل بر مطعوم وكل بر ربوي فيلزم منه بالضرورة أن بعض المطعوم ربوي. وبيان وجه دلالته ولزوم النتيجة منه بالإجمال أن الربوي والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد وهو البر فيلزم بالضرورة بينهما التقاء ، وأقل درجات الالتقاء أن يوجب حكما خاصا وإن لم يكن عاما فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي حكما خاصا ، وإن لم يكن عاما وبعض الربوي مطعوم ، وإن لم يمكن أن يقال بمجرد هذا كل واحد مطعوم ربوي أو كل ربوي مطعوم. وأما تفصيل تفهيمه فهو بأن تعكس المقدمة التي ذكرناها أولا وهو قولنا كل بر مطعوم ، وقد ذكرنا أن المثبتة العامة تنعكس مثبتة خاصة ، فإن صدق قولنا كل بر مطعوم صدق قولنا بعض المطعوم بر فتبقى المقدمة الثانية ، وهو أن كل بر ربوي ويرجع إلى النظم الأول ، إذ يصير المطعوم الذي هو المتكرر مبتدأ في إحدى المقدمتين خبرا في الأخرى ، وشرط الإنتاج في هذا النظم أن تكون المقدمة الأولى التي فيها المحكوم عليه مثبتة ولا تكون نافية كما شرطنا ذلك في النظم الأول ، فإن كانت نافية لم تلزم

٩٤

النتيجة ولا يضر أن تكون خاصة ، والذي يشترك فيه كل نظم أمران أحدهما أنه لا بد أن يكون في جملة المقدمتين قضية عامة فلا تلزم نتيجة من خاصتين البتّة. والثاني أن يكون فيهما مثبتة فلا تلزم نتيجة من نافيتين قط ، ولهذا شرح لكن لا أظنك تهتدي إلى ذلك بنفسك مهما ساعدك الجد في التأمل والمثابرة على الممارسة. فإن عليك وظيفتين إحداهما تأمل هذه الأمور الدقيقة ، والأخرى الأنس بهذه الألفاظ الغريبة. فإني اخترعت أكثرها من تلقاء نفسي لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين ، ولا أؤثر أن أتّبع واحدا منهم فيقصر فهمك عليه ، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين ، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالمتداول بين جميعهم واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها؛ حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن تردّه إليها وتطلع على مرادهم منها.

النمط الثاني :

من القياس ألاّ يكون فيه علة وحكم ومحكوم عليه كما سبق بل تكون فيه مقدمتان والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر واحد من تينك القضيتين أو نقيضها. ولنسمّ هذا النمط نمط التلازم ، ومثاله قولنا إن كان العالم حادثا فله محدث ومعلوم أنه محدث فتلزم منه نتيجة وهو أن له محدثا بالضرورة. فالمقدمة الأولى قولنا إن كان العالم حادثا وهما قضيتان إن حذف قولنا إن كان أحدهما قولنا العالم حادث ولنسمّه المقدّم ، والثاني قولنا فله محدث ولنسمّه اللازم أو التابع ، والمقدمة الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سمّيناها مقدما وهو قولنا معلوم أن العالم حادث فتلزم منه نتيجة وهو أن العالم محدث؛ وهو عين اللازم. ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوتر يؤدّى على الراحلة بكل حال فهو نفل ، ومعلوم أنه يؤدّى على الراحلة بكل حال فثبت أنه نفل. وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات ينتج منها اثنتان ولا ينتج اثنتان. أما المنتج

٩٥

فتسليم عين القضية التي سمّيناها مقدما فإنه ينتج عين اللازم ، مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم منه المصلي متطهر. ومثاله من الحس قولنا إن كان هذا سوادا فهو لون ومعلوم أنه سواد فهو إذا لون. وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فإنه ينتج نقيض المقدّم ، ومثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة ليست صحيحة ، فانظر كيف أنتج تسليم نقيض اللازم نقيض المقدّم ، ومثاله أيضا قولنا إن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم أن هذا اللازم باطل فإنه ليس يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه نقيض المقدّم ، وهو أن البيع غير صحيح. ومثاله أيضا قولنا إن كان الباري تعالى على العرش فهو مقدّر لأنه مساو للعرش أو أصغر أو أكبر ، ومعلوم أن اللازم محال وهو كونه مقدّرا فيكون المقدّم محالا. ووجه دلالة هذا أن المؤدّي إلى المحال محال وقول الخصم أنه على العرش مؤدّي إلى المحال فهو محال ، وقوله إن بيع الغائب صحيح مؤد إلى المحال ، وهو أن يلزم بصريح الإلزام على خلاف الإجماع والمؤدى إلى المحال محال. فأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم. فإنا إذا قلنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فيلزم أن الصلاة صحيحة ، وهو غير صحيح ، إذ ربما تكون الصلاة باطلة بعلة أخرى سوى الطهارة. وكذلك تسليم نقيض المقدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. فإنك لو قلت ومعلوم أن الصلاة ليست بصحيحة فلا يلزم من هذا أن المصلي متطهر ولا أنه غير متطهر.

والفرق بين هذا النمط والنمط الأول أن الأول ترتيبه خبر عن شيء تمّ حكم على الخبر بشيء فلزم منه نتيجة وهو الالتقاء بين المبتدأ الأول والخبر الأخير ، وكل واحد من الاجزاء الثلاثة يصلح أن يجعل وصفا وخبرا وحكما للآخر في نظم هذا الكلام. وأما هذا فإنه إظهار تلازم بين قضيتين غير متداخلتين. فإن قولنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر بيان أن

٩٦

كون المصلي متطهرا لازم لكون الصلاة صحيحة ، فلا يمكن أن يجعل كون المصلي متطهرا لا وصفا للصلاة ولا وصفا للصحة. والفرق من حيث الترتيب والنظم ظاهر. وأما وجه الدلالة فهو أنه مهما جعل شيء لازما لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم ، بل إما أخص وإما مساويا. ومهما كان أخص فبثبوت الأخص يلزم بالضرورة ثبوت الأعم. إذ يلزم من ثبوت السواد وجوده ووجود اللون ، وهو الذي عنيناه بتسليم عين المقدّم. وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص ، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم. فأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص ، فإن ثبوت اللون لا يدل على ثبوت السواد ، فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج لا نفي اللازم ولا ثبوته ، وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم ، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته ، وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المقدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. وأما جعل الأخص لازما للأعم فهو خطأ ، كمن يقول إن كان هذا لونا فهو سواد وإن كان اللازم مساويا للمتقدم أنتج منه أربع تسليمات : كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب ومعلوم أنه موجود فإذن الرجم واجب ، أو معلوم أنه غير موجود فإذا الرجم غير واجب ، أو معلوم أن الرجم واجب فإذا زنا المحصن موجود ، أو معلوم أن الرجم غير واجب فإذا الزنا غير موجود. وكذلك كل معلول له علة وهو مساو لعلته ويلزم أحدهما الآخر فينتج فيه التسليمات الأربع ، ومثاله من المحسوس إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فهو موجود لكنها غير طالعة فهو غير موجود ، ولكن النهار موجود فالشمس طالعة ، ولكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة.

النمط الثالث نمط التعاند :

وهو على ضد نمط التلازم والمتكلمون يسمّونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل ، ونحن سميناه التعاند ، ومثاله العالم

٩٧

إما قديم وإما حادث فهذه مقدمة وهما قضيتان ، يحذف إما الأولى قولنا العالم قديم أو الثانية قولنا العالم حادث ، فتسليم إحدى القضيتين أو نقيضها يلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات : فإنا نقول ومعلوم أنه حادث فيلزم منه نقيض المقدمة الأخرى وهو أنه ليس بقديم. أو نقول ومعلوم أنه ليس بحادث فيلزم منه عين المقدمة الأخرى. أو نقول ومعلوم أنه قديم فيلزم منه نقيض الأخرى وهو أنه ليس بحادث. أو نقول ومعلوم أنه ليس بقديم فيلزم منه عين الأخرى. فبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر ، ولا يشترط أن تنحصر المقدمة في قسمين بل شرطه أن تستوفى أقسامه وإن كان ثلاثا. فإنا نقول هذا الشيء إما مساو وإما أقل وإما أكثر فهذه ثلاثة ولكنها حاصرة ، فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث وإبطال واحد ينتج انحصار الحق في الآخرين أحدهما لا بعينه ، والذي لا ينتج فهو أن لا يكون محصورا ، كقولك زيد إما بالعراق وإما بالحجاز وهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر ، فإنه إن ثبت أنه بالعراق انتفى عن الحجاز وهذا وغيره. وأما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع ثالث ويكاد يكون كلام من يستدل على إثبات رؤية الباري بإحالة تصحيح الرؤية على الوجود غير محصور ، إلا أن نتكلف لحصره وجها بأن نقول تصحيح الرؤية لا يخلو إما أن يكون بكونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا فيبطل بالحركة. فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود فهو المصحّح ، إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك لم يعثر عليه الباحث سوى الموجود ، مثل كونه بجهة من الرائي مثلا. فإن أبطل هذا أيضا فلعلّ ثمّ معنى آخر ، إلا أن نتكلف حصر المعاني ونتكلف نفي جميعا ونبيّن أن طلب مصحح لا بد منه فعند ذلك تحصل النتيجة ، فهذه ضروب الأقيسة.

فكل استدلال لا يمكن ردّه إلى هذه الضروب فهو غير منتج وسنزيده شرحا في حق اللواحق.

٩٨

الفن الثالث من المقاصد

[في بيان المقدمات الجارية من القياس مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير ، فإن ما ذكرناه جرى مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من الخشب ، وكما لا يمكن أن يتّخذ من كل جسم سيف وسرير وقميص ، إذ لا يتأتّى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتّخذ من كل مقدمة وقضية قياس منتج ، بل القياس المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينيا أو ظنيا إن كان المطلوب فقهيا ، فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها نقتنص اليقين. وهذا وإن كان القول يطول فيه ولكنا نحرص على الإيجاز بقدر الإمكان. أما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله وهو أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال :

أحدها : أن تتيقن وتقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح ويتيقن بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس ، ولا يجوز الغلط لا في تيقنه بالقضية ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه ، ويكون فيه آمنا مطمئنا قاطعا بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه ولا أن يطّلع على دليل غاب عنه فيغيّر اعتقاده ، ولو حكى نقيض اعتقاده عن أفضل الناس فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه وخطأه ، بل لو حكى له أن نبيا مع

٩٩

معجزة قد ادّعى أن ما يتيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته فلا يكون له تأثير بهذا السماع إلا أن يضحك منه ، ومن المحكي عنه. فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون اللّه قد أطلع نبيه على سر انكشف له نقيض اعتقاده ، فليس اعتقاده يقينا. ومثال هذا العلم قولنا إن الثلاثة أقل من الستة ، وإن شخصا واحدا لا يكون في مكانين ، وإن شخصين لا يجتمعان في موضع ونظائر ذلك.

الحالة الثانية : أن يصدّق به تصديقا جزما لا يتمارى فيه ولا يشعر بنقيضه البتة ولو أشعر بنقيضه عسر عليه إذعان نفسه للإصغاء إليه ولكنه لو ثبت وأصغى وحكى له نقيض معتقده عمّن هو أعلم الناس وأعدلهم عنده ، وقد نقله مثلا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أورث ذلك في يقينه توقفا ما ولنسمّ هذا الجنس اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم ، بل أكثر اعتقاد المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة ، فإنهم قبلوا المذاهب والأدلة جميعا بحسن الظن والتصديق من أرباب مذاهبهم الذين حسن فيهم اعتقادهم بكثرة سماعهم الثناء عليهم وتقبيح مخالفتهم ونشؤهم على سماع ذلك منذ الصبا ، فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مثيله في أول نظره إلى الكفر والإسلام وسائر المذاهب عزيز.

الحالة الثالثة : أن يكون له سكون نفس إلى شيء والتصديق به وهو يشعر بنقيضه أو لا يشعر ولكنه إن أشعر به لم ينفر طبعه عن قبوله ، وهذا يسمّى ظنا وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى ، فمن سمع من عدل شيئا سكنت إليه نفسه ، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وقوي الظن ، فإن انضاف إليه ثالث زادت القوة ، فإن انضافت إليه تجربة بصدقهم على الخصوص زادت القوة ، فإن انضافت إليه قرينة حال كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وهم على صورة مذعورين صفر الوجوه مضطربي الأحوال زاد الظن ، وهكذا لا يزال يترقى قليلا قليلا في القوة إلى أن ينقلب الظن على التدريج يقينا إذا انتهى الخبر إلى حد التواتر. والمحدثون يسمّون أكثر هذه الأحوال علما ويقينا حتى يطلقون بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح

١٠٠