محك النظر

أبو حامد الغزالي

محك النظر

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: رفيق العجم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

الفصل الخامس

في حصر مدارك الغلط في القياس

اعلم أن الشيطان مسلّط على كل ناظر ومشغوف بتلبيس الحق وتغطيته ومصرّ على الوفاء بقوله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) والتحذّر منه شديد ولا يتيسر إلا لمن هو في محل استثنائه حيث قال (إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ) (٢) جعلنا اللّه وإيّاك منهم فعليك أن تأخذ في نظرك من الشيطان ووسواسه حذرك.

فإن قلت كيف لي به مع ما أنا عليه من الضعف ومع ما هو عليه من التسلط والتمكن حتى أنه ليجري من ابن آدم مجرى الدم ، فاعلم أن العقل حزب من أحزاب اللّه تعالى ذكره وجنّد من جنوده ما أنعم به عليك إلا لتستعين به على أعدائه ووجه الاستعانة أن تتفقّد بنور العقل وسراجه الزاهر مداخل الشيطان في النظر ، وتعلم أن حصن النظر والدليل ما لم ينثلم ركن من أركانه لم يجد الشيطان مدخلا فإنه لا يدخل إلا من الثلم ، فإذا أبصرت الثلم بنور العقل وسددتها وأحكمت معاقلها انصرف الشيطان خائبا خاسرا واهتديت إلى الحق ونلت بمعرفة الحق درجة القرب من رب العالمين. وجميع الثلم التي هي مداخل الغلط ترجع في القياس إلى سبع جمل وإن كان لكل واحد تفصيل طويل ونحن نومي إلى الجمل ، وذلك ، أنك بالضرورة

__________________

(١) سورة ص ، الآية ٨٢.

(٢) سورة ص ، الآية ٨٣.

١٢١

تعلم أن المقدمات القياسية إذا كانت صادقة يقينية وكانت مفردات معارفها وهي الأجزاء الأول محصّلة في العقل بحقائق معانيها دون ألفاظها وكانت المقدمات التي هي الأجزاء الثواني أيضا متمايزة مفصلة وكانت غير النتيجة وكانت أعرف من النتيجة وكان تأليفها داخلا في نمط من جملة ما ذكرناه وكان بعد وقوعه في نمط واحد جامعا للشروط التي شرطناها في ذلك النمط ، كان الحكم الذي يلزم منه حقّا وصدقا لا محالة ، فإن لم يكن حقا فهو لخلل وقع في هذه الأمور ، فلنفصّلها.

المدخل الأول : أن لا تكون المقدمات صادقة بل تكون مقبولة بحسن الظن أو وهمية أو مأخوذة من الحس في مظان غلطه ، وذلك عند بعد مفرط أو قرب مفرط أو اختلال شرط من الشروط الثمانية التي فيها ، وأكثر أغاليط النظّار من التصديق بالمألوفات والمسموعات في الصبي من الأب والأستاذ وأهل البلد والمشهورين بالفضل ، وقد انتهى هذا الداء بطائفة إلى أن صدّقوا بأن الحروف التي ينطقون بها في الحال قديمة ولو سوّلوا عن ألسنتهم لقالوا هي حادثة ، ولو قيل له كيف كان كلامك أكان قبل لسانك أو بعده لقال بعده ، فإذا قيل فما هو بعد لسانك كيف يكون قديما وكيف يكون قديم متأخرا عن حادث لم ينفع هذا معهم. واعلم أن من الأذهان ما فطر فطرة تسارع إلى قبول كل مسموع ثم ينصبغ به انصباغا لا يمكن البتة انجلاؤه عنه ويكون مثاله كالكاغد الرخو الذي يغوص الحبر في عمقه ، فإن أردت محوه لزمك إفساد الكاغد وخرقه ، وما دام الكاغد موجودا كان السواد فيه موجودا. فهؤلاء أيضا ما دامت أدمغتهم موجودة كانت هذه الضلالات فيها موجودة لا يقدر البشر على إزالتها. وأما الذين كذبوا بوجود موجود لا يشار إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهم أظهر عذرا وأقرب أمرا من هؤلاء ولكنهم أيضا عادلون عن الحق بالإذعان لمقتضى. الوهم والعجز عن التمييز بين حكمه وحكم العقل. ومهما قصد رسوخ مثل هذا الاعتقاد في النفوس أعني قدم الحروف ينبغي أن يكرّر ذلك على السمع في الصبا ويختم الوجه عند ذكر منكره ويستعاذ باللّه تعالى ويطلق اللسان في ذمه ويقال إن

١٢٢

ذلك قول بعض الكفرة ، أعني الذين يفعل بهم في النار كيت وكيت ويخترع على ذلك حكايات ، مثل أن يقال إن فلانا كان ممن يعتقده فأصبح وقد مسخه اللّه كلبا وإن فلانا يسمع من قبره صياح الكلاب لقوله بكذا وكذا فلا يزال يترسخ في نفس الصبي ذلك على التدريج من حيث لا يشعر كما يرسّخ النقش في الحجر ويتعذّر على كل العلماء دواه بعد الكبر مثل العلة المستحكمة التي تجاوز معالجتها قدرة الطبيب ، ولا فرق بين مرض القلوب ومرض الأبدان نعوذ باللّه منهما. وأما أنت وإن لم ينته تقليدك إلى هذا الحد فاحذر أن تكون من جملة من يعتقد شيئا خفيا استحسنته وصدّقت به من غير دليل واستبشعت خلافه فأبيت التصديق بضده لكونه شنيعا قبيحا. واعلم أن الحق غير الحسن والشنيع غير الباطل ، إذ رب شنيع حق ورب محمود باطل. فإن إنكار كون اللّه على العرش وكون الحروف قديمة شنيع عند أهله وتجويز ذبح الحيوانات شنيع عند طائفة كما أن إيلام البريء من غير غرض شنيع عند الجماهير ، فاحترز من هذه المغاصة تسلم من إحدى مكايد الشيطان واعرض ما صدّقت به على نفسك. فإن كان امتناع التشكّك فيه مثل امتناع التشكّك في أن الاثنين أكثر من الواحد فاعلم أنه وجه حق.

المدخل الثاني : أن يكون الخلل في الصورة وهو أن لا يكون وضعه داخلا في نمط من الجملة المذكورة ، وذلك بأن تكون النتيجة مطلوبة من مقدمة واحدة بالحقيقة ، وأعني بها ما ليست من مقدمتين أصلا أو تكون من مقدمتين بالقوة ولكن ليس فيهما واسطة مكرّرة يقع بها الازدواج والاشتراك. وعدم الاشتراك إن كان في اللفظ والمعنى يسهل دركه ، إذ يعلم أنه لا تحصل نتيجة إن قلنا السماء فوقنا والشمس أصغر فإنهما مقدمتان لا يتداخلان. وإذا كان الاشتراك باللفظ لا بالمعنى فلا يكون ذلك إلا بسبب استعمال لفظ مشترك كلفظ المختار وسائر أقسامه التي ذكرناها وإن أهملنا بعضها وننبّه الآن على أمور خفية مما أهملناه ليستدل بها على ذلك وهي أربعة :

١٢٣

الأول : أن يكون الاشتراك في أداة من الأدوات أو ما يستعمل رابطة في نظم الكلام ، كقوله كل ما يعلمه اللّه فهو كما يعلمه واللّه يعلم الجوهر فهو إذا كالجوهر ، ووجه الغلط أن هو مشترك الدلالة بين أن يرجع إلى كل ما تبيّن أنه يرجع إلى العالم وبين أن يرجع إلى اللّه سبحانه وتعالى. وهذا وإن كان هاهنا واضحا فإنه تخفى أمثاله في مواضع.

الثاني : بأن تكون المقدمة بحيث تصدق مجتمعة فيظن أنها تصدق مفترقة بسبب حروف النسق بأن يصدق أن يقال الخمسة زوج وفرد ، أي فيه اثنان وثلاثة فيظن أنه يصدق أن يقال هو زوج أيضا ، لأن الواو قد تطلق ويراد بها جميع الأجزاء ، كما يقال الإنسان حيوان وجسم وقد تطلق ويراد بها بعض الأجزاء ، كالمثال السابق. وكما يقال العالم جواهر وأعراض أي بعضه جواهر وبعضه أعراض.

الثالث : ما يصدق مفترقا ، فيظن أنه يصدق مجتمعا ، كما يصح أن يقال زيد بصير أي في الخياطة وزيد جاهل أي في الطب ، فقد صدق كل واحد مفردا ، ولو قلت زيد بصير جاهل كان متناقضا.

الرابع : ألفاظ تواطأ المتواطئة من وجه وهو الذي تتناوله الأشياء المتعددة التي تختلف في الحقائق وتتفق في عوارض لازمة إما قريبة أو بعيدة ، كقولك أن فعل العبد مقدور عليه للعبد وللّه تعالى أي للعبد كسبا وللّه اختراعا ، فكل واحد يشترك في أنه يسمّى مقدورا عليه أعني مقدورا للعبد ومقدورا للّه سبحانه وتعالى ، ولكن تعلّق قدرة اللّه تعالى مخالفة لتعلّق قدرة العبد وقدرة اللّه تعالى مخالفة لقدرة العبد ، فإن شبّهت هذا بالمشترك المحض فقد أخطأت ، إذ لا شركة بين المسميين كالمشترى ولفظ العين إلا في اللفظ ، إذ عبرنا بالمشترك عن المختلفات في الحد والحقيقة المتساوية في التلقيب فقط ، وهاهنا لا بد من اعتقاد مشاركة ما. وإن شبّهت بالمتواطئة فقد ظلمت ، فإن المتواطئة هي المتساوية في الحد ، فإن السماء والإنسان والشجر مشترك في الجسمية اشتراكا واحدا من غير تفاوت البتة إلا

١٢٤

في أمر مختلف خارج الجسمية وحدها. وأما هاهنا فوجه تعلق القدرة بالمقدور مختلف فقد عرفت أن الاسم الواحد يعبّر به عن شيئين إما بالتواطؤ وإما بالاشتراك ، وأما هذا القسم الثالث فبينهما فلنخترع له اسم المردّد ليكون بإزاء الأقسام الثلاثة المعقولة ألفاظ ثلاثة معقولة. فهذا وأمثاله إذا وقعت الغفلة عنه خرج القياس عن النمط الذي ذكرناه فلم يكن منتجا ، إذ بطل به ازدواج المقدمتين حيث جعل الحد المشترك ما هو مشترك باللفظ لا بالحقيقة.

المدخل الثالث : أن لا يكون نظمه جامعا للشروط التي ذكرنا بعد وقوع الاشتراك بين المقدمتين بأن ألّف من مقدمتين نافيتين أو جزئيتين ، أو كان من النظم الأول ومقدمة المحكوم عليه نافية أو مقدمة الحكم غير عامة ، أو كان من النظم الثاني وقد طلب منه نتيجة مثبتة ، أو من النظم الثالث وقد طلب منه نتيجة عامة. وقد ذكرنا أمثلة هذا.

المدخل الرابع : أن لا تكون مفردات المعارف ، أعني الأجزاء الأول متمايزة منفصلة بالحقيقة بل ملتفة مختلطة متضمنة لأمور متعددة ، كأن تقول مثلا في مسألة ضمان المنافع بالإتلاف أنها تضمن لأن كل من أتلف مالا ضمنه وغاصب الدار قد أتلف مالا فيضمنه ، فقوله الغاصب أتلف مالا ذكر فيه مفردين المال والإتلاف وطوى تحتهما أمورا كثيرة تلبيسا ، إذ لا تصدق هذه المقدمة ما لم يبيّن أن المنافع أولا موجودة وقد أنكر وجودها بعض الناس ولا يتلف إلا موجود ، وثانيا أن يبيّن أنها باقية إذ الإتلاف يستدعي البقاء وإلا فما يفني بنفسه كيف يتلف. وثالثا أنها أموال وأن كل ما يتلف يضمن ، فإن من فوت منافع بضائع الأمة كمن غصب بضاعة تاجر وحبسها سنة فقد فوت الربح ولا يضمن. ورابعا أن يبيّن أنه مال فإن ذلك لا يسلّم وذلك بأن يذكر حد المال. وخامسا أن يبيّن أن كل مال مضمون ، فإن الحبة الواحدة مال ولا تضمن. وسادسا أن يبيّن أن ضمانه ممكن فما لا يمكن ضمانه لا يمكن الحكم به والضمان مثل والمنافع أعراض فلا يمكن

١٢٥

مقابلتها بها ، ولقوله قد أتلف مالا مفردان تضمّنا هذه الأمور الكثيرة فلا يدري لعلّ التلبيس تطرق إلى واحد من هذه المراتب ، ومثاله من الكلام من يثبت حدوث الأعراض مثلا ، فإنا نقول كلما رأيناه الآن في محل ورأينا من قبله ضده فهو حادث ، وبياض الشعر مثلا رأيناه الآن ونرى قبله ضده فهو أيضا حادث ، فهذا غير كاف ما لم يبيّن أولا أن ما يدرك بحاسة البصر فهو كما يدرك ، وذلك بأن يعرف جميع شروط صحة الإبصار بالبحث عن الأسباب واستقراء المشاهدات. وثانيا أن يبيّن أن العرض لم يكن كامنا مستورا فظهر للبصر الآن فظهوره هو الحادث دون نفسه. وثالثا أن يبيّن أنه لم يكن في موضع آخر ولا كان قد انتقل فرأى الآن لأنه انتقل الآن فيبطل انتقال العرض وكمونه حتى يتم النظر.

المدخل الخامس : أن لا تكون النتيجة غير المقدمة بل عينها ولكن استعمل فيها للتلبيس لفظين مترادفين ، كقولك كل بشر إنسان كأنك قلت كل إنسان إنسان ، فإنهما مترادفان فيصير قولك كل إنسان مكلّف وهو مقدمة عين قولك فكل بشر مكلّف وهو النتيجة ، ومثاله في الفقه أن يقول الحنفي في تبييت النية في زمان رمضان أنه صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع ، ونظمه أن كل ما هو صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت وهذا صوم عين فلا يفتقر إليه. وقوله صوم عين في الأصل مقدمة طويت فيها بعض أجزاء النتيجة. وبيانه أن يقال ما ذا أردت بقولك صوم التطوع صوم عين ، فإنه لا يسلم فيقول الدليل عليه أن من أصبح غير ناو بالليل صلح يومه للتطوع ولم يصلح لغيره وما يصلح للشيء لا لغيره فهو عين في حقه فكان هذا صوم عين. فيقال : أما قولك لا يصلح لغيره فلا يوجب التعيين فإن الليل لا يصلح للصوم ولا يقال إنه عين ولكن نضيف إليه أنه يصلح للتطوع وليس له معنى إلا أنه لا يفتقر إلى التبييت ، أي تصح نيته من النهار ، وهذا عين الحكم وقد احتجت إلى طلب علته وينبغي أن لا تكون العلة عين الحكم لأن الحكم نتيجة والعلة منتجة والمنتج ينبغي أن يكون غير النتيجة. وقولك

١٢٦

تصح نيته من النهار جزء من تفسير قولك أنه صوم عين فصار الحكم جزء من نفس العلة.

المدخل السادس : أن تكون المقدمات وهي الأجزاء الثواني متمايزة مفصلة وينطوي تحت هذا أمران : الأول أن لا تكون أجزاء المحكوم به والمحكوم متمايزة بأن يوجد هناك شيء من الموضوع يتوهم أنه من المحمول أو بالعكس ، كقولك الجسم بما هو جسم إما أن يكون متحركا أو ساكنا ، فقولك بما هو جسم لا يدري أهو من المحكوم عليه أو من المحكوم. والثاني أن تكون أجزاء المحكوم عليه والمحكوم متمايزة لا يشتبه منها شيء ، إلا أنها غير متمايزة في الاتساق ، وذلك كما مثلنا به آنفا من قولنا كل ما علمه الإله فهو كما علمه والإله يعلم الجوهر فهو إذا جوهر. وقد قدّمنا لك كيف دخل الخلل في اتساقه.

المدخل السابع : أن لا تكون المقدمات أعرف من النتيجة بأن تكون مساوية لها بالمعرفة كالنسب الإضافية إذا أخذ بعضها دليلا على بعض ، وذلك كأن تقول زيد أب لعمرو لأن عمرا ابنه. فإن كون عمرو ابنا لزيد وهو المقدّمة مساو في المعرفة لكون زيد أبا له وهو النتيجة. أو أخفى منها سواء كانت مبيّنة في النتيجة أو لا. أما الثاني فكما يقال في الاستدلال على ثبوت واجب الوجود من حدوث العالم وعدم صحة استناد التأثير إلى الحوادث ، وغير ذلك مما ثبوت واجب الوجود أظهر منه. وأما الأول فكأن تقول كل جسم متحيّز وكل متحيّز يقبل التحوّل فالجسم يقبل التحوّل. فإذا قيل لك ولما قلت أن كل متحيّز يقبل التحوّل قلت لأن الأجسام تقبل التحوّل وهي متحيّزة فحكمت بأن كل متحيّز يقبل التحول ، فقد جعلت النتيجة دليلا على الكبرى وقد كانت النتيجة مدلولا عليها. وهذا هو البيان الدوري وحاصله يرجع إلى بيان الشيء بنفسه وهو محال.

فهذه مجامع مداخل الغلط من غير تطويل بالتفصيل وإن كان لا يدرك كنهه إلا بالتفصيل ، ولكن الإيجاز أليق بالحال. فإن قلت فهذا مع الإيجاز

١٢٧

أشعر بمثارات عظيمة للغلط فكيف الأمان منها مع تراكمها ، فاعلم أن الحق عزيز والطريق إليه وعر وأكثر الأبصار مظلمة ، والعوائق الصارفة كثيرة والمشوشات للنظر متظاهرة ، ولهذا ترى الخلق يتلاطمون تلاطم العميان ، وقد انقسموا إلى فرقتين فرقة سابقة بأذهانها إلى المعتقدات على سرعة فيعتقدها يقينا ويظن كل شبهة ودليل برهانا ويحسب كل سوداء ثمرة ، فهؤلاء يعتقدون أنهم يعلمون الحقائق كلها وإنما العميان خصومهم. وطائفة تنبّهوا لذوق اليقين وعلموا أن ما في الناس فيه في الأكثر عمى ثم قصرت قوتهم من سلوك سبيل الحق ومعرفة شروط القياس إما لبلادة في الفهم وإما لفقد أستاذ مرشد بصير بالحقائق غير منخدع بلامع السراب يطّلع على جميع شروط البرهان. فهؤلاء يعتقدون أن الناس كلهم عميان يتلاطمون وأنه لا يمكن أن يكون في القوة البشرية الاطلاع على الحق وسلوك طريقه ، فلا ذاك الأول حق ولا هذا الثاني صدق. وإنما الحق أن الأشياء لها حقيقة وإلى دركها طريق وفي قوام البشر سلوك ذلك الطريق لو صادف مرشدا بصيرا ، ولكن الطريق طويل والمهالك فيها كثيرة والمرشد عزيز فلأجلها صار الطريق عند الأكثر مهجورا ، إذ صار مجهولا. وهكذا يكون مثل هذا الأمر ، فإنه مهما عظم المطلوب قلّ المساعد ومهما كثرت المخاوف راع الجبان الخائف ، وكيف لا وأكثر العلوم المطلوبة في أسرار صفات اللّه تعالى وأفعاله تنبني على أدلة تحقيقها يستدعي تأليف مقدمات لعلّها تزيد على ألف وألفين ، فأين من يقوى ذهنه للاحتواء على جميعها أو حفظ الترتيب فيها ، فعليك أيها الأخ بالجد والتشمير. فإن ما أوردته يهديك إلى أوائل الطريق إن شاء اللّه تعالى.

١٢٨

الفصل السادس من القياس

في حصر مدارك الأقيسة الفقهية والتنبيه على جمل يزيد الانتفاع بها على مجلدات تحفظ من الأصول الرسمية. فنقول الحكم الشرعي تارة يكون مدركه أصل العلم وتارة يكون مدركه ملحق بأصل العلم. فالمعلوم بأصل العلم كالعلم بوجوب الكفارة على من أفطر بالجماع في نهار رمضان ، ويكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات اللّه عليه ، وليس ذلك تفصيله من غرضنا ، وإما الملحق بالأصل فله أقسام وتشترك في أمر واحد وهو أن من ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل عن درجة الاعتبار حتى يتّسع الحكم ، فإن اتساع الحكم بحذف الأوصاف وأن نقصان الوصف يزيد في الموصوف ، أي في عمومه ، فإن غير البر لا يلحق بالبر ما لم يسقط اعتبار كونه برا في حكم الربوي ، والحمص لا تلتحق به المكيلات ما لم تحذف اعتبار كونه مطعوما ، والثوب على مذهب ابن الماجشون لا يعتبر به ما لم يسقط اعتبار كونه مقدّرا ، وهكذا كل من زاد إلحاقه زاد حذفه. فإذا عرفت هذا فاعلم أن للإلحاق طريقين : أحدهما ألا يتعرض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به ، فأما العلة الجامعة فلا يتعرض لها البتة ، ومع ذلك فيصحّ إلحاقه. وهذا له ثلاث درجات أعلاها أن يكون الحكم في الملحق أولى كما إذا قلت جامع الأعرابي أهله فلزمته الكفارة ، فمن يزني أولى بأن تلزمه ، لأن الفارق بين جماع الأهل والأجنبي كونه حلالا وهذا أولى بالإسقاط والحذف من وجوب

١٢٩

الكفارة في الاعتبار. والدرجة الثانية أن يكون بطريق المساواة كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم «من أعتق شركا من عبد قوم عليه الباقي» فقلنا الأمة كذلك من غير أن نبيّن هاهنا علة سراية العتق ، كما لم نبيّن في المثال السابق علة وجوب الكفارة. ولكن نعلم أنه لا فارق إلا الأنوثة وأن الأنوثة لا مدخل لها في التأثير فيما يرجع إلى حكم الرق وهو ظاهر ، بل ذلك كما لو حكم عليه السلام بالعتق في غلام كبير ، لكنّا نقضي في الصغير ولو قضى في عربي لقضينا في الهندي وعلمنا أنه مساو له. وإذا سجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسهوه في الصبح نعلم أن الظهر وسائر الأوقات في معناه ، إذ اختلاف الوقت نعلم قطعا أنه لا يؤثّر في جبر النقصان. ولقد زلّ من قال إن إلحاق الأمة بالعبد للقرب ، فإن القرب من الجانبين على وتيرة واحدة. ولو ورد نص في أن الأمة تجبر على النكاح وهو ثابت بالإجماع لكنّا نقول العبد في معناه. ولكن مأخذ هذا العلم ما تكرّر على أفهامنا من أحكام الشرع وعادته في قضية الرق والعتق أنه يسلك بالذكر والأنثى فبه مسلكا واحدا كما يسلك بالأبيض والأسود مسلكا واحدا. ولو لم نعرف هذا من عادته بطول ممارسة أحكام العتق والرق لكان لا يتّضح ذلك البتة ولم يظهر أنه يسلك بالذكر مسلك الأنثى في عقد النكاح ، فلذلك لم يكن العبد في معنى الأمة في الإجبار.

(الرتبة الثانية) أن يكون انحذاف الوصف الفارق مظنونا لا مقطوعا به كما تقول إن سراية العتق إلى نصف معيّن من العبد عند إضافته إلى نصف آخر أو إلى عضو معيّن كسرايته عند الإضافة إلى الجزء الشائع ، فإنه لا يفارقه إلا في كون المضاف معيّنا وشائعا. ويكاد يغلب على الظن أن هذا الوصف وهو كون المضاف إليه شائعا غير مؤثّر في الحكم ، ولكن ليس هذا معلوما كحذف وصف الأنوثة ، إذ فرق الشرع في إضافة التصرفات إلى المحال بين الشائع والمعيّن في البيع والهبة والرهن وغيرها ، وهذا يعارض أن الشائع في العتق والطلاق على الخصوص كالمعيّن في إباء الشرع الاقتصار فيه على البعض واعتبار هذا الوصف في غير العتق والطلاق ، كاعتبارنا الأنوثة في غير الرق والعتق من الشهادات والنكاح والقضاء وغيره ، فيصير الأمر مظنونا

١٣٠

بحسب هذه التخمينات ، وعلى المجتهد أن يتّبع فيه ظنه ويقرب منه حذف وصف الجماع حتى تبقى الكفارة منوطة بالإفطار كما قاله مالك. إذ كونه جماعا يضاهي كونه خبزا ولحما ، ولو أوجب الشرع بأكل الخبز لكنا نقول اللحم والفاكهة والماء في معنى الخبز ، إذ اختلاف آلات الإفطار لا ينبغي أن يكون لها مدخل في الكفارة وحذف موجب الإزهاق ، حتى يكون الرمح والنشاب والسكين في معنى السيف ، مهما ورد النص بوجوب القصاص في السيف. ولكن يعارضه أن هذه الكفارة شرعت لأن تكون للزجر فيختص بمحل الحاجة والجماع ممّا يشتد الشبق إليه ويعسر الصبر عنه ولا ينزجر ملابسه عنه إلا بوازع شرعي ، ولكن يعارضه أن الخبز أيضا يشتهي في الصوم ودرجات الشهوة لا تمكّن مراعاتها ، إذ يلحق جماع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سورا فاصلا. فهذا ممّا يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وإن لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وإن لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط. فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه. ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيل. فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به ، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليط لا في التخفيف. فلو لا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لمّا علق تحريم أمر الموطوءة وابنتها بوطي المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطي في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة ، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة

١٣١

نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف ، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة ، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخّص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين : أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته ، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سها فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في معناها ، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئا من الأبعاض عمدا ينبغي أن يسجد ، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر.

وأما الوجه الثاني فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة من المعاني ، كما أن في الربوي ربما نبيّن أن الزبيب في معنى التمر قبل أن يتّضح أن العلة هي الكيل أو الطعم أو المالية أو القوت ، إذ نعلم أنه كيف كان فالزبيب مشارك له فيه ولا يفارقه إلا في كونه زبيبا. وهذا لا ينبغي أن يؤثر قطعا ، والدليل على أنه لا بد من استشعار حيال المعنى عن بعد وإجمال ، حتى يمكن الإلحاق بأنه نص صاحب الشرع صلوات اللّه عليه وعلى آله على أن الثوب إذا أصابه بول الصبي كفى الرش عليه ، فلو لا أنه ذكر أن الصبية بخلافه لكنّا ننازع إلى أنها في معناه ، ولكن لما ذكر الصبية وأنها بخلافه حسم علينا باب توهم المعنى. أما ترانا كيف نحكم بمنع المرأة من البول في الماء الراكد أخذا من قوله لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ، والخطاب مع الرجال وإن خطر لك أن النساء يدخلن تحت هذا الخطاب ، فقدّر أنه لو قال لرجل لا تبل في الماء الراكد لكنا نقول ذلك للمرأة لعلمنا بأن الشرع بيّن فضلات بدن الرجال والنساء في النجاسات فما رأينا للأنوثة مدخلا في النجاسات ، وعرف ذلك من الشرع وكان جراءتنا

١٣٢

على الشرع للإلحاق لهذا ولتوهمنا أن البول مستقذر وأن الماء معد للتنظيف فلا ينبغي أن يختلط به. فهذه أقسام الطريق الأول وهو أن لا يتعرّض الملحق إلا للحذف. أما الطريق الثاني فأن يتعرض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق وهذه ثلاثة أقسام :

الأول أن يكون المعنى مناسبا كوصف الإسكار في التحريم والآخر أن يكون مؤثرا كقول أبي حنيفة رضي اللّه عنه أن بيع المبيع قبل القبض باطل لما فيه من الضرر ، وذلك لا يجري في العقار ، وزعم أن التعليل بالضرر أولى لأن ذلك ظهر أثره في موضع آخر بالنص وهو بيع الطير في الهواء. وهذا قد قدّرنا وجهه في مسألة بيع العقار قبل القبض في كتاب المبادي والغايات.

وأما أقسام المناسب والمؤثر والفرق بينهما فقد ذكرناه في كتاب شفاء الغليل في بيان التشبيه والمخيل. القسم الثالث أن لا يكون الجامع مناسبا ولا ممّا ظهر تأثيره بالنص في موضع آخر ، ولكنه توهم الاشتمال على معنى مناسب لم يطلع على عينه ، كقولنا الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمّم.

فإنا لا نحصر الفوارق ولا نتعرض لحذفها بل تعرضنا لمعنى جامع ، والفوارق كثيرة وليس الجامع مناسبا ولا مؤثرا ولا يغرنّك ما توهم من التخيلات في معرض الإخالة من لا يدري ذوق الإخالة ، وقدّر أن تلك التخييلات لم تكن ، فبدونها تحصل غلبة الظن وهذا أخفى أنواع القياس وأدقها ، فربما يخص باسم الشبه ، وإن كان كل قياس لا ينفك عن شبه من الفرع والأصل ووجه جواز الحكم لمثل هذا يطول تحقيقه فاطلبه إن رغبت فيه في مسئلة الربوي من كتاب المبادي والغايات ومن شفاء الغليل. وهذا القدر كاف في الأقيسة الفقهية ففيه على إيجازه من الفوائد ما لا يعرف قدره إلا من طال في المقاييس الفقهية تعبه.

١٣٣

القسم الثاني من الكتاب في محك الحد

قد ذكرنا أن أحد قسمي الإدراك هو المعرفة ، أعني العلم بالمفردات ، وأن ذلك لا ينال إلا بالحد فلنورد فيه (فنين) : أحدهما ما يجري مجرى القوانين والأصول والآخر ما يجري مجرى الامتحانات للقوانين.

القانون الأول :

إن الحد يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه ، والسؤال طلب وله لا محالة مطلب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع :

المطلب الأول : مطلب هل ، إذ يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود ، كقول القائل هل اللّه موجود ، أو يطلب الموجود بحال وصفة ، كقوله هل اللّه خالق البشر وهل اللّه حي.

المطلب الثاني : مطلب ما ، ويطلق على ثلاثة أوجه : الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا يدري العقار ما العقار ، فيقال له الخمر إذا كان يعرف الخمر. الثاني أن يطلب لفظا مميّزا يتميّز به المسئول عنه عن غيره بكلام جامع مانع كيف ما كان الكلام سواء كان عبارة عن لوازمه أو ذاتياته ، كقول القائل ما الخمر أي ما حد الخمر ، فيقال هو المائع

١٣٤

الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن ، والمقصود أن لا يتعرض لذاتياته ، ولكن تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج عنه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. الثالث أن يقال ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب ، فيكون ذلك كاشفا عن كنه حقيقته الذاتية ، ويتبعه أيضا أنه تمييز جامع مانع ولكن ليس المقصود التمييز بل تصور كنه الشيء وحقيقته ، ثم التميز يتبعه لا محالة.

واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الأجوبة الثلاثة على سبيل الاشتراك. فلنخترع لكل واحد اسما ولنسمّ الأول حدا لفظيا ، إذ السائل ليس يطلب إلا شرح اللفظ ، ولنسمّ الثاني حدا رسميا وهو طلب مترسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء. ولنسمّ الثالث جدا حقيقيا إذ مدرك الطالب فيه درك حقيقة الشيء. وهذا الثالث شرطه أن يكون مشتملا على جميع ذاتيات الشيء. فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقال جسم فقد جاء بوصف كاف لو كان ذلك كافيا في الجمع والمنع ، ولكنه ناقص بل حقه أن يضيف إليه المتحرك بالإرادة. فإن كنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع الأمرين. فأما المترسم الطالب للتمييز فيكفيه قولك حساس وإن لم تقل جسم أيضا.

وأما المطلب الثالث : فمطلب لم ، وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان وقد سبق.

وأما الرابع : فهو مطلب أي وهو الذي يطلب تمييز ما عرف جملته عمّا اختلط به ، كما إذا قيل ما الشجر فقلت إنه جسم ، فينبغي أن يقال أي جسم هو فنقول هو نام. وأما مطلب كيف وأين ومتى وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب هل المطلوب به صفة الموجود.

القانون الثاني : إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية كما ذكرناه في الفن الأول من الكتاب ، أعني به طالب الحد الحقيقي. أما الأول اللفظي فيتعلق بساذج اللغة ، وأما الرسمي

١٣٥

فمئونته قليلة والأمر فيه سهل ، فإن طالبه قانع بالجمع والمنع بأي لفظ كان ، وإنما العويص العزيز الحد الذي سمّيناه حقيقيا ، وليس ذلك إلا ذكر كمال المعاني التي بها قوام ماهية الشيء ، أعني بالماهية ما يطلب القائل بقوله ما هو. وإن هذه صيغة طالب لحقيقة الشيء فلا يؤخذ في جواب الماهية إلا الذاتي ، والذاتي ينقسم إلى عام ويسمّى جنسا وإلى أخص ويسمّى فصلا ، وإلى خاص ويسمّى نوعا. فإن كان الذاتي العام لا أعمّ منه يسمّى جنس الأجناس وإن كان الذاتي الخاص لا أخصّ منه يسمّى نوع الأنواع. وهذا اصطلاح المنطقيين ولنصالحهم على هذا الاصطلاح فلا ضير فيه. فإنه كالمستعمل أيضا في علومنا ، ومثاله إذا قلنا الجسم ينقسم إلى نام وغير نام ، والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان ، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وإلى غير عاقل كالبهائم. فالجسم جنس الأجناس ، إذ لا أعم فوقه والإنسان نوع الأنواع ، إذ لا أخص تحته ، والنامي نوع بالإضافة إلى الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه. وكذا الحيوان بين النامي الأعم وبين الإنسان الأخص. فإن قيل كيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وحجام أخص منه.

قلنا لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا به الأعم الذي هو ذاتي الشيء ، أي هو داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوما للعقل ، وعلى هذا الاصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية ، إذ بطلانه عن الذهن لا يوجب زوال الماهية بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا سلك تحيط به ثلاثة أضلاع ، أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل تحيط به سبعة أضلاع ، فهم السائل حد المسبع ولو لم يعلم أن المسبع موجود أم لا في الحال. فبطلان العلم بوجوده لا يبطل من ذهنه فهم حقيقة المسبع ، ولو بطل من ذهنه الشكل لم يبق المسبع مفهوما عنده ، فقد أدركت التفرقة بين نسبة الوجود إليه وبين نسبة الشكل إليه ، إذ زوال أحدهما عن الذهن مبطل

١٣٦

حقيقته وزوال الآخر غير مبطل ، فهذا هو المراد بهذا الاصطلاح. وأما الجوهر فعلى ما نعتقده داخل في الماهية؛ فإنا نفهم منه المتحيز وهو حقيقة ذاتية ، فيكون الجنس الأعم عندنا هو الجوهر وينقسم إلى جسم وغير جسم وهو الجوهر الفرد. وأما المنطقيون فيعبّرون بالجوهر عن الموجود لا في موضع. وإذا لم يكن الوجود ذاتيا فبأن يضاف إليه لا في موضع لا يصير ذاتيا لأنه سلب محض فيصحّ اصطلاحهم بحسب تفاهمهم واعتقادهم لا بحسب اعتقادنا وتفاهمنا. وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلا وقصيرا وكاتبا ومحترقا وأبيض وأسود فهو لا يدخل في الماهية ، إذ لا يتغيّر بتغييره الجواب عن طلب الماهية. فإن قيل لنا ما هذا قلنا إنسان وكان صغيرا فكبر وطال وأحمر وأصفر ، فسئل مرة أخرى أنه ما هو؟ كان الجواب ذلك بعينه. ولو أشير إلى ما ينفصل من الإحليل عند الوقاع وقيل ما هو قلنا نطفة ، فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل ما هو؟ تغيّر الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان. وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا إنه ماء كما في حالة البرودة ، ولو استحال بخارا بالنار تغيّر الجواب. فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل. فإذا ، قد عرفت بهذا معنى الجنس والنوع والفصل.

القانون الثالث : إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحدّه حدّا حقيقيّا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقيا إلا بها ، فإن تركتها سمّيناه رسميا أو لفظيّا وخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشيء ومصورا كنه معناه في نفس السائل الأول أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول. فإذا قيل ذلك مشيرا إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد وأن تقول جسم ، ولكن لو اقتصرت عليه بطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز عن ما لا ينمو ، فهذا الاحتراز يسمّى فصلا ، إذ فصلت به المحدود عن غيره ، ثم شرطك أن تذكر جميع ذاتياته وإن كان ألفا ولا تبالي بالتطويل. ولكن ينبغي أن تقدّم الأعم على الأخص ، فلا تقول نام جسم بل بالعكس. وهذا لو

١٣٧

تركته تشوّش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ والإنكار عليك في ذلك أقل ممّا في الأول. وهو أن تقتصر على الجسم.

والثالث أنك إذا وجدت الجنس القريب فإيّاك أن تذكر البعيد معه فيكون مكررا كما تقول مائع شراب ، أو تقتصر على البعيد فيكون مبعدا كما إذا قيل ما الخمر فلا تقل جسم مسكر مأخوذ من العنب. وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس ولكنه مخيّل قاصر عن تصور كنه حقيقة الخمر. بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم ، وهو أيضا ضعيف.

بل ينبغي أن تقول شراب مسكر ، فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنسا أخصّ منه. فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل ، إذ الشراب يتناول سائر الأشربة ، واجتهد أن تفصّل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك ، وهو كذلك في أكثر الحدود ، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى ذكر اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة؛ فإن الخفي لا يعرف به كما إذا قيل ما الأسد قلت سبع أبخر يتميّز بالبخر عن الكلب ، فإن البخر من خواصه ولكنه من الخواص الخفيّة ، ولو قلت شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى الفهم لأنها أجلى وأكثر ما يرى في الكتب من الحدود رسمية ، إذ الحقيقة عزيزة ورعاية الترتيب حتى لا يبتدي بالأخص قبل الأعم عسير ، وطلب الجنس الأقرب عسير. فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع ، فتجتمع أنواع من العسر ، وأحسن الرسميات ما وضع فيها الجنس الأقرب ، وأتمّ بالخواص المشهورة المعروفة. الرابع أن تحترز عن الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المتردّدة ، واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك ، فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض واذكر مرادك به للسائل. فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة ولو طول مطوّل أو استعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة ، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف الحقيقة بذكر جميع الذاتيات ، فإنه

١٣٨

المقصود وهذه المزايا تحسينات وترتيبات كالأبازير من المقصود. وإنما المتجادلون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود للأصل والتوابع ، حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث أن الثقة مردّدة بين العلم والأمانة ، وهذا المعترض مهوّس ، فإن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعيّن فيه جهة الفهم ، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر هذا لأن العين قد يراد بها الذهب والشمس ، فإنه مع قرينة الحاسة ذهب الإجمال وحصل التفهم الذي هو مطلب السؤال. واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المترسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها.

القانون الرابع : في طريق اقتناص الحد : اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا حد الخمر أنها شراب مسكر فقيل لنا لم كان محالا أن تطلب صحته بالبرهان ، لأن قولنا حد الخمر أنها شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنها شراب مسكر. وهذه القضية إن كانت معلومة بغير وسط فلا حاجة إلى البرهان وإن لم تعلم وافترقنا إلى وسط وهو البرهان كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحدة قضية واحدة ، فبما ذا نعرف صحتها؟ فإن احتيج إلى وسط آخر تداعى إلى غير نهاية وإن وقف في موضع بغير وسط فبما ذا نعرف في ذلك الموضع صحته فلنتّخذ ذلك طريقا في إدراك الأمر. مثاله لو قلنا حد العلم إنه معرفة فقيل لم ، فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلا وكل اعتقاد فهو معرفة فيقال ولم قلتم كل علم فهو اعتقاد ولم قلتم إن كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين. وهكذا يتداعى ، بل الطريق أن النزاع إن كان فيه من خصم فيقال صحته عرفت باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلّم الخصم به بالضرورة.

وأما كونه معربا عن تمام الحقيقة فربما يعاند فيه ولا يعترف به ، فإن منع اطّراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه ، وقابلنا أحد

١٣٩

الحدين بالآخر وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان من زيادة أو نقصان وجرّدنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة ، مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضمونا ، فيقول الخصم نسلّم أن المغصوب مضمون ولكن لا نسلّم أن الولد مغصوب ، فنقول الدليل على أنه مغصوب أن حد الغصب قد وجد فيه ، فإن حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد ، وربما يمنع كون اليد عادية وكونه إثباتا بل يقول هو ثبوت ، ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال أسلّم أن هذا موجود في الولد ولكن لا أسلّم أن هذا حد الغصب ، فهذا لا يمكن إقامة البرهان عليه إلا أنا نقول هو مطّرد منعكس فما الحد عندك ، فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة ، فنقول قد زدت وصفا وهو الإزالة.

فلننظر هل يمكننا أن نقدر اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف ، فإن قدرنا عليه كأن يقول الزيادة محذوفة ، وذلك بأن يقول الغاصب من الغاصب يضمنه المالك ، وقد أثبت اليد العادية وما أزال المحقة بل المزال لا يزال ، وكان الأول قد أزال اليد المحقة فهذا طريق قطع النزاع ، وأما الناظر مع نفسه فإذا تحرّر له الشيء وتلخص له اللفظ الدال على ما تحرّر في ذهنه علم أنه واجد للحد.

القانون الخامس : في حصر مداخل الخلل في الحدود : وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما. أما الخلل في الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في حد العشق أنه إفراط المحبة ، وينبغي أن يقال المحبة المفرطة ، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة. ومن ذلك أن يؤخذ المحل بدل الجنس ، كقولك حد الكرسي أنه خشب يجلس عليه ، والسيف أنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة صناعية من حديد يقطع به ، بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة من حديد مستطيلة مع تقوس ويقطع بها كذا ، فالآلة جنس

١٤٠