محك النظر

أبو حامد الغزالي

محك النظر

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: رفيق العجم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

والحديد محل للصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان والآن ليس بموجود ، كقولك الرماد خشب محترق والولد نطفة مستحيلة ، فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد. ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقدر حد العشرة أنها خمسة وخمسة ، ومن ذلك أن يوضع القوة موضع الملكة كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب الشهوات واللذات وهو فاسد ، بل هو الذي يترك ، وإلا فالفاسق أيضا يقوى على الترك والاجتناب ولا ترك. ومن ذلك أن توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض ، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشره. وأما من جهة الفصل فبأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدلا عن الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول. وأما القوانين المشتركة فمن ذلك أن تحد الشيء بما هو مساو له في الخفاء أو فرع له ، كقولك العلم ما يعلم به أو العلم ما تكون الذات به عالمة. ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فنقول حد العلم ما ليس بظن ، ولا شك ولا جهل ، وهكذا حتى تحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد فيدور الأمر ولا يحصل به بيان ، ومن ذا أن يوجد المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة ، كقول القائل حد الأب من له ابن ، ثم لا يعجز أن يقول وحد الابن ما له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان يولد من نطفة حيوان هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك ، ولا يحيله على الابن ، فإنهما في الجهل والمعرفة يتساويان. ومن ذلك أن يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحدّ المعلول إلا بأن تدخل العلة في حدّه ، كمن يقول حدّ الشمس أنه كوكب يطلع نهارا فيقال وما حدّ النهار فيلزم أن يقول النهار هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر يكثر إحصاؤها وسنزيدها شرحا في الامتحانات.

القانون السادس : أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حدّه إلا

١٤١

بطريق شرح اللفظ أو بطريق الرسم. وأما الحد فلا ، ومعنى الفرد مثل الموجود. فإذا قيل لك ما حدّ الوجود فغايتك أن تقول هو الشيء أو الثابت ، فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في وضع اللسان. كما تقول ما العقار فيقول هو الخمر وما القسورة فيقول هو الأسد. وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر عند السائل من المذكور في السؤال ، ثم لا يكون إلا شرحا للفظ ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتلخص ذلك في عقله إلا بأن يقول سبع من صفته كيت وكيت. فأما تكرّر الألفاظ المترادفة فلا يغنيه ، ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيّدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئا من لوازمه وتوابعه. فكان حدّك رسميا غير معرب عن الذات ، فلا يكون حقيقيا. فإذا الموجود لا حدّ له فإنه مبتدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه. وإنما قلنا المعنى الفرد ليس له حد حقيقي لأن معنى قول القائل ما حدّ الشيء كقولك ما حدّ هذه الدار والدار جهات معدودة إليها ينتهي الحد ، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المتحدة المتعددة التي هي ، أعني الدار محصورة متسوّرة بها ، فإذا قيل ما حدّ السواد فكان يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد. فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرئي ومعلوم وموصوف ومذكور وواحد وكثير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك مما يوصف به من الأصناف ، وهذه الصفات بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول ، ولكن ليست ذاتية ككونه معلوما وواحدا وكثيرا ، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لونا. فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لنجمع له تلك المعاني المتعدّدة بتلخيص ، بأن نبدأ بالأعم ونختم بالأخص ولا نتعرض للعوارض ، وربما طلب أن لا يتعرض أيضا للوازم بل للذاتيات فقط. فإذا لم يكن المعنى مركبا من ذاتيات متعددة كالوجود كيف يتصور تحديده وكان السؤال عنه كقول القائل ما حدّ الكرة ولنقدّر العالم كله على شكل كرة ، فلو سئل عن حدّه كما سئل عن

١٤٢

حدود الدار كان محالا ، إذ ليس له حدود وإنما حدّه منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس بسطوح مختلفة ولا هي منتهية إلى مختلف ، حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا ، فهذا المثال المحسوس ربما يفهم منه مقصدي من هذا الكلام ولا يفهم من قولي إن السواد مركب من معنى اللونية والسوادية وإن اللونية جنس والسوادية نوع إن في السواد ذات متباينة متفاصلة فلا نقول السواد لون وسواد ، بل هو لون ذلك اللون بعينه هو سواد ، بل معناه يتركب ويتعدد عند العقل حتى يعقل اللونية مطلقا ولا تخطر له الزرقة مثلا ثم يعقل الزرقة فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكن أن تجحد تفاصيله في الذهن ، ولا يمكنه أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا يظنن أن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة ، لأنه إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه ، وإذا زاد شيئا للاحتراز فيقال الزيادة عين الأول أو غيره ، فإن كان عينه فهو تكرر فاطّرحه وإن كان غيره فقد اعترفت بأمرين. وإذا قال في حد الجوهر إنه موجود قلنا بطل بالعرض. وإذا قال متحيّز قلنا قولك متحيّز مفهومه غير مفهوم الموجود أو عينه ، فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود فإن المترادفة كالمتكررة فهو إذا باطل بالعرض.

وإن قولك موجود لا يدفع النقض ، وقولك متحيّز فهو عينه بالمعنى لا باللفظ. لأن كل لفظ لا يدفع نقضا ، فتكراره لا يدفع ومرادفه لا يدفع ، فمهما انتقض قولك أسد بشيء لم يندفع النقض بقولك ليث كما لا يندفع بقولك أسد. فقد عرفت أن المفرد لا يمكن أن يكون له حدّ حقيقي إلا لفظي ، كقولك في حدّ الموجود إنه الشيء؛ أو رسمي كقولك في حدّ الموجود إنه المنقسم إلى الفاعل والمفعول أو الخالق والمخلوق أو القادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما يشبه من لوازم الموجود وتوابعه. فكل ذلك ليس نبأ عن ذات الوجود بل عن تابع لازم لا يفارق البتة. واعلم أن المركب إذا حدّدته بذكر آحاد الذاتيات توجّه السؤال عن حد الآحاد. فإنك إذا قيل لك ما حدّ الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حدّ النبات فتقول جسم نام ، فيقال وما حدّ الجسم

١٤٣

فتقول جواهر مؤتلفة ، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضا تأتلف من مفردين فلا تظنّ أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد. كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضا برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات ، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة.

فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل ، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على أن الاثنين أكثر من الواحد ، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين.

١٤٤

الفن الثاني من محك الحد في الامتحانات

الامتحان الأول : اختلف الناس في حدّ الحد فمن قائل يقول حدّ الشيء هو حقيقته ونفسه وذاته ، ومن قائل يقول حدّ الشيء هو اللفظ المفسّر لمعناه على وجه يجمع ويمنع ، ومن قائل ثالث يقدر هذه مسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر وانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد ، وهذان قد تباينا وتباعدا وما تواردا وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك الذي ذكرناه. فإن من يحدّ المختار بأنه القادر على ترك الشيء وفعله ليس مخالفا لمن يحدّه بأنه الذي خلى ورأيه ، كما أن من حدّ العين بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية لم يخالف من يحدّ العين بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود ، بل حدّ هذا أمرا متباينا بحقيقة الأمر الآخر ، وإنما اشتركا في اسم العين والمختار فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع. فإن قلت فما الصحيح عندك في حدّ الحد فاعلم أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أولا في عقله بلا لفظ ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى. فلنقرّر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب : الأولى حقيقة في نفسه ، الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن ، وهو الذي يعبّر عنه بالعلم. الثالثة تأليف مثاله بحروف تدلّ عليه وهي العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. والرابعة

١٤٥

تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ ، وهي الكتابة ، والكتابة تبع اللفظ ، إذ تدل عليه ، واللفظ تبع العلم ، إذ يدل عليه ، والعلم تبع المعلوم ، إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متوافقة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم لأنها موضوعة بالاختيار. ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها موضوعة قصد بها مطابقة الحقيقة. ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع ، وإنما استعير لهذه المعاني للمشاركة في معنى المنع ، فانظر أين تجده في هذه الأربعة. فإن ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به ، إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره. فإذا الحقيقة جامعة مانعة. فإن نظرت إلى مثال الحقيقة فى الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك ، لأنه مطابق للحقيقة المانعة. والمطابقة توجب المشاركة في المنع. وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة ، فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق. وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة ، فهي أيضا مطابقة ، وقد وجد المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق اسم الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثانية ، بل هو مشترك بين حقيقتين. فلا بد وأن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين ، والمختار ونظائر هما. فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حدّ الحداثة حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حدّ الحد إنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي. فحدّ الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقوله الموجود هو الشيء والحركة هي النقلة والعلم هو المعرفة هو تبديل اللفظ لما هو واقع عند السائل على شرط يجمع ويمنع. وأما حدّ الحد عند من يقنع بالرسميات أنه اللفظ الشارح للفظ بتعديد صفاته الذاتية واللازمة على وجه يميّزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس. وأما حدّه عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي أنه القول

١٤٦

الدال على تمام ماهية الشيء. ولا يحتاج في هذا أن يذكر الطرد والعكس لأن ذلك يتبع الماهية بالضرورة ولا يتعرض للازم والعرضي ، فإنه لا يدل على الماهية إلا الذاتيات. فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية. وهذه أربعة أمور مختلفة كما دلّ لفظ العين على أمور مختلفة فيعلم صياغة الحد. فإذا ذكر لك اسم وطلب حدّه فانظر ، فإن كان مشتركا فاطلب عنده المعاني التي فيها الاشتراك ، فإن كانت ثلاثة فاطلب ثلاثة حدود ، لأن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود. فإذا قيل ما الإنسان فلا تطمع في حد واحد ، فإن الإنسان مشترك بين أمور ، إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإنسان المصنوع على الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإنسان الميت وله حد آخر. فإن الذكر المقطوع واليد المقطوعة تسمّى يدا وذكرا لا بالمعنى الذي كان يسمّى به ، إذ كان يسمّى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع ، وبعد القطع يسمّى به من حيث أن شكله له اسم ولو صنع شكله من خشب أو حجر.

أعطي اسمه ، وكذلك يقال ما حدّ العقل فلا تطمع في أن يحدّ بحد واحد وهو هوس لأنه مشترك يطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم الضرورية ، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة ، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمّى عاقلا ، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدوء ، فيقال فلان عاقل أي فيه هدوء ، وقد يطلق على من جمع إلى العلم العمل حتى أن الفرس وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا ويقال للحجّاج إنه عاقل بل داهية ، ولا يقال للكافر وإن كان فاضلا في جملة من علوم الطب والهندسة إنه عاقل ، بل إما داهية وإما فاضل وإما كبير. فهكذا تختلف الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تتعدّد الحدود في حد العقل فباعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. وبالاعتبار الثاني إنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات ، وهكذا بقية الاعتبارات.

١٤٧

فإن قلت فأرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الخلاف في الحد أفترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء.

فاعلم أن الخلاف في الحد يتصور في موضعين : أحدهما أن يكون اللفظ بكتاب اللّه أو سنّة رسوله أو قول إمام من الائمة ، ويكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به ، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد ، فالخلاف تباين بعد التوارد. ولذا فلا نزاع بين من يقول السماء قديم وبين من يقول المغصوب مضمون ، إذ لا توارد ، ولو كان لفظ الحد من كتاب اللّه تعالى أو كتاب إمام يجوّز التنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صنعة التفسير لا من صناعة النظر بالعقل. الثاني أن يقع الخلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حدّه أمرا بائنا ولا يحدّ حده على المذهبين فيختلف. كما يقول المعتزلي حدّ العلم اعتقاد الشيء ، ونحن نخالفه في ذكر الشيء ، فإن المعدوم عندنا ليس بشيء ، فالخلاف في مسألة أخرى تتعدّى إلى الحد ، ولذلك يقول القائل حدّ العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا ، ويخالف من يقول في حدّه إنه غريزة يتهيأ بها إدراك المعقولات من حيث أنه ينكر وجود غيره ، بل يقول ليس في الإنسان إلا جسم وفيه حياة وعلوم ضرورية إما غريزية أو مكتسبة وعلوم نظرية ، فلا يتميّز بها القلب عن العقب والإنسان عن الذباب. فإن اللّه قادر على خلق العلوم النظرية في العقب وفي الذباب فيثير الخلاف في غير الحد خلافا في الحد. فهذا وإن أوردناه في معرض الامتحان فقد أفدناك به ما يجري على التحقيق مجرى القوانين.

الامتحان الثاني : اختلف في حد العلم فقيل هو المعرفة وهذا حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود ، فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه. كما يقال حد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم التطويل والتكرير ، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو

١٤٨

كذلك ، فهو كقول القائل حدّ الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود ، فإن هذا التطويل لا يخرجه عن كونه لفظيا ولست أمنع من أن تسمّى مسمى هذا حدا. فلفظ الحد لفظ في اللغة المنع وهو مباح فيستعيره من يريده لما فيه نوع من المنع. فلو سمّى قلنسوة حدا من حيث أنه يمنع البرد لم يمنع من هذا أن كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع ، فإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة. وقيل أيضا إنه الذي يعلم به وإنه الذي تكون الذات به عالمة ، وهذا الحد أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية. ولكن قد يتوهم في الأول شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظين عند السائل أشهر من الآخر ، فشرح الأخفى بالأشهر. أما العالم ويعلم فهو مشتق من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتّضح لديه المشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه ، وهو كقول القائل في حد الفضة إنه الذي تصاغ منه الأواني الفضية. وقيل إنه الوصف الذي يتأتّى للمتّصف به إتقان العلم وإحكامه. وهذا ذكر لازم من لوازم العلم فيكون رسميا وهذا أبعدهما قبلة من حيث أنه أخص من العلم ، فإنه يتناول بعض العلوم ولكن أقرب بوجه آخر مما قبله وهو أنه ذكر لازم قريب من الذات بعيد شرحا وبيانا بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة. فإن قلت فما طريق تحديد العلم عندك فاعلم أن العلم اسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس ، وله حد بحسبه ، ويطلق على التخيّل ، وله حد آخر بحسبه ويطلق على الظن ، وله حد آخر بحسبه ويطلق على علم اللّه على وجه آخر أعلى وأشرف. ولست أعني أنه أشرف لمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة. ويطلق على إدراك العقل وحدّه على الخصوص كما ينقدح في الحال أنه سكون الذهن جزما عن بصيرة إلى الأمر بأنه كذا أو ليس كذا والأمر كذلك. ولا يبعد أن يحتاج هذا الجدال إلى مزيد تحرير وتنقيح ليس يتّسع القلب الآن لتضييع الوقت به فعليك بإتمامه ، وغرضي ذكر الطريق للحد. تقول يعترضون على هذا الحد بأنك استعملت لفظ السكون

١٤٩

وهو مشترك ولفظ الذهن وهو غريب ولفظ البصيرة ، وكأنه يشير إلى الاتصال ولا يلتفت إلى المشغوفين بالعبارات المصدوفين بغير الحق عن الحقائق. فاعلم أن السكون إذا قرن بالذهن زال منه الإجمال ، وأن الذهن ذكرته لأني أظنه مفهوما عندك ولا أمنع من إبداله في حق من لا يعرفه ، فقصد الحد الحقيقي تصور كنه الماهية في نفس المستفيد الطالب بأي لفظ كان ، فإن قلت فهل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان قلت : أما الحد اللفظي فيتصور أن يكون له ألف ، وذلك يختلف بكثرة الأسامي في بعض اللغات وقلتها في البعض ويختلف باختلاف الأمم. وأما الحد الرسمي أيضا فيجوز أن يتعدّد لأن لوازم الأشياء ليست محصورة. وأما الحد الحقيقي فلا يتصور إلا واحدا لأن الذاتيات محصورة ، فإن لم يذكرها لم يكن حقيقيا وإن ذكر بعضها فالحد ناقص وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو ، فإذا لا يتعدّد هذا الحد.

الامتحان الثالث : قيل في حد العرض ما لا يبقى أو ما يستحيل بقاؤه أو لا يقوم بنفسه ، وهذا مختل لأنه ذكر لازم ليس يتعرض للذات ، ثم هو لازم سلبي والإثبات أقرب إلى التفهيم. وقيل إنه الذي يعرض في الجوهر ، وقولك يعرض كأنه مأخوذ منه العرض وفيه إدخال الجوهر في حدّه وهو أيضا ممّا يطلب حدّه ، فيمكن إحالته على العرض بأن يقال الذي يقوم به العرض. فليس هذا الفن مرضيا بل نقول طالب هذا الحد كأنه يطلب أن يتفهم ما نريده في اصطلاحنا بهذا الاسم ، وإلا فالعرض ما ثبتت حقيقته في النفس ثبوتا أوليا لا يحتاج إلى طلبه بصناعة الحد ، إذ بيّنا أن من المعارف ما يستغنى في تفهمها عن الحد وإلا يتسلسل الأمر إلى غير نهاية. فنقول له اعلم إن العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما يستدعى محلا يقوم به وإلى ما لا يستدعيه ، ثم أدرك انقسام القائم بالعين إلى ما يطرأ بعد أن لم يكن وإلى ما لا يكون طارئا كصفات اللّه تعالى. فالعرض عبارة عن الذي يطرأ بعد أن لم يكن ويستدعي في تحديده في الوقت أنه حادث يستدعي وجوده محلا يقوم به. والمعتزلة إذ نفوا صفات الباري كان اصطلاحهم لا

١٥٠

يستدعي التقييد بالحادث بل يمكن أن يعبّروا به عن كل موجود يقوم بغيره.

الامتحان الرابع : قيل في حد الحادث إنه الذي ليس بقديم فهو هوس ، كقول القائل القديم الذي هو ليس بحادث فهو حد الضد بالضد ، ويدور الأمر فيه. وقيل إنه الذي تتعلق به القدرة القديمة وهو ذكر لازم غامض لم يدرك إلا بالأدلة. وأما الحادث فمفهوم جليّ بغير نظر واستدلال ، ومن الضلال البعيد بيان الجليّ بالغامض. ولعمري من يطلق اسم الحد على كل لفظ جامع مانع فهذا عنده لا محالة حد. وكذا قوله الحادث ما ليس بقديم. ولكنّا نقول العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما له أول بمعنى أنه لم يكن موجودا ثم وجدوا لي ما لا أول له ، فالقديم عبارة عن أحد القسمين والحادث الآخر. فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود أو المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم. وهذه ليست حدودا بل الكل حد واحد والعبارات متكرّرة دون المعنى. لا كقول القائل إنه متعلق القدرة الحادثة لأنه حد آخر مفهومه الأول غير مفهوم هذه الحدود يلزم ذلك المفهوم ، إذ يلزم متعلق القدرة أن يكون حادثا وفرق بين المتلازمين وبين الشيء الواحد الذي عنه عبارتان. وقول القائل الموجود عن عدم ليس بصحيح لأنه يقال السرير من الخشب ، بمعنى أنه جعل الخشب سريرا والعدم لا يجعل وجودا. فهذا أمر الاعتراضات النادرة. فإنّا لا ننكر بأن لفظ عن مشترك ، ولكن بيّنا أن المشترك إذا فهم بالقرينة التحق بالنص وهو معلوم هاهنا ، ولست أمنع من الاجتهاد في الاحتراز عن المشترك فذلك أحسن ، وإنما أمنع من استعظام هذا الصنيع الذي لا يعظم عند المحصل. فلا هذا مذموم كل ذلك الذم بعد حصول الفهم ، ولا ذلك محمود كل ذلك الحمد؛ لا سيما إذا لم يفد الشرح. بل الأمر أهون ، فما الظنون بل قول القائل موجود عن عدم أحبّ إلي من قوله هو متعلق القدرة.

الامتحان الخامس : اختلف في حد المتضادين وليس من غرضي غير

١٥١

الحدود ، ولكن الغرض أن أفيدك طريق التحديد بعد أن عيّنت في التماسك ذلك ، فليكن نظرك في الحدود كما أقوله ، وهو أن المتضادين دالان على شيئين لا محالة وكل شيئين فينقسمان إلى ما لهما محل وإلى ما لا محل لهما ، وكل ما لهما محل فينقسمان إلى ما يجتمعان كالسواد والحركة وإلى ما لا يجتمعان. فينقسم إلى ما يختلف بالحد والحقيقة كالسواد والبياض وإلى ما لا يختلف. والذي لا يختلف أيضا ينقسم إلى ما لا يجوز أن يكون لواحد عارض أو لازم ليس للآخر بل يسد أحدهما مسد الآخر في كل حال ، كالبياضين والسوادين ، وبالجملة كالمثلين. وإلى ما يتّحد في الحدود والحقيقة ولا تختلف طباعهما ، ولكن لا يسد أحدهما مسد الآخر ، كالكونين في مكانين وليس كالكونين في مكان واحد ، إذ لا يجتمع في الجوهر في حالة واحدة لا كونان في مكان واحد ، ولا كون في مكانين. والذي بينهما اختلاف ينقسم إلى ما بينهما غاية الخلاف الذي لا يمكن أن يكون وراءه خلاف كالسواد والبياض والحركة الصاعدة والحركة الهابطة وإلى ما ليس في الغاية ، كمخالفة الماء الحار الفاتر ، فإنه أقل من مخالفته للبارد والشديد البرودة ، وكمخالفة الحركة يمينا الصاعدة ، فإنها أقل من مخالفتها للحركة يسارا ، أعني المقابل. فإذا تمهدت في عقلك هذه الأقسام فانظر إلى لفظ المتضادين وأنه كيف وضع الاصطلاح فيه. وأقل الدرجات في المتضادين هما المعنيان اللذان يتعاقبان على محل واحد لا يجتمعان سواء كانا مختلفين أو متماثلين. وقد اصطلح فريق على إطلاق الاسم على هذا ، فيوضع هذا الاسم. سمّوا المثلين متضادين ، وفريق آخر شرطوا زيادة لإطلاق هذا الاسم وهو أن لا يسد أحدهما مسد الآخر فلم يطلقوه على الكونين في حيّز واحد وأطلقوه على الكونين في حيّزين. وفريق ثالث شرطوا زيادة أمر وهو أن يكون بينهما اختلاف في الحد والحقيقة ، أي لا يدخل أحدهما في حد الآخر ، فإنا إذا حدّينا الكون بأنه اختصاص بالحيّز دخل فيه جميع الأكوان ، فليس بين الاحياز اختلاف بالطبع ولا بين الأكوان بل هي متشابهة. فهؤلاء لم يسمّوا الأكوان متضادة لكن المختلفات

١٥٢

كالحرارة والبرودة. وفريق رابع شرطوا زيادة ، وهو أن يكون بينهما غاية الخلاف الممكن في ذلك النوع من التضاد ، بحيث لا يكون وراءه خلاف ، وهؤلاء هم الفلاسفة ، وهذا اصطلاحهم ، فزعموا أن البياض لا يضاد العودي بل السواد والحار لا يضاد الفاتر بل البارد ، فهذا هو الشرح. ونرى جماعة من العميان يتعاورون في هذه الحدود ظانين أن فيها نزاعا ولا يدركون أن النظر نظران أحدهما في الحقائق المجردة دون الألفاظ وهؤلاء الانقسامات التي ذكرناها أو لا وليس في العقلاء من ينكر شيئا منها ، والثاني في إطلاق الألفاظ والاصطلاحات ، وذلك يتعلق بالشبيه. فإن الألفاظ طافحة مباحة لم يثبت من جهة الشرع وقفها على معنى معيّن حتى يمنع من استعمالها على وجه آخر. ولعمري لو قيل إن واضع اللغة وضعه لشيء في الأصل فهو وقف عليه بالحقيقة ولغيره استعارته هذا لا أمنع منه ، ولكن الخوض فيه لا يليق بالمحصل الناظر في المعقولات بل بالأدباء الناظرين في اللغات. وقد ترى الواحد يغتاظ ويقول كيف يستجيز العاقل أن يقول الكونان لا يتضادان ومعلوم أنهما لا يجتمعان وإنما ذلك لما في نفسه من القياس الخطأ الذي لا يشعر به ، ونظم ذلك القياس أن قولنا يتضادان وقولنا يجتمعان واحد فكيف يقال يجتمعان ولا يجتمعان ، إذ يظهر أن كل ما لا يجتمعان فواجب تسميتهما متضادين ، ومعلوم أن الكونين لا يجتمعان فوجب تسميتهما متضادين ، ومن يدري أن وجوب تسمية ما لا يجتمعان متضادين غير ثابت بل التسمية إلى أهل الاصطلاح.

الامتحان السادس : قيل في حد الحياة إنها المعنى الذي يستحق من قام به أن يشتق له منه اسم الحي ، وهذا من طوائف الحدود فإنه تعريف المعنى بلفظ يطلق على المعنى ، ومن قنع بمثل هذا في فهم الحياة فقد رضي من العلوم بقشورها. وقيل ما أوجب كون الحي حيا أو ما كان المحل به حيا. وقد عرفت ما في هذا الجنس. وقيل ما يصح بوجودها العلم أو ما تصح بوجودها القدرة أو الإرادة ، وهذا تعريف للشيء بذكر بعض توابعه.

١٥٣

فإن قلت فما اختيارك فيه فاعلم أن ذكر ذلك لا يحتمله هذا الكتاب فإن هاهنا نظر في الألفاظ وهي ثلاثة : الحياة والروح والنفس ، ونظر في المعاني والحقائق. فإن في الناس من يقول ليس في الإنسان إلا حياة وهو عرض قائم بجسمه ، واسم النفس والروح يرجع إليه. ومنهم من يقول إنه لا بد سوى هذا العرض من شيء هو الروح وهو جسم لطيف في داخل القلب والدماغ يجري إلى سائر البدن في العروق الضوارب ، وأما النفس فليس لها مسمى ثالث. ومنهم من قال هاهنا أمر ثالث وهو موجود قائم بنفسه غير متحيّز ، والروح الذي هو الجسم اللطيف ومنبعه القلب مدير لسائر أعضاء البدن بواسطته ، وانظر كيف اختلف الطريق بهم وكيف يشاهد الاختلاف ، فإني أنبهك على أوائله وإن لم يحتمل الكتاب الخوض في غوائله ، فاعلم أن الناظر لمّا نظر إلى النطفة وهي جماد لا يحس ولا يتحرك ثم استحال في أطوار الخلق حتى صار يحس ويتحرك علم أنه حدث فيه ما لم يكن من الإحساس والحركة الإرادية ، فظنّ أنه ليس في هذا الوجود إلا الجسم كان جمادا فخلق اللّه فيه الإحساس وقدرة الحركة فلم تتحدد إذا إلا القدرة والحس ، وعند ذلك يسمّى حيا ، ويتجدد له هذا الاسم. فكانت الحياة عبارة عن الإحساس والقدرة فقط. ولما نظر إلى اللغات فرأى هذا الجنين وهذا الإنسان في حال السكتة يسمّى حيا ويصدق عليه الاسم وخمّن في نفسه بالوهم الظاهر قبل التحقيق بالبرهان أن هذا الإنسان في سكتته ليس معه إحساس البتة ولا قدرة ، وطلب له مسمّى فظنّ أنه ليس هاهنا إلا إمكان خلق الإحساس فيه وخلق القدرة ، فهو من حيث أنه مستعد لقبوله سمّي حيا والحياة عبارة عن استعداد فقط ، ولكن كان قد استقر في اعتقاده أن اللّه يقدر أن يخلق الحياة في كل جسم ، ولا يوصف اللّه تعالى بالقدرة على خلق الحس والحركة في الجماد ، فسنح له أن لا بد من صفة يفارق بها صاحب السكتة الجماد حتى تصور خلق الحس والقدرة فيه بسببه دون الجماد ، فقال الحياة عبارة عن تلك الصفة وأثبت له صفة هي الحياة. فمنهم من قنع بهذا

١٥٤

النظر وقدر مع نفسه أنه لا موجود إلا الجسم وصفة يتهيأ المحل بها لقبول الحس والقدرة ، ومنهم من جاوز هذا الخبر به بصناعة الطب والاكتفاء به إلى أمور شرعية من صناعة الطب ، فدلّ على أن الأخلاط الأربعة بها بخار لطيف في غاية اللطف. فإن في القلب حرارة غريزية تنضج ذلك البخار وتلطّفه وتسرحه قوة في القلب في تجاويف العروق الضوارب إلى سائر البدن ، وأن القوة الحسّاسة تنتهي إلى العين والأذن وسائر الحواس الخمسة في هذا البخار اللطيف السائر بلطفه في سيال الأعصاب ، فكان هذا البخار حمّالا لهذه القوى يجري في سلك العروق ويمد الأجسام اللطيفة التي فيها قوى الإحساس. وقالوا لو وقعت سدة في بعض المجاري في هذا البخار إما في عصب أو عرق لبطلت الحياة والإحساس من الذي حالت السدة بينه وبين القلب حتى انقطع عنه إمداده فعبّروا عن هذا الهواء اللطيف بالروح ، وزعموا أنه سبب بقاء الحياة في أحاد الأعضاء. فثبت عندهم جسم لطيف عبّروا عنه بالروح وحكموا بأنه سبب العرض الذي يسمّى حياة. وأما التفاتهم إلى الشرع ، من حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرواح الشهداء في حواصل طيور معلّقة تحت العرش. ولقوله تعالى : (وَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١). فزعموا أنه لم يكن إلا حياة هي عرض وقد انعدم بالموت وجسد الميت بين أيدينا ، فما الذي في حواصل طيور خضر وكيف وصف الشهداء بأنهم أحياء والبدن ميت نشاهده والحياة عرض وقد انعدم. وكذلك التفتوا إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم في دعائه عند النوم «إن أمسكتها فاغفر لها وإن أرسلتها فاعصمها بما تعصم به عبادك الصالحين» فقالوا : ما الذي يمسك ويرسل والبدن حاضر والحياة عرض لا يمكن إرسالها.

والتفتوا أيضا إلى قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) فلم لم يذكر لهم أنه عرض كالقدرة والحياة إن لم يكن هاهنا إلا

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٢) سورة الإسراء ، الآية ٨٥.

١٥٥

جسم وعرض. وثار عند هذا فريق ثالث وتغلغلوا زيادة تغلغل ، وقالوا هذا صحيح ولكن هذه الروح في بدنه ، وهناك موجود آخر يعبّر عنه بالنفس من صفته أنه قائم بنفسه لا متحيّز نسبته إلى البدن نسبة اللّه تعالى إلى العالم ، لا هو داخل في العالم ولا هو خارج عنه. والتفتوا إلى أن الروح جسم منقسم وأجزاؤه متشابهة. فلو كان هو المدبر المدرك من الإنسان لكان لكل شخص أرواح كثيرة ، واحتمل أن يكون في بعض أجزائها علم بالشيء وفي بعضها جهل بالشيء ، فيكون عالما بالشيء جاهلا به. فلا بد من شيء هو نافذ لا ينقسم ، وكل جسم منقسم. وزعموا أن الجسم الذي لا يتجزأ محال ثم التفتوا مع ذلك إلى أن هذه الروح كيف ترسل أو تمسك في حالة النوم ، ولو خرجت الروح من البدن في النوم لكان ميتا لا حيا. ولمّا كانت التخيلات والأحلام ومعرفة الغيب بطريق الرؤية صحيحة زعموا أنه ليس يخرج من النائم جسم ينفصل عنه ، فإنه لو عاد إليه لدخل في منفذ. فإن الأجسام لا تتداخل ولو شدّ فم النائم وأنفه أو لا ثم نبّه لتنبه ولاحظوا فيه أمورا أخر لا يمكن إحصاؤها وقالوا لو لم يكن إلا الجسم والروح لذكره الشارع. فإن الجسم اللطيف مفهوم وإنما الذي لا يفهم موجود لا خارج البدن ولا داخله. والأولون أحالوا هذا ، فالنافية إثبات موجود حادث لا داخل البدن ولا خارجه وهو محال. فهذا ترتيب نظرهم. فإن قلت فما الصحيح من ذلك فاعلم أن المسئول فيه ليس يخلو إما أن يكون غير عالم ، فلا يمكن البيان ، وإما أن يكون عالما فلا يحل له الخوض فيه. فإن الروح سر اللّه تعالى كما أن القدم سر اللّه ولم يرخّص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخوض في شرحه. وكان من أوصافه في التوراة ١أنه لا يجيب عن كذا وكذا ، أي لا يشرح عن أسرارها ، ومن جملته الروح. ولا يظن أن اللّه تعالى لم يطلعه عليها ، فإنه عرف أمورا أعظم منها. والجاهل بالروح جاهل بنفسه فكيف

__________________

(١) لعلها التوراة.

١٥٦

يظن أنه عرف اللّه وملائكته وأحاط بعلم الأولين والآخرين ، وما عرف نفسه ، ولكنه كان عبدا فأمر بأمر فاتّبع الأمر ، فعلى كل مؤمن به ومصدّق له أن يتبعه ويسكت عما سكت عنه عرفه أو لم يعرفه. ولا يبعد أن يكون في أمته من الأولياء والعلماء من كشف له سر هذا الأمر وليس في الشرع برهان على استحالة ذلك ، فإن قلت فما الصحيح من العبارات في حد الحياة التي هي عرض. قلنا : أما عند من لا يثبت إلا العرض فأقرب لفظ في تفهيمها أنها الصفة التي بها يتهيأ المحل لقبول الحس والحركة. وأما على مذهب من يثبت النفس والروح فقد يثبتون الحياة أيضا عرضا فيوافقون في الحد ، وقد يقولون ليس للحياة معنى سوى كون البدن ذا روح ونفس ، فإنه يستعد لقبول القدرة والعلم من حيث أنه ذو روح ونفس فقط لا من حيث صفة أخرى ، وكونه كذلك لا يزيد على ثبوت النسبة بينه وبين الروح والنفس. كما أن كون الإنسان متنعلا لا يزيد على كونه ذا فعل ووجود رجل ، وانطباق النعل على الرجل. وكما أن كون العالم عالما عند من ينكر المعلول والعلة وهو الحق ليس إلا وجود علم في ذات فهذا قدر ما يمكن أن يذكر من أمر الحياة علامة على الحد كمن يبتغي جملا مسوقا على علامة باقية من أثر خفه.

الامتحان السابع : قد استدعيت كلاما في حد الحركة والخائضون فيه ضبطهم كثير ، فقيل إنه الذي لمحله به اسم المتحرك ، وقيل إنه الذي تكون الذات به متحركة ، وقيل إنه الخروج عن المكان وقد فهمت ما في هذا النمط من فائدة أو غائلة ، فإن أردت الحقيقة فعليك بالمنهج الذي ذلّلته لك فلم أكرّره بالامتحان مرة بعد أخرى إلا لتألف هذا المسلك البعيد وهو أن تحصل الألفاظ المشهورة وتضعها في جانب من ذهنك ، وهاهنا ثلاثة : الكون والحركة والسكون ، وتنظر في المعاني المعقولة التي تدل هذه العبارات عليها من غير التفات إلى الألفاظ ، فتقول هذا المنظور فيه من فن الأعراض ، ونحن نعلم أن العرض ينقسم إلى ما يعبّر عنه بأنه اختصاص

١٥٧

جوهر بحيّزه وإلى ما لا يعبّر عنه به. واختصاص الجوهر بحيّزه ينقسم بالضرورة إلى ما يكون في حالة واحدة وإلى ما يكون في أكثر. والذي يكون أكثر ينقسم إلى ما يزيد على حالتين وإلى ما لا يزيد. والذي يكون في حالتين ينقسم إلى ما يكون في حيّز واحد وإلى ما يكون في حيّزين ، وكذا ما يكون في ثلاثة أحوال فصاعدا ينقسم إلى ما يكون في حيّز واحد وإلى ما يكون في ثلاثة أحياز. فقد حصل هاهنا للعقل خمسة أقسام كون في حالة وكون في حالتين في حيّز واحد وكون في حالتين في حيّزين وكون في ثلاثة أحوال في حيّز واحد وكون في ثلاثة أحوال في ثلاثة أحياز. وكانت الألفاظ ثلاثة والأقسام خمسة فاختلف الناس في إطلاق تلك الألفاظ على هذه الأقسام. فقال فريق وهو الأقرب إلى الحق ، وأعني بالحق هاهنا تقريب التعريف والاصطلاح ، وإلا فليس في هذا النظم رسم معنوي وإنما هو بحث عن اللفظ الفاشي يعبّر بالسكون عن الاختصاص بحيّز في حالتين متواصلتين فصاعدا ، وبالحركة عن الاختصاص بحيّزين في حالتين متواصلتين فصاعدا ، وهؤلاء لم يسمّوا الجوهر في أول حدوثه لا ساكنا ولا متحركا فثار عليهم من يأخذ الأمور من بعد. فقال هذا يؤدّي إلى أن يكون جوهر غير ساكن ولا متحرك وهذا محال ، والمؤدّي إلى المحال محال فسلم الكلام المشهور بين المتكلمين أن الحركة والسكون يتقابلان لا ينفك الجوهر عنهما. ولم يعرف أن الذين قالوا ذلك أرادوا به الذي يبقى مدة يدركه الحس ، فالثاني لا يخلو عن حركة وسكون فإنهم فهموا من السكون أشياء ، فكيف سمّوا الاختصاص في الحياة الأولى سكونا ، فإن كان يسمّى به باعتبار أنه ليس بمتحرك فليكن متحركا باعتبار أنه ليس بساكن ، أي ليس بلا لبث ، وهذا خوض في فصول بلا طائل بعد معرفة المعنى ، وثار من بعد خيال آخر وهو أن الحركة إن كانت عبارة عن الكون في المكانين فلا تكون الحركة قط موجودة في حال من الأحوال. لأن الكون في مكانين يكون في آنين ، فإن نظرت إلى الآن الأول فالكون الثاني غير موجود وإن نظرت إلى الثاني فلا يكون إلا بعد عدم الأول. وهذا كما أن تبدّل السواد والبياض لا يكون

١٥٨

موجودا ، أعني نفس التبدّل لأنه ما دام السواد موجودا فلا تبدّل. وإذا وجد البياض بعد عدم السواد فلا تبدّل. فيكون التبدّل عبارة أطلقت على أمر معقول يستدعي ثبوته زيادة على آن واحد. فقالوا الحركة لا وجود لها بالفعل في آن البتة وإنما وجودها في زمان ممتد ، والزمان لا يوجد منه جزء ما لم يفن الذي قبله ، فلا يصادف وجودا إلا في الوهم أما في الخارج فلا. وهؤلاء هم الفلاسفة. وقال أهل الحق لسنا نطلق اسم الحركة عليه من حيث أنه كونان في مكانين بل من حيث أنه كون في مكان لم يكن قبله وبعده فيه ، فألزموا أن الجرم الذي وجد في حالة واحدة لم يكن قبله ولا بعده فيه فزادوا مع وجود الجوهر للاحتراز. وهذا الإطلاق يستدعي صدقه ثلاثة أحوال ، فمن يكتفي بحالتين وتكون الحركة عنده عبارة عن كون الجوهر في حيّز لم يكن قبله فيه مع وجوده ، وأعني به الفصل القريب. فهو مسمّى حركة من حيث أنه شغل بحيّز حصل به مع فراغ الآخر. وأما السكون فهو كون في مكان كان قبله فيه. ومن أراد أن يغيّر هذه العبارات فلا حجر عليه بعد أن يقرّر في عقله الأقسام الخمسة الأول ، فإنه بعد ذلك سنّة اللغوي الناظر في الألفاظ لا المتكلم الباحث عن المعاني. ولنختم الامتحانات بذكر حد واحد من حدود الفقهاء والأصوليين.

الامتحان الثامن : اختلفوا في حد الواجب فقيل الواجب ما تعلّق به الإيجاب ، وقيل ما لا بد من فعله ، وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه ، وقيل ما يجب بتركه العقاب ، وقيل ما لا يجوز الإقدام على تركه ، وقيل ما يصير المكلّف بتركه عاصيا ، وقيل ما يلام تاركه شرعا. ولو تتبّعت هذه الحدود طال الأمر ففيما قدّمته ما يعرفك وجه الخلل في المختل منها ، لكن أهديك إلى الحق الواضح بتمهيد سبيل السلوك ، وهو أن تستنهج ما نهجته لك فتعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح. فدع الألفاظ جانبا وجز بالنظر إلى المعنى أولا ، وأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك ، إذ يطلقه المتكلم في مقابلة

١٥٩

الممتنع ، ويقول وجود اللّه واجب ، واللغوي على السقوط يقول وجبت جنوبها ويقول وجبت الشمس ، فله بكل اعتبار حد آخر. والمطلب الآن مراد الفقهاء ، وهذه الألفاظ لا نشك أنها لا تطلق على الجواهر بل على الأعراض ، ومن الأعراض على الأفعال فقط ، ومن الأفعال على أفعال المكلّفين لا أفعال البهائم. فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا أو حادثا أو معلوما أو مكتسبا أو مخترعا ، وله بحسب كل نسبة انقسامات ، إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا ننظر فيها ، ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطاب الشرع يعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق بها خطاب الشرع كأفعال البهائم والمجانين وإلى ما يتعلق به ، والذي يتعلق به ينقسم إلى ما تعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإقدام عليه والإحجام عنه ، ويسمّى مباحا ، وإلى ما رجّح فعله على تركه ، وإلى ما رجّح تركه على فعله. والذي رجّح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمّى مندوبا وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه في الدار الآخرة ويسمّى واجبا. وربما اصطلح فريق على تخصيص الواجب بما علم ترجيحه على هذا الوجه قطعا كالصلوات الخمس المكتوبة دون ما هو مخيّر فيه ، وخصّصوا ذاك باسم الفرض ولا حرج في هذا الاصطلاح ، فإننا لا ننكر انقسام المرجّح بالعقاب إلى المعلوم والمظنون والاصطلاح مباح فلا مشاحة فيه. وأما المرجّح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمّى مكروها ، وقد تكرّر ما أشعر عليه بعقاب في الدنيا ، كما قال عليه السلام أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل اللّه رأسه رأس حمار. وقوله من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومنّ إلا نفسه.

وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمّى محذورا أو حراما أو معصية ، فإن قلت ما معنى قولك أشعر ، فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة. فالإشعار يعم

١٦٠