محك النظر

أبو حامد الغزالي

محك النظر

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: رفيق العجم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

وقد تجذّرت الكثير من المصطلحات في المحك على الرؤى الإيمانية واختلفت عن المفردات بدلالاتها ورمزها للتحليل العقلي والبرهان المنطقي.

اعتمدنا في نص المحك على الطبعة الوحيدة الصادرة في القاهرة بالمطبعة الأدبية بسوق الخضار القديم والتي صححها : محمد بدر الدين النعساني الحلبي ومصطفى القباني الدمشقي.

ثم وضعنا بعض الملاحظات في الهامش للتوضيح وثبت الآيات والأعلام كما نقّحنا بعض المفردات وصوّبناها.

وقد أرفق الكتاب بفهرس للمصطلحات المنطقية.

ربيع الثاني ١٤١٤ ه‍.

أيلول ١٩٩٣ م.

رفيق العجم

٦١
٦٢

كتاب

محك النظر

الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي

٤٥٠ ـ ٥٠٥ ه‍

٦٣
٦٤

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة اللّه عليه. أحمد اللّه حمدا كثيرا متواترا وإن كان مع كثرته لا يقضي حق جلاله ، وأشكره شكرا مديدا متظاهرا ، وإن كان مع امتداده لا يوازي سحائب أفضاله ، وأتّكل على فضله إنه لا يكلّف عبده من الحمد والشكر إلا قدر استطاعته واستقلاله. وصلى اللّه على محمد عبده ورسوله خير خلقه وعلى آله.

أما بعد : فإن صدق اقتضائك أيها الأخ في الدين حشرنا اللّه وإيّاك في جملة المتحابين وفيّة تحرير محك النظر والافتكار ليعصمك عن مكامن الغلط في إتمام مضايق الاعتبار. قدمني غبّ الانقباض وبعث في نفسي داعية الانتهاض وحوّلني إلى فن اطّرحته بحكم السئامة والضجر. فعدت إليه معاودة من التفت إلى ما هجر. وظل الالتفات إلى ما هجر ثقيل. ولكن نفاسة الثمن بنفاسة المثمن كفيل. ولا ثمن إلا ما أرجوه من بركة دعائك.

عند صدق رجائك. وذلك في خلواتك. عند أعقاب صلواتك. فإني لم أتّبع فيما اقترحته هواك. إلا متقرّبا إلى رضاء اللّه تعالى برضاك. فأنا مقسم عليك بما تشاء من إخوة الدين أن لا تنساني في الدعاء. وإن تستشرك فيه من يعرفك من صلحاء الأصدقاء. فلم يبق إلا دعوات أهل الصلاح ، فقد أنبأ الصادق المصدوق صلوات اللّه عليه أن الدعاء للمؤمن عدة وسلاح. فإن

٦٥

لم يكن الدعاء هو المعوّل. فعلى ما ذا نتكل فالأمر أدّ ، والخطب حدّ. والسفر طويل والزاد قليل ، والشأن خطير ، والعمر قصير ، وفي العمل تقصير. والبضاعة مزجاة ، والحاضر من النقد زيف ، والناقد بصير. ولكن الجود غزير ، والرب قدير ، وفضل اللّه بالشمول جدير. فإن أقال عثراتنا بدعاء مسلم واحد فما ذلك على اللّه بعسير. وها أنا مقترح عليك أن تقول في دعائك : اللهم أره الحق حقا وارزقه اتّباعه. وأره الباطل باطلا وارزقه اجتنابه. وما أحوج إلى هذا من ركب متن الخطر في الارتفاع. عن حضيض التقليد مع سلامة مغبّته إلى يفاع الاطّلاع ، والاستبصار مع خطر عاقبته وتفاقم غائلته. فإن لم يره الحق حقا كان نظره كله هباء ، وإن لم يوفقه للعمل بما علمه كان جهده كله عناء ، وكان علمه للجهل إناء وطاعته مع العصيان سواء. فنعوذ باللّه من سقطة ما منها بعثة ومن مهواة ما لها مرقاة. واعلم أن ما سمت إليه همتك ، وطمحت نحوه عينك إن استوفيته لك فبحر عميق وعمقه بعيد فاقنع في الحال بما تيسر وارض في الوقت بما حضر ، وإن كانت غرفة من بحر وصبابة من تيار ، وخذها عجالة من مستوفز ولمعة من بارق وقبسا من مجتاز ونبذة من طارق ، واكتف بما سمحت به القريحة على ارتجالها ، وعنت التشاغل به النفس مع ارتحالها ، وتحقّق أني جامع لك مع الإيجاز من النكت النفيسة زبدة محضها وصفوة محضها ، ومشير إلى جمل إذا أخذ التوفيق ضبعك وأحال إلى استدرار فرائده واستخراج ودائعه وبدائعه فهمك وطبعك احتويت به على ما انتخيت واستوليت على ما ابتغيت ، واللّه تعالى يعصم أقوالنا عمّا يراه بكمال علمه خطأ وخلفا ويوفقنا بقربنا إليه زلفى بمنّه وفضله.

٦٦

مقدمة تحصر مقصود الكتاب وترتيبه وأقسامه

اعلم أنك إن التمست شرط القياس الصحيح والحد الصحيح والتنبيه على مثارات الغلط فيها وقفت للجمع بين الأمرين ، فإنها رباط العلوم كلها. فإن العلوم إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر المفردات وإدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى البعض بالنفي والإثبات. فإنك تعلم أولا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضا أمران مفردان ، ثم تنسب مفردا إلى مفرد بالنفي كما تنسب القدم إلى العالم بالنفي ، فتقول ليس العالم قديما وتنسب الحادث إليه بالإثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التكذيب والتصديق ، فأما الأول فلا يدخله تصديق وتكذيب ، إذ يستحيل التصديق والتكذيب في المفردات بل إنما يتطرق ذلك إلى الخبر ولا ينتظم خبر إلا بمفردين موصوف ووصف ، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات فلا بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين. فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن يحاذي بها المعنى فلنسم الأول معرفة ولنسم الثاني علما ، متأسين فيه بقول النحاة : إن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيدا ، والظن يتعدّى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيدا عالما. والعلم أيضا يتعدى إلى مفعولين فتقول علمت زيدا

٦٧

عدلا ، فهو من باب الظن لا من باب المعرفة. هذا هو الوضع اللغوي وإن كانت عبارة أهل النظر بهما تخالفه في استعمال أحدهما بدلا عن الآخر. فإذا استقر هذا الاصطلاح فنقول الإدراكات المعلومة تنحصر في المعرفة والعلم. وكل علم يتطرق إليه التصديق فمن ضرورته أن تتقدم عليه معرفتان ، فإن من لا يعلم المفرد كيف يعلم المركب ، ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث. والمعرفة قسمان : أولى وهو الذي لا يطلب بالبحث كالمفردات المدركة بالحس ، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل فيطلب تفصيله. وكذلك العلم ينقسم إلى أولي وإلى مطلوب. فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس؛ وكأن طالب القياس والحد طالب الآلة التي بها تقتنص العلوم والمعارف كلها. فليكن كتابنا قسمين قسم هو محل القياس وقسم هو محل الحد.

٦٨

القول في شروط القياس

اعلم أن القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة ألّفت تأليفا مخصوصا ونظمت نظما مخصوصا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر ، والخلل يدخل عليه تارة من الأقاويل التي هي مقدمات القياس إذ تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ، ومرة منهما جميعا. ومثاله في المحسوس البيت المبني فإنه أمر مركّب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف ، بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضا إلى موضع قريب من الأرض ، فيكون فاسدا من حيث الصورة ، وإن كانت الأحجاز والجزوع وسائر الآلات صحيحة. وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الاختلال من رخاوة في الجزوع وتشعث في اللبنات. فهذا حكم القياس والحد وكل أمر مركب ، فإن الخلل فيه إما أن يكون في هيئة تركيبه وترتيبه وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب ، كالثوب في القميص والخشب في الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف.

وكما أن من يريد بناء بيت بعيد من الخلل يفتقر إلى أن يعدّ الآلات المفردة أولا ، كالجذوع واللبن والطين ، ثم إذا أراد اللبن يفتقر إلى إعداد مفرداته وهو الماء والتراب والقالب الذي فيه يضرب فيبتدئ أولا بالأجزاء المفردة فيركّبها ثم يركّب المركب ، وهكذا إلى آخر العمل ، فكذلك طالب القياس ينبغي أن ينظر في نظم القياس وفي صورته وفي الأمر الذي يضع الترتيب

٦٩

والنظم فيه ، وهي المقدمات. وأقل ما ينتظم منه قياس مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب. وأقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مخبرا عنه والأخرى خبرا أو وصفا. فقد انقسم القياس إلى مقدمتين ، وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى ، وكل مفرد فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ. فيجب ضرورة أن ينظر في المعاني المفردة وأقسامها ، وفي الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها. ثم إذا فهمنا اللفظ مفردا والمعنى مفردا ألّفنا معنيين وجعلناهما مقدمة ، وننظر في حكم المقدمة وشرطها ثم نجمع مقدمتين فنصوغ منهما قياسا ، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وكل من أراد أن يعرف القياس بغير هذا الطريق فقد طمع في محال ، وكان كمن طمع في أن يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتبة الكلمات ، أو يطمع أن يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتبة الحروف المفردة ، وهكذا القول في كل مركب. فإن أجزاء المركب تتقدم على المركب بالضرورة حتى لا يوصف اللّه تعالى بالقدرة على خلق العالم المركب دون الآحاد ، كما لا يوصف بالقدرة على تعليم كتبة الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات والحروف ، فهذه الصورة ينبغي أن تشمل كلامنا.

فالقياس على ثلاثة فنون :

الفن الأول : في السوابق وهو النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني إلى أن تصير علما تصديقيا يصلح أن يجعل مقدمة.

الفن الثاني : النظر في كيفية تأليف المقدمات لينصاغ منها صحيح النظم وهو في المقاصد ، فإن ما قبله استعداد له. ويشتمل هذا الفن على مدارك العلوم اليقينية الأولية التي منها التأليف ونسبتها إلى القياس نسبة الثوب إلى القميص.

الفن الثالث : في لواحق ينعطف عليها بالكشف عند الفراغ منها تبتدي بالنظر في الحدود وشروطها.

٧٠

الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول

فصل في الألفاظ.

فصل في المعاني.

فصل في تأليف المعاني.

حتى تصير علما يتطرق إليه التصديق والتكذيب.

٧١
٧٢

الفصل الأول

في دلالة الألفاظ على المعاني

اعلم وفّقك اللّه أن الكلام في هذا الفن يطول ولكن لا أتعرض لما أظنّك مستقلا بإدراكه من نفسك ، وأقتصر على التنبيه على تقسيمات تثور من إهمالها أغاليط كثيرة.

القسم الأول : إن دلالة اللفظ على المعنى ينحصر في ثلاثة أوجه : وهي المطابقة والتضمن والالتزام. فإن لفظة البيت تدل على معنى البيت بطرق المطابقة ، وتدل على السقف وحده بطريق التضمن. فإن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والجدران. وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم ، إذ وجدنا الجسمية في الفرسية مهما قلنا فرس. فلنصطلح على تسمية هذا الوجه تضمّنا وعلى تسمية الوجه الأول مطابقة.

وأما طريق الالتزام : فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط ، فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ الحائط حتى يكون مطابقا له ، ولا بتضمن. إذ ليس الحائط جزءا من السقف كما كان السقف جزءا من نفس البيت ، وكما كان الحائط جزءا من نفس البيت ، لكنه كالرفيق اللازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه ، فدلالته على نمط آخر. فلنخترع له لفظا آخر وهو الالتزام والاستتباع. وإيّاك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الالتزام أو تمكّن خصمك بل اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة

٧٣

أو التضمن. فإن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حد ، إذ الحائط يلزم السقف والأس يلزم الحائط والأرض تلزم الأس ويتداعى هذا إلى غير نهاية.

القسم الثاني : إن اللفظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله ينقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة نسمّيه معينا وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد نسمّيه مطلقا ، مثال الأول قولك زيد وهذا الفرس وهذه الشجرة ، فإنه لا يدل إلا على شخص معيّن ، وكذلك قولك هذا السواد وهذه الحركة وحده إنه اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه. فإن قصد اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهوم اللفظ من وقوع الاشتراك في معناه ، كقولك السواد والحركة والإنسان ، وبالجملة الاسم المفرد في لغة العرب إذا أدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس. وقد يسمّى لفظا عاما ، ويقال الألف واللام للعموم ، فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام ، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه.

فاعلم أن هذا الوهم غلط فإن امتناع الشركة هاهنا ليس لنفس اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عددا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الآلهة ، فحيث امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إله ثان ، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ بل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا عوالم وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملا للكل فتأمّل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة في النظريات من حيث لا يدري.

القسم الثالث : إن الألفاظ المتعدّدة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل ، فلنخترع لها أربعة ألفاظ : وهي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة.

٧٤

أما المترادفة : فنعني بها الألفاظ المختلفة في الصيغة المتواردة على مسمّى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب ، وبالجملة كل اسمين عبّرت بهما عن معنى واحد فهما مترادفان.

وأما المتباينة : فنعني بها الأسامي المختلفة المعاني كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والشجر والأرض وسائر الأسامي ، وهي الأكثر.

وأما المتواطئة : فهي الأسامي التي تطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متّفقة بالمعنى الذي وضع له ، كاسم الرجل فإنه يطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد وكاسم الجسم فإنه يطلق على الإنسان والسماء والأرض لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع بإزائها. فكل اسم مطلق ليس بمعيّن كما سبق فإنه يطلق على آحاد مسمّياته الكثيرة بطريق التواطؤ. فاسم اللون للبياض والسواد بطريق التواطؤ ، فإنها متّفقة في المعنى الذي سمّي به اللون لونا وليس بطريق الاشتراك البتة.

وأما المشتركة : فهي الأسامي التي تطلق على مسمّيات مختلفة لا تشترك بالحد والحقيقة ، كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي ينفجر منه الماء ، وهي العين الفوّارة ، وللذهب والشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع والكوكب الذي هو في السماء المعدود عند المنجمين من السعود. ولقد ثار من التباس المشتركة بالمتواطئة غلط كثير في العقليات ، حتى ظنّ جماعة من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من الاسم ، وأن ذلك كمشاركة الذهب للحدقة الباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل البيع للكوكب في اسم المشتري. وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنزد له شرطا. ونقول الاسم المشترك قد يدلّ على المختلفين كما ذكرنا وقد يدلّ على المتضادين ولا شركة بينهما البتّة ، كالجليل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض ، وأيضا المشترك قد يكون مشكّكا قريب الشبه من المتواطي ويعسر الفرق على

٧٥

الذهن وإن كان في غاية الصفاء ، ولنسمّ ذلك متشابها ، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء الذي يدرك بحاسة البصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدي في الغوامض ولا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونه جسما ، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتّة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان ، فإنه بالاشتراك المحض ، إذ يراد به من النبات المعنى الذي به نماؤه ويراد به من الحيوان المعنى الذي به يحسّ ويتحرك بالإرادة وإطلاقه على الباري جلّ وعلا إذا تأملت عرفت بأنه لوجه ثالث يخالف الأمرين جميعا. وأمثال هذه ينابيع الأغاليط وسأشرحه زيادة شرح في اللواحق عند حصر مدارك الغلط في القياس.

(مغلطة أخرى) قد تلتبس المتباينة بالمترادفة وذلك مهما أطلقت أسامي مختلفة على شيء ولكن باعتبارات مختلفة ربما ظنّ أنها مترادفة كالسيف والمهنّد والصارم ، فإن المهنّد يدلّ على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند ، يخالف إذا مفهومه مفهوم السيف والصارم والصارم يدلّ على السيف مع صفة الحدّة والقطع ، لا كالليث والأسد فإن ثبت أن الليث يدلّ على صفة ليست في الأسد التحق بالمتباينة ولم يكن مع المترادفة ، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نفتكر إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبديل اعتباراته ، كما إنا نسمّي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدّى به المتحدّي ولم يكن عليه برهان وكان في مقابلة القائل خصم فإن لم يكن في مقابلته خصم سمّيناه قضية لأنه قضى على شيء بشيء ، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سمّيناه نتيجة ، فإن استعمله دليلا في طلب أمر آخر ورتّبه في أجزاء قياس سمّيناه مقدمة وهذا ونظائره مما يذكر كثير.

(مغلطة أخرى) المشترك في الأصل هو الاسم الذي يعبّر به عن مسمّيين لا يكون موضوعا لأحدهما ومستعارا منه للآخر أو منقولا منه إلى الآخر بل لا يكون أحدهما بأن يجعل أصلا والآخر منقولا إليه أو مستعارا منه

٧٦

بأولى من نقيضه كلفظ المشتري ، إذ لا يمكن أن يقال استعير الكوكب من العاقد أو العاقد من الكوكب أو وضع لأحدهما أولا ثم حدث الثاني بعده ، وكذلك لفظ المفعول والفاعل فيما لا يختلف تصريفه كقولك اختار يختار اختيارا فهو مختار وذلك مختار ، فالفاعل والمفعول لهما صيغة واحدة وليس اللفظ بأحدهما هو أولى من الآخر ، وليس كذلك لفظ الأم ل‍ (حوّاء) فإنها أم البشر ، والأرض فإنها تسمّى أم البشر ولكن الأول بالوضع والثاني بالاستعارة. ولا كذلك الألفاظ التي نقلت وغيّرت كلفظ المنافق والفاسق والكافر والملحد والصوم والصلاة وسائر الألفاظ الشرعية فإنها مشتركة لأمرين مختلفين ، ولكن لبعضها أول ولبعضها ثان ، أي منقول من البعض إلى البعض. فالأول منقول عنه والثاني منقول إليه. وقد حصل مقصود الاشتراك وإن كان على الترتيب ، كما حصل في لفظ العاقد والكوكب وإن لم يكن على الترتيب ، مثال الغلط في المشترك حتى تستدل به على غيره فإن الحال ليس يحتمل استقصاء هذه المفاضة. أما سمعت الشافعي رضي اللّه عنه في مسألة لمكره يقول يلزم القصاص لأنه مكره مختار. ويكاد الذهن ينبو عن التصديق بالضدين فإنه محال. فنرى الفقهاء يعثرون فيه ولا يهتدون إلى حلّه وإنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك ، إذ قد يحمل لفظ المختار مرادفا للفظ القادر ومساويا له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة ، كالمحمول فنقول هذا عاجز محمول هذا مختار قادر ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل والترك ، وهذا يصدق على المكره.

وقد يعبّر بالمختار عمّن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته ولا تحرر دواعيه من خارج ، وهذا يكذب على المكره ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه ، فإذا صدق أنه مختار وصدق أنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت. ولهذا نظائر في النظريات لا تحصى تاهت بسببها عقول الضعفاء فاستدل بهذا اليسير على الكثير. فإن الحال ليس يحتمل التطويل وأقنع بهذا القدر من النظر في دلالات الألفاظ وإن كان فيها مباحث سواه.

٧٧

الفصل الثاني

في النظر في المعاني المفردة

ولنقتصر فيه على ثلاث تقسيمات جلية :

التقسيم الأول : إن المعاني التي يدلّ عليها بالألفاظ إذا نسب بعضها إلى بعض وجد إما مساويا لها وإما أعم منها وإما أخصّ منها ، وهذا ممّا يحتاج إلى معرفته في القياس. فإذا نسبت الجسم إلى المتحيّز وجدته مساويا لا يزيد ولا ينقص ، إذ كل جسم متحيّز وكل متحيّز جسم ، هذا على رأي من يقول إن كل متحيّز منقسم. وأما نحن فننسب التحيّز إلى الجوهر فنرى التحيّز مساويا له. وأما إذا نسبنا الوجود إلى الجسم وجدناه أعم منه ، فربّ موجود ليس بجسم. وأما إذا نسبنا الحركة إلى الجسم وجدناها أخص منه ، فربّ جسم ليس بمتحرك بالفعل كالأرض عند عدم الزلزلة.

التقسيم الثاني : المعنى إذا نسب إلى المعنى وجدناه إما ذاتيا له ويسمّى صفة النفس وإما لازما ويسمّى وصفا لازما وإما عارضا له لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بدّ من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في القياس والحد جميعا.

أما الذاتي : فإني أعني به كل شيء داخل في حقيقة الشيء وماهيته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه ، وذلك كاللونية للسواد وكالجسمية في الفرس والشجر. فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا. فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل على

٧٨

وجه لو قدّر عدمها لبطل وجود الشجر والفرس وما يجري هذا المجرى.

ولا بدّ من إدراجه في حدّ الشيء فمن يحدّ النبات يلزمه أن يقول إنه جسم نامي لا محالة.

وأما الالتزام : فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه ، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات عند طلوع الشمس. فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبّر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له ، وأعني به أن فهم كنه حقيقته غير موقوف على فهم ذلك ، بل الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل الجسم الذي هو أعم منه ، ولم يخطر بباله ذلك ، وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا تتصور مفارقته لها ، ولكن فهم الأرض غير موقوف على كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان. فإنا نعلم أولا حقيقة الجسمية ثم نطلب بالدليل كونه مخلوقا ولم يمكنا أن نعلم السماء والأرض ما لم نعلم الجسم.

وأما العارض : فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب ، وربما لا يزول في الوجود كزرقة العواد وسواد الزنجي ، ولكن يمكن رفعه في الوهم. وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس فلازم لا تتصور مفارقته. ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاؤه في هذه العجالة غير ممكن البتة.

التقسيم الثالث : إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة. ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى تتميّز به الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر به ، وإذا بطل ذلك من الأعمى بطل الإبصار ، والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها

٧٩

وجود المبصر. فلو انعدم المبصر بقيت صورته في دماغك وتلك الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل وعدمه لا ينفي الحالة المسمّاة تخيلا وينفي الحالة المسمّاة إبصارا ، ولما كنت تحسّ في التخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في هذا الدماغ غريزة وصفة بها تهيأ للتخيّل وبها باين البطن والفخذ كما باينت العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة. والصبي في أول نشئه تقوى به قوة الإبصار دون قوة التخيّل.

ولذلك إذا أولع بشيء فغيبته عنه وشغلته بغيره اشتغل به ، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للخيال ولا يفسد الإبصار فيرى الشيء ، ولكن كلما يغيب عن عينه فينساه ، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان ، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكّر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق وأنه مستلذ لديه فبادر إليه ، ولو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته له ثانيا كرؤيته له أولا ، حتى لا يبادر إليه ما لم يجده بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمّى عقلا ، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيّلات مباين لإدراك التخيّل مباينة أشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر ، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطا لبقاء الإبصار ولم يكن شرطا لبقاء التخيّل ، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبعد منك مخصوص ، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البعد وذلك الشكل والوضع ، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تسمّى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر ، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان ، وربما ركّب شخصا نصفه من إنسان ونصفه من فرس ، وربما صوّر إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدّه وصورة الطيران وحدّه ، وهذه

٨٠