محك النظر

أبو حامد الغزالي

محك النظر

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: رفيق العجم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

يوجب العلم العمل بها على كافة الخلق إلا آحاد المحققين ، فإنهم يسمّون الحالة الثانية يقينا ولا يميّزون بين الحالة الثانية والأولى ، والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظان الغلط. فمهما ألّفت القياس من مقدمات يقينية حقيقية في صورة تأليف الشروط التي قدمناها كانت النتيجة الحاصلة يقينية ضرورية بحسب ذوق المقدمات.

١٠١

الفصل الثاني

في مدارك اليقين والاعتقاد

لعلّك تقول قد استقصيت في شروط اليقين استقصاء مؤنسا عن نيله والظفر به فمن أين يقتنص مثل هذا اليقين وما آلته ومدركه. فاعلم أن مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافة ، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظنّ بها اليقين ومجامعها فيما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام ، ولنخترع لكل واحد منها اسما مشتقا من سببه :

الأول أوليات : وأعني بها العقليات المحضة التي اقتضى ذات العقل بمجرد حصولها من غير استعانة بحس التصديق بها مثل علم الإنسان بوجود ذاته ، وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا ، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر ، وأن الاثنين أكثر من الواحد ونظائره. وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتبة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما به ، ولا يدري متى حصل ولا يقف حصوله على وجود أمر سوى العقل ، إذ يرتسم فيه الوجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض ، مثل أن تحضر أن القديم حادث ويكذب العقل به أو أن القديم ليس بحادث ويصدق العقل به ، ولا نحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فيتربص العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب.

الثاني المشاهدات الباطنة : وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه

١٠٢

وخوفه وفرحه وسروره وجميع أحواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس. وهذه ليست مدركة بالحواس الخمس ومجرد العقل لا يكفي في إدراكها بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل والأوليات لا تكون للبهائم والصبيان. فإذا يحصل من هذا المدرك يقينيات كثيرة وقضايا قطعية مثل قطعه بأنه جائع ومسرور وخائف ، ومن عرف نفسه وعرف السرور وعرف حلول السرور فيه ينظم من هذه المعارف قضية يحكم على نفسه بأنها مسرورة ، فكانت القضية المنظومة منه عند العقل قضية حقيقة.

الثالث المحسوسات الظاهرة : كقولك الملح أبيض والقمر مستدير والشمس مستديرة وهذا الفن واضح ، ولكن يتطرق الغلط إلى الإبصار بعوارض فتغلط لأجلها مثل بعد مفرط أو قرب مفرط أو ضعف في العين.

وأسباب الغلط في الإبصار الذي على الاستقامة ثمانية ، والإبصار الذي بالانعكاس كما في المرآة. والذي بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج تتضاعف فيه أسباب الغلط ومداخل الغلط في هذه الحالة على الخصوص لا يمكن استقصاؤه في مجلدات. ولا يمكن أن يجعل علاوة على هذه العجالة وإن أردت أنموذجا من أغاليط البصر فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا والعقل يقضي بأنه متحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة وإلى الصبي والنبات في أول النشو وهي في النمو في كل لحظة تتزايد على التدريج ويراه واقفا وأمثال ذلك مما يكثر.

الرابع التجربيات : ويعبّر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والحجر هاو إلى جهة الأرض والنار متحركة إلى جهة فوق والخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر وجميع المعلومات بالتجربة عند من جرّبها ، فإن معرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل كمعرفتك بأن الخبز مشبع ، فإنه انفرد بالتجربة وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه. وهذا غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر هوى إلى الأرض. فأما الحكم بأن كل حجر هاو إلى الأرض فهو قضية عامة لا قضية

١٠٣

في عين فليس للحس إلا قضية في عين ، وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر لم يحكم بأن جنس هذا المائع مسكر ، فإن الحس لم يدرك إلا شربا وسكرا عقيبه وذلك في شراب معيّن مشار إليه. والحكم الثاني هو حكم العقل بواسطة الحس وبتكرر الإحساس مرة بعد أخرى إذا المرة الواحدة لا تحصل العلم فمن تألم له موضع فصبّ عليه مائعا فزال لم يحصل له علم بأنه مزيل بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإخلاص مرة فزال. إذ قد يخطر بباله أن زواله كان بالاتفاق ، فإذا تكرر زواله مرات كثيرة حصل له العلم. وكذا لو جرب قراءة سورة الإخلاص مثلا على المرض الأول وكان يزول كل مرة أو في الأكثر يحصل له يقين بأنه مزيل كما حصل اليقين بأن الخبز مزيل للجوع والتراب غير مزيل له بل زائد فيه. وإذا تأملت هذا القن حق التأمل عرفت أن العقل نال هذه بعد الإحساس والتكرر بواسطة قياس خفي ارتسم فيه ، ولم يثبت شعوره بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشكله بلفظه. وكان العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطّرد في الأكثر ، ولو كان بالاتفاق لتخلف. فإن الإنسان يأكل الخبز فيتألم رأسه ويزول جوعه فيقضي على الخبز بأنه مشبع وليس بمؤلم لفرق بينهما وهو أن الإيلام يحمله على سبب آخر اتفق اقترانه بالخبز ، إذ لو كان بالخبز لكان دائما مع الخبز أو في الأكثر كالشبع. وهذا الأمر يحرك أصلا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات والتعبير عنها باطراد العادات ، وأن ذلك ما حقيقته. وقد ذكرنا في كتاب تهافت الفلاسفة ما ينبّه عن غوره. والمقصود أن القضايا التجريبية زائدة على الحسية ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من القضايا العينية فيتعذر عليه درك ما يلزم منها من النتائج ، ولذلك نرى أقواما يتفردون بعلم ويستبعده آخرون لجهلهم بمقدماته التي لا تحصل إلا بالتجربة ، وهذا كما أن الأعمى والأصم يعوز جملة من العلوم النظرية التي تستنتج من مقدمات محسوسة ولا يفرق الأعمى قط باليقين البرهاني ، أن شكل الشمس مثل شكل الأرض أو أكبر منها ، فإنها تعرف بأدلة هندسية تبنى على مقدمات مستفادة من البصر وكثير من العلوم النفيسة لا يتنقص العقل مقدماتها إلا

١٠٤

بشبكة البصر وسائر الحواس ، ولذلك قرن اللّه السمع والبصر بالفؤاد في القرآن.

الخامس المعلومات بالتواتر : كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلاة الخمس ، بل كعلمنا بأن مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي وغيره. فإن هذه أمور وراء المحسوس ، إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوتا ، المخبر بوجود مكة ، فأما الحكم بصدقه فهو للعقل وآلته السمع ولا مجرد السمع بل تكرير السماع. ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو لتكرر التجربة ، فإن كل مرة فيها شهادة أخرى تنضم إلى الآخر فلا يدري متى ينقلب الظن الحاصل منه يقينا. فإن ترقي الظن فيه وفي التواتر خفي التدريج لا تشعر به النفس البتة ، كما أن نمو الشعر خفي التدريج لا يشعر بوقته ولكن بعد زمان يدرك التفاوت فكذا هذه العلوم ، فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة للبراهين التي تطيب منها النفس وما بعده ليس كذلك.

السادس الوهميات : وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارا إلى جهته ، وأن موجودا لا متصلا بالعالم ولا منفصلا ولا خارجا ولا داخلا محال. فإن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال ، وهو عمل قوة في التجويف الآخر من الدماغ تسمّى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات التي ألفها ، فليس في طبعها إلا النبوة عنها وإنكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان ، والأولى منهما ربما وقع كل الأنس بتكذيبها لكثرة ممارستك الأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة ، والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك الأدلة الموجبة له. وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملا غير ممكن فإنك إن أثبت خلاء فما أراك تجعله قديما. فإن الخلاء ينعدم بالملإ والقديم لا ينعدم ، ولأنك تعرف أن لا قديم سوى اللّه وصفاته وإذا جعلته محدثا لزمك أن يكون متناهيا فينقطع ، وإذا جاوزت المنقطع كنت معترفا بأنه ليس بعده

١٠٥

لا خلا ولا ملا. وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي في النفس لا تتميّز عن الأوليات القطعية ، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين ، بل تشهد به أول الفطرة كما تشهد بالأوليات القطعية. وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما تشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة. وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفته الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها. فإن قلت فبما ذا أميّز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل ، ومتى يحصل لي الأمان منها فأقول إن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيدا لليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن ، وقالوا بتكافؤ الأدلة وادّعوا النفس ، وليس يحصل لنا الأمان وقال لبعضهم لسنا نتيقن أيضا تكافؤ الأدلة بل هذا أيضا لا ندريه ، وكشف الغطاء عن هذا صعب ويستدعي تطويلا ولكن أفيدك الآن طريقين تثق بهما في كذب الوهم.

الأول جملي : وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات وليس هذا من النظريات ، ولو عرضت الوهم على نفس الوهم لأنكره. فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا فإذا لم يجده إياه ، ولو كلفت الوهم أن يقابل ذات القدرة والعلم والإرادة لتصور لكل واحد قدرا ومكانا مفردا ، ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد وجسم واحد لقدر بعضها منطبقا على البعض كأنه ستر مرسل على وجهه ، ولم يقدر على تقدير إدخال البعض في البعض الآخر بأسره ، فإنه إنما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي على كل شيئين بأنه متميّز في الوضع عن الآخر.

الطريق الثاني : وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن تعلم أن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فإنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين ، بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس ، وإنما تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوس

١٠٦

بالمحسوس ، إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات. فحيلة العقل في أن يثق بكذبه وبقضاياه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية يساعد الوهم عليها وينظمها بنظم المقايسين التي ذكرناها. فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق من الأمثلة وكما في سائر الهندسيات فيتخذ ذلك ميزانا وحاكما بينه وبينه. فإذا رأى الوهم قد كاع عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمه وساعد على أن مثل هذا النظم منتج بالضرورة وأن تلك المقدمات صحيحة بالضرورة ثم أخذ يمتنع عن قبول النتيجة علم أن ذلك من نفور في طباعها عن إدراك هذا الشيء الخارج عن المحسوسات. فاكتف بهذا القدر فإن تمام الإيضاح لا يحصل إلا بالامتحان في أمثلة كثيرة ، وذلك مما يطول فيه الكلام.

السابع المشهورات : وهي آراء مجموعة أوجب التصديق بها ، إما شهادة الكل والأكثر أو شهادة الجماهير أو الأفضل ، كقولك الكذب قبيح والإنعام حسن وشكر المنعم حسن وكفران النعمة قبيح وهذه قد تكون صادقة وتكون كاذبة ، فلا يجوز أن يعوّل عليها في مقدمات القياس. فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية ، فإن الفطرة الأولى لا يقضي بها بل ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبي ، وذلك بتكرير ذلك على الصبي وتكليفه اعتقاده وتحسين ذلك عنده ، وربما يضطر إليها حب التسالم وطيب المعاشرة ، وربما نشأ من الحياء ورقة الطبع ، فنرى أقواما يصدقون بأن ذبح البهائم قبيح ويمتنعون من أكل لحومها وما يجري هذا المجرى ، فالنفرة من المجبولة على الجبن والرقة أطوع لقبولها ، وربما حمل على التصديق بها الاستقراء الكثير ، وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيترسّخ في نفسك كمن يقول مثلا التواتر لا يورث العلم لأن قول الواحد لا يورث ، وكذلك الثاني ، فقد انضم ما لا يوجب إلى ما لا يوجب والمجموع لا يزيد على الآحاد ، لأن قوله الواحد لا يوجب العلم ، إذ يجوز عليه

١٠٧

الغلط ، وهذه قضية يظن أنها صادقة بالإطلاق وليس كذلك ، بل الصادق أن قول الواحد المنفرد بقوله يحتمل الغلط والجمع يخرجه عن الانفراد ، وكل واحد لا يوجب قوله العلم بشرط أن لا يكون معه الآخرون ، فإذا اجتمعوا بطل هذا الشرط. وهذه من المثارات العظيمة الغلط وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة يطول إحصاؤها ولا ينبغي أن تتّخذ مقدمات القياس اليقيني منها البتّة ، وأكثر أقيسة الجدليين من المتكلمين والفقهاء في مجادلاتهم وتصانيفهم مؤلّفة من مقدمات مشهورة فيما بينهم ، سلّموها لمجرد الشهرة وذهلوا عن سببها. ولذلك نرى أقيستهم تنتج نتائج متناقضة فيتحيّرون فيها وتتخبط عقولهم في تنقيحها. فإن قلت فيما أدرك الفرق بين المشهور والصادق فاعرض قول القائل الصدق جميل والكذب قبيح على العقل الأولي الفطري الموجب للأوليات ، وقد رانك لم تعاشر أحدا ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تؤدّب باصطلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ وأب ومرشد وكلّف نفسك أن تشكك فيه ، فإنك تقدر عليه وتراه متأتيا ، وإنما الذي يعسر عليك هذه التقريرات. فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال. ولكن إذا تحدّقت فيه أمكنك التشكّك ، ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلا وهو كاذب وهمي ، ولكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر تقتضيه فطرة العقل. فأما كون الكذب قبيحا فلا تقضي به لا فطرة الوهم ولا فطرة العقل بل ما ألفه الإنسان من العادات والأخلاق والاصطلاحات ، وهذه أيضا مغاصة مظلمة يجب التحرز عنها. وقلّ من لا يتغير بهذه المقدمات ولا تلتبس عليه باليقينيات ، لا سيما في تضاعيف الأقيسة مهما كثرت المراتب والمقدمات. وهذا القدر كاف في المقدمات التي هي جاملة للنظم والترتيب والتأليف. والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية ولا تصلح لغيرها ولنختم هذا في المقاصد.

١٠٨

الفن الثالث من القياس في اللواحق وفيه فصول

الفصل الأول

في بيان كل ما تنطق به الألسنة في العادات والمحاورات والفقهيات والعقليات ممّا يذكر في معرض الدليل والتعليل ويمكن أن يقرن به لأنّ ، ويذكر في جواب لم ، فذلك بالضرورة يرجع إلى ضروب النظم التي ذكرناها. ولا بد منها البتة ، وأن ما ترى تأليفه وإطلاقه على غير ذلك النظم فله أربعة أسباب : وذلك إما قصور علم الناظر بتمام نظم القياس ، وإما إهماله بعض المقدمات لكونها واضحة ، وإما إهماله لكونها مشتملة على موضع التلبيس فيحذر من أن يصرّح به فيطّلع على تلبيسه ، وإما تركيب الضروب التي ذكرناها وجمع جملة من آحادها في سياق كلام واحد. فإنا لم نذكر إلا المفردات من النظم ، فإن تلك المفردات إذا تداخلت حصل منها تأليفات كثيرة أعرضنا عن تفصيلها للإيجاز. ولنورد لكل واحد منها مثالا : الأول فيما ترك إحدى مقدمتيه لوضوحه وهو أكثر الأدلة العقلية والفقهية ، إذ يحترز عن التطويل ، وكذا في المحاورات كما يقول القائل هذا يجب عليه الرجم وهذا قد زنا وهو محصّن فإذا يجب عليه الرجم. ولكن ترك مقدمة الحكم وذكر مقدمة المحكوم عليه لأنه يراه مشهورا ، وكذلك يقال العالم. لوجوده سبب فيقال لم فنقول لأنه حادث فإذا له سبب. وكما يقال نكاح الشغار فاسد فيقال لم فنقول لأنه منهيّ عنه. وتمامه أن نقول كل منهي عنه فهو فاسد ونكاح الشغار منهي عنه فهو إذا فاسد ولكن ترك ذلك للشهرة والتلبيس أيضا حتى لا يقول الخصم أسلّم أنه منهي عنه ولكن لا أسلّم أن كل

١٠٩

منهي عنه فاسد فيترك المقدمة الممنوعة. وأما مثال ما يترك لأجل التلبيس فأن تقول فلان خائن في حقك فيقال لم فيقول لأنه يناجي عدوك ، وتمامه أن يقول كل من يناجي العدو فهو خائن وهذا يناجي العدو فهو خائن ، ولكن ترك مقدمة الحكم فإنه لو صرح به ربما يذكر أنه ربما يناجي العدو ليخدعه أو يستميله أو ينصحه ، ولا يسلّم أن كل من يناجي العدو فهو خائن فيترك ذلك حتى لا يتذكر محل الكذب ، وربما يترك مقدمة المحكوم عليه فيقول لا تخالط فلانا فيقال لم فيقول لأن الحسّاد لا تؤمن مخالطتهم. وتمامه أن نقول الحسّاد لا يخالطون وهذا حاسد فينبغي أن لا يخالط ، فتركت مقدمة المحكوم عليه وهو قولك هذا حاسد وكل من يقصد التلبيس في المجادلات فطريقه إهمال إحدى المقدمتين إيهاما بأنه واضح وربما يكون الكذب فيه أو استغفالا للخصم واستجهالا له ، فإنه ربما يتنبّه للحاجة إلى المقدمة الثانية. وهذا كله أمثلة النظم الأول ، وقد يقع في غيره أيضا. كمن يقول مثلا كل شجاع ظالم فيقال لم فيقول لأن الحجّاج (١) كان شجاعا وظالما ، فهذا تمامه أن يقول الحجّاج شجاع والحجّاج ظالم. فكل شجاع ظالم وهو غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث ، وقد ثبت أن النظم الثالث لا ينتج إلا قضية خاصة ، وإنما كان من النظم الثالث لأن العلة هي الحجّاج ، فإنه متكرر في المقدمتين ولا يلزم منه إلا أن بعض الشجعان ظلمة ، أما الكل فغير لازم. وكذلك يقول العامي المتفقهة سيئة الآداب والمتصوفة كلهم فسقة ، فيقال لم فيقول لأني رأيت متصوفة الرباط الفلاني ومتفقهة المدرسة الفلانية يفعلون كيت وكيت وهو خطأ لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وهو محال ، وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم إلا نتيجة جزئية ، وهو معنى

__________________

(١) الحجّاج بن يوسف الثقفي عامل الأمويين على العراق والمشهور ببطشه النصف الثاني من القرن الأول الهجري.

١١٠

النظم الثالث ، ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساويا للحكم كان من النظم الأول وأمكن أن تستنتج منه القضايا الأربعة ، ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي ، أما الإثبات فلا. ومثاله من العادات أن تقول هذه المرأة حبلى فيقال لم فتقول لأنها عظيمة البطن فهذا دليل فاسد وقد حذف إحدى مقدمتيه. وتمامه أن يقول هذه المرأة عظيمة البطن وكل عظيمة البطن فهي حبلى فهذه المرأة إذا حبلى ، والعلة عظيمة البطن وقد جعل خبرا في المقدمتين ، وهو أعم من المحكوم عليه فإنه المرأة المعيّنة وعظيمة البطن ، إذ قد يعظم بطن غيرها ، وأعم أيضا من الحكم فإن الحكم هو الحبل وعظم البطن أعم منه إذ قد يكون بالاستسقاء والسمن والانتفاخ.

والغلط من هذا الوجه في الفقهيات والكلاميات أكثر من أن يحصى. وأما مثال المختلطات المركبة من كل نمط فكقولك الباري تعالى إن كان على العرش فهو إما مثل أو أكبر أو أصغر أو مساو ، وكل مساو أو أكبر أو أصغر مقدّر وكل مقدر إما أن يكون جسما أو لا يكون جسما ، وباطل أن لا يكون جسما فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى جسما ومحال أن يكون جسما فمحال أن يكون على العرش. وهكذا تجري أكثر المقاييس في التصانيف والمحاورات وبه تتيسر التلبيسات ، إذ يمكن أن يهمل في وسط هذه الكثرة مقدمة فيها غلط ، فمن لا يقدر على تحليل هذا التركيب وردّه إلى ما سبق ربما غلط من حيث لا يدري وصدّق بقياس لا يجب التصديق به. وقد اشتمل هذا على النمط الأول وعلى النمط الثاني وهو التلازم وعلى النمط الثالث وهو التقسيم والتعاند ، وإذا اتقنت المفردات أمكنك رد المختلطات إليها فلست أطول بتعليم وجه التحليل فقد لاح لك بهذه الأمثلة أنه لا يتصور أن ينطق أحد في معرض دليل بكلمة إلا ورجع إلى ما ذكرناه.

١١١

الفصل الثاني

في بيان أن ما يسمّى استقراء

وتمثيلا يرجع بالضرورة إلى ما ذكرناه

أما الاستقراء فهو عبارة عن تصفّح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشتمل تلك الجزئيات ، كقولنا في الفقه الوتر ليس بفرض لأنه يؤدّى على الراحلة ، فيقال ولم قلتم إن الفرض لا يؤدّى على الراحلة؟ فنقول عرفنا ذلك بالاستقراء ، فإنا رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدّى على الراحلة ، فعلمنا أن كل فرض لا يؤدّى على الراحلة. ووجه دلالة هذا لا تتم إلا بالرد إلى النظم الأول وهو أن نقول كل فرض إما قضاء أو أداء أو نذر ، وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدّى على الراحلة فإذا كل فرض لا يؤدّى على الراحلة ، وهذا مخيّل يصلح للظنيات دون القطعيات. والكذب تحت قوله إما أداء فإن حكمه بأن كل أداء لا يؤدّى على الراحلة لا يسلّمه الخصم. فإن الوتر أيضا أداء كالعصر والصبح ، وإنما سلّم الخصم الصلاة الخمس ، أما السادس فما سلّمه. فنقول وهل استقريت حكم الوتر في تصفّحك وكيف وجدته؟ فإن قلت وجدته لا يؤدّى على الراحلة فالخصم لا يسلّم وإن لم تتصفّحه فلم يتبيّن لك إلا بعض الأداء ، فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة ، وكان الواجب أن تقول بعض الفرض لا يؤدّى على الراحلة ، وذلك لا ينتج فإنّا بيّنا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة ، فإن كانت خاصة لم تنتج. وهذا غلط من قال إن صانع العلم تعالى عن قوله

١١٢

جسم ، إذ يقال له لم فيقول لأن كل فاعل جسم ، فيقال له فبما عرفت هذا فيقول بالاستقراء ، إذ تصفّحت الفاعلين من خياط وبنّاء وإسكاف وحجّام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساما ، فيقال وهل تصفّحت صانع العالم ، فإن قلت نعم فوجدته جسما فهو محل النزاع ، فكيف أدخلته بالمقدمة؟ وإن قلت لا فقد ظهر لك بعض الفاعلين لا كلّهم ، فظهر بذلك أن الاستقراء إذا لم يكن تاما مستوعبا لم يفد وإن استوعب دخلت فيه النتيجة المطلوبة ، ولا يصحّ ذلك إلا في الظنيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط واحد غلب على الظن أن الآخر كذلك.

١١٣

الفصل الثالث

من وجه لزوم النتيجة من المقدمات

وهو الذي يعبّر عنه بوجه الدليل ، ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء ولا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غير. فيقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخل العقل فيه من أمرين إما أن يصدّق به أو يمتنع عن تصديقه ، فإن صدّق به فهو الأولى المعلوم بغير واسطة ، ويقال إنه معلوم بغير دليل وبغير علة وبغير حيلة وبغير نظر وتأمل. وهذه العبارات تؤدّي معنى واحدا في هذا المقام ، وإن امتنع عن المبادرة إلى التصديق ولا يطمع بعد ذلك في تصديقه إلا بواسطة ، وتلك الواسطة هي التي تنسب الحكم إلى المحكوم عليه فيجعل خبرا عنه فيصدق به وينسب إلى الحكم فيجعل الحكم خبرا عنه فيصدق به فيلزمه من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه ، وبيانه أنا إذا قلنا للعقل هل النبيذ حرام؟ قال لا أدري ولم يصدق به ، فعلمنا أنه ليس في الذهن طرف هذه القضية وهو الحرام والنبيذ ، فلا بد وأن يطلب واسطة ، ربما يصدق العقل بوجوده في النبيذ ويصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب. فيقول وهل النبيذ مسكر فيقول نعم ، إذا كان قد حصل له ذلك بالتجربة ، فيقول وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا حصل له ذلك بالسماع ، فيقول وهل المدرك بالسمع (يعمل بحكمه) قلنا نعم. فإن صدّقت بهاتين القضيتين لزمك

١١٤

التصديق بالثالث وهو أن النبيذ حرام بالضرورة ، فيلزمه ذلك ويذعن للتصديق به. فإن قلت هذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما ، فاعلم أن ما توهمته حق من وجه وغلط من وجه. أما وجه الغلط فهو أن هذه القضية ثالثة بدليل أنك تقول النبيذ حرام وتقول النبيذ مسكر وتقول المسكر حرام ، فليس قولك النبيذ حرام تكرار في المقدمتين بعدهما بل هذه ثلاث مقدمات متباينة اللفظ والمعنى ، فعرفت أن النتيجة اللازمة غير المقدمات الملزم بها ، وأن الملزمة اثنتان والنتيجة ثالثة سواهما. وأما وجه كونه حقا فهو أن قولك المسكر حرام شامل لعموم النبيذ الذي هو أحد المسكرات ، فقولك النبيذ حرام منطو فيه ولكن بالقوة لا بالفعل ، إذ قد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص ، فمن قال الجسم متحيّز لا يخطر بباله ذكر القطب فضلا عن أن يخطر بباله مع ذلك حكمه بأنه متحيّز ، فإذا النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة ومعلومة بالفعل ، والموجودة بالقوة القريبة ربما يظن أنها موجودة بالفعل توهما ، فاعلم أن هذه النتيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمة بالقوة ، وإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل ، إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل ولو قيل له هل تعلم أن البغلة عاقر فيقول نعم ، فإن قيل له فهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم ، فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب هو من توهّم نفسه مع علمه بالمقدمتين ، أي علمه أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذا عاقر والعاقر هي التي لا تحمل ، فإذا هي لا تحمل.

وانتفاخ البطن له أسباب سوى الحمل فإذا انتفاخها من سبب آخر ، ولما كان السبب الخاص القريب لحصول النتيجة في الذهن التفطّن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء ، فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره. والحق أن المدلول هو المطلوب المنتج وأنه عين التفطّن لوجوده في المقدمة بالقوة ، لكن هذا التفطّن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد الذهن بحضور هذه المقدمات مع

١١٥

هذا التفطّن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعّال عند الفلاسفة ، وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المخالف للتولد الذي ذكره المعتزلة ، وعلى سبيل حصوله بقدرة اللّه تعالى عقيب حصول المقدمتين في الذهن ، والتفطّن لوجه تضمنه له بطريق إجراء اللّه العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا ، ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق بها قدرة العبد ، وإنما قدرته على استحضار المقدمتين ومطالعة وجه تضمن المقدمة للنتيجة على معنى وجودها فيها بالقوة فقط. فأما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق به القدرة ، وعند بعضهم تتعلق به القدرة الحادثة فيكون العلم النظري كسب العبد ، وإيضاح الرأي الحق من جملة ذلك لا يليق بما هو النظر الفاسد ما هو ، وترى الكتب مشحونة بتطويلات في معنى هذه الألفاظ من غير شفاء. وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط لا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح ، وإن خالف المعتاد.

مغالطة من منكري النظر : وهو أن يقول ما تطلبه بالنظر هو معلوم لك أم لا ، فإن علمته فكيف تطلبه وأنت واحد وإن جهلته فإذا وجدته ، فبم تعرف أنه مطلوبك ، وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه ، وحلّها أن تقول أخطأت في نظم دليلك ، فإن تقسيمك ليس بحاصر ، إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل هاهنا قسم ثالث وهو إني أعرفه من وجه وأجهله من وجه ، وأعني الآن بالمعرفة غير العلم. فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل ، ولو كنت أعلمه بالفعل لما طلبته ولو لم أعلمه بالقوة لما طمعت في أن أعلمه ، إذ ما ليس في قوة عليه يستحيل حصوله كالعلم باجتماع الضدين ، ولو لا أني أدركه بالمعرفة والتصور لأجزائه المفردة لما كنت أعلم بالظفر بمطلوبي إذا وجدته ، وهو كالعبد الآبق فإني

١١٦

أعرف ذاته بالتصور ، وإنما أنا طالب مكانه وأنه في البيت الفلاني أم لا ، وكونه في البيت أعلمه بالمعرفة والتصور أي لفهم البيت مفردا وأفهم الكون مفردا وأعلمه بالقوة ، أي في قوة أن أصدّق بكونه في البيت ولكن لست مصدّقا بالفعل ، وإنما أطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر ، وإذا رأيته في البيت بالمشي إليه صدّقت بكونه في البيت بالفعل ، فلولا معرفتي البيت والكون والعبد بطريق التصور للمفردات لما عرفت وجه المطلوب عند رؤية العبد ، ولو لا أنه في قوة التصديق لما صار بالفعل ، فكذلك أطلب أن العالم حادث فأفهم العالم مفردا بالمعرفة والتصور وأعلم الحادث بالمعرفة وفي قوة التصديق بأن العالم حادث فإذا صار بالفعل علمت أنه مطلوبي ولو كان بالفعل لما طلبته.

مغالطة أخرى : قال بعض منكري العلم ، أتعلم كل اثنين زوج فقيل نعم ، فقال فما في يدي زوج أم لا ، فإن قلت نعم فبم أعرفه والكف مجموع ، وإن قلت لا فقد ناقضت قولك ، إذ قلت عرفت أن كل اثنين زوج وما في يدي اثنان فكيف لم تعلم أنه زوج ، فأجيب عن هذا بأنا عنينا بما ذكرنا أن كل اثنين عرفنا أنهما اثنان فهما زوج ، وما في يدك لم أعرف أنه اثنان ، ولو عرفت أنه اثنان لقلت أنه زوج. وهذا الجواب مع وضوحه خطأ فإنا إذا قلنا كل اثنين زوج إن أردنا به أن كل الاثنين زوج سواء عرفنا أن ما في يده اثنان أو لم نعرف كان خطأ بل كل ما هو اثنان في نفسه وفي علم اللّه تعالى فهو بالضرورة زوج ، لكن الجواب الحق أن ما بيدك زوج إن كان اثنين ، وقولي لا أعرف أنه اثنان لا يناقض قولي كل اثنين زوج بل نقيض قولي كل اثنين زوج قولي كل اثنين فليس بزوج أو بعض ما هو اثنان ليس بزوج.

هاتان المغالطتان وإن كانتا من الجليات فإنما أوردتهما ليقع الأنس بتحرير الكلام في حل الإشكالات ، فإن الأغاليط في النظريات كلها ثارت من إهمال الجليات والتسامح فيها ، ولو أخذت الجليات وحررت ثم تطرق

١١٧

منها إلى ما بعدها تدريجا حتى لا يخفى قليلا قليلا فيتّضح الشيء بما قبله على القرب لطاحت المغالطات ، ولكن عادة النظّار الهجوم على غمرة الأشكال وطلب الأمر الخفي البعيد عن الأوائل الجليّة بعد أن تخلّلت بينه وبين الأوائل درجات كثيرة فلا تمتد شهادة الجلي ولا يقوى الذهن على الترقّي في المراقي الكثيرة دفعة فتزلّ الأقدام وتعتاص المطالب وتنحطّ العقول ، ولذلك ضلّ أكثر النظّار وأضلوا إلا عصابة الحق الذين هداهم اللّه تعالى بنوره وأرشدهم إلى طريقه.

١١٨

الفصل الرابع

في انقسام القياس إلى قياس دلالة وقياس علة

أما قياس الدلالة فهو أن يكون الأمر المكرّر في المقدمتين معلولا ومسبّبا ، فإن العلة والمعلول يتلازمان وإن شئت قلت السبب والمسبب وإن شئت قلت الموجب والموجب. فإن استدللت بالعلة على المعلول فقياسك قياس علة وإن استدللت بالمعلول على العلة فهو قياس دلالة ، وكذلك إن استدللت بأحد المعلولين على الآخر مثال قياس العلة من المحسوس بأن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد بأكله ، فتقول كل من أكل كثيرا فهو بالحال شبعان وزيد قد أكل كثيرا فهو إذا شبعان. ونعني بالعلة هاهنا السبب الاعتباري ، إذ الغرض التمثيل ، ولا تطلب الحقائق من الأمثلة المسوقة لتفهيمات مقاصد بعيدة عن الأمثلة ، وإن استدللت بالشبع على الأكل كان قياسك قياس دلالة فإنك إذا عرفت أن زيدا شبعان حكمت عليه بأنه أكل ، فكان نظم قياسك أن كل شبعان فقد أكل من قبل وزيد شبعان فإذا قد أكل ، وكذا ترى امرأة ذات لبن فتقول كل امرأة ذات لبن فهي قد ولدت وهذه ذات لبن فهي إذا ولدت. ومثاله من الكلام أن تقول كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم محكم ففاعله عالم والأحكام مسبب العلم لا سببه فهو دلالة ، ولذلك يجوز أن يتأخر الدليل عن المدلول حتى يستدلون بالتيمّم على حكم الوضوء ، ولا تتأخر العلة عن المعلول. ومثال قياس العلة في الفقه الاستدلال بالسكر على التحريم كما مضى ، ومثال الاستدلال بإحدى

١١٩

النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا في الزنا إنه لا يوجب حرمة المصاهرة لأنه وطئ لا يوجب المحرمية وما لا يوجب المحرمية لا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فإذا لا يوجب الحرمة ، والمشترك في المقدمتين المقرون بقولنا لأن المحرمية وهي ليست علة الحرمة ولا الحرمة علة لها ، بل هما نتيجتا علة واحدة. وحصول إحدى النتيجتين يدل على الأخرى بواسطة العلة ، فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضا تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة. فإن ظهر أن المحرمية علة الحرمة لم يكن هذا صالحا لأن يكون مثالا لغرضنا. وأما مثاله في العادات فجميع الأدلة في علم الفراسة ، فإنه يستدل بالخلقة والمزاج على الخلق لا لأن أحدهما علة الآخر ولكن كلاهما بحكم جريان العادة نتيجة علة واحدة ، حتى يقال في علم الفراسة الإنسان إذا انضم عظم أعالي يديه وصدره ووجهه إلى عظم عرضه واتساعه كان شجاعا قياسا على الأسد ، والشجاعة واتساع الصدر ليس أحدهما علة للآخر ولكن عرف باستقراء الحيوانات تلازمهما فعلم أن علتهما واحدة وأن أحدهما يدل على الآخر عند شروط أخر مضمومة إليه كما يستقصى في ذلك العلم. وقد كان الشافعي رضي اللّه عنه ماهرا فيه وصادق الحدس في التفرس ، وهذا العلم يتداعى إلى عجائب عظيمة حتى أن الناظر في كتف الشاة يستدل بما فيها من الخطوط الحمر على جريان سفك الدماء في السنة وما فيها من النقط على كثرة الأمطار والنبات ويصيب فيها ويعلم قطعا أن حمرة خطوط كتف الشاة لا تكون علة تقاتل السلاطين ولا النقط فيها علة كثرة النبات والأمطار ولا معلولا لها ، ولكن لا يبعد من عجائب صنع اللّه تعالى أن يكون في الأسباب السماوية سبب واحد يتفق في تلك السنة فيكون علة بحكم إجراء العادة لحياة في أعضاء الحيوانات وتشكلاتها وفي أسباب كثرة الغيوم وفي أسباب تواحش القلوب التي هي أسباب التقاتل التي هي أسباب سفك الدماء ، وإنما يستنكر هذه العلوم الجهّال الذين لا خبرة لهم بعجائب صنع اللّه تعالى واتساع قدرته.

١٢٠