مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التوجيه الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

الزمن التي نحسها ، كيف وقع هذا كله؟ هل كان ماركس سيء الظن الى هذه الدرجة بهؤلاء الرأسماليين ، بهؤلاء المجرمين ، والمستغلين بحيث تنبأ بهذه النبوءات ثم ضاعت هذه النبوءات كلها فلم يتحقق شيء منها؟ هل كان هذا سوء ظن من ماركس لهؤلاء المستغلين؟ هل ان هؤلاء الرأسماليين المستغلين دخل في نفوسهم الرعب من ماركس ومن الماركسية ومن الثورات التحررية في العالم؟ هل دخل في أنفسهم الرعب فحاولوا أن يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم خوفا من أن يثور العامل عليهم؟ هل هذا صحيح ، هل ان المليونير الامريكي يخالج ذهنه فعلا أي شبح من خوف من هذه الناحية ، اشد الناس تفاؤلا بمصائر الثورة في العالم لا يمكنه ان يفكر في ان ثورة حقيقية على الظلم في امريكا يمكن ان تحدث قبل مئة سنة من هذا التاريخ. فكيف يمكن ان نفترض ان المليونير الامريكي أصبح أمامه شبح الخوف والرعب على اساس هذا الشبح تنازل عن جزء من مكاسبه. هل انه دخلت الى قلوبهم التقوى فجأة؟ استنارت قلوبهم بنور الاسلام الذي أنار قلوب المسلمين الاوائل الذين كانوا لا يعرفون حدا للمشاركة والمواساة والذين كانوا يشاطرون اخوانهم غنائمهم وسرائهم وضرائهم ، هل تحول هؤلاء بين عشية وضحاها الى مسلمين ، الى

١٨١

قلوب مسلمة؟ لا .. لم يتحقق شيء من ذلك ، لا كارل ماركس كان سيء الظن بهؤلاء ، كان ظنه منطبقا على هؤلاء انطباقا تاما. ولا أن هؤلاء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من أجل اسكاته ولا ان قلوبهم خفقت بالتقوى لم تعرف التقوى ولن تعرف التقوى لانها انغمست في لذات المال وفي الشهوات ، لم يتحقق شيء من ذلك ، اذن ماذا وقع وكيف نفسر هذا الذي وقع ، هذا الذي وقع في الحقيقة كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي منذ البداية ولكن ماركس والثوار الذين ساروا على هذا الطريق ، لم يستطيعوا أن يكتشفوا ذلك التناقض ولهذا حصروا أنفسهم في التناقض الطبقي في التناقض بين المليونير الامريكي والعامل الامريكي ، بين الغني الانجليزي ولم يدخلوا في الحساب التناقض الاخر الاكبر الذي أفرزه جدل الانسان الاوروبي ، افرزه تناقض الانسان الاوروبي فغطى على هذا التناقض الطبقي ، بل جنده ، بل أوقفه الى فترة طويلة من الزمن ، ما هو ذلك التناقض؟ نحن بنظرتنا المنفتحة يمكننا أن نبصر ذلك التناقض ، أن نضع أصبعنا على ذلك التناقض لاننا لم نحصر انفسنا في اطار التناقض الطبقي ، بل قلنا أن جدل الانسان دائما يفرز أي شكل من أشكال التناقض الاجتماعي ،

١٨٢

ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغل الاوروبي والامريكي وجد فيه أن من طبيعة هذا التناقض ان يتحالف مع العامل ، مع من يستغله لكي يشكل هو والعامل قطبا في هذا التناقض! لم يعد التناقض تناقضا بين الغني الاوروبي والعامل الاوروبي بل ان هذين الوجودين الطبقيين تحالفا معا وكونا قطبا في تناقض اكبر بدأ تاريخيا منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدث عنه ماركس ، لكن ما هو القطب الاخر في هذا التناقض. القطب الاخر في هذا التناقض هو أنا وأنت وأنت هم الشعوب الفقيرة في العالم هو شعوب ما يسمى بـ « العالم الثالث » ، هم شعوب آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية ، هذه الشعوب هي التي تمثل القطب الثاني في هذا التناقض ، ان الانسان الاوروبي بكلا وجوديه الطبقيين تحالف وتمحور من أجل أن يمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقيرة ، وقد انعكس هذا التناقض الاكبر ، انعكس أجتماعيا من خلال صيغ الاستعمار المختلفة التي زخرت بها الساحة التاريخية منذ خرج الانسان الاوروبي والامريكي من دياره ليفتش عن كنوز الارض في مختلف أرجاء العالم ولينهب الاموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقيرة ، هذا التناقض غطى على التناقض الطبقي ، بل جعد

١٨٣

التناقض الطبقي لان جدل الانسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من جدل الانسان من وراء ذلك التناقض. والثراء الهائل الذي تكدس في أيدي الطبقة الرأسمالية في الدول الرأسمالية لم يكن كله ، بل ولا معظمه نتاج عرق جبين العامل الاوروبي والامريكي ، وانما كان نتاج غنائم حرب ، كان نتائج غنائم غارات ، غارات على هذه البلاد الفقيرة على بلاد أخرى استطاع الانسان الابيض ان يغزوها وان ينهبها ، هذا النعيم الذي تغرق فيه تلك الدول ليس من عرق جبين العامل الاوروبي ، ليس من نتاج التناقض الطبقي بين الرأسمالي والعامل وانما هذا النعيم هو من نفط آسيا وامريكا اللاتينية ، هو من ألماس تنزانيا ، هو من الحديد والرصاص والنحاس واليوارنيوم في مختلف بلاد أفريقيا ، هو من قطن مصر ، هو من تنباك لبنان ، هو من خمر الجزائر! نم من خمر الجزائر لان الكافر المستعمر الذي استعمر الجزائر حول أرضها كلها الى بستان عنب لكي يقطف هذا العنب ويحوله الى خمر ليسكر به العمال ، وليشعر اولئك العمال بالنشوة والخيلاء ، لانهم يشربون خمر الجزائر ، يقطفون عنب الجزائر فيحولونه الى خمر! نعم ذلك النعيم ، لكن من

١٨٤

هذه المصادر ، من هذه الينابيع! سكروا على خمر الجزائر ولم يسكروا على عرق جبين العامل الفرنسي أو الاوروبي أو الامريكي. اذن التناقض الذي جمد ذلك التناقض والذي وقف ذلك التناقض هو هذا التناقض الاكبر التناقض بين المحور الراسمالي ككل بكلتا طبقتيه وما بين الشعوب الفقيرة في العالم. من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالي الاوروبي والامريكي أن من مصلحته أن يقاسم العامل شيئا من هذه الغنائم التي نهبها مني ومنك التي نهبها من فقراء الارض والمستضعفين في الارض وان من مصلحته أن يعطي نعمة منها ، ان يسكر هو ويسكر العمال ايضا بخمر الجزائر ، ان يتزين بماس تنزانيا ويتزين العامل أو زوجته بماسة من ماسات تنزانيا ولهذا نرى أن العامل بدأت حياته تختلف عن نبوءات ماركس. ليس ذلك لاجل كرم طبيعي في الراسمالي الاوروبي والامريكي وليس لتقوى ، وانما هي غنيمة كبيرة كان من المفروض أن يعطي جزءا منها لهذا العامل والجزء وحده يكفي لاجل تحقيق هذا الرفاه بالنسبة الى هذا العامل الاوروبي والامريكي. اذن الحقيقة التي يثبتها التاريخ دائما هو ان التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحده ، التناقض له صيغ متعددة

١٨٥

وذلك لان كل هذه الصيغ تنبع من منبع واحد وهو التناقض الرئيسي ، الجدل الانساني والجدل الانساني لا تعوزه صيغة. اذا حلت صيغة وضع صيغة أخرى مكانها ليس من الصحيح ان نطوق كل التناقضات في التنااقض الطبقي ، في التناقض بين من يملك ومن لا يملك ، فاذا حللنا هذا التناقض قلنا بأن التناقضات كلها قد حلت ، التناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة. التناقض هو استغلال القوي للضعيف.

١٨٦

الدرس الثالث عشر :

قلنا أن خط علاقات الانسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانونا عن خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، وذكرنا ان هذين الخطين كل واحد منهما مستقل استقلالا نسبيا عن الخط الاخر لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادل الى حد ما بين هذين الخطين ، فلكل منهما لون من التاثير الطردي أو العكسي على الخط الاخر وهذا التأثير المتبادل بين الخطين يمكن ابرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين ، العلاقة الاولى تبرز مدى تأثير خط علاقات الانسان مع الطبيعة على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان والعلاقة القرآنية الثانية تبرز من الجانب الاخر مدى تأثير علاقات الانسان مع أخيه الانسان على علاقات الانسان مع الطبيعة ، أما العلاقة الاولى التي تبرز تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة على

١٨٧

الخط الاخر فمؤدى هذه العلاقة هو أنه كما نمت قدرة الانسان على الطبيعة واتسعت سيطرته عليها وازداد اغتناءا بكنوزها ووسائل انتاجها ، تحققت بذلك امكانية اكبر فاكبر للاستغلال على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان « كلا ان الانسان ليطغى ، ان رآه استغنى » (١) هذه الآية الكريمة تشير الى هذه العلاقة الى ان الانسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل الى وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، انعكاساته على شكل امكانيات واغراءات وفتح الشهية للاقوياء لكي يستثمروا أداة الانتاج في سبيل استغلال الضعفاء ، تصوروا مجتمعا يعيش على الصيد باليد والحجارة والهراوة ، مثل هذا المجتمع لا يتمكن من أن يمارس بذور الاقوياء ، بذور الوحوش فيه لا يتمكنون على الاغلب من أن يمارسوا أدوارا خطيرة من الاستغلال الاجتماعي لان مستوى الانتاج محدود والقدرة محدودة وكل انسان لا يكسب عادة بعرق جبينه الا قوت يومه فلا توجد امكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع وان كان توجد ألوان اخرى من الاستغلال الفردي ولكن لاحظوا من الجانب الاخر

__________________

(١) سورة الفلق : الآية ( ٦ ـ ٧ ).

١٨٨

مجتمعا متطورا استطاع الانسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لارادته في مثل هذا المجتمع سوف تكون الالة البخارية والآلة الكهربائية المعقدة المتطورة الصنع تكون أداة ، امكانية على ساحة علاقات الانسان مع اخيه الانسان تشكل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ويبقى ان يخرج ما بالقوة الى ما بالفعل وذلك على عهدة الانسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية ، فالانسان هو الذي يصنع الاستغلال ، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية ، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تعطيه امكانية هذا الاستغلال ، هي التي تهيىء له فرصة تفتح شهيته ، توقظ مشاعره ، تحرك جدله الداخلي وتناقضه الداخلي من اجل أن يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد على الساحة من قوى الانتاج ووسائل التوريد ، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية ، المادية التاريخية اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال ، هي التي تصنع النظام المتناسب لها ولكننا نحن لا نرى ان دور الآلة هو دور الصانع ، وانما دور الآلة هو دور الامكانية ، دور توفير الفرصة والقابلية وأما الصانع الذي يتصرف ايجابا وسلبا ،

١٨٩

أمانة وخيانة ، صمودا وانهيارا ، انما هو الانسان وفقا لمحتواه الداخلي. لمثله الاعلى لمدى التحامة مع هذا المثل الاعلى. هذه هي العلاقة الاولى وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة ، فمؤدى هذه العلاقة القرآنية هو أنه كلما جسدت علاقات الانسان مع اخيه الانسان العدالة وكلما استطاعت ان تستوعب قيم هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الانسان لاخيه الانسان ، كلما وقع ذلك ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء وتفجرت الارض بالنعمة والرخاء ، هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة قال سبحانه وتعالى « وألوا استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا » (١) « ولو انهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم » (٢) ، « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا

__________________

(١) سورة الجن : الآية (١٦).

(٢) سورة المائدة : الآية (٦٦).

١٩٠

يكسبون » (١) ، هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الانسان مع الطبيعة تتناسب عكسيا مع ازدهار العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان اكثر فأكثر ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة ، وكلما أنحسرت العدالة عن الخط الاول انحسر الازدهار عن الخط الثاني ، أي ان مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الانسان مع الطبيعة ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي الى انحسار تلك العلاقات ، علاقات الانسان مع الطبيعة ، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط ، نعم نحن نؤمن أيضا بمحتواها الغيبي ولكن اضافة الى محتواها الغيبي الرباني هي تشكل سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم وذلك لان مجتمع الظلم ، مجتمع الفراعنة على مر التاريخ مجتمع ممزق ، مشتت ، الفرعونية على مر التاريخ حينما تتحكم في علاقات الانسان مع اخيه الانسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع ، وتشتيت فئاته ، وبعثرة امكانياته ، ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لافراد المجتمع ان يحشدوا قواهم الحقيقية والسيطرة على الطبيعة وهذا هو الفرق بين

__________________

(١) سورة الاعراف : الآية (٩٦).

١٩١

المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الاعلى الحق مثل التوحيد سبحانه وتعالى ، فان المثل الاعلى يوحد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الاعلى باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق ، يهضم كل الاختلافات ، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة ، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض ، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية. المثل الاعلى بشموليته يوحد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزيء البشرية وتشتت البشرية انظروا الى المثل الاعلى كيف يقول « وان هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فأعبدون » (١) ، « ان هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون » (٢) ، هذا هو منطق شمولية المثل الاعلى التي لا تعترف بحد وبحاجز في داخل هذه الاسرة البشرية انظروا ، استمعوا الى المثل المنخفض ، الى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم كيف يقولون ، أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم « ان فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا » (٣) ، فرعون المثل الاعلى المنخفض ،

__________________

(١) سورة الانبياء : الآية (٩٢).

(٢) سورة المؤمنون : الآية (٥٢).

(٣) سورة القصص : الآية (٤).

١٩٢

الفرعونية على مر التاريخ التي تبني العلاقات بين الانسان وأخيه الانسان علىاساس الظلم والاستغلال ، الفرعونية تجزيء المجتمع ، تبعثر امكانيات المجتمع ، وطاقات المجتمع ومن هنا تهدر ما في الانسان من قدرة على الابداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة ، وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم المجتمع الى فصائل وجماعات الجماعة الاولى ظالمون مستضعفون ، هذه الجماعة الاولى في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضعفون في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمتنا عليهم الصلاة والسلام « اعوان الظلمة » هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكلون حماية لفرعون وللفرعونية وسندا في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها. قال الله سبحانه وتعالى « اذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الى بعض القول ، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا انتم لكنا مؤمنين » (١). هنا القرآن يتحدث عن الظالمين يقول « اذ الظالمون موقوفون » لكن الظالمين صنفهم الى قسمين : الى من استضعفت منهم ومن استكبر منهم. اذن فالظالمون فيهم مستكبرون وهم الذين يمثلون الفرعونية في المجتمع وفيهم

__________________

(١) سورة سبأ : الآية (٣١).

١٩٣

مستضعفون ، فالطائفة الاولى اذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين لولا انتم لكنا مؤمنين ، هذه هي الطائفة الاولى التي تشكل الحماية والسند للفرعونية. الطائفة الثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم ظالمون يشكلون حاشية ومتملقين ، اولئك الذين قد لا يمارسون ظلما بأيديهم بالفعل ولكنهم دائما وابدا على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون يسبقونه بالقول من أجل ان يصححوا مسلكه ومسيرته. قال الله سبحانه وتعالى « وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك ، قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وانا فوقهم قاهرون » (١) ، شكلوا دور الاثارة لفرعون ، هؤلاء كانوا يعرفون انهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون ، وان فرعون كان بحاجة الى كلام من هذا القبيل ، فتسابقوا الى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبر عما في نفسه ويتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته. الطائفة الثالثة في عملية

__________________

(١) سورة الاعراف : الآية (١٢٧).

١٩٤

التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم أولئك الذين عبر عنهم الامام علي عليه الصلاة والسلام « بالهمج الرعاع » جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم ، لا تحس بالظلم لا تدرك انها مظلومة ولا تدرك ان في المجتمع ظلما ، هي آلات تتحرك تحركا آليا ، تحركا يشبه التحرك الميكانيكي للآلة ، تحرك التبعية والطاعة دون تدبير ، دون وعي ، سلب فرعون منها تدبرها ، عقلها ، وعيها ، ربط يدها به لا عقلها به ، ولهذا فهي تحرك يدها تحريكا آليا وتستسلم للاوامر ، للاوامر الفرعونية دون أن تناقشها حتى دون ان تتدبرها ، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين ، هذه الفئة طبعا تفقد كل قدرة على الابداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة ، تفقد كل قابليات النمو لانها تحولت الى آلات ، اذا وجد أن هناك ابداع في هذه الفئة انما هو ابداع من يحرك هذه الآلات ، ابداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات ، وأما هذه الفئة فلم تعد أناسا وبشرا يفكرون ويتدبرون لكي يستطيعوا أن يحققوا لونا من الابداع على هذه الساحة. قال الله سبحانه وتعالى « وقالوا ربنا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا » (١) لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم

__________________

(١) سورة الاحزاب : الآية (٦٧).

١٩٥

كانوا يحسون بالظلم أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون ، وانما هو مجرد طاعة ، مجرد تبعية ، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال « الناس ثلاثة : عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق » وهذا القسم الثالث يشكل مشكلة بالنسبة الى أي مجتمع صالح وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله الى القسم الثاني ، بتحويله الى متعلم على سبيل النجاة على حد تعبير الامام ، الى تابع باحسان على حد تعبير القرآن ، الى مقلد بوعي وتبصر على حد تعبير الفقه ، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث الى القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أن يستمر وأن يمتد ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الامام عليه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث ، هؤلاء همج ، رعاع ينعقون مع كل ناعق ليس لهم عقل مستقل ، وارادة مستقلة. كان الامام (ع) يرى ان هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح ، ذلك لا بالقضاء عليه فرديا ، بل بتحويله الى القسم الثاني ضمن أحد الصيغ الثلاثة التي ذكرناها ، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل ابداعه ، ولكي يستطيع كل أفراد

١٩٦

المجتمع الصالح ، ان يشكلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الابداع. وخلافا لذلك الفرعونية ، الفرعونية تحاول ان توسع من هذا القسم الثالث ، هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق تحاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توسعت هذه الفئة اكثر فأكثر قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة لان هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه ان تدافع عن المجتمع اذا حلت كارثة في الداخل أو طرأت كارثة من الخارج ، فكلما توسعت هذه الفئة ، هذا القسم الثالث ، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق ، كلما توسعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع وبهذا تموت المجتمعات موتا طبيعيا. مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللاقوام وللامم الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم. المجتمع له موتان : موت طبيعي وموت مخروم. الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعيا وعدديا في المجتمع الى ان تحل الكارثة فينهار المجتمع. هذه الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية أما الطائفة الرابعة : هم اولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم ، اولئك الذين لم يفقدوا لبهم أمام فرعون والفرعونية فهم يستكنرون الظلم لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر

١٩٧

والقلق في أنفسهم وهذه الحالة ، حالة التوتر والقلق أبعد ما تكون عن حالة تسمح للانسان بالابداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة. هؤلاء يسميهم القرآن الكريم « ظالمي انفسهم » ، قال الله سبحانه وتعالى « الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها » (١) هؤلاء لم يظلموا الاخرين ، ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الاولى ، وليسوا من الحاشية المتملقين ، وليسوا أيضا من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبهم بل بالعكس هم يشعرون بأنهم مستضعفون. « قالوا كنا مستضعفين في الارض » هؤلاء لم يفقدوا لبهم ، يدركون واقعهم ولكنهم كانوا عمليا مهادنين ولهذا عبر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم هذه الطائفة هل يترقب منها أن تساعد بابداع حقيقي في مجال علاقات الانسان مع الطبيعة؟ طبعا كلا الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي : الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة ، تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وتترهب. وهذه الرهبانية موجودة في كل مجتمعات الظلم على مر التاريخ وهي تتخذ

__________________

(١) سورة النساء : الآية (٩٧).

١٩٨

صيغتين الاولى صيغة جادة ، رهبانية جادة تريد ان تفر بنفسها لكي لا تتلوث بأوحال المجتمع ، هذه الرهبانية الجادة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله « ورهبانية ابتدعوها » (١) هذه الرهبانية يشجبها الاسلام لانها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الانسان على الارض. وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية ، يترهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهبا في اعماق نفسه ، وانما يريد بذلك ان يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسيا وروحيا. وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله « ان كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله » (٢) الجماعة السادسة والاخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم : المستضعفون. الفرعونية حينما جزأت المجتمع الى طوائف ، فرعون حينما اتخذ من قومه شيعا استضعف طائفة معينة منهم خصها بالاستضعاف والاذلال وهدر الكرامة لانها كانت هي الطائفة التي يتوسم ان تشكل اطارا للتحرك ضده ولهذا استضعفها بالذات. « واذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون ابناءكم ويستحييون

__________________

(١) سورة الحديد : الآية (٢٧).

(٢) سورة التوبة : الآية (٣٤).

١٩٩

نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم » (١) هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن الكريم ضمن سنة من سنن التاريخ ايضا ان موقع اي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكسا مع موقعه بعد انحسار الظلم ، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى « ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض فنجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين » (٢). تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد الله سبحانه وتعالى ان يجعلهم ائمة ويجعلنم الوارثين وهذه علاقة اخرى وسنة تاريخية اخرى يأتي الحديث عنها انشاء الله تعالى ، اذن فالى هنا استخلصنا هذه الحقيقة وهي : ان المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسبا عكسيا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة ، ويتناسب مدى العدل فيه تناسبا طرديا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة. مجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والامكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها ، وتمنع الارض بركاتها. واما مجتمع العدل فهو على العكس تماما هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والامكانيات هذا المجتمع الذي تحدثنا الروايات عنه ،

__________________

(١) سورة البقرة : الآية (٤٩).

(٢) سورة القصص : الآية (٥).

٢٠٠