مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التوجيه الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

الانسان من اعلى الى أسفل وانما نقطع صلة الانسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده الى المثل الاعلى لكي نشده الى الله سبحانه وتعالى وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الاعلى الحق الذي يحدث هذه التغيرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها ، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور :

١ ـ على رؤية واضحة فكريا وايديولوجيا لهذا المثل الاعلى وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الاعلى هو الذي تقدمه عقيدة التوحيد على مر التاريخ ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الايمان بالله سبحانه وتعالى ، التي توحد بين كل المثل ، بين كل الغايات وكل الطموحات وكل التطلعات البشرية وتوحد بينها في هذا المثل الاعلى الذي هو علم كله وقدرة كله وعدل كله وروحمة ، كله انتقام من الجبارين. هذا المثل الاعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات ، هذا المثل الاعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له ، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات الله واخلاق الله بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الاغريق وانما نتعامل مع هذه الصفات والاخلاق بوصفها رائدا عمليا ، بوصفها هدفا لمسيرتنا العملية ، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للانسان نحو الله

١٦١

سبحانه وتعالى. عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الاول وهو الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا للمثل اعلى.

٢ ـ لابدّ من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الاعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيدا ووقودا مستمرا للارادة البشرية على مر التاريخ ، هذه الطاقة الروحية ، هذا الوقود الذي يستمد من الله سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة ، في عقيدة الحشر والامتداد ، عقيدة يوم القيامة تعلم الانسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الانسان مرتبطة ارتباطا وثيقا بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر. وان مصير الانسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية. هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية وذلك الوقود الرباني الذي ينعش ارادة الانسان ويحقق له دائما قدرته على التمديد والاستمرار.

٣ ـ ان هذا المثل الاعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الاخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقا على اساس ان هذا المثل منفصل عن الانسان ، ليس جزءا من الانسان ، ليس من افراز الانسان ، بل هو منفصل عنه ، هو واقع عيني قائم هناك ، قائم في كل

١٦٢

مكان وليس جزءا من الانسان ، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الانسان وهذا المثل الاعلى. بينما المثل الاخرى السابقة كانت انسانية ، كانت افرازا بشريا لاحاجة الى افتراض صلة موضوعية ، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من انفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس ، آلهة الكواكب ولكنها صلة موضوعية مزيفة لان هذا الاله هناك كان وهما ، كان وجودا ذهنيا ، كان افرازا انسانيا ، اما هنا المثل الاعلى منفصل عن الانسان ولهذا كان لابدّ من صلة موضوعية تربط هذا الانسان بذلك المثل الاعلى. وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة ، فالنبي هو ذلك الانسان الذي يركب بين الشرط الاول والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى ، بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الاعلى وطاقة روحية مستمدة من الايمان بيوم القيامة ، يركب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة. الصلة بين المثل الاعلى والبشرية هذا المركب الى البشرية بشيرا ونذيرا.

٤ ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء الله شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجيء البشير النذير

١٦٣

لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة او التكرارية ، تعني وجود تلك الالهة المزورة على الطريق ، وجود تلك الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى ، اذن لابدّ للبشرية من ان تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيما على البشرية وحاجب وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية ، لابدّ من معركة ضد هذه الآلهة ، لابدّ من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الامامة ، هي دور الامام ، الامام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة. ودور الامامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من مراحل النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها انشاء الله تعالى ونقول بانها بدأت في أكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام. ودور الامام يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي اذا ترك النبي الساحة وبعد لاتزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة الى مواصلة هذه المعركة من اجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الامامة بعد انتهاء النبي. هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة التاريخية لهذا المثل الاعلى ، على هذا الضوء سوف نكون رؤية واضحة لما نسميه الاصول الخمسة ، سوف تقع اصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي الصحيح

١٦٤

السليم من مسار الانسان ، اصول الدين الخمسة. التوحيد : هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا ، هو الذي يجمع ويعبئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل اعلى واحد وهو الله سبحانه وتعالى.

العدل : هو جانب من التوحيد ولكن انما فصل العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى حال العدل ، حال العليم ، حال القدرة ، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم ، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية ، ميزة القدوة. لأن العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغنيها والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة اليها اكثر من أي صفة أخرى ، ابرز العدل هنا كأصل ثاني من اصول الدين باعتبار المدلول التوجهي ، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة ، قلنا بان صفات الله واخلاق الله علمنا الاسلام بان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزقية فوقنا لا صلة لنا بها وإنما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق اذن من هنا كان العدل له مدلوله الاكبر بالنسبة الى توجيه المسيرة البشرية ولاجل ذلك أفرز. وان العدل في الحقيقة هو داخل في اطار التوحيد العام ، في اطار المثل الاعلى.

١٦٥

الاصل الثالث النبوة : النبوة هي التي توفر الصلة الموضوعية بين الانسان وبين المثل الاعلى. المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنت المثل الاعلى الحق المنفصل عنها الذي ليس من افرازها ومن انتاجها المنخفض كانت بحاجة الى صلة موضوعية. هذه الصلة الموضوعية يجسدها النبي (ص) ، النبي على مر التاريخ ، الانبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين يجسدون هذه الصلة الموضوعية.

الامامة : الامامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة ، النبي هو امام ايضا ، النبي نبي والنبي امام ولكن الامامة لا تنتهي بانتهاء النبي اذا كانت المعركة قائمة واذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة الى قائد يواصل المعركة. اذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبي خلال الامامة. فالامامة هو الاصل الرابع من اصول الدين.

والاصل الخامس هو ايمان بيوم القيامة : هو الذي يوفر الشرط الثاني من الشروط الاربعة التي تقدمت ، هو الذين يعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائما ارادة الانسان وقدرة الانسان ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية. اذن اصول الدين في الحقيقة

١٦٦

وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الاعلى وفي اعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصفتها التاريخية ، بصفتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها في الدروس الماضية ، تحدثنا بان القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات اربعة ابعاد لا ذات ثلاثة ابعاد ، طرحها بصيغة الاستخلاف وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف وقلنا بان الاستخلاف يفترض اربعة ابعاد ، يفترض انسانا وطبيعة والله سبحانه وتعالى وهو المستخلف. هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الاخر عن صيغة تدمج اصول الدين الخمسة في مركب واحد من اجل ان يسير الانسان ويكدح نحو الله سبحانه وتعالى في طريقه الطويل ، بما ذكرناه نوضح دور الانسان في المسرة التاريخية ، نوضح ان الانسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية. هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وانما بمحتواه الداخلي وهذا المحتوى الداخلي توضح ايضا من خلال ما شرحناه. ان الاساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الاعلى الذي يتبناه الانسان ، لان المثل الاعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية.

١٦٧

والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية. اذن المثل الاعلى وتبني المثل الاعلى هو في الحقيقة الاساس في بناء المحتوى الداخلي للانسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع.

١٦٨

الدرس الثاني عشر :

مقدمة في تحليل عناصر المجتمع ، ان المجتمع يتكون من ثلاثة عناصر وهي : الانسان والطبيعة والعلاقة في الحلقة التاريخية ، وقد تحدثنا عن الانسان ودوره الاساسي في الحلقة التاريخية وتحدثنا عن الطبيعة وشأنها على الساحة التاريخية وبقي علينا ان نأخذ العنصر الثالث وهو : العلاقة الاجتماعية لنحدد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعية على ضوء ما انتهينا اليه من مواقف قرآنية تجاه دور الانسان والطبيعة على الساحة التاريخية ، العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعية وقد تقدم ان العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين مزدوجتين احداهما علاقة الانسان مع الطبيعة والاخرى علاقة الانسان مع اخيه الانسان ، هذان خطّان من العلاقة الاجتماعية ، وهذان الخطان نؤمن بان كل واحد منهما مختلف عن الاخر ومستقل استقلالا نسبيا عن الاخر مع

١٦٩

شيء من التفاعل والتأثير المتبادل المحدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك ان شاء الله تعالى من حيث الاساس ، هذان الخطان احدهما مختلف عن الاخر ومستقل استقلالا نسبيا عنه تبعا للاختلاف النوعي في طبيعة المشكلة التي يواجهها كل واحد من هذين الخطين ونوع الحل الذي ينسجم مع طبيعة تلك المشكلة. فالخط الاول الذي يمثل علاقات الانسان مع الطبيعة من خلال استثمارها ومحاولة تطويعها وانتاج حاجاته الحياتية منها. هذا الخط يواجه مشكلة وهي مشكلة التناقض بين الانسان والطبيعة ، ويعني تمرد الطبيعة وتعصيها عن الاستجابة للطلب الانساني وللحاجة الانسانية من خلال التفاعل ما بينهما ، هذا التناقض بين الانسان والطبيعة هو المشكلة الرئيسية على هذا الخط وهذا التناقض له حل من قانون موضوعي يمثل سنة من سنن التاريخ الثابتة ، وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، ذلك لان الانسان كلما تضاءل جهله بالطبيعة وكلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانينها ازدادت سيطرة عليها وتمكنا من تطويعها وتذليلها لحاجاته وحيث ان كل خبرة هي تتولد في هذا الحقل عادة من الممارسة ، وكل ممارسة تولد بدورها خبرة ولهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة

١٧٠

والممارسة قانونا موضوعيا يكفل حل هذا التناقض ، يقدم الحل المستمر والمتنامي لهذا التناقض بين الانسان والطبيعة. اذ يتضاءل جهل الانسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسته للطبيعة يكتسب خبرة جديدة ، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة على ميدان جديد من ميادين الطبيعة فيمارس على الميدان الجديد وهذه الممارسة بدورها ايضا تتحول الى خبرة وهكذا تنمو الخبرة الانسانية باستمرار ما لم تقع كارثة كبرى طبيعية او بشرية ، وهذا القانون ينموه وبتطابيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة ، فهي مشكلة محلولة تاريخيا ومحلولة موضوعيا ولعل في الآية الكريمة « وآتاكم من كل ما سألتموه ، ان تعدوا نعمة الله لا تحصوها » (١) لعل في الآية الكريمة اشارة الى هذا الحل الموضوعي المستمد من قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة لان السؤال في الآية الكريمة « وآتاكم من كل ما سألتمون » لا يراد منه الدعاء طبعا السؤال اللفظي الذي هو الدعاء ، لان الآية تتكلم عن الانسانية ككل عمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن بالله ، من يدعو الله ومن لا يدعو الله ، كما ان الدعاء لا يتضمن حتما تحصيل الشيء المدعو به ، نعم كل دعاء له استجابة ،

__________________

(١) سورة ابراهيم الآية (٣٤).

١٧١

لكن ليس لكل دعاء تحقيق لما تعلق به الدعاء ، بينما هنا يقول « وآتاكم من كل ما سألتموه » هنا ايتاء ، استجابة فعلية بعطاء ما سؤل عنه ، فأكبر الظن ان هذا السؤال من الانسانية ككل وعلى مر التاريخ وعبر الماضي والحاضر والمستقبل يتمثل في السؤال الفعلي والطلب التكويني الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، هذه هي المشكلة التي يواجهها الخط الاول من العلاقات ، وهذا هو الحل الذي يوضع لهذه المشكلة. واما الخط الثاني من العلاقات علاقات الانسان مع اخيه الانسان في مجال توزيع الثورة أو في سائر الحقول الاجتماعية أو في أوجه التفاعل الحضاري بين الانسان واخيه الانسان ، فهذا الخط يواجه مشكلة أخرى ، ليست المشكلة هنا هي التناقض بين الانسان والطبيعة بل هي التناقض الاجتماعي بين الانسان واخيه الانسان. وهذا التناقض الاجتماعي بين الانسان واخيه الانسان يتخذ على الساحة الاجتماعية صيغا متعددة والوانا مختلفة ولكنه يظل في حقيقته وجوهره يظل شيئا ثابتا وحقيقة واحدة وروحا عامة وهي التناقض ما بين القوي والضعيف ، بين كائن في مركز القوة وكائن في مركز الضعف ، هذا الكائن

١٧٢

الذي هو في مركز القوة اذا لم يكن قد حل تناقضه الخاص ، جدله الانساني من الداخل فسوف يفرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني وفي شكلها التشريعي وفي لونها الحضاري فهي بلا شك صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف. قد يكون هذا القوي فردا فرعونا ، قد يكون طبقة ، قد يكون شعبا ، قد يكون امة ، كل هذه الوان من التناقض كلها تحتوي روحا واحدا وهي روح الصراع ، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحل تناقضه الداخلي وجدله الانساني ، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال هذا الضعيف. هذه اشكال متعددة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خط العلاقات بين الانسان واخيه الانسان وهذه الاشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد ، من تناقض رئيسي واحد ، وهو ذلك الجدل الانساني الذي شرحناه القائم بين حفنة التراب وبين اشواق الله سبحانه وتعالى ، ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الانساني فسوف يظل هذا الانسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات ، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة ، اذن النظرة الاسلامية من

١٧٣

زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الانسان واخيه الانسان. نظرة واسعة ، منفتحة ، معمقة ، لا تقتصر على لون من التناقض ، ولا تهمل ألوان أخرى من التناقض ، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مر التاريخ وتنفذ الى عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة ، وروحها المشتركة ثم تربط كل هذه التناقضات تربطها بالتناقض الاعمق ، بالجدل الانساني ، ومن هنا يؤمن الاسلام بأن الرسالة الوحيدة القادرة على حل هذه المشكلة التي يواجهها خط علاقات الانسان مع الانسان هو تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد ، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة لكن في نفس الوقت وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى الداخلي للانسان من أجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية ، ويؤمن الاسلام بأن ترك ذلك المعين من الجدل والتناقض على حالة والاشتغال بتصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية بصيغتها التشريعية فقط هذا نصف العملية ، النصف المبتور من العملية اذ سرعان ما يفرز ذلك المعين صيغا أخرى وفق هذه العملية التي سوف نستأصل بها الصيغ السابقة. فلا بد للرسالة التي تريد أن تضع الحل الموضوعي للمشكلة ان تعمل على كلا المستويين ،

١٧٤

أن تؤمن بجاهدين ، جهاد اكبر سماه الاسلام « بالجهاد الاكبر » وهو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الرئيسي ، لحل ذلك الجدل الداخلي. وجهاد آخر ، جهاد في وجه كل صيغ التناقض الاجتماعي وفي وجه كل الوان استئثار القوي للضعيف من دون ان نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معينة من صيغ هذا الاستئثار لان الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت صيغة. هذه هي النظرة المنفتحة الواقعية التي اثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها على واقع الحياة خلافا للنظرة الضيقة التي فسرت بها المادية والثوار الماديون التي فسروا بها التناقض. فان ماركس على الرغم من ذكائه الفائق الا انه لم يستطع ان يتجاوز حدود النظرة التقليدية للانسان الاوروبي ، كان بحكم كونه فردا أوروبيا ، كان رهين هذه النظرة التقليدية. الانسان الاوروبي دائما يرى العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الاوروبية أو الساحة الغربية بتعبير أعم كما يعتقد اليهود بأن الانسانية هي كلها في اطارهم « ليس علينا في الاميين من سبيل » أولئك ليسو بشرا ، ليسو أناسا ، أولئك أميين ، همج ، كذلك الانسان الاوروبي اعتاد أن يضع الدنيا كلها في اطار ساحته الاوروبية والغربية ، لم يتخلص هذا

١٧٥

الرجل (١) من تقاليد هذه النظرة الاوروبية ، كما انه لم يتخلص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دورا في افكار المادية التاريخية ، ومن هنا جاء لنا بتفسير محدود ضيق للتناقض الذي تواجهه الانسانية على هذا الخط اعتقد بأن مرد كل التناقضات على الساحة البشرية الى تناقض واحد هو التناقض الطبقي ، التناقض بين طبقة تملك كل وسائل الانتاج أو معظم وسائل الانتاج وطبقة لا تملك شيئا من وسائل الانتاج وانما تعمل من أجل مصالح الطبقة الاولى تستثمر في تشغيل وسائل الانتاج التي تملكها الطبقة الاولى ثم هذه الثروة المنتجة التي جسدت عرق جبين هذا العامل المستغل هذه الثورة المنتجة يستولي عليها الطبقة الاولى المالكة ولا يعطي للطبقة الثانية منها الا الحد الادنى ، حد الكفاف الذي يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن اطار الطبقة الاولى ، هذا هو التناقض الطبقي الذي اتخذه قاعدة واساسا لكل ألوان التناقض الاخرى ، وهذا التناقض يتخذ مدلوله الاجتماعي من خلال صراع مرير بين الطبقة المالكة وما بين الطبقة العاملة ، وهذا الصراع المرير بين هاتين الطبقتين ينمو ويشتد كلما تطورت الآلة وكلما نمت الآلة الصناعية

__________________

(١) يقصد به كارل ماركس.

١٧٦

وتعقدت وذلك لان الآلة كلما تطورت أدت الى تخفيض في مستوى المعيشة وهذا التخفيض في مستوى المعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأسمالية المالكة في ان تخفض أجر العامل لانها لا تريد ان تعطي العامل أكثر مما يديم به حياته ونفسه. اذن باستمرار تتطور الآلة ، باستمرار تنخفض كلفة المعيشة وبأستمرار يخفض الرأسمالي أجرة العامل هذا من ناحية ، من ناحية ثانية ان تطور الآلة وتعقدها يقتضي امكانية التعويض عن العدد الكبير من العمال بالعدد القليل من العمال لان دقة الآلة وعملقة الآلة سوف يعوض عن الجزء الآخر من العمال وهذا يجعل الطبقة الرأسمالية تطرد الفائض من العمال باستمرار وهكذا يشتد الصراع بين الطبقتين ويحتدم التناقض حتى ينفجر في ثورة ، هذه الثورة تجسدها الطبقة العاملة تقضي بها على التناقض الطبقي في المجتمع وتوحد المجتمع في طبقة واحده وهذه الطبقة الواحدة تمثل حينئذ كل أفراد المجتمع وفي حالة من هذا القبيل سوف تستأصل كل ألوان التناقض لان أساس التناقض هو التناقض الطبقي ، فاذا أزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الاخرى الفرعية والثانوية. هذا تلخيص سريع جدا لوجهة نظر هؤلاء الثوار تجاه التناقض الذي عالجناه. الا ان هذه النظرة الضيقة لا

١٧٧

تنجسم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق على تيار الاحداث في التاريخ ليس التناقض الطبقي وليس تطور الآلة بل هو وليد الانسان ، هو من صنع الانسان الاوروبي ، ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل ، ليست الآلة هي التي خلقت النظام الرأسمالي ، وانما الانسان الاوروبي الذي وقعت هذه الآلة بيده افرز نظاما رأسماليا يجسد قيمه في الحياة وتصوراته للحياة ، وليس التناقض الطبقي هو الشكل الوحيد من اشكال التناقض ، هناك صيغ كثيرة للتناقض على الساحة الاجتماعية ، وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيسي بالنسبة الى تلك الاشكال وانما كل هذه الاشكال من التناقض على الساحة الاجتماعية هي وليد تناقض رئيس وهو جدل الانسان ، هو الجدل المخبوء في داخل محتوى الانسان ذاك هو التناقض الرئيس الذي يفرز دائما وأبدا صيغا متعددة من التناقض. تعالوا نلاحظ ونقارن بين هذه النظرة الضيقة وبين واقع التجربة البشرية المعاصرة لنرى أي النظريتين أكثر انطباقا على العالم الذي نعيشه ، ونرى ماذا كنا نتوقع ، ماذا كنا ننتظر لو كانت هذه النظرة وكان هذا التفسير للتناقض ، لو كان صحيحا وواقعيا ، ماذا كنا ننتظر وماذا كنا نتوقع كنا ننتظر ونتوقع أن

١٧٨

يزداد يوما بعد يوم التناقض الطبقي والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الاوروبية الصناعية التي تطورت فيها الآلة تطورا كبيرا. كان من المفروض أن هذه المجتمعات كانكلترا والولايات الامريكية المتحدة وفرنسا وألمانيا أن يشتد فيها التناقض الطبقي والصراع يوما بعد يوم ويتزلزل النظام الرأسمالي المستغل ويتداعى يوما بعد يوم ، ويزداد الثراء على حساب هؤلاء العاملين في طبقة الرأسماليين المستغلين من الامريكان والانجليز والفرنسيين وغيرهم ، كما نترقب حالة من هذا القبيل ، كنا نترقب أن تتضاعف النقمة ، أن يشتد ايمان العامل الاوروبي والعامل الامريكي بالثورة وبضورة الثورة وبأنها هي الطريق الوحيد لتصفية هذا التناقض الطبقي ، هذا ما كنا ننتظره لو صحت هذه الافكار عن تفسير التناقض ، لكن ما وقع خارجا هو عكس ذلك تمام ، نرى وبكل أسف أن النظام الرأسمالي في الدول الرأسمالية المستغلة يزداد ترسخا يوما بعد يوم لا تبدو عليه بوادر الانهيار السريع ، تلك التمنيات الطيبة التي تمناها ثوارنا الماديون لانكلترا وللدول الاوروبية المتقدمة صناعيا ، تمنوا لها الثورة في أقرب وقت بحكم التطور الآلي والصناعي فيها ، تلك التمنيات الطيبة

١٧٩

تحولت الى سراب ، بينما تحققت هذه النبوءات بالنسبة الى بلاد لم تعش تطورا آليا بل لم تعيش تناقضا طبقيا بالمعنى الماركسي لانها لم تكن قد دخلت الباب العريض الواسع للتطور الصناعي من قبيل روسيا القيصرية والصين. من ناحية اخرى هل ازداد العمال بؤسا وفقرا ، هل أزدادوا أستغلالا؟ لا بالعكس العمال أزدادوا رخاءا ، ازدادوا سعة ، اصبحوا مدللين من قبل الطبقة الرأسمالية المستغلة. العامل الامريكي يحصل على ما لا يطع به انسان آخر يعمل بكد بيمينة ويقطف ثمار عمله في المجتمعات الاشتراكية الاخرى ، هل ازدادت النقمة لدى الطبقة العاملة؟ العكس هو الصحيح ، العمال والهيئات التي تمثل العمال في الدول الرأسمالية المستغلة تحولت بالتدريج أكثر هذه الهيئات تحولت الى هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي ، تحولت الى اشخاص لهم حالة الاسترخاء السياسي ، تركوا هموم الثورة ، تركوا منطق الثورة ، أصبحوا يتصافحون يدا بيد مع تلك الايدي المستغلة ، مع أيدي الطبقة الرأسمالية ، اصبحوا يرفعون شعار تحقيق حقوق العمال عن طريق النقابات وعن طريق البرلمانات وعن طريق الانتخابات ، هذه الحالة هي حالة الاسترخاء السياسي ، كل هذا وقع في هذه الفترة القصيرة من

١٨٠