مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التوجيه الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

مع النص القرآني حوارا ، المفسر يسأل والقرأن يجيب المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع ان يجمعها من خلال التجارب البشرية النافعة وهو يستهدف من ذلك ان يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بامكانه ان يستلهمها من النص من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من افكار واتجاهات ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائما بتيار التجربة البشرية لانها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الاسلامية بشأن موضع من مواضيع الحياة ومن هنا ايضا كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له ، وليست عملية استجابة سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفا هادفا للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى ، قال امير المؤمنين (ع) وهو يتحدث عن القرآن الكريم « ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكن أخبركم عنه ، ألا ان منه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم » التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن (ع) اروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حوارا مع القرآن الكريم وطرحا للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على الاجابة

٢١

القرآنية عليها ، اذن فاول اوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي في التفسير ان الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسر فيه دورا سلبيا يستمع ويسجل بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وانما وظيفة التفسير الموضوعي دائما في كل مرحلة وفي كل عصر ان يحمل كل تراث البشرية الذي عاشه ، يحمل افكار عصره ، يحمل المقولات التي تعلمها من تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر ان يفهمه من خلال مجموعة آياته الشريفة ، اذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ، واقع الحياة ، لان التفسير يبدأ من الواقع وينتهي الى القرآن لا انه يبدأ من القرآن وينتهي في القرآن فيكون عملية منعزلة عن الواقع ، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرأن بوصفه القيم والمصدر الذي يجدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة الى ذلك الواقع ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة والعطاء المستجد بشكل دائم فالقرآن الكريم دلت الروايات على انه لا ينفد وصرح القرآن نفسه بأن كلمات الله لا تنفد ، عطاء القرآن لا ينفد بينما

٢٢

التفسير اللغوي ينفد لان اللغة لها طاقات محدودة وليس هناك تجدد في الملول اللغوي ولو وجد تجدد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن ، ولو وجدت لغة اخرى بعد القرآن فلا معنى لان يفهم القرآن من خلال لغة جديدة او ألفاظ تحمل مصطلحات جديدة استحدثت بعد القرآن اذن فحالة عدم النفاد تكمن في منهج التفسير الموضوعي لاننا نستنطق القرآن وفيه علم ما كان وعلم ما يأتي ودواء دائنا ، ونظم ما بيننا ، ما يمكن ان نستشف منه مواقف السماء تجاه تجربة الارض. فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادرا على التطور والنمو لان التجربة البشرية تثريه والدرس القرآني والتأمل القرآني على ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محولا الى فهم اسلامي قرآني صحيح والحمد لله رب العالمين.

٢٣

الدرس الثاني :

ان الاتجاهات الفقهية سارت في الاتجاه الموضوعي بينما الابحاث التفسيرية سارت في الاتجاه التجزيئي طبعا لم نكن نعني من ذلك ايضا ان البحث الفقهي استنفذ طاقة الاتجاه الموضوعي فالبحث الفقهي اليوم مدعو ايضا الى ان يستنفذ طاقة هذا الاتجاه الموضوعي افقيا وعموديا باعتبار ان الاتجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن ان الانسان يبدأ من الواقع وينتهي الى الشريعة.

هكذا كان ديدن العلماء والفقهاء كانوا يبدأون بالحياة ، يبدأون من الواقع ، وقائع الحياة كانت تنعكس عليهم على شكل جعالة ومضاربة ومزارعة ومساقات ليستنبطوا الحكم من مصادرها ثم يردونها الى الشريعة هذا اتجاه موضوعي لانه يبدأ بالواقع وينتهي الى الشريعة في مقام التعريف على حكم هذا الواقع لكن هنا لا بد ان يمتد الفقه افقيا على هذه الساحة اكثر لان العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه الموضوعي عبر قرون متعددة كانوا حريصين على ان يأخذوا هذه

٢٤

الوقائع ويحيلوها الى الشريعة ليستنبطوا احكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع لكن وقائع الحياة تتكاثر وتتجدد باستمرار وتتولد ميادين جديدة فلابد لهذه العملية من النمو باستمرار فتبدأ من الواقع لكن لا ذاك الواقع الساكن المحدود والذي كان يعيشه الشيخ الطوسي او المحقق الحلي ، لان ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصرهما فالاجار والمضاربة والمزارعة والمساقات كانت تمثل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمائة سنة لكن ابواب السوق قد اتسعت ففيها العلاقات الاقتصادية اوسع واكثر تشابكا من هذا النطاق ، فلا بد للفقه من ان يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين على ان يعكسوا كل ما يستجد من وقائع الحياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة. لا بد ايضا من ان هذه العملية تسير افقيا كما سارت افقيا في البداية. هذا من الناحية الافقية.

من الناحية العمودية ايضا لا بد من ان يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ، لا بد وان يتوغل ، لا بد وان ينفذ عموديا ، لا بد وان يصل الى النظريات الاساسية ، لا بد وان لا يكتفي بالبناءات العلوية وبالتشريعات التفصيلية ، لا بد وان ينفذ من خلال هذا التشريعات التي تمثل وجهة نظر الاسلام لاننا نعلم ان

٢٥

كل مجموعة من التشريعات في كل باب من ابواب الحياة ترتبط بنظريات اساسية ، ترتبط بتطورات رئيسية لأحكام الاسلام ، تشريعات الاسلام ، في المذهب الاقتصادي بالاسلام ، احكام الاسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظرياته الاساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل هذه النظريات الاساسية التي تشكل القواعد النظرية لهذه الابنية العلوية ، لا بد ايضا من التوغل اليها ، لا ينبغي ان ينظر الى ذلك بوصفه عملا منفصلا عن الفقه ، بوصفه ترفا ، أدبا ، بل بوصفه ضرورة وينبغي اكتشافها بقدر الطاقة البشرية.

الان نعود الى التفسير بما ذكرناه من اوجه الخلاف بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي ، تبينت عدة افضليات تدعو الى تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير على المنهج التجزيئي في التفسير فان المنهج الموضوعي في التفسير على ضوء ما ذكرناه يكون اوسع افقا وأرحب وأكثر عطاء باعتبار ان يتقدم خطوة عن التفسير التجزيئي كما أنه قادر على التجدد باستمرار ، على التطور والابداع باستمرار ، باعتبار ان التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد ، ثم هذه

٢٦

المواد تطرح بين يدي القرآن الكريم وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الاساسية للاسلام وللقرآن ازاء موضوعات الحياة المختلفة وقد يقال بأنه ما الضرورة الى تحصيل هذه النظريات الاساسية ، ما الضرورة الى ان نفهم نظرية الاسلام في النبوة مثلا بشكل عام او نفهم نظرية الاسلام في سنن التاريخ او في التغير الاجتماعي بشكل عام او ان نفهم سنن الاسلام والارض ، ما الضرورة الى ان ندرس ونحدد هذه النظريات فاننا نجد بان النبي (ص) لم يعط هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وصيغ عامة ، وانما اعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين ، ما الضرورة الى ان نتعب انفسنا في سبيل هذه النظريات وتحديدها بعد ان لا حظنا ان النبي (ص) اكتفى باعطاء هذا المجموع ، هذا الشكل المتراكم بهذا الشكل ما الضرورة ان نستحصل هذه النظريات الحقيقة بأنه هناك اليوم ضرورة اساسية لتحديد هذه النظريات ولتحصيل هذه النظريات ولا يمكن ان يفترض الاستغناء عنها. النبي (ص) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق من خلال المناخ القرآني العام الذي كان بينه في الحياة

٢٧

الاسلامية ، وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ ، كان يحمل نظرية ولو فهما اجماليا ارتكازيا لان المناخ والاطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي وصفه النبي (ص) كان قادرا على ان يعطي النظرة السليمة ، والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والاحداث اذا اردنا ان نقرب هذه الفكرة نقول : قايسوا بين حالتين حالة الانسان الذي يعيش داخل عرف لغة من اللغات وانسان يريد ان يعرف ابناء هذه اللغة ، ابناء هذا العرف ، كيف تتمثل اذهانهم هذه المعاني الى الالفاظ ، كيف يحددون المعاني من الألفاظ ، هنا توجد حالتين احداهما : ان تأتي بهذا الانسان وتجعله يعيش في اعماق هذا العرف وفي اعماق هذه اللغة واذا صار كذلك واستمرت به الحياة في اطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة من الزمن سوف يتكون لديه الاطار اللغوي ، والعرفي الذي يستطيع من خلاله ان يتحرك ذهنه وفقا لما يريده العرف واللغة منه لان مدلولات تكون موجودة وجودا اجماليا ارتكازيا في ذهنه ، النظرة السليمة والتفهم السليم للكلمة الصحيحة ، وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة تكون موجودة عنده باعتبار انه عاش عرف اللغة ووجدانها في ممارساته بينما اذا كان الانسان خارج جناح تلك اللغة وعرفها واردت ان تنشئ

٢٨

في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح فلا تستطيع التمييز اللغوي حينئذ الا عن طريق الرجوع الى قواعد تلك اللغة ، والى العرف الذي تربى فيه الانسان لكي تستنتج منه القواعد العامة والنظريات الشاملة ومثاله ما وقع بالنسبة الى علوم العربية كيف ان ابن اللغة لم يكن بحاجة الى ان يعلم علوم العربية في البداية لانه كان يعيش في اعماق عرف اللغة ، لكن بعد ان ابتعد عن تلك الاعماق واختلفت الاجواء وضعفت اللغة ، وتراكمت لغات اخرى اندست الى داخل حياة هؤلاء ، بدأ هؤلاء بحاجة الى علم لللغة ، الى نظريات لللغة لان الواقع لا يسفعهم بنظرة سليمة فلا بد حينئذ من علم لا بد من نظريات لكي يفكروا ولكي يناقشوا ولكي يتصرفوا لغويا وفقا لتلك القواعد والنظريات هذا المثال مثال تقريبي لأجل توضيح الفكرة.

اذا الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الاعظم (ص) اذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقوها تلقيا اجماليا ارتكازيا ، انتقشت في اذهانهم وسرت في افكارهم ، كان المناخ العام الاطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه كله كان اطارا مساعدا على تفهم هذه النظريات ولو تفهما اجماليا وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم.

٢٩

اما حيث لا يوجد ذلك المناخ ، ذلك الاطار اذا تكون الحاجة الى دراسة لنظريات القرآن الكريم في الاسلام ، تكون حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز نظريات عديدة من خلال التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حينما وقع هذا التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي وجد الانسان المسلم نفسه امام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان عليه لكي يحدد موقف الاسلام من هذه النظريات ، كان لا بد وان يستنطق نصوص الإسلام ، ويتوغل في اعماق هذه النصوص ليصل الى مواقف الاسلام سلبا وايجاباً لكي يكتشف نظريات الاسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عاش بحثها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة.

اذن فالتفسير الموضوعي في المقام هو افضل الاتجاهين في التفسير الا ان هذا لا ينبغي ان يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الافضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه او طرح التفسير التجزيئي رأسا والاخذ بالتفسير الموضوعي ، وانما اضافة اتجاه الى اتجاه لان التفسير الموضوعي

٣٠

ليس الا خطوة الى الامام بالنسبة الى التفسير التجزيئي ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتجاه الموضوعي. وانما هي مسألة ضم الاتجاه الموضوعي في التفسير الى الاتجاه التجزيئي في التفسير ، يعني افتراض خطوتين خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة وأخرى هي التفسير الموضوعي.

٣١

الدرس الثالث :

استعرضنا فيما سبق المبررات الموضوعية والفكرية لايثار التفسير الموضوعي التوحيدي على التفسير التجزيئي التقليدي باعتبار أن التفسير الموضوعي أغنى عطاءا وأكثر قدرة على التحرك والأبداع وعلى تحديد المواقف النظرية الشاملة للقرآن الكريم .. الآن أود أن أذكر مبررا عمليا وهو ان شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدا لانه يبدأ من سورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل اكماله الى فترة زمنية طويلة ايضا ولهذا لم يحض من علماء الاسلام الاعلام الا عدد محدود بهذا الشرف العظيم ، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته الى نهايته ونحن نشعر بأن هذه الايام المحدودة المتبقية لا تفي بهذا الشوط الطويل ولهذا كان من الافضل اختيار أشواط أقصر لكي نستطيع ان نكمل بضعة أشواط من هذا الجولان في رحاب القرآن الكريم. من هنا سوف نختار موضوعات متعددة من القرآن الكريم ونستعرض

٣٢

ما يتعلق بذلك الموضوع وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء. وسوف نحاول أن يكون البحث مربوطا بقدر الامكان لكي نستطيع أن نصل الى عدد من المواضيع المهمة. فنقتصر على الافكار الاساسية والمبادئ الرئيسية بالنسبة الى كل موضوع وسوف أحرص على أن لا يستوعب كل موضوع الا عددا محدودوا من المحاضرات. أرجو أن يكون بين خمس محاضرات الى عشر محاضرات لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوعة من القرآن الكريم .. الان نواجه هذا السؤال :

ما هو الموضوع الاول الذي سوف نبدأ به الان انشاء الله تعالى؟

الموضوع الاول الذي سوف نختاره للبحث هو « سنن التاريخ في القرآن الكريم »! هل للتاريخ البشري سنن في مفهوم القرآن الكريم ، هل له قوانين تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره ، ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري ، كيف بدأ التاريخ البشري ، كيف نما ، كيف تطور ، ما هي العوامل الاساسية في نظرية التاريخ ، ما هو دور الانسان في عملية التاريخ ، ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة الاجتماعية. هذا كله ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان ، عنوان

٣٣

سنن التاريخ في القرآن الكريم ، وهذا الجانب من القرآن الكريم قد بحث الجزء الاعظيم من مواده ومفرادته القرآنية لكن من زوايا مختلفة ، فمثلا قصص الانبياء (ع) التي تمثل الجزء الاعظم من هذه المادة القرآنية. بحثت قصص الانبياء من زاوية تاريخية تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلم عنها القرآن الكريم ، وحينما لا حظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز ، حاولوا ان يملؤا هذه الفراغات بالروايات والاحاديث ، او بما هو المأثور عن أديان سابقة ، أو بالاساطير والخرافات فتكونت سجلات ذات طابع تاريخي لتنظيم هذه المادة القرآنية ، كذلك أيضاً بحثت هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى ، من زاوية منهج القصة في القرآن ، مدى ما يتمتع به هذا المنهج من أصالة وقوة وابداع ، ما تزخر به القصة القرآنية من حيوية ، من حركة ، من أحداث ، هذا أيضا زاوية أخرى للبحث في هذه المادة يضاف الى زوايا عديدة. نحن الآن نريد ان نتناول هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى ، من زاوية مقدار ما تلقي هذه المادة من أضواء على سنن التاريخ ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكم في عملية التاريخ اذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيء من هذه النواميس والضوابط والقوانين.

٣٤

الساحة التاريخية كأي ساحة أخرى زاخرة بمجموعة من الظواهر كما ان الساحة الفلكية ، الساحة الفيزيائية ، الساحة النباتية زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كذلك الساحة التاريخية بالمعنى الذي سوف نفصل من التاريخ انشاء الله بعد ذلك ، زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كما ان الظواهر في كل ساحة أخرى من الساحات لها سنن ولها نواميس فمن حقنا أن نتساءل : هل ان هذه الظواهر التي تزخر بها الساحة التاريخية ، هل هذه الظواهر ايضا ذات سنن وذات نواميس ، وما هو موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس ، وما هو عطاؤه في مقام تأكيد هذا المفهوم ايجابا أو سلبا ، اجمالا أو تفصيلا ، وقد يخيل الى بعض الاشخاص ، اننا لا ينبغي ان نترقب من القرآن الكريم أن يتحدث عن سنن التاريخ ، لان البحث في سنن التاريخ بحث علمي كالبحث في سنن الطبيعة والفلك والذرة والنبات ، والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هداية ، القرآن الكريم لم يكن كتابا مدرسيا ، لم ينزل على رسول الله (ص) بوصفه معلما بالمعنى التقليدي من المعلم لكي يدرس مجموعة من المتخصصين والمثقفين ، وانما نزل هذا الكتاب عليه ليخرج الناس من الظلمات الى النور ، من ظلمات الجاهلية الى نور

٣٥

الهداية والاسلام. اذن فهو كتاب هداية وتغيير وليس كتاب اكتشاف ، ومن هنا لا نترقب من القرآن الكريم ان يكشف لنا الحقائق والمبادئ العامة للعلوم الاخرى ولا نترقب من القرآن الكريم ان يتحدث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان ، صحيح أن في القرآن الكريم اشارات الى كل ذلك ، ولكنها اشارت بالحدود التي تؤكد على البعد الالهي للقرآن ، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل والذي استطاع أن يسبق التجربة البشرية مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرقة في الميادين العلمية المتفرقة ، لكن هذه الاشارات القرآنية انما هي لاجل غرض عملي من هذا القبيل لا من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء. القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن قدرة الانسان الخلاقة ، عن مواهبه وقابلياته في مقام الكدح ، الكدح في كل ميادين الحياة بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة ، القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن هذه الميادين ، وانما طرح نفسه طاقة روحية موجهة للانسان ، مفجرة طاقاته ، محركة له في المسار الصحيح. فاذا كان القرآن الكريم كتاب هداية وتوجيه وليس كتاب اكتشاف وعلم فليس من الطبيعي أن

٣٦

نترقب منه استعراض مبادئ عامة لأي واحد من هذه العلوم التي يقوم الفهم البشري بمهمة التوغل في اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها ، لماذا ننتظر من القرأن الكريم أن يعطينا عموميات ، أن يعطينا مواقف ، أن يبلور له مفهوما علميا في سنن التاريخ على هذه الساحة من ساحات الكون بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الاخرى ، ولا حرج على القرآن في ان لا يكون له ذلك على الساحات الاخرى. لان القرآن لو صار لمقام استعراض هذه القوانين ، وكشف هذه الحقائق لكان بذلك يتحول الى كتاب آخر نوعيا ، يتحول من كتاب للبشرية جمعاء الى كتاب للمتخصصين يدرس في الحلقات الخاصة ، قد يلاحظ بهذا الشكل على اختيار هذا الموضوع الا ان هذه الملاحظة رغم ان الروح العامة فيها صحيحة بمعنى ان القرآن الكريم ليس كتاب اكتشاف ، ولم يطرح نفسه ليجمد في الانسان طاقات النمو والابداع والبحث ، وانما هو كتاب هداية ، ولكن مع هذا يوجد فرق جوهري بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون ، هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبطا أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هداية ، خلافا لبقية الساحات الكونية والميادين الاخرى

٣٧

للمعرفة البشرية ، وذلك ان القرآن الكريم كتاب هداية وعملية تغيير هذه العملية التي عبر عنها في القرآن الكريم بأنها اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وعملية التغيير هذه فيها جانبان « الجانب الاول » جانب المحتوى المضمون اليه هذه العملية التغييرية من احكام ، من مناهج ، ما تتبناه من تشريعات ، هذا الجانب من عملية التغيير جانب رباني ، جانب الهي سماوي ، هذا الجانب يمثل شريعة الله سبحانه وتعالى التي نزلت على النبي محمد (ص) وتحدت بنفس نزولها عليه كل سنن التاريخ المادية لان هذه الشريعة كانت اكبر من الجو الذي نزلت عليه ، ومن البيئة التي حلت فيها ، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تبليغها. هذا الجانب من عملية التغيير ، جانب المحتوى والمضمون ، جانب التشريعات والاحكام والمناهج التي تدعو اليها هذه العملية ، هذا الجانب جانب رباني الهي ، لكن هناك جانب آخر عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) وأصحابه الاطهار ، هذه العملية حينما تلحظ بوصفها عملية متجسدة في جماعة من الناس وهم النبي والصحابة ، بوصفها عملية اجتماعية متجسدة في هذه الصفوة ، وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية مختلفة من حولها واشتبكت

٣٨

معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي والاجتماعي والسياسي والعسكري ، حينما تؤخذ هذه العملية التغييرية بوصفها تجسيدا بشريا على الساحة التاريخية مترابطا مع الجماعات والتيارات الاخرى التي تكتنف هذا التجسيد والتي تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد ، حينما تؤخذ العملية من هذه الزاوية تكون عملية بشرية ، يكون هؤلاء اناسا كسائر الناس تتحكم فيهم الى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات وفي بقية الفئات على مر الزمن. اذن عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي (ص) لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي ومصادر الوحي ، هي ربانية ، هي فوق التاريخ ولكن من حيث كونها هي عملا قائما على الساحة التاريخية ، من حيث كونها جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية اخرى ، من هذه الناحية يعتبر هذا عملا تاريخيا تحكمه سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية ولهذا نرى ان القرآن الكريم حينما يتحدث عن الزاوية الثانية ، عن الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس ، يتحدث عن بشر ، لا يتحدث عن رسالة

٣٩

السماء ، بل يتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحكم فيهم القوانين التي تتحكم في الاخرين حينما أراد أن يتحدث عن انتصار المسلمين في غزوة أحد بعد ان احرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر ، بعد ذلك انكسروا وخسروا المعركة في غزوة أحد ، تحدث القرآن الكريم عن هذه الخسارة ، ماذا قال ، هل قال بان رسالة السماء خسرت المعركة بعد ان كانت ربحت المعركة؟ لا .. لان رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادي ، رسالة السماء لا تهزم ، ولن تهزم ابدا ، ولكن الذي يهزم هو الانسان ، الانسان حتى ولو كان هذا الانسان مجسدا لرسالة السماء ، لان هذا الانسان تتحكم فيه سنن التاريخ ، ماذا قال القرآن؟ قال « وتلك الايام نداولها بين الناس » (١). هنا اخذ يتكلم عنهم بوصفهم اناسا قال بان هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض ان ينتصروا ، وخسروا المعركة في اُحد حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة اُحد تفرض عليهم ان يخسروا المعركة. « ان يمسكم قرح فقد

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية (١٤٠).

٤٠