مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التوجيه الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

المحتوى والمضمون هو الذي فات الانسان الاوربي ، الانسان الاوربي جعل الحرية هدفا وهذا صحيح ولكنه صير من هذا الهدف مثلا اعلى بينما هذا الهدف ليس الا اطار في الحقيقة وهذا الاطار بحاجة الى محتوى والى مضمون واذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي الى الويل والدمار ، الى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار لان الاطار بقي بلا محتوى بقي بلا مضمون حينئذ. هذا هو مثلا للتعميم الافقي ، التعميم الافقي للمثل الاعلى.

واما التعميم الزمني ايضا كذلك على مر التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخيا ولكنها لا يجوز ان تحول من حدودها كخطوة الى مطلق ، الى مثل اعلى يجب ان تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الاعلى لا ان تحول هذه الخطوة الى مثل اعلى حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الاسر فشكلوا القبيلة. ومجموعة من القبائل فشكلت عشيرة ، ومجموعة من العشائر فشكلت أمة هذه الخطوات صحيحة لتقدم البشرية وتوحيد البشرية ولكن كل خطوة من هذه لا يجب ان تتحول الى مثل اعلى لا يجوز ان تتحول الى مطلق ، لا يجوز ان تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من اجله

١٤١

هذا الانسان وانما المطلق الذي يحارب من اجله الانسان يبقى هو ذاك المطلق الحقيقي ، يبقى هو الله سبحانه وتعالى ، الخطوة تبقى كاسلوب ولكن المطلق يبقى هو الله سبحانه وتعالى هذا التعميم الزمني ايضا هو شكل من التعميم الخاطئ حينما يحول هذا المثل المنتزع من خطوة محدودة عبر الزمن يحول الى مثل اعلى. وحال هذا الانسان الذي يحول هذه الرؤية المحدودة عبر الزمن يحولها الى مطلق حاله حال الانسان الذي يتطلع الى الافق فلا تساعده عينه الا الى النظر على مسافة محدودة فيخيل له ان الدنيا تنتهي عند الافق الذي يراه ، ان السماء تنطبق على الارض على مسافة قريبة منه وقد يخيل له وجود الماء ، وجود السراب على مقربة منه. الا ان هذا في الحقيقة ناشئ من عجز عينيه عن ان يتابع المسافة الارضية الطويلة الامد.

كذلك هنا هذا الانسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ، على طريق المسيرة البشرية له افق يحكم قصوره الذهني وبحكم محدودية الذهن البشري. له افق كذلك الافق الجغرافي ولكن هذا الافق يجب ان يتعامل معه كافق لا كمطلق كما اننا نحن على الصعيد الجغرافي لا نتعامل مع هذا الافق الذي نراه على بعد عشرين مترا او مائتي متر انه نهاية الارض. وانما

١٤٢

نتعامل معه بأنه أفق. كذلك ايضا هنا يجب ان يتعامل هذا الانسان معه كافق لا يحول هذا الافق التاريخي الى مثل اعلى والا كان من قبيل من يسير نحو سراب ، انظروا الى التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى : « والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب » (١).

يعبر القرآن عن كل هذه المثل المصطنعة من دون الله سبحانه وتعالى بانها كبيت العنكبوت حيث يقول : « مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون » (٢).

اذا قارنا بين هذين النوعين من المثل العليا المشتقة من الواقع والمثل العليا المشتقة من طموح محدود للاحظنا ان المثل العليا المشتقة من الواقع كثيرا ما تكون قد مرت بمرحلة هذه المثل التي تعبر عن طموح محدود. يعني كثيرا ما تكون تلك المثل من النوع الاول امتداداً للمثل من النوع الثاني ، بأن يبدأ هذا المثل الاعلى مشتقا من طموح لكن حينما يتحقق هذا الطموح

__________________

(١) سورة النور : الآية (٣٩).

(٢) سورة العنكبوت : الآية (٤١).

١٤٣

المحدود ، حينما تصل البشرية الى النقطة التي أثارت هذه المثل. يتحول هذا المثل الى واقع محدود بحسب الخارج ، حينئذ يصبح مثلا تكراريا من هنا قلنا في ما سبق أننا لو رجعنا خطوة الى الوراء بالنسبة الى الهة النوع الاول ، مثل النوع الاول. لو رجعنا الى الوراء لوجدنا آلهة النوع الثاني فالمسألة في كثير من الاحيان تبدأ هكذا ، تبدأ بمثل اعلى له طموح مشتق من طموح مستقبلي ثم يتحول هذا المثل الاعلى الى مثل تكراري ، ثم يتمزق هذا المثل التكراري كما قلنا وتتحول الامة الى شبح أمة. في هذه الفترة الزمنية تمر الامة بمراحل في الحقيقة يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل. المرحلة الاولى هي مرحلة فاعلية هذا المثل بحكم انه قد بدأ مشتقا من طموح مستقبلي ولكن طبعا هذه الفاعلية وهذا العطاء هو عطاء يسميه القرآن بالعاجل ، هذه المكاسب عاجلة وليست مكاسب على الخط الطويل. عاجلة لان عمر هذا المثل قصير ، وعطاءه محدود ، لان هذا المثل سوف يتحول في لحظة من اللحظات الى قوة ابادة لكل ما أعطاه من مكاسب ولهذا يسمى بالعاجل. انظروا الى قوله تعالى « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيا وهو

١٤٤

مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا» (١) الله سبحانه وتعالى خير محض ، عطاء محض ، جود كله ، فبقدر ما تتبنى الامة مثلا قابلا للتحريك. الله سبحانه وتعالى ايضا يعطي لكنه يعطي بقدر قابلية هذا المثل يعطي شيئا عاجلا لا اكثر. في حالة من هذا القبيل تكون السلطة التي تمثل هذا المثل ذات مثل اعلى ، ذات مثل يعطي ويبدع وتكون قيادة موجهة للامة في حدود هذا المثل وتكون للامة دور المشاركة في صنع هذا المثل وفي تحقيق هذا المثل. هذه المرحلة سوف تؤدي الى مكاسب ولكنها في النظر القرآني العميق الطويل الامد مكاسب عاجلة تعقبها جهنم ، جهنم في الدنيا وجهنم في الآخرة. هذه المرحلة الاولى مرحلة الابداع والتجديد.

المرحلة الثانية حينما يتجمد هذا المثل الاعلى حينما يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء حينئذ يتحول هذا المثل الى تمثال والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه يتحولون الى سادة وكبراء لا الى قادة. وجمهور الامة يتحول الى مطيعين ومنقادين لا الى مشاركين في الابداع

__________________

(١) سورة الاسراء : الآية (١٨ ـ ٢٠).

١٤٥

والتطوير وهذه المرحلة هي المرحلة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله « وقالوا ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا » (١). ثم تأتي المرحلة الثالثة. مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلاء. هذه السلطة تتحول الى طبقة بعد ذلك تتوارث مقاعدها عائليا أو طبقيا وراثيا بشكل من اشكال الوراثة ، وحينئذ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الاغراض الكبيرة ، المشغولة بهمومها الصغيرة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله « وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون » (٢) هؤلاء امتداد تاريخي لآباء لهم تاريخ وهم امتداد تاريخي ، وهذا الامتداد التاريخي تحول من مستوى مثل وعطاء الى مستوى طبقة مترفة تتوارث هذا المقعد بشكل من اشكال التوارث. هذه هي المرحلة الثالثة ثم حينما تتفتت الامة ، حينما تتمزق الامة ، حينما تفقد ولاءها لذلك المثل التكراري على ضوء ما قلناه تدخل في مرحلة رابعة وهي اخطر المراحل ففي هذه المرحلة يسيطر عليها مجرموها ، يسيطر عليها اناس لا يرعون الا ولاذمة وهذا ما عبر

__________________

(١) سورة الاحزاب : الآية (٦٧).

(٢) سورة الزخرف : الآية (٢٣).

١٤٦

عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى « وكذلك جعلنا في كل قرية اكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون الا بأنفسهم » (١). حينئذ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين ، يسيطر هتلر والنازية مثلا في جزء من أوروبا لكي يحطم كل ما في أوروبا من خير وكل ما فيها اوروبا من ابداع ، لكي يقضي على كل تبعات ذلك المثل الاعلى الذي رفعه الانسان الاوروبي الحديث والذي تحول بالتدريج الى مثل تكراري ثم تفسخ هذا المثل لكن بقيت مكاسبه في المجتمع الاوروبي. يأتي شخص كهتلر لكي يمزق كل تلك المكاسب ويقضي عليها. الان نصل الى النوع الثالث من المثل العليا وهو الله سبحانه وتعالى. في هذا المثل التناقض الذي واجهناه سوف يحل باروع صورة كنا نجد تناقضا وحاصل هذا التناقض هو ان الوجود الذهني للانسان محدود ، والمثل يجب ان يكون غير محدود فكيف يمكن توفير المحدود وغير المحدود وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود. هذا التنسيق سوف نجده في المثل الاعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى .. لماذا؟ لان هذا المثل الاعلى ليس من نتاج الانسان ، ليس افرازا ذهنيا للانسان ، بل هو مثل أعلى

__________________

(١) سورة الانعام : الآية (١٢٣).

١٤٧

عيني له واقع عيني. هو موجود مطلق في الخارج ، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق. هذا الوجود العيني بواقعه العيني يكون مثلا اعلى لانه مطلق لكن الانسان حينما يريد ان يستلهم من هذا النور ، حينما يريد ان يمسك بحزمة من هذا النور ، طبعا هو لا يمسك الا بالمقيد ، الا بقدر محدود من هذا النور الا انه يميز بين ما يمسك به وبين مثله الاعلى ، المثل الاعلى خارج حدود ذهنه ، لكنه يمسك بحزمة من النور. هذه الحزمة مقيدة لكن المثل الاعلى مطلق ، ومن هنا حرص الاسلام على التمييز دائما بين الوجود الذهني وما بين الله سبحانه وتعالى الذي هو المثل الاعلى. فرق حتى بين الاسم والمسمى وأكد على انه لا يجوز عبادة الاسم. وانما تكون العبادة للمسمى لان الاسم ليس الا وجودا ذهنيا ، الا واجهة ذهنية لله سبحانه وتعالى. بينما الواجهات الذهنية دائما محدودة العبادة يجب ان تكون للمسمى لا للاسم لان المسمى هو المطلق اما الاسم فهو مقيد ومحدود. الواجهات الذهنية تبقى كواجهات ذهنية محدودة مرحلية واما صفة المثل الاعلى فتبقى قائمة بالله سبحانه وتعالى.

١٤٨

الدرس الحادي عشر :

قال الله سبحانه وتعالى « يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه » (١) هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفا أعلى للانسان والانسان هنا بمعنى الانسانية ككل ، فالانسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى والكدح هنا كدح الانسانية ككل ، نحو الله سبحانه وتعالى ، يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة ، لان هذا السير ليس سيرا اعتياديا ، بل هو سير ارتقائي ، هو تصاعد وتكامل ، هو سير تسلق ، فهؤلاء الذين يتسلقون الجبال ليصلوا الى القمم يكدحون نحو هذه القمم ، يسيرون سير معاناة وجهد. كذلك الانسانية حينما تكدح نحو الله فانما هي تتسلق الى قمم كمالها وتكاملها وتطورها الى الافضل

__________________

(١) سورة الانشقاق : الآية (٦).

١٤٩

باستمرار. وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار يفترض طريقا لا محالة فان السير نحو هدف يفترض حتما طريقا ممتدا بين السائر وبين ذلك الهدف. وهذا الطريق هو الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرقة تحت اسم سبيل الله واسم الصراط واسم صراط الله هذه الصيغ القرآنية المتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير وكما أن السير يفترض الطريق ، كذلك الطريق يفترض السير أيضا وهذه الآية الكريمة « يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه » تتحدث عن حقيقة قائمة ، عن واقع موضوعي ثابت. فهي ليست بصدد دعوة الناس الى أن يسيروا في طريق الله سبحانه وتعالى ، ليست بصدد الطلب والتحريك ، فما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى.

الآية القرآنية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا الى سبيل الله ، توبوا الى الله ، بل تقول « يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه » ، لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سير وكل تقدم للانسان في مسيرته التاريخية الطويلة الامد ، فهو تقدم نحو الله سبحانه وتعالى وسير نحو الله

١٥٠

سبحانه وتعالى حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت ان تحقق لها سيرا ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ، حتى هذه الجماعات التي يسميها القرآن بالمشركين هم يسيرون هذه الخطوة نحو الله ، هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى ، لكن هناك فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول ( على ما يأتي شرحه ان شاء الله ) ، حينما تتقدم الانسانية في هذا المفاض واعية على المثل الاعلى وعيا موضوعيا يكون التقدم تقدما مسؤولا ، يكون عبادة بحسب لغة الفقه ، لونا من العبادة يكون له امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون ، وأما حينما يكون التقدم منفصلا عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال ، سير نحو الله على أي حال ، ولكنه تقدم غير مسؤول على ما يأتي تفصيله.

اذن كان تقدم هو تقدم نحو الله ، حتى اولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدثت الآية الكريمة فان هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي ، وراء المثل المنخفضة ، حينما يصلوا الى هذا السراب لا يجدون شيئا ، ويجدون الله سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم كما تتحدث الآية الكريمة التي قرأناها فيما سبق ، والله

١٥١

سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق ولكنه ليس نهاية جغرافية ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية للطرق الممتدة مكانيا. كربلاء مثلا نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء ، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية ، ومعنى انها نهاية جغرافية انها موجودة على آخر الطريق ، ليست موجدة على طول الطريق ، لو أن انسانا سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شيء من كربلاء ، لا يحصل على حفنة من تراب كربلاء اطلاقا ، لان كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق ، ولكن الله سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية ، الله سبحانه وتعالى هو المطلق ، هو المثل الاعلى ، أي المطلق الحقيقي العيني ، وبحكم كونه هو المطلق ، اذن هو موجود على طول الطريق أيضا ، ليس هناك فراغ منه ، ليس هناك انحسار عنه ، ليس هناك حد له ، الله سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق ولكنه موجود أيضا على طول الطريق ، من وصل الى نصف الطريق ، من وصل الى سرابه ، فتوقف واكتشف انه سراب ، ماذا يجد؟ ماذا وجد في الآية؟ .. وجد الله فوفاه الله حسابه لان المطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدم في الطريق يجد الانسان مثله الاعلى ، يلقى الله سبحانه وتعالى

١٥٢

اينما توقف بحجم سيره ، وبحجم تقدمه على هذا الطريق. وبحكم أن الله سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطريق ايضا لا ينتهي هذا الطريق طريق الانسان نحو الله هو اقتراب مستمر يقدر التقدم الحقيقي نحو الله ، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقترابا نسبيا ، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون ان يجتاز هذا الطريق ، لان المحدود لا يصل الى المطلق ، الكائن المتناهي لا يمكن ان يصل الى اللامتناهي ، فالفسحة الممتدة بين الانسان وبين المثل الاعلى هنا فسحة لا متناهية ، أي انه ترك له مجال الابداع الى اللانهاية ، مجال التطور التكاملي الى اللانهاية ، بأعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي. وهذا المثل الاعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الانسانية وتوفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الاعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية ، المسيرة الانسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة ، بوصفها سائرة ومتجهة نحو الله سوف يحدث تغيير كيفي وكمي على هذه المسيرة ، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كيفي وكمي ، أما التغير الكمي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا اليه من أن الطريق حينما يكون طريقا الى المثل الاعلى الحق يكون طريقا غير

١٥٣

متناهي ، أي أن مجال التطور والابداع ، والنمو قائم ابدا ودائما ، مفتوح للانسان بأستمرار من دون توقف هذا المثل الاعلى حينما يتبنى سوف نمسح من الطريق كل الآلهة المزورة ، كل الاصنام وكل الاقزام المتصنمة على طريق الانسان التي تقف عقبة بين الانسان وبين وصوله الى الله سبحانه وتعالى ، ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا مع مختلف اشكال الالهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تتحد من كمية الحركة الى نقطة ثم تقول قف أيها الانسان. هذه الالهة التي ارادت أن توقف الانسان في وسط الطريق ، وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مر التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها ، هذا المثل الاعلى اذن سوف يحدث تغييرا كميا على الحركة لانه يطلقها من عقالها ، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير بأستمرار وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الاعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني ، للتناقض الانساني ، اعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الانسان ، الانسان من خلال ايمانه بهذا المثل الاعلى ووعيه على طريق بحدوده الكونية الواقعية من خلال هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ، شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه

١٥٤

هذا المثل الاعلى لاول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ ، لماذا؟

لان هذا المثل الاعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الانسان وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي فان المسؤولية الحقيقية لا تقوم الا بين جهتين بين مسؤول ومسؤول لديه. اذا لم تكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول واذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمنا بأنه بين يديه جهة أعلى لا يمكن ان يكون شعوره بالمسؤولية شعورا موضوعيا ، شعورا حقيقيا ، مثلا تلك المثل المنخفضة ، تلك الالهة ، تلك الاقزام المتعملقة على مر التاريخ ، على مر المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حللنا الا افرازا بشريا ، الا انتاجا انسانيا ، يعني انها جزء من الانسان جزء من كيان الانسان ، والانسان يمكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقة المسؤولية تجاه ما يفرزه ، هو اتجاه ما يصنعه هو « ان هي الا أسماء سميتموها » تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية ، نعم قد تصنع قوانين ، قد تصنع عادات ، قد تصنع اخلاق ، ولكنها كلها عطاء ظاهري ، وكلما وجد هذا الانسان مجالا للتحلل من هذه العادات ، ومن هذه الاخلاق ، ومن هذه القوانين فسوف يتحلل.

١٥٥

بينما المثل الاعلى لدين التوحيد ، للانبياء على مر التاريخ باعتباره واقعا عينيا منفصلا عن الانسان ، باعتباره جهة اعلى من الانسان ليست افرازا بشريا ، ليست انتاجا انسانيا ، اذن سوف يتوصل للشعور بالمسؤولية ، شرطه الموضوعي في المقام ، لماذا كان الانبياء على مر التاريخ أصلاب الثوار على الساحة التاريخية ، أنظف الثوار على الساحة التاريخية ، لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة ، فوق كل مهادنة ، فوق كل تململ يمنة او يسرة ، لماذا كانوا هكذا ، لماذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبيا من أنبياء التوحيد انهار أو تململ او أنحرف يمنة او يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء ، لان المثل الاعلى المنفصل عنه الذي فوقه هو الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية وهذا الشعور بالمسؤولية تجسد في كل كيانه في كل مشاعره وافكاره وعواطفه ، ومن هنا كان النبي معصوما على مر التاريخ ، اذن هذا المثل الاعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييرا كيفيا على المسيرة لانه يعطي الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمرا عرضيا ، ليس امرا ثانويا في مسيرة الانسان ، بل هو شرط أساسي في امكان انجاح

١٥٦

هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الانساني للجدل الانساني ، لان الانسان يعيش تناقضا بحسب تركيبه وخلقته ، لانه هو تركيب من حفنة من تراب ونفخة من روح الله سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.

الآيات الكريمة قالت بان الانسان خلق من تراب ، وقالت بانه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى ، اذا فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الانسان ، حفنة التراب تجره الى الارض ، تجره الى الشهوات الى الميول ، تجره الى كل ما ترمز اليه الارض من انحدار وانحطاط وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيها تجره الى أعلى تتسامى بانسانيته الى حيث صفات الله ، الى حيث اخلاق الله ، تتخلق باخلاق الله ، الى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها ، الى حيث العدل الذي لا حد له ، الى حيث الجود والرحمة والانتقام ، الى حيث هذه الاخلاق الالهية ، هذا الانسان واقع في تيار هذا التناقض ، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي ، بحسب تركيبه الداخلي ، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الانسان وشرحته قصة آدم على ما يأتي انشاء الله تعالى ، هذا الجدل الانساني له حل واحد فقط ، هذا الحل الواحد

١٥٧

الذي يمكن ان يفرض لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية لا الشعور المنبثق عن هذا الجدل فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحل هذا الجدل بل هو يساهم في افراز هذا التناقض وهذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله الا المثل الاعلى الذي يكون جهة عليا ، يحس الانسان من خلالها بانه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم ، مجاز على العدل. اذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الانسان وتركيب الانسان. دور دين التوحيد اذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل ، تعبيده وازالة العوائق من خلال تنمية الحركة كميا وكيفيا ومحاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية وأن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية اخرى ، ومن هنا كان حرب الانبياء كما أشرنا كان حرب الانبياء مع الالهة المصطنعة على مر التاريخ ، ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول الى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق ، حينما تتحول الى تمثال نجد في مجموعة من الناس ، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم وترفهم وكيانهم المادي

١٥٨

والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول الى تمثال ولهذا يقف دائما هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيا بهذا التمثال ، يقفون دائما في وجهه الانبياء ليدافعوا عن مصالحهم ، عن دنياهم ، عن ترفهم ، ومن هنا ابرز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ وهي ان الانبياء دائما كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر من المعارضة مع هذا النبي لان هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد ان تحول الى ذلك التمثال هذا المثال تحول الى تمثال فمن هو المستفيد منه؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع ، المنعمون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم ، من هنا يكون من الطبيعي ان هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين تجدهم دائما في الخط المعارض للانبياء ، « وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها انا وجدنا اباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون » (١).

« وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به كافرون » (٢) « سأصرف عن آياتي الذي يستكبرون في الارض بغير الحق وان يروا كل آية لا

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية (٢٣).

(٢) سورة سبأ : الآية (٣٤).

١٥٩

يؤمنون بها. وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا. وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بانهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين » (١). « وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الاخرة واترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا الا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون » (٢). اذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على الهتهم وعلى مثلهم التي تحولت الى تماثيل ، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراب ، لكي يحولها الى كومة مادية ليس لها اشواق ليس لها طموحات ليس لها تطلعات الى اعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ ، اولئك ايضا يحاربون هذه الالهة المصطنعة ويسمونها أفيون الشعوب ونحن ايضا نحارب هذه الالهة المصطنعة ولكننا نحن نحاربها لا لكي نحول الانسان الى حيوان ، لا لكي نقطع صلة الانسان بأشواقه العليا ، لا لكي نحول مسار

__________________

(١) سورة الاعراف : الآية (١٤٦).

(٢) سورة المؤمنون : الآية (٣٣).

١٦٠