مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التوجيه الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

مس القوم قرح مثله » (١) ، « وتلك الايم نداولها بين الناس » لا تتخيلوا ان النصرن حق الهي لكم ، وانما النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن ان توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيا لا تشريعيا ، وحيث انكم في غزوة اُحد لم تتوفر لديكم هذه الشروط ولهذا خسرتم المعركة. فالكلام هنا كلام مع بشر ، مع عملية بشرية لا مع رسالة ربانية ، بل يذهب القرآن الى اكثر من ذلك ، يهدد هذه الجماعة البشرية التي كانت انظف واطهر جماعة على مسرح التاريخ ، يهددهم بانهم اذا لم يقوموا بدورهم التاريخي ، واذا لم يكونوا على مستوى مسؤولية رسالة السماء فان هذا لا يعني ان تتعطل رسالة السماء ، ولا يعني ان تسكت سنن التاريخ عنهم بل انهم سوف يستبدلون ، سنن التاريخ سوف تعزلهم وسوف تأتي بأمم اخرى قد تهيأت لها الظروف الموضوعية الافضل لكي تلعب هذا الدور ، لكي تكون شهيدة على الناس اذا لم تتهيأ لهذه الامة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة « الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ، ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء

__________________

(١) نفس الآية السابقة.

٤١

قدير » (١) ، « يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم .. » (٢). اذن فالقرآن الكريم انما يتحدث مع الجانب الثاني من عملية التغيير ، يتحدث مع البشر في ضعفه وقوته ، في استقامته وانحرافه ، في توفر الشروط الموضوعية له وعدم توفرها. من هنا يظهر بان البحث في سنن التاريخ مرتبط ارتباطا عضويا شديدا بكتاب الله بوصفه كتاب هدى ، بوصفه اخراج للناس من الظلمات الى النور لان الجانب العملي من هذه العملية ، الجانب البشري يخضع لسنن التاريخ ، فلا بد اذن ان نستلهم ، ولا بد اذن ان يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال لتكوين اطار عام للنظرة القرآنية والاسلامية عن سنن التاريخ. اذن هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات ، تلك السنن ليست داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التاريخ ولكن هذه السنن داخلة في

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ( ٣٩ ).

(٢) سورة المائدة : الآية ( ٥٤ ).

٤٢

نطاق التأثير المباشر على عملية التغيير. باعتبار الجانب الثاني ، اذن لا بد من شرح ذلك ولا بد ان نترقب من القرآن اعطاء عموميات في ذلك ، نعم لا ينبغي ان نترقب من القرآن ان يتحول ايضا الى كتاب مدرسي في علم التاريخ وسنن التاريخ بحيث يستوعب كل التفاصيل وكل الجزئيات حتى ما لا يكون له دخل في منطق عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) وانما القرآن الكريم يحتفظ دائما بوصفه الاساسي والرئيسي ، يحتفظ بوصفه كتاب هداية ، كتاب اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وفي حدود هذه المهمة الكبيرة العظيمة التي مارسها يعطي مقولاته على الساحة التاريخية ويشرح سنن التاريخ بالقدر الذي يلقي ضوءا على عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) بقدر ما يكون موجها وهاديا وخالقا لتبصر موضوعي للاحداث والظروف والشروط. ونحن في القرآن الكريم نلاحظ ان الساحة التاريخية عامرة بسنن كما عمرت كل الساحات الكونية الاخرى بسنن. هذه الحقيقة نراها واضحة في القرآن الكريم ، فقد بينت هذه الحقيقة باشكال مختلفة وبأساليب متعددة في عدد كثير من الآيات بينت على مستوى اعطاء نفس هذه المفهوم بالنحو الكلي ، ان للتاريخ سنن وان للتاريخ قوانين ، وبينت هذه الحقيقة في آيات اخرى

٤٣

على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصاديق ونماذج وامثلة من هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للانسان وبينت في سياق آخر على نحو تمتزج فيه النظرية مع التطبيق أي بين المفهوم الكلي وبين في اطار مصداقه وفي آيات اخرى حصل الحث الاكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم لايجاد عملية استقراء للتاريخ وعملية الاستقراء للحوادث كما تعلمون هي عملية علمية بطبيعتها ، تريد ان تفتش عن سنة عن قانون والا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنة او قانون. اذن هناك السنة متعددة درجت عليها الآيات القرآنية في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها.

٤٤

الدرس الرابع :

قلنا ان هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ بلورت في عدد كثير من الآيات باشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية وفي بعض الآيات اعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج ، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية من اجل الوصول الى السنة التاريخية وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة وبعض هذه الآيات التي سنستعرضها واضح الدلالة على المقصود والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر او يكون معززا ومؤيدا للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية ... فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن وضوابط ما يلي : « لكل امة أجل اذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة

٤٥

ولا يستقدمون » (١). « ولكل امة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » (٢).

نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين ان الاجل اضيف الى الامة ، الى الوجود المجموعي للناس ، لا الى هذا الفرد بالذات او هذا الفرد بالذات ، اذن هناك وراء الاجل المحدود المحتوم لكل انسان بوصفه الفردي ، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الافراد ، للامة بوصفها مجتمعا ينشيء ما بين افراده العلاقات والصلات القائمة على مجموعة من الافكار والمبادىء المسندة بمجموعة من القوى والقابليات. هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة. هذا له أجل ، له موت ، له حياة ، له حركة ، كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الامة تكون حية ثم تموت ، وكما ان موت الفرد يخضع لاجل ولقانون ولناموس كذلك الامم لها آجالها المضبوطة وهناك نواميس تحدد لكل امة هذا الاجل ، اذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الافراد ، بهوياتهم الشخصية « وما اهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم

__________________

(١) سورة يونس : الآية (٤٩).

(٢) سورة الاعراف : الآية (٣٤).

٤٦

ما تسبق من امة أجلها وما يستأخرون » (١). « ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون » (٢). « او لم ينظروا في ملكوت السموات والارض وما خلق الله من شيء وان عسى ان يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون » (٣).

ظاهر الآية الكريمة ان الاجل الذي يترقب ان يكون قريبا او يهدد هؤلاء بأن يكون قريبا هو الاجل الجماعي لا الاجل الفردي لان قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وانما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله. فالاجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة لا عن حالة قائمة بهذا الفرد او بذاك ، لان الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر اليها بالمنظار الفردي ، لكن حينما ننظر اليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، في سرائها وضرائها ، حينئذ يكون لها أجل واحد. فهذا الاجل الجماعي المشار اليه انما هو أجل الامة وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة ... « وربك الغفور ذو الرحمة لو

__________________

(١) سورة الحجر : الآية : (٤ ـ ٥).

(٢) سورة المؤمنون : الآية (٤٣).

(٣) سورة الاعراف : الآية (١٨٥).

٤٧

يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى اهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكم موعدا » (١). « ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » (٢). « ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم فان الله كان بعباده خبيرا » (٣).

في هاتين الآيتين الكريمتين تحدث القرآن الكريم عن انه لو كان الله يريد ان يؤاخذ الناس بظلمهم وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة ولا هلك الناس جميعا. وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني حيث ان الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة ، فيهم الانبياء ، فيهم الائمة الاوصياء هل يشمل الهلاك الانبياء والائمة العدول من المؤمنين ، حتى ان بعض الناس أستغل هاتين الآيتين لانكار عصمة الانبياء (ع) والحقيقة ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي ، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما

__________________

(١) سورة الكهف : الآية (٥٨ ـ ٥٩).

(٢) سورة النحل : الآية (٦١).

(٣) سورة فاطر : الآية (٤٥).

٤٨

تكسبه امة عن طريق الظلم والطغيان ، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من ابناء المجتمع بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم وعلى اختلاف انحاء سلوكهم. حينما وقع التيه على بني اسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده ، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني اسرائيل وانما شمل موسى (ع) شمل اطهر الناس واذكى الناس ، واشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت ، لان موسى (ع) جزء من تلك الامة وقد حل الهلاك بها قد قرر نتيجة ظلمهم ان يتيهوا أربعين عاما وبهذا شمل التيه موسى (ع). حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم واموالهم واعراضهم وعقائدهم ، حينما حل هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الاسلامي ، وقتئذ شمل الحسين (ع) ، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس وأعدل الناس. شمل الامام المعصوم (ع) فقتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته ، هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ ، لا يختص بالظالمين من ابناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية اخرى « واتقوا فتنة لا

٤٩

تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب » (١) بينما يقول في موضع آخر « ولا تزر وازرة وزر اخرى » (٢). فالعقاب الاخروي دائما ينصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنيوي فيكون اوسع من ذلك ، اذن هاتان الآيتان تتحدثان عن سنن التاريخ لا عن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمقاييس يوم القيامة بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الامة ، سعي الامة ، جهد الامة ... « وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذن لا يلبثون خلافك الا قليلا سنة من قد ارسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا » (٣).

هذه الآية الكريمة أيضا تؤكد المفهوم العام ، يقول « ولا تجد لسنتنا تحويلا » ، هذه سنة سلكناها مع الانبياء من قبلك وسوف تستمر ولن تتغير ، أهل مكة يحالون أن يستفزوك لتخرج من مكة لانهم عجزوا عن امكانية القضاء عليك وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد وهو اخراجك من مكة.

وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي شرحها بعد

__________________

(١) سورة الانفال : الآية (٢٥).

(٢) سورة فاطر : الآية (١٨).

(٣) سورة الاسراء : الآية (٧٦ ـ ٧٧).

٥٠

ذلك يشار اليها في هذه الآية الكريمة. وهي أنه اذا وصلت عملية المعارضة الى مستوى اخراج النبي من هذا البلد بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الاخرى فانهم لا يلبثون بعده الا قليلا. ليس المقصود من انهم لا يلبثون الا قليلا يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء ، لان أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة. استفزوه وارعبوه وخرج النبي (ص) من مكة اذ لم يجد له أمانا وملجأ فيها فخرج الى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وانما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وانما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، لا يمكثون الا قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا. فان رسول الله (ص) حين أخرج من مكة لم يمكثوا بعده الا قليلا ، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة الى جزء من دار الاسلام بعد سنين معدودة.

اذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول « ولا تجد لسنتنا تحويلا » « قد خلت من

٥١

قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين » (١). تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لاحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن والاعتبار بها ، « ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ... » (٢). هذه الآية ايضا تثبت قلب رسول الله (ص) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الانبياء الذين مارسوا التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر والثبات واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر ، ولهذا يقول « فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى اتاهم نصرنا ، لا مبدل لكلمات الله » اذن هناك كلمة لله لا تتبدل على مر التاريخ هذه الكلمة هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت في آيات متفرقة وجمعت على وجه الاجمال هنا. اذن فهناك سنة للتاريخ « ... فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية (١٣٧).

(٢) سورة الانعام : الآية (٣٤).

٥٢

استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء الا بأهله فهل ينظرون الا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا » (١). « لو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا » (٢).

هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ « ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (٣) المحتوى الداخلي النفسي والروحي للانسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي الا وفقا لتغير القاعدة على ما يأتي انشاء الله شرحه بعد ذلك. هذه الآية اذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للانسان وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الانسان وبين خارج الأنسان ، فخارج الأنسان يصنعه داخل الانسان ، مرتبط بداخل الانسان ، فاذا تغير ما بنفس القوم تغير وضعهم ، وعلاقاتهم والروابط التي تربط بعضهم ببعض. اذن فهذه سنة

__________________

(١) سورة فاطر : الآية (٤٣).

(٢) سورة الفجر : الآية (٢٣).

(٣) سورة الرعد : الآية (١١).

٥٣

من سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي « ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (١). « أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله الا ان نصر الله قريب » (٢). يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنن التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الامم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل الى حد الزلزال على ما عبر القرآن الكريم ، ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان لارادة الامة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس. اذن نصر الله قريب لكن النصر له طريق. هكذا يريد ان يقول القرآن. نصر الله ليس أمرا عفويا ، ليس أمرا على سبيل الصدفة ، ليس امرا عمياويا. نصر الله قريب

__________________

(١) سورة الانفال : الآية (٥٣).

(٢) سورة البقرة : الآية (٢١٤).

٥٤

ولكن اهتدي الى طريقه ، الطريق لا بد ان تعرف فيه سنن التاريخ ، لا بد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي فيه الى نصر الله سبحانه وتعالى ، قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن اذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي الى اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.

اذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكن الانسان من التوصل الى النصر. فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ « ... وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به كافرن وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين .. » (١). هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ وبين موقع المترفين والمسرفين في الامم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة والا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال « وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها » اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين

__________________

(١) سورة سبأ : الآيات (٣٤ ـ ٣٥).

٥٥

موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، بما سوف يتضح انشاء الله حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين. اذن هذه سنة من سنن التاريخ « .. واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عبادة خبيرا بصيرا » (١).

هذه الآية أيضا تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود ويسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا. وهذه العلاقة ايضا الآية تؤكد انها علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ « ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم لاكلو من فوقهم ومن تحت أرجلهم ... » (٢). « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض

____________

(١) سورة الاسراء : الآية (١٦ ـ ١٧).

(٢) سورة المائدة : الآية (٦٦).

٥٦

ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » (١). « وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا » « بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون » (٢).

هذه الآيات الثلاث تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق احكام الله سبحانه وتعالى وبين وفرة الخيرات وكثرة الانتاج ـ وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج ـ القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن ـ تارة ـ « ألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا » ـ وأخرى ـ « لو ان اهل القرى آمنوا واتقوا » ـ واخرى ـ بأنهم « لو أنهم اقاموا التوراة والانجيل » ، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل انشاء علاقات التوزيع على اسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة وفي فقر بل لازداد الثراء والمال وازدادت الخيرات والبركات. لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأن

__________________

(١) سورة الاعراف : الآية (٩٦).

(٢) سورة الزخرف : الآية (٢٢).

٥٧

تطبيق شريعة السماء وتجسيد احكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار الى زيادة الانتاج والى كثرة الثروة ، الى ان يفتح على الناس بركات السماء والارض. اذن هذه ايضا سنة من سنن التاريخ. وهناك آيات اخرى اكدت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية « ... افلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين امثالها .. » (١). « افلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم » (٢). « وكأي من قرية أهلكناها وهي ظالمة وهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ، أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ... » (٣). « وكم اهلكنا قبلهم من قرية هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ، ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو

__________________

(١) سورة محمد : الآية (١٠).

(٢) سورة يوسف : الآية (١٠٩).

(٣) سورة الحج : الآية (١٢٠).

٥٨

شهيد ... » (١).

من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني .. وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى .. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم .. لاننا بحدود ما نعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان أكد على هذا المفهوم وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث ، الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث ، يفسرها على اساس الصدفة تارة وعلى اساس القضاء والقدرة والاستسلام لامر الله سبحانه وتعالى. القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقام هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري الى ان هذه الساحة لها سنن ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا لا بد لك ان تكتشف هذه السنن ، لا بد وان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه

__________________

(١) سورة ق : الآية (٣٦ ـ ٣٧).

٥٩

القوانين وعلى هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.

هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهما عمليا بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات على أيدي المسلمين انفسهم فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ثم بعد ذلك بأربعة قرون ( على اقل تقدير ) اتجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمى بعصر النهضة ، بدأ لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون ، والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا الى اعماقه ، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة وبدأت هناك ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سننه ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ، كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ. وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس واوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرها في التارخ نفسه ، اذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقة هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لاول مرة على ساحة المعرفة البشرية.

٦٠