مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التوجيه الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ، في ذلك اليوم يقال انت حاسب نفسك لان هذه الاعمال التي مارستها سوف تواجهها في هذا الكتاب ان تحكم على نفسك بموازين الحق في يوم القيامة في ذلك اليوم لا يمكن لاي انسان ان يخفي شيئا عن الموقف ، عن الله سبحانه وتعالى ، وعن نفسه.

هذا كتاب الفرد وذاك كتاب الامة. هناك كتاب لامة جاثية بين يدي ربها ، وهنا لكل فرد كتاب. هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الامة وكتاب الفرد تعبير آخر عما قلناه من ان العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثل في كتاب الامة ، العمل الذي له ابعاد ثلاثة بل ان الذي يستظهر ويلاحظ من عدد آخر من الآيات القرآنية الكريمة انه ليس فقط يوجد كتاب للفرد ويوجد كتاب للامة بل يوجد احضار للفرد ويوجد احضار للامة ، هنا احضارات بين يدي الله سبحانه وتعالى الاحضار الفردي يأتي بكل انسان فردا فردا ، لا يملك ناصرا ولا معينا ، لا يملك شيئاً يستعين به في ذلك الموقف الا العمل الصالح والقلب السليم والايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، هذا هو الاحضار الفردي. قال الله تعالى « ان كل من في السموات والارض الا آت الرحمن عبدا ، لقد احصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه

٨١

يوم القيامة فردا » (١) هذا الاحضار هو احضار فردي بين يدي الله تعالى وهناك احضار آخر ، احضار للفرد في وسط الجماعة ، احضار للامة بين يدي الله سبحانه وتعالى كما يوجد هناك سجلان كذلك يوجد احضاران « كما تقدم » ، ترى كل امة جاثية تدعى الى كتابها ، ذاك احضار للجماعة ، والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة انه هذا الاحضار الثاني يكون من اجل اعادة العلاقات الى نصابها الحق ، العلاقات داخل الامة قد تكون غير قائمة على اساس الحق ، فقد يكون الانسان المستضعف فيها جديرا بأن يكون في اعلى الامة ، هذه الامة تعاد فيها العلاقات الى نصابها الحق. هذا اليوم هو اليوم الذي سماه القرآن الكريم بيوم التغابن ، كيف يحصل التغابن؟ .. يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة ثم كل انسان كان مغبونا في موقعه في الامة ، في وجوده في الامة ، بقدر ما كان مغبونا في موقعه في الامة يأخذ حقه ، يأخذ حقه يوم لا كلمة الا للحق.

لاحظوا قوله تعالى « يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن » (١). اذن فهناك سجلان هناك سجل لعمل الفرد ، وهناك سجل لعمل الامة وعمل الامة هو عبارة عما قلناه في العمل الذي يكون له ثلاث ابعاد ، بعد من

__________________

(١) سورة التغابن : الآية (٩).

٨٢

ناحية العامل ما يسميه ارسطو بـ « العلة الفاعلية » ، وبعد من ناحية الهدف ما يسميه ارسطوا بـ « العلة الغائية » ، وبعد من ناحية الارضية وامتداد الموج ما يسمونه بـ « العلة المادية ». هذا العمل ذو الابعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ ، هذا هو عمل المجتمع ، لكن لا ينبغي ان يوهم ذلك ما توهمه عدد من المفكرين والفلاسفة الاوربيين من ان المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الافراد وكل فرد ليس الا بمثابة الخلية في هذا العملاق الكبير ، « هكذا تصور هيجل مثلا » وجملة من الفلاسفة الاوروبيين ، تصورا عمل المجتمع بهذا النحو ، أرادوا أن يميزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد فقال بأنه يوجد عندنا كائن عضوي واحد عملاق هذا الكائن الواحد هو في الحقيقة يلف في احشاءه وتندمج في كيانه كل الافراد. لكل فرد يشكل خلية في هذا العملاق الواحد وهو يتخذ من كل فرد نافذة على الواقع على العالم بقدر ما يمكن ان يجسد في هذا الفرد من قابلياته هو ومن ابداعه هو ، اذن كل قابلية وكل ابداع ، وكل فكر هو تعبير عن نافذة من النوافذ التي يعبر عنها ذلك العملاق الهيجلي ، هذا التصور اعتقد به جملة من الفلاسفة الاوربيين تمييزا لعمل المجتمع عن عمل الفرد

٨٣

الا ان هذا التصور ليس صحيحا ، ولسنا بحاجة اليه والى الاغراق في الخيال الى هذه الدرجة لكي ننحت هذا العملاق الاسطوري من هؤلاء الافراد ، ليس عندنا الا الافراد زيد وبكر وخالد ، ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم ، « طبعاً مناقشة هيجل من الزاوية الفلسفية يخرج من حدود هذا البحث ومتروك الى بحث آخر » لان هذا التفسير الهيجلي للمجتمع مرتبط بحسب الحقيقة بكامل الهيكل النظري لفلسفته الا ان الشيء الذي نريد أن نعرفه موقع اقدامنا من هذا التصور ، هذا التصور ليس صحيحا ، نحن لسنا بحاجة الى مثل هذا الافتراض الاسطوري لكي نميز بين عمل الفرد وعمل المجتمع ، لان التمييز بين عمل الفرد وعمل المجتمع يتم من خلال ما اوضحناه من البعد الثالث. عمل الفرد هو العمل الذي يكون له بعدان فان اكتسب بعدا ثالثا كان عمل المجتمع ، باعتبار ان المجتمع يشكل أرضية له ، يشكل علة مادية له. يدخل حينئذ في سجل كتاب الامة الجاثية بين يدي ربها هذا هو ميزان الفرق بين العملين.

اذن الشيء الذي نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التاريخية هو العمل الهادف الذي يشكل أرضية ويتخذ من المجتمع او الامة أرضية له على اختلاف سعة الموجة وضيق الموجة هذا هو موضع السنن التاريخية.

٨٤

الدرس السابع :

آن الاوان لكي نتعرف على الصيغ المتنوعة التي تتخذها السنة التاريخية القرآنية.

كيف يتم التعبير موضوعيا عن القانون التاريخي في القرآن الكريم؟

ما هي الاشكال التي تتخذها سنن التاريخ في مفهوم القرآن الكريم؟

هناك ثلاثة أشكال تتخذها السنة التاريخية في القرآن الكريم ، لا بد من استعراضها ومقارنتها والتدقيق في أوجه الفرق بينها.

الشكل الاول للسنة التاريخية هو شكل القضية الشرطية ، في هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء ، وانه متى ما تحقق

٨٥

الشرط تحقق الجزاء وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الاخرى.

فمثلا : حينما نتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء ، نتحدث بلغة القضية الشرطية ، نقول بأن الماء اذا تعرض الى الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة مائة مثلا في مستوى معين من الضغط ، حينئذ سوف يحدث الغليان هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد ان حالة التعرض الى الحرارة ، ضمن مواصفات معينة تذكر في طرف الشرط تستتبع حادثة طبيعية معينة ، وهي غليان هذا الماء « تحول هذا الماء من سائل الى غاز » هذا القانون مصاغ على نهج القضية الشرطية ومن الواضح ان هذا القانون الطبيعي لا ينبئنا شيئاً عن تحقق الشرط وعدم تحققه ، لا ينبئنا هذا القانون الطبيعي عن ان الماء سوف يتعرض للحرارة او لا يتعرض للحرارة هل ان درجة حرارة الماء ترتفع الى الدرجة المطلوبة ضمن هذا القانون او لا ترتفع؟ هذا القانون لا يتعرض الى مدى وجود الشرط وعدم وجوده ، ولا ينبئنا بشيء عن تحقق الشرط ايجابا او سلبا ، وانما ينبئنا عن ان الجزاء لا ينفك عن الشرط ، فمتى ما وجد الشرط وجد الجزاء ، فالغليان نتيجة مرتبطة

٨٦

موضوعيا بالشرط هذا هو تمام ما ينبئنا عنه هذا القانون المصاغ بلغة القضية الشرطية ، ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للانسان في حياته الاعتيادية وتلعب دورا عظيما في توجيه الانسان ، لان الانسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بامكانه ان يتصرف بالنسبة الى الجزاء ففي كل حالة يرى انه بحاجة الى الجزاء يعمل هذا القانون ليوفر شروط هذا القانون ، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضا مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون. متى ما كان غليان الماء مقصودا للانسان يطبق شروط هذا القانون ومتى لم يكن مقصودا للانسان يحاول ان لا تتطبق شروط هذا القانون. اذن القانون الموضوعي بنهج القضية الشرطية موجه عملي للانسان في حياته ومن هنا تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين وعلى مستوى الروابط المضطردة والسنن الثابتة لان صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الانسان يتعرف على موضع قدميه وعلى الوسائل التي يجب ان يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول الى اشباع حاجته لو ان الغليان في الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مضطردة مع حادثة اخرى

٨٧

كالحرارة ، اذن لما استطاع الانسان ان يتحكم في هذه الظاهرة ، ان يخلق هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجة اليها وان يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجة الى تفاديها ، انما كان له هذه القدرة باعتبار ان هذه الظاهرة وضعت في موضع ثابت من سنن الكون وطرح على الانسان القانون الطبيعي من لغة القضية الشرطية فأصبح ينظر في نور لا في ظلام ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعي ان يتصرف ، نفس الشيء نجده في الشكل الاول من السنن التاريخية القرآنية فان عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد نمت صياغته على شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين او تاريخيتين فهي لا تتحدث عن الحادثة الاولى « انها متى توجد ، ومتى لا توجد » لكن تتحدث عن الحادثة الثانية بأنه « متى ما وجدت الحادثة الاولى ، وجدت الحادثة الثانية ».

قرأنا في ما سبق استعراضا للآيات الكريمة التي تدل على سنن التاريخ في القرآن جملة من تلك الآيات الكريمة مفادها هو السنة التاريخية بلغة القضية الشرطية ، تتذكرون ما قرأناه سابقا « ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (١). هذه السنة

__________________

(١) سورة الرعد : الآية (١١).

٨٨

التاريخية للقرآن والتي تقدم الكلام عنها ويأتي انشاء الله الحديث عن شرح محتواها ، هذه السنة التاريخية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية لان مرجع هذا المفاد القرآني الى ان هناك علاقة بين تغييرين ، بين تغيير المحتوى الداخلي للانسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والانسانية ، مفاد هذه العلاقة قضية شرطية ، انه متى ما وجد ذاك التغيير في انفس القوم وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم ، هذه القضية قضية شرطية بين القانون فيها بلغة القضية الشرطية. « والو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا » (١).

قلنا في ما سبق ان هذه الآية الكريمة تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، عن سنة تربط وفرة الانتاج بعدالة التوزيع هذه السنة ايضا هي بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية ايضا. « واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدمير » (٢) ايضا سنة تاريخية بينت بلغة القضية الشرطية ربطت بين امرين ، بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله ، هذا القانون التاريخي ايضا مبين على نهج القضية

__________________

(١) سورة الجن : الآية (١٦).

(٢) سورة الاسراء : الآية (١٦).

٨٩

الشرطية ، فهو لا يبين انه متى وجد الشرط ، لكن يبين متى ما وجد هذا الشرط يوجد الجزاء ، هذا هو الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية في القرآن.

الشكل الثاني الذي تتخذه السنن التاريخية شكل القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة وهذا الشكل ايضا نجد له امثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية. مثلاً : العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك بأن الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني ، أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني هذا قانون علمي وقضية علمية ، الا أنها قضية وجودية ناجزة ، وليست قضية شرطية ، لا يملك الانسان اتجاه هذه القضية أن يغير من ظروفها وأن يعدل من شروطها ، لانها لم تبين كلغة قضية شرطية ، وانما بينت على مستوى القضية الفعلية الوجودية ، الشمس سوف تنكسف ، القمر سوف ينخسف ، هذه قضية فعلية تنظر الى الزمان الآتي وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أي حال ، وكذلك القرارات العلمية التي تصدر عن الانواء الجوية ، المطر ينهمر على المنطقة الفلانية ، هذا أيضا يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تصغ بلغة القضية الشرطية وانما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ زمان معين

٩٠

ومكان معين ، هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية وسوف اذكر فيما بعد انشاء الله عند تحليل عناصر المجتمع الى أمثلة هذا الشكل من القرآن الكريم.

هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذي أوحى في الفكر الاوروبي بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الانسان وارادته ، نشأ هذا التوهم الخاطيء الذي يقول بأن فكرة سنن التاريخ لا يمكن أن تجتمع الى جانب فكرة اختيار الانسان لان سنن التاريخ هي التي تنظم مسار الانسان وحياة الانسان اذن ماذا يبقى لارادة الانسان؟ هذا التوهم أدى الى أن بعض المفكرين يذهب الى ان الانسان له دور سلبي فقط حفاظا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن ، ضحى باختيار الانسان من أجل الحفاظ على سنن التاريخ فقال بأن الانسان دوره دور سلبي وليس دورا ايجابيا ، يتحرك كما تتحرك الالة وفقا لظروفها الموضوعية ، ولعله يأتي بعض التفصيل أيضا عن هذه الفكرة ، وذهب بعض آخر في مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهريا الى أن اختيار الانسان نفسه هو ايضا يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ ، لا نضحي باختيار الانسان ، لكن نقول بان اختيار الانسان لنفسه حادثة تاريخية ايضا ، اذن هو بدوره

٩١

يخضع للسنن هذه تضحية باختيار الانسان لكن بصورة مبطنة ، بصورة غير مكشوفة ، وذهب بعض آخر الى التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الانسان فذهب جملة من المفكرين الاوروبيين الى أنه ما دام الانسان مختارا فلابدّ من أن تستثنى الساحة التاريخية من الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي ، لا بد وان يقال بأنه لا سنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظا على ارادة الانسان وعلى اختيار الانسان وهذه المواقف كلها خاطئة لانها جميعا تقوم على ذلك الوهم الخاطئ ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض أساسي بين مقولة السنة التاريخية ومقولة الاختيار ، وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل الثاني من اشكال السنة التاريخية أي قصر النظر على السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة. لو كنا نقصر النظر على هذا الشكل من سنن التاريخ ولو كنا نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التاريخية لا يبقي فراغا لذي فراغ لكان هذا التوهم واردا ، ولكنا يمكننا ابطال هذا التوهم عن طريق الالتفات الى الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية الذي تصاغ فيه السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية ، وكثيرا ما تكون هذه القضية الشرطية في شروطها معبرة عن ارادة الانسان واختيار

٩٢

الانسان ، يعني ان اختيار الانسان يمثل محور القضية الشرطية « شرط القضية الشرطية » اذن فالقضية الشرطية كامثلة التي ذكرناها من القرآن الكريم تتحدث عن علاقة بين الشرط والجزاء ، لكن ما هو الشرط؟

الشرط : هو فعل الانسان ، هو ارادة الانسان « ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (١) ، التغيير هنا أسند اليهم فهو فعلهم ، ابداعهم وارادتهم. اذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية وحينما يمثل ابداع الانسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية ، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السنة متلائمة تماما مع اختيار الانسان بل أن السنة حينئذ تقضي اختيار الانسان ، تزيده اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف في موقفه ، كيف أن ذلك القانون الطبيعي للغليان كان يزيد من قدرة الانسان لانه يستطيع حينئذ ان يتحكم في الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ، كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية ، هي في الحقيقة ليست على حساب ارادة الانسان وليست نقيضا لاختيار الانسان بل هي مؤكدة لاختيار الانسان وتوضح للانسان نتائج ، لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج ، لكي

__________________

(١) سورة الرعد : الآية (١١).

٩٣

يستطيع ان يتعرف على الطريق الذي يسلك به الى هذه النتيجة او الى تلك النتيجة فيسير على ضوء وكتاب منير هذا هو الشكل الثاني للسنة التاريخية.

الشكل الثالث للسنة التاريخية وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا ، هو السنة التاريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي في حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدي وفرق بين الاتجاه والقانون ولكي تتضح الفكرة في ذلك لابد وان نطرح الفكرة الاعتيادية التي نعيشها في اذهاننا عن القانون ، القانون العلمي كما نتصوره عادة عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدي من قبل الانسان ، لانها قانون من قوانين الكون والطبيعة فلا يمكن للانسان ان يتحداها ، أن ينقضها ، أن يخرج عن طاعتها ، يمكنه ان لا يصلي لان وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، يمكنه أن يشرب الخمر لان حرمة الخمر قانون تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، لكنه لا يمكنه ان يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية ، مثلا لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلي اذا توفرت شروط الغليان ، لا يمكنه ان يتحدى الغليان وان يؤخر الغليان لحظة عن موعده المعين لان هذا قانون والقانون صارم والصرامة تأبى التحدي. هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن

٩٤

القوانين وهي فكرة صحيحة الى حد ما ، لكن ليس من الضروري ان تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدي ولا يمكن تحديها من قبل الانسان بهذه الطريقة بل هناك اتجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الانسان الا ان هذه الاتجاهات لها شيء من المرونة بحيث انها تقبل التحدي ولو على شوط قصير ، وان لم تقبل التحدي على شوط طويل ، لكن على الشوط القصير تقبل التحدي أنت لا تستطيع أن تؤخر موعد غليان الماء لحظة ، لكن تستطيع أن تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ لكن هذا لا يعني أنها ليست اتجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ ، هي اتجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لكنها تحطم المتحدي تحطمه بسنن التاريخ نفسها ، ومن هنا كانت اتجاهات : هناك اشياء يمكن تحديها دون ان يتحطم المتحدي ، لكن هناك اشياء يمكن تتحدى على شوط قصير ولكن المتحدي يتحطم على سنن التاريخ نفسها ، هذه هي طبيعة الاتجاهات الموضوعية في حركة التاريخ. لكي أقرب الفكرة اليكم نستطيع أن نقول بأن هناك اتجاها في تركيب الانسان وفي تكوين الانسان اتجاها موضوعيا لا تشريعيا الى اقامة العلاقات المعينة بين

٩٥

الذكر والانثى في مجتمع الانسان ضمن اطار من أطر النكاح والاتصال ، هذا الاتجاه ليس تشريعيا ليس تقنينا اعتباريا وانما هو اتجاه موضوعي اعملت العناية في سبيل تكوينه في مسار حركة الانسان ، لا نستطيع أن نقول أن هذا مجرد قانون تشريعي ، مجرد حكم شرعي ، لا وانما هذا اتجاه ركب في طبيعة الانسان وفي تركيب الانسان وهو الاتجاه الى الاتصال بين الذكر والانثى وادامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن اطار من أطر النكاح الاجتماعي. هذه سنة لكنها سنة على مستوى الاتجاه ، لا على مستوى القانون .. لماذا؟ لان التحدي لهذه السنة لحظة او لحظات ممكن ، أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن بينما لم يكن بامكانهم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من الاشكال ، الا ان تحدي هذه السنة يؤدي الى أن يتحطم الانسان ، المجتمع الذي يتحدى هذه السنة يكتب بنفسه فناء نفسه لانه يتحدى ذلك عن طريق الوان اخرى من الشذوذ تؤدي الى فناء المجتمع والى خراب المجتمع ومن هنا كان هذا اتجاها موضوعيا يقبل التحدي على شوط قصير ، لكن لا يقبل التحدي على شوط طويل لانه سوف يحطم المتحدي

٩٦

بنفسه. الاتجاه الى توزيع الميادين بين المرأة والرجل هذا الاتجاه اتجاه موضوعي وليس اتجاها ناشئا من قرار تشريعي ، اتجاه ركب في طبيعة الرجل والمرأة ، ولكن هذا الاتجاه يمكن ان يتحدى ، يمكن استصدار تشريع يفرض على الرجل بأن يبقى في البيت ليتولى دور الحضانة والتربية وان تخرج المرأة الى الخارج لكي تتولى مشاق العمل والجهد ، هذا بالامكان ان يتحقق عن طريق تشريع معين وبهذا يحصل التحدي لهذا الاتجاه لكن هذا التحدي سوف لن يستمر لان سنن التاريخ سوف تجيب على هذا التحدي لاننا بهذا سوف نخسر ونجمد كل تلك القابليات التي زودت بها المرأة من قبل هذا الاتجاه لممارسة دور الحضانة والامومة وسوف نخسر كل تلك القابليات التي زود بها الرجل من اجل ممارسة دور يتوقف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس كما أن من قبيل ان تسلم بناية تسلم نجارياتها الى حداد وحدادياتها الى نجار يمكن ان تصنع هكذا ويمكن ان تنشأ البناية أيضا لكن هذه البناية سوف تنهار ، سوف لن يستمر هذا التحدي على شوط طويل سوف يتقطع في شوط قصير كل اتجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنن التاريخ ومن سنن حركة الانسان ولكنها سنة مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير

٩٧

ولكنها تجيب على هذا التحدي واهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن هو الدين ، القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ليس الدين فقط تشريعا وانما هو سنة من سنن التاريخ ولهذا يعرض الدين على شكلين تارة يعرضه بوصفه تشريعا كما يقول علم الاصول ، بوصفه ارادة تشريعية مثلا يقول « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه » (١).

هنا يبين الدين كتشريع ، كقرار ، كأمر من الله سبحانه وتعالى لكن في مجال آخر يبينه سنة من سنن التاريخ وقانون داخل في صميم تركيب الانسان وفطرة الانسان قال سبحانه وتعالى « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون » (٢).

هنا الدين لم يعد مجرد قرار وتشريع من أعلى وانما الدين هنا فطرة للناس ،

__________________

(١) سورة الشورى : الآية (١٣).

(٢) سورة النون : الآية (٣٠).

٩٨

فطرة الله التي فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق الله. هذا الكلام كلام موضوعي خبري لا تشريعي انشائي ، لا تبديل لخلق الله ، وهكذا انك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان أي جزء من اجزاءه التي تقومه ، كذلك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان دينه ، الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مر التاريخ يمكن اعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها لانها في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له ، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الانسان من خلال تطوراته المدنية والحضارية على مر التاريخ. القرآن يريد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات بالامكان اخذها وبالامكان عطاؤها ، الدين خلق الله ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله في هذا الكلام « لا » ليست ناهية بل نافية يعني هذا الدين لا يمكن أن ينفك عن خلق الله ما دام الانسان انسانا فالدين يعتبر سنة لهذا الانسان. هذه سنة ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى الغليان ، سنة تقبل التحدي على الشوط القصير كما كان بامكان تحدي سنة النكاح اللقاء الطبيعي والتزواج الطبيعي ، كما كان بالامكان تحدي ذلك عن طريق الشذوذ الجنسي ، لكن على شوط قصير كذلك

٩٩

يمكننا تحدي هذه السنة على شوط قصير عن طريق الالحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرى بأمكان الانسان ان لا يرى الشمس ، أن يغمض عينه عن الشمس ويلحد ولا يرى هذه الحقيقة ولكن هذا التحدي لا يكون الا على شوط قصير لان العقاب سوف ينزل بالملحدين ، العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية على يد ملائكة العذاب في السماء في يوم القيامة ليس هو ذاك العقاب الذي ينزل على من يخالف القانون على يد الشرطي ، يضربه بالعصا على رأسه ، وانما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها تفرض العقاب على كل أمة تريد أن تبدل خلق الله سبحانه وتعالى ، ولا تبديل لخلق الله « ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » (١).

نحن نقول بأن السنن التاريخية من الشكل الثالث اذا تحداها الانسان فسوف يأخذ العقاب من السنن التاريخية ، سرعان ما ينزل عليه العقاب من السنن التاريخية نفسها « كلمة سرعان هنا يجب أن تؤخذ بمعنى السرعة التاريخية لا السرعة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية » وهذا ما أرادت أن تبينه هذه

__________________

(١) سورة الحج : الآية (٤٧).

١٠٠