الكشف والبيان - ج ٣

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٣

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

وجاز القسمة. قال : فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مسجد الفضيح فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك عليّ بنات له ثلاثا وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن ، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ، فلم يعطياني ولا بناته من المال شيئا وهنّ في حجري ، ولا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهن رأس. فدعاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلأ ولا ينكأ عدوا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انصرفوا حتى أنظر ماذا يحدث الله لي فيهن» (١) [٢٤٦] فانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(لِلرِّجالِ) يعني الذكور من أولاد الميت وأقربائه (نَصِيبٌ) وحظ وسهم (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) من الميراث ، والإناث لهن حصّة من الميراث.

(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) المال (أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) حظا معلوما واجبا ، نظيرها فيما قال : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٢) وهو نصب لخروجه مخرج المصدر كقول القائل : لك عليّ حق حقا واجبا ، وعندي درهم هبة مقبوضة ، قاله الفراء.

وقال أبو عبيدة : هو نصب على الخروج ، الكسائي : على القطع ، الأخفش : جعل ذلك نصيبا فأثبت لهم في الميراث حقا ، ولم يبيّن كم هو.

ـ فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سويد وعرفجة : «لا تفرّقا من مال أوس بن ثابت شيئا ، فإن الله تعالى جعل لبناته نصيبا ممّا ترك ولم يبين كم هو ، حتى ننظر ما ينزل الله عزوجل فيهن» ، فأنزل الله عزوجل (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى قوله (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فلما نزلت أرسل رسول الله إلى سويد وعرفجة : «أن ادفعا إلى أم كحة الثمن ممّا ترك وإلى بناته الثلثين ، ولكما باقي المال» (٣).

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) يعني قسمة المواريث (أُولُوا الْقُرْبى) الذين لا يرثون (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي فارضوهم من المال قبل القسمة ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية :

فقال قوم : هي منسوخة. وقال سعيد بن المسيب والضحاك وأبو مالك : كانت هذه قبل آية المواريث ، فلما نزلت آية الميراث جعلت الميراث لأهلها الوصية ونسخت هذه الآية ، وجعلت لذوي القربى الذين يحزنون ولا يرثون اليتامى والمساكين ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.

وقال آخرون : هي محكمة ، وهو قول الأشعري والنخعي والشعبي والزهري ورواية عكرمة ومقسم عن ابن عباس. وقال مجاهد : واجبة على أهل الميراث ما طابت بها أنفسهم.

__________________

(١) أسباب النزول : ٩٦.

(٢) سورة النساء : ١١٨.

(٣) تفسير القرطبي : ٥ / ٤٧.

٢٦١

قتادة عن الحسن : ليست بمنسوخة ولكن الناس شحوا وبخلوا.

وروى عبد الرزاق عن معمّر عن هشام بن عروة : أن أباه أعطاه من ميراث مصعب حين قسم ماله ، قاله الحسن.

وقال التابعون : كانوا يعطون التابوت والأواني وباقي المتاع والثياب ، والشيء الذي يستحي من قسمته ، فإن كان بعض الورثة طفلا ، فاختلفوا :

فقال ابن عباس والسدي وغير هما : إذا حضر القسمة هؤلاء ، فإن كان الميّت أوصى لهم بشيء أنفدت لهم وصيته ، وإن كانت الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانت صغارا اعتذروا إليهم ، فيقول الولي والوصي : إني لا أملك هذا إنما هو لهؤلاء الضعفاء الصغار الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق ، ولو كان لي من الميراث شيء لأعطيتكم ، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم ، وإن ماتوا فورثناهم أعطيناكم حقكم ، وهذا هو القول المعروف.

وقال سعيد بن جبير : هذه الآية ممّا يتهاون به الناس ، هما وليان : وليّ يرث وهو الذي يعطي ويكسي ، ووليّ لا يرث وهو الذي يقال له قول المعروف.

وقال بعضهم : ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار ، فإن كانوا كبارا تولوا إعطاءهم ، وإن كانوا صغارا تولى إعطاء ذلك وليّهم.

روى محمد بن سيرين : أن عبيدة السلماني قسّم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاما لأهل هذه الآية ، وقال : لو لا هذه الآية لكان هذا من مالي.

روى قتادة عن يحيى بن يعمر قال : تلك آيات محكمات مدنيات تركهن الناس ، هذه الآية وآية الاستئذان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (١) وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) (٢).

وقال بعضهم : هذا على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب ، وهو أول الأقاويل بالصواب.

وقال ابن زيد وغيره : هذا في الوصية لا في الميراث ، كان الرجل إذا أوصى قال : فلان ماله أمر أن يوصي بثلث ماله لمن سمّى الله في هذه الآية.

وروى ابن أبي مليكة عن أسماء بنت عبد الرحمن وأبي بكر والقاسم بن محمد بن أبي بكر : أخبرا أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسّم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حيّة ،

__________________

(١) سورة النور : ٥٨.

(٢) سورة الحجرات : ١٣.

٢٦٢

قالا : فلم يترك في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلّا أعطاهم من مال أبيه ، وتلا هذه الآية (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ).

قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ، ليس ذلك له إنما ذلك في الوصية.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) الآية.

قال أكثر المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته عند وصيته : أنظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا ، فقدّم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلانا كذا وفلانا كذا حتى يأتي على عامّة ماله ويستغرقه ولا يبقي لورثته شيئا ، فنهاهم الله عزوجل من ذلك وأمر هم أن يأمروه أن يبقي لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ولا يجحف بورثته ، كما لو كان هذا الميت هو الموصي ، لسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة مع ضعفهم ، ويجرهم إلى التصرّف والحيلة.

وقال مقسم الحضرمي : الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته : اتق الله وأمسك عليك مالك فليس أحد أحق بمالك من أولادك ، وينهاه عن الوصية لأقربائه ولليتامى والفقراء ، ولو كان هذا هو الموصي لسرّه أن يوصي لهم.

وقال الكلبي : هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول : من كان في حجره يتيم فليحسن إليه ، فليقل وليفعل خيرا وليأت إليه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده. وهي رواية عطية عن ابن عباس.

وقال الشعري : كنّا بالقسطنطينيّة أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محبرين وابن الديلمي وهاني بن مكتوم ، وجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان ، فضقت ذرعا لما سمعت فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشير عليّ ودّي أنه لا يولد لي ولد أبدا قال : فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من قسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلّا وهي خارجة شئنا أو أبينا ، ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجّاك الله منه ، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك؟ قلت : بلى فتلا هذه الآية ، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) والسديد العدل والصواب من القول (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية.

قال مقاتل بن حيان : نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد ، ولّي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله عزوجل فيه (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) حراما بغير حق (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أخبر عن ماله وأخبر عن حاله ، والعرب تقول للشيء الذي يؤدى إلى الشيء : هذا كذا لما يؤدى إليه ، مثل قولهم : هذا الموت ، أي يؤدي إليه.

٢٦٣

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في الشارب من أواني الذهب والفضة «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» (١) [٢٤٧].

وقال عليه‌السلام : «البحر نار في نار» (٢) [٢٤٨] أي عاقبتها كذلك ، وذكر البطون تأكيدا كما يقال : نظرت بعيني وقلت بلساني وأخذت بيدي ومشيت برجلي (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) وقودا.

قرأه العامة بفتح الياء ، أي يدخلون ، تصديقها (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) ، وقوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) (٣).

وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وعاصم وأبو جعفر : بضم الياء ، أي يدخلون النار ويحرقون نظيره ، قوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (٤) وقوله : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) (٥).

وقرأ حميد بن قيس : (وسيصلّون) بضم الياء وتشديد اللام ، من التصلية ، لكثرة الفعل ، أي مرّة بعد مرّة ، دليله قوله : (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٦) وكل صواب ، يقال : صليت الشيء إذا شويته.

وفي الحديث : أتى بشاة مصلية ، فاصليته ألقيته في النار ، وصليته مرّة بعد مرّة ، وصليت بكسر اللام دخلت النار وتصلّيت استدفأت بالنار. قال الشاعر :

وقد تصليت حرّ حربهم

كما تصلّى المقرور من قرس (٧).

وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ، ولهب النار ودخانه يخرج من فيه وأذنيه وأنفه وعينيه ، يعرفه كل من رآه يأكل مال اليتيم.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما عالية على منخريه وأخرى على بطنه ، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها ، ثم يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً)» (٨) [٢٤٩].

(يُوصِيكُمُ اللهُ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ١١٢ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢١٢.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢١١.

(٣) سورة الليل : ١٥.

(٤) سورة المدثر : ٢٦.

(٥) سورة النساء : ٣٠.

(٦) سورة الحاقة : ٣١.

(٧) تفسير القرطبي : ٥ / ٥٤.

(٨) تفسير الطبري : ٤ / ٢٦٣ ، (بتفاوت)

٢٦٤

فصل في بسط الآية

اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة ، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال ، فأبطل الله عزوجل ذلك بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية ، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال الله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني الحلفاء (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وأعطوهم حظهم من الميراث ، ثم صارت بعد الهجرة ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) (١) فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين : بالسبب والنسب ، فأما السبب فهو النكاح والولاء ، وهذا علم عريض لذلك.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي» (٢) [٢٥٠].

ولا يمكن معرفة ذلك إلّا بمعرفة الورثة والسهام ، وقد أفردت فيه قولا وجيزا جامعا كما يليق بشرط الكتاب والله الموفق للصواب.

اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه ، فما فضل يقسّم بين الورثة ، والورثة على ثلاثة أقسام :

منهم من يرث بالفرض ، ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعا ، فصاحب الفرض : من له سهم معلوم ونصيب مقدّر ، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات ، وصاحب التعصيب : من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض ، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروما إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء ، مثل الأخ والعم ونحوهما ، والذي يرث بالوجهين : هو الأب مع البنت وبنت الابن ، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس ، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر ، عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق ، ومن النساء سبع : البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق ، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة ، الأبوان والولدان والزوجان.

والعلة في ذلك : أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة ، والذين لا يرثون بحال ستة : العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين ، والسهام المحدودة في كتاب الله عزوجل ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٧٢.

(٢) فتح الباري : ١٢ / ٤ ، كنز العمال : ١١ / ٣ بتفاوت يسير.

٢٦٥

والنصف فرض خمسة : بنت الصلب ، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب ، والأخت للأب والأم ، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم ، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن.

والربع فرض اثنين : الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن ، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن.

والثمن فرض واحد : الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن.

والثلثان فرض كل اثنين فصاعدا ممّن فرضه النصف.

والثلث فرض ثلاثة : الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلّا في مسألتين : أحد هما زوج وأبوان ، والأخرى امرأة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج ، وهو في الحقيقة سدس جميع المال ، والزوجة وهو ربع جميع المال ، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم وإناثهم سواء ، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيرا له من الثلث.

والسدس فرض سبعة : بنت الابن مع بنت الصلب ، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم ، والواحد من ولد الأم ، والأم إذا كان للبنت ولدا ، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات ، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن [....] (١) مع الابن وابن الابن ، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا [...] (٢) أخواتهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، ثم الأب وله ثلاثة أحوال : حال ينفرد بالتعصيب ، وهو مع عدم الولد وولد الابن ، وحال ينفرد بالفرض ، وهو مع الابن أو ابن الابن ، وحال يجمع له الفرض والتعصيب ، وهو مع البنت وابنة الابن ، ثم الجد إن لم يكن له أخوة ، وإن كان له أخوة قاسمهم ، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم ، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، والواحدة منهن عصبة مع البنات ، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب ، دون الإناث ، ثم بنو الأخوة للأب والأم ، ثم بنو الأخوة للأب ، ثم الأعمام للأب والأم ، ثم الأعمام للأب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم أعمام الأب كذلك ، ثم أعمام الجد ، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود ، ثم مولى العتق ، ثم عصبته على هذا الترتيب ، فهذه جملة من هذا العلم.

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

٢٦٦

رجعنا إلى تفسير الآية ، اختلف المفسرون في سبب نزولها :

فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : مرضت فعادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر رضي‌الله‌عنه وهما يتمشيان ، فأغشي عليّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أمضي في مالي؟ كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فيّ آية المواريث.

وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وابنتين وأخا ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد ، وإن سعدا قتل يوم أحد معك شهيدا ، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلّا ولهما مال ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك» [٢٥١] فأقامت حينا ثم عادت وشكت وبكت ، فنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى آخرها.

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّهما وقال : «أعط بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك» (١) [٢٥٢] ة، فهذا أول ميراث قسّم في الإسلام.

وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة وقد مضت القصة.

وقال السدي : نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر ، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات ، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئا ، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله آية المواريث.

وقال ابن عباس : كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله ذلك ، وأنزل آية المواريث ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لم يرض بملك مقرب ونبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث» (٢) [٢٥٣] وقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ) أي يعهد إليكم ويفرض عليكم (فِي أَوْلادِكُمْ) أي في أمر أولادكم إذا متم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً) يعني المتروكات (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فصاعدا يعني البنات (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) و (فوق) صلة ، كقوله عزوجل : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) (٣).

(وَإِنْ كانَتْ) يعني البنت (واحِدَةً).

قرأه العامة : نصب على خبر كان ، ورفعهما أهل المدينة على معنى : إن وقعت واحدة ، وحينئذ لا خبر له.

__________________

(١) سنن الترمذي : ٣ / ٢٨٠ ، ارواء الغليل : ٦ / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) مجمع البيان : ٣ / ٢٩ ، ولم يرد فيه ذيل الرواية.

(٣) سورة الأنفال : ١٢.

٢٦٧

(فَلَهَا النِّصْفُ) ثم قال : (وَلِأَبَوَيْهِ) يعني لأبوي الميت ، كناية عن غير المذكور (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) أو ولدان ، والأب هاهنا صاحب فرض (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) قرأ أهل الكوفة : (فَلِأِمِّهِ) بكسر الهمزة ، وقرأ الباقون : بالضم على الأصل.

(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) اثنين كانا أو أكثر ذكرانا أو إناثا (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) هذا قول عامة الفقهاء ، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة ، وكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث وما بقي فللأب ، اتبع ظاهر اللفظ.

وروى : أن ابن عباس دخل على عثمان فقال : لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله عزوجل : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة؟ فقال عثمان : هل أستطيع نقض أمر قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار. وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به ، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية ، لأن الجمع ضمّ شيء إلى شيء ، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له ، قال الله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (١).

وتقول العرب : ضربت من زيد وعمرو ، رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما.

وأنشد الأخفش :

لما أتتنا المرأتان بالخبر

أن الأمر فينا قد شهر (٢)

قال الثعلبي : وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي :

ويحيى بالسلام غني قوم

ويبخل بالسلام على الفقير

أ ليس الموت بينهما سواء

إذا ماتوا وصاروا في القبور (٣)

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم : (يوصى) بفتح الصاد ، الباقون : بالكسر وكذلك الآخر.

واختلفت الرواية فيهما عن عاصم ، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا ، قال الأخفش : وتصديق الكسر يوصين ويواصون.

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً).

__________________

(١) سورة التحريم : ٤.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ٧٣.

(٣) تفسير القرطبي : ٥ / ٧٣ ، و ١٤ / ١٠٦.

٢٦٨

قال مجاهد : في الدنيا ، وقرأ بعضهم : (أيهما أقرب لكم نفعا) أي رفع بالابتداء ، ولم يعمل فيه ال (ما) قبله ، لأنه استفهام و (أقرب) خبره و (نفعا) نصب على التمييز ، كأنه يقول : لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتا فيرثه صاحبه ، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه.

وقال ابن عباس : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله عزوجل يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما.

قال الحسن : لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَ) يعني وللزوجات (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) نظم الآية : وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة ، وهو نصب على المصدر ، وقيل : على الحال ، وقيل : على خبر ما لم يسمّ فاعله ، تقديرها : وإن كان رجل يورث ماله كلالة.

وقرأ الحسن وعيسى : (يُوَرِثُ) بكسر الراء [جعلا] فعلا له.

واختلفوا في الكلالة :

فقال الضحاك والسدي : هو الموروث. سعيد بن جبير : هم الورثة. النضر بن شميل : هو المال. واختلفوا أيضا في معناه وحكمه :

فروى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن الكلالة ، فقرأ آخر سورة النساء ، فردّ عليه السائل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لست بزائدك حتى أزاد» (١) [٢٥٤].

وروى شعبة عن عاصم الأحوال قال : سمعت الشعبي يقول : إن أبا بكر رضي‌الله‌عنه قال في الكلالة : أقضي فيها قضاء وأن كان صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان ومني ، والله بريء منه : هو ما دون الوالد والولد ، يقول : كل وارث دونهما كلالة قال : فلما كان عمر رضي‌الله‌عنه بعده قال : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر : هو ما خلا الوالد والولد.

وقال طاوس : هو ما دون الولد. والحكم : هو ما دون الأب. عطية : هم الأخوة للأم.

عبيد بن عمير : هم الأخوة للأب. وقيل : هم الأخوة والأخوات.

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث : ١٨٥ ، (بتفاوت)

٢٦٩

قال جابر بن عبد الله : قلت يا رسول الله إنما يرثان أختان لي فكيف بالميراث؟ فنزلت : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

وقال الأخفش : كل من لم يرثه أب أو أم فهو كلالة.

وقال أهل اللغة : هو من نكلله النسب إذا أحاط به كالإكليل.

قال امرؤ القيس :

أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حبّي مكلل (١)

فسمّوا كلالة ، لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم ، وأحاطتهم به أنهم ينسبون معه.

قال الفرزدق :

ورثتم قناة الملك غير كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم (٢)

وقال بعضهم :

وإن أبا المرؤ أحمى وله

ومولى الكلالة لا يغضب

(وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) ولم يقل : (ولهما) وقد مضى ذكر الرجل والمرأة على عادت العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما كانا في الحكم سواء ، ربّما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا ، يقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما كلها جائز ، قال الله عزوجل : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) ونظائرها ، وأراد بهذا الأخ والأخت من الأمر ، يدل عليه قراءة سعد بن أبي وقاص : وله أخ أو أخت من الأم (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) بينهم بالسوية ذكورهم وإناثهم سواء (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ).

قال علي عليه‌السلام : إنكم تقرؤون الوصيّة قبل الدين وبدأ رسول الله بالدين قبل الوصية.

وهذا قول عامة الفقهاء ، ومعنى الآية الجمع لا الترتيب (غَيْرَ مُضَارٍّ) مدخل الضرر على الورثة.

قال الحسن : هو أن توصي بدين ليس عليه (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ).

وقرأ الأعمش : (غير مضار وصية من الله) على الإضافة.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

__________________

(١) غريب الحديث : ٣ / ١٠٥ ، لسان العرب : ٧ / ٢٥٢.

(٢) الصحاح : ٥ / ١٨١١ ، لسان العرب : ١١ / ٥٩٢.

٢٧٠

قال قتادة : إن الله عزوجل كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدر فيه ، ولا يصلح مضارة في حياة ولا موت. وفي الخبر من قطع ميراثه في الجنة (١) (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إلى قوله :

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) يعني الزنا ، وفي مصحف عبد الله الفاحشة (مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) يعني من المسلمين (فَإِنْ شَهِدُوا) عليها بالزنا (فَأَمْسِكُوهُنَ) فأحبسوهن (فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وإنما كان هذا قبل نزول الحدود ، كانت المرأة في أول الإسلام لو أذنبت حبست في البيت حتى تموت ؛ وإن كان لها زوج كان مهرها له ، حتى نزلت قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) (٢).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» (٣) [٢٥٥].

فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية ، وهو الإمساك في البيوت وبقي بعضها محكما وهو الاستشهاد (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) يعني الرجل والمرأة ، المذكر والمؤنث إذا اجتمعا قلب المذكر على المؤنث ، والهاء راجعة إلى الفاحشة.

قال المفسرون : فهما البكران يزنيان (فَآذُوهُما) قال عطاء وقتادة والسدي : يعني عيّروهما

__________________

(١) انظر : كشف الخفاء : ٢ / ٣١٠.

(٢) سورة النور : ٢.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٤٧٦ وصحيح مسلم : ٥ / ١١٥ مع تقديم وتأخير.

٢٧١

وعنفوهما باللسان : أما خفت الله أما استحيت الله حين أتيت الزنا ، وأشباهه. مجاهد : سبّوهما واشتموهما. ابن عباس : هو باللسان واليد كأن [يوذي] بالتعيير والضرب بالنعال.

(فَإِنْ تابا) من الفاحشة (وَأَصْلَحا) العمل فيما بعد (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) ولا تؤذوهما ، وإنما كان قبل نزول الحدود ، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية والإمساك من الآية الأولى بالرجم للبنت والجلد والنفي للبكر ، والجلد في القرآن والنفي والرجم في السنة.

روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني : إنما أخبراه أن رجلين اختصما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله.

وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله أقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم؟ فقال : «تكلم». فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا ـ قال مالك : والعسيف الأجير ـ فزنا بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديت منه مائة شاة وبجارية ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك ، وجلد ابنك مائة وتغريبه عاما» (١) [٢٥٦].

وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الرجل فان اعترفت رجمها ، فاعترفت فرجمها.

روى الزهري عن أبي سلمة عن عروة بن الزبير : أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه غرّب في الزنا ولم تزل تلك السنّة حتى غرّب مروان في إمارته.

وروى الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله : أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترف عنده بالزنا : فأعرض عنه ثم اعترف فاعترض حتى شهد على نفسه أربع مرات ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك مجنون؟» قال : لا ، قال : «أحصنت؟» قال : نعم ، فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجم بالمصلّي ، فلما أذاقته الحجارة فرّ ، وأدرك فرجمه حتى مات (٢).

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه خيرا ولم يصل عليه.

سليمان بن بريدة عن أبيه قال : جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله طهّرني ، قال : «ويحك إرجع فاستغفر الله وتب إليه» قال : فرجع غير بعيد وقال مثل ذلك ، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ممّ أطهرك؟» قال : من الزنا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك مجنون؟» وأخبر أنه ليس به جنون ، فقال : «أشرب خمرا» ، فقام رجل فاستشمه فلم يجد منه ريح خمر.

__________________

(١) مسند الطيالسي : ١٢٨ ، السنن الكبرى : ٣ / ٤٧٧.

(٢) السنن الكبرى : ١ / ٦٣٥.

٢٧٢

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أزنيت أنت؟» قال : نعم فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجم ، وجاء النبي فقال : «استغفروا لماعز بن مالك» ، فقالوا : أيغفر الله لماعز بن مالك؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد تاب ماعز توبة لو قسّمت بين أمة لوسعتها» (١) [٢٥٧].

وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ألا وإن الرجم حق على من زنا ، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الاعتراف ، وقد قرأتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ، ألا وقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) قال الحسن : يعني التوبة التي يقبلها الله ، فتكون على بمعنى عند ، أقامه مقام صفة.

قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : (على) هاهنا بمعنى (من) يقول : إنما التوبة من الله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ، اختلفوا في معنى الجهالة : فقال مجاهد والضحاك : هي العمد.

وقال الكلبي : لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل عقوبته.

وقال سائر المفسرين : يعني المعاصي كلها ، فكل من عصى ربّه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.

قتادة : اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأوا أنّ كل شيء عصي به ربّه فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره.

وقال الزجاج : معنى قوله : (بِجَهالَةٍ) اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ، نظيرها في الأنعام (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) (٢) ، (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) معناه قبل أن يحبطون السوء بحسناته فيحبطها.

قال السدي والكلبي : القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت.

عكرمة وابن زيد : ما قبل الموت فهو قريب.

أبو مجلن والضحاك : قبل معاينة ملك الموت.

أبو موسى الأشعري : هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة.

__________________

(١) كنز العمال : ١٣ / ٥٩٢ ـ ٥٩٣ ، شرح مسند أبي حنيفة : ٢٥٢.

(٢) سورة الأنعام : ٥٤.

٢٧٣

زيد بن أسلم عن عبد الرحمن [السلماني] قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله عزوجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم» [٢٥٨].

قال الثاني : وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله عزوجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم» [٢٥٩].

قال الثالث : وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله عزوجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة» [٢٦٠].

فقال الرابع : وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله عزوجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه» (١) [٢٦١].

خالد بن [سعدان] عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه» ثم قال : «إن السنة لكثير ، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه» ثم قال : «إن الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه» ثم قال : «إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه» ثم قال : «إن الساعة لكثير ، من تاب قبل موته قبل أن يغرغر بها تاب الله عليه» (٢) [٢٦٢].

المسيب بن شريك عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى يفارق روحه جسده فقال الله عزوجل : وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر» (٣) [٢٦٣].

وعن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، قال الربّ تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروا لي» (٤) [٢٦٤].

قال الثعلبي : وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت محمد بن عبد الجبار يقول : يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته : ما أسرع ما جئت.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) يعني المعاصي (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ)

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٤٢٥ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٤.

(٢) كنز العمال : ٤ / ٢٢٣ ، ح ١٠٢٦٥.

(٣) تفسير القرطبي : ٥ / ٩٣ ، باختلاف يسير.

(٤) العهود المحمدية ، الشعراني : ٢٧٤.

٢٧٤

ووقع في النزع (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ) موضع (الَّذِينَ) خفض يعني ولا الذين يتوبون (وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي هيّئنا ، والاسم منه العتاد.

قال عدي بن الرقاع :

تأتيه أسلاب الأعزة عنوة

قسرا ويجمع للحروب عتادها (١)

وقال للفرس المعد للحرب : عتّد وعتد.

وقال الشاعر الجعفي :

حملوا بصائرهم على أكتافهم

وبصيرتي يعدوا بها عتد وأي (٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي على كره منهن.

قال المفسرون : كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام ، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من جنسه فيلقي ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها ، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق ، إلّا بالصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ، ولم يعطها منه شيئا ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج فطوّل عليها وضارها ، لتفتدي نفسها بما ورثت من الميت ، أو تموت هي فيرثها ، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها ، فكانوا يفعلون ذلك حتى توفى أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، فقام ابن له من غيرها يقال له : (حصن).

وقال مقاتل بن حيان : اسمه قيس بن أبي قيس ، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها بذلك لتفتدي بمالها ، وكذلك كانوا يفعلون إذا ورث أحدهم نكاحها ، فإن كانت جميلة موسرة دخل بها ، وإن لم تكن جميلة طوّل عليها لتفتدي منه ، فأتت كبيشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفى وورث نكاحي ابنه وقد أضرّني حصن وطوّل عليّ فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله» [٢٦٥] قالت : فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة ، فأتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مسجد الفضيح فقلن : يا رسول الله ما نحن إلّا كهيئة كبشة غير أننا لم ينكحنا الأبناء وينكحنا بنو العم فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ) الآية (٣).

__________________

(١) الاسلاب : ما يسلب من الحرب ، والبيت في تفسير مجمع البيان : ٣ / ٤٢.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ٣٩٦ ، تفسير القرطبي : ٧ / ٥٧.

(٣) أسباب النزول : ٩٨.

٢٧٥

وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب : بضم الكاف هاهنا وفي التوبة.

والباقون : بالفتح.

قال الكسائي : هما لغتان. وقال الفراء : الكره والإكراه ، والكره المشقة ، فما أكره عليه فهو كره بالفتح ، وما كان من قبل نفسه وهو كره بضم الكاف.

(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) كفعل أهل الجاهلية (١).

وعن الضحاك : نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة ، فيكره أن يزوجها لأجل مالها ، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة ، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها.

وقال ابن عباس : هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر فيطوّل عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو يردّ إليه ما ساق إليها من المهر ، فنهى الله عزوجل عن ذلك ، ثم قال : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم وعضلهن ، (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) ، واختلفوا في الفاحشة :

فقال بعضهم : هي الزنا. قال الحسن : إن زنت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع. قال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ ذلك بالحدود.

وقال ابن مسعود والضحاك وقتادة : هي النشوز (٢).

جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس فقال : «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)» (٣) [٢٦٦].

وقوله (مُبَيِّنَةٍ) بفتح الياء قاله ابن عباس وعاصم وابن كثير ، الباقون : بالكسر.

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

قال الحسن : رجع إلى أول الكلام يعني (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) و (عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

__________________

(١) وهو منع تزويجها كما تقدم.

(٢) تفسير القرطبي : ٩٤ ـ ٩٥.

(٣) تفسير الطبري : ٤ / ٤١٢ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١٧٢.

٢٧٦

وقال بعضهم : هو أن يصنع بها كما يصنع له.

(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) وهو ولد صالح أو يعطفه الله عليها بعد ذلك ، كذا قاله المفسرون.

مكحول الأزدي قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الرجل يستخير الله فيختار له ، فيسخط على ربّه عزوجل ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) ما لم يكن من قبلها نشوز ولا إتيان فاحشة (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) وهو المال الكثير ، وقد مرّ تفسيره (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي من القنطار شيئا (أَتَأْخُذُونَهُ) استفهام نهي وتوبيخ (بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) انتصابها من وجهين : أحدهما بنزع الخافض ، والثاني بالإضمار ، تقديره : تصيبون في أخذه بهتانا وإثما مبينا ، ثم قال : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) على معنى الاستعظام ، كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (١) (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ).

قال المفسرون : أراد المجامعة ، ولكن الله كريم يكني بما شاء عمّا شاء ، وأصل الإفضاء الوصول إلى شيء من غير واسطة.

(وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي : هو قولهم عند العقد : زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

مجاهد : هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج وهي كقوله : نكحته.

الشعبي وعكرمة والربيع : هو قوله : أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله.

فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص

في مغالاة المهر لقوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً)

عن عطاء الخراساني : قال خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنها صغيرة ، فقال عمر : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلّا نسبي وصهري» (٢) فلذلك رغبت فيها [٢٦٧].

فقال علي رضي‌الله‌عنه : إني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها إليه ، فجاءته

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨.

(٢) فتح القدير : ٢ / ٥٠٢.

٢٧٧

فقالت : إن أبي يقول لك هل رضيت النحلة. فقال : رضيتها. قال : فأنكحه ابنته وصدقها عمر أربعين ألف درهم (١).

وعن ابن سيرين : إن الحسن رضي‌الله‌عنه تزوج بامرأة ، فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم.

وروى مرشد بن عبد الله البرني عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير النكاح أيسره» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل : «أترضى أن أزوجك فلانة؟» [٢٦٨] قال : نعم ، قال للمرأة : «أترضين أن أزوجك فلانا؟» [٢٦٩] قالت : نعم ، فزوج أحدهما بصاحبه ، فدخل عليها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا ، وكان ممّن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ، فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زوّجني بفلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا ، وأني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر ، فأخذت سهمها ذلك فباعته بمائة ألف (٢).

وعن ضمرة بن حبيب أن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وأن رسول الله زوّجها فأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار.

وبه عن ابن سيرين عن ابن عباس أنه تزوج سليمة السلمية على عشرة آلاف درهم.

حماد بن سلمة عن ابن بشر أن عروة البارقي تزوج بنت هاني بن قبيصة على ألف درهم.

وعن غيلان بن جرير أن مطرفا تزوج امرأة على عشرة ألف أواق.

فصل فيمن كره ذلك ، والكلام في أقل المهر

عن ابن سيرين قال : حدثنا أبو العجفا السلمي ، قال : سمعت عمر وهو يخطب الناس فحمد الله واثنى عليه وقال : ألا لا تغالوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، ألا وإن أحدكم ليغلي بصدقة امرأة حتى يبقي لها عداوة في نفسه ، فيقول : كانت لك حلق القربة أو عرق القربة.

عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يمن المرأة تيسير صداقها وتيسر رحمها» (٣) [٢٧٠].

__________________

(١) وفي هذه القصة نظر وتأمّل.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٤٧٠ ، وصحيح ابن حبان : ٩ / ٢٨١.

(٣) المستدرك : ٢ / ١٨١ ، ارواء الغليل : ٦ / ٣٥٠.

٢٧٨

قال عروة : وأنا أقول من عندي من أول شؤمها أن يكثر صداقها.

سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال : كان صداقنا مذ كان فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة أواق وهو أربعة دراهم.

ثابت البناني عن أنس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى على عبد الرحمن أثر صفرة وقال : «ما هذا؟» فقال : يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بارك الله لك أولم ولو بشاة» (١) [٢٧١].

يقال : هي خمسة دراهم.

وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» قال : ما عندي إلّا إزاري هذا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا» فقال : ما أجد شيئا.

فقال : «التمس ولو خاتما من حديد» ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل معك من القرآن شيء؟» قال : نعم ، سورة كذا وسورة كذا ، لسور سمّاها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زوجتك بما معك من القرآن» (٢) [٢٧٢].

وعن عبد الله بن عامر عن أبيه : أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرضيت مالك بهاتين النعلين؟» [٢٧٣] قال : نعم فأجازه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وعن أبي حدرد الأسلمي قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستعينه في مهر امرأة فقال : «كم تصدقها؟» قلت : مائتي درهم. فقال : «لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم» (٤) [٢٧٤].

مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعطى في صداق ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل» (٥) [٢٧٥].

وعن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج بامرأة على عشرة دراهم.

أحمد بن حنبل عن الحسن بن عبد العزيز قال : كتب إلينا ضمره عن إبراهيم بن عبد الله الكناني أن سعيد بن المسيب زوج ابنته على درهمين.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٢٢٧.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٣٣٦ ، أحكام القرآن : ٣ / ٤٨٠.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٤٤٥ ، سنن الترمذي : ٢ / ٢٩٠ ح ١١٢٠.

(٤) المعجم الكبير : ٢٢ / ٣٥٢.

(٥) سنن أبي داود : ١ / ٤٦٨ ، فتح الباري : ٩ / ١٧٣.

٢٧٩

وكيع عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي شيبة عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استحل بدرهم فقد استحل» (١) [٢٧٦] قال وكيع : في النكاح.

وعن عبد الله بن يزيد مولى الأسود أن رجلا تسرّ جارية له فكرهها ، فقال له رجل : هبها لي ، فوهبها له فذكر ذلك لسعيد بن المسيب ، فقال : إن الهبة لم تجز لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو أصدقها سوطا لحلت.

المغيرة عن إبراهيم قال : السنة في الصداق الرطل من الورق ، كانوا يكرهون أن يكون مهر الحرائر مثل مهور البغايا بالدرهم والدرهمان ، ويحبون أن يكون عشرين درهما.

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) نزلت في حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن ، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه ، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج بامرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب ، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة ، وفي [أبي مكيل] العدوي تزوج امرأة أبيه.

__________________

(١) السنن الكبرى : ٧ / ٢٣٨ ، مصنف ابن أبي شيبة : ٣ / ٣١٧.

٢٨٠