الكشف والبيان - ج ٣

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٣

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

جحش. ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إرسالا إلى المدينة ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أذن ، فقدم المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورفع عنهم العداوة القديمة ، وألّف بينهم ، وذلك قوله (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يا معشر الأنصار (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) قبل الإسلام (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام (فَأَصْبَحْتُمْ) : فصرتم ، نظيره قوله في المائدة : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) وقوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٢) وفي حم السجدة (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) وفي الكهف : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) (٤).

(بِنِعْمَتِهِ) : بدينة الإسلام (إِخْواناً) في الدين والولاية ، نظيره قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٥).

وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، ولا يحقره التقوى هاهنا. وأشار بيده إلى صدره. حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» [٨٦] (٦).

أبو بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ، وشبك بين أصابعه (٧).

الشعبي عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المؤمنون كرجل واحد.

قال : «المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر» [٨٧] (٨).

(وَكُنْتُمْ) يا معشر الأوس والخزرج (عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ). قال الراجز :

نحن حفرنا للحجيج سجله

نابتة فوق شفاها بقله

ومعنى الآية : كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلّا أن تموتوا على كفركم ، (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالإيمان. قال : وبلغنا أنّ أعرابيا سمع ابن عباس وهو يقرأ هذه

__________________

(١) المائدة : ٣٠.

(٢) المائدة : ٣١.

(٣) فصلت : ٢٣.

(٤) الكهف : ٤١.

(٥) سورة الحجرات : ١٠.

(٦) مسند أحمد : ٢ / ٢٨٨. ٦٧. ٢٧٧.

(٧) صحيح البخاري : ١ / ١٢٣.

(٨) مسند أحمد : ٤ / ٢٧٧.

١٢١

الآية فقال : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها. فقال ابن عباس : خذوه من غير فقيه. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي ولتكونوا أمة من صلة ، كقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) ، ولم يرد اجتناب رجس الأوثان وإنما فاجتنبوا (٢) الأوثان وإنها رجس. واللام في قوله (وَلْتَكُنْ) لام الأمر. (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) : الإسلام (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : سمعنا ابن الزبير يقرأ : (ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون على ما أصابهم). وروي مثله عن عثمان [........] (٣).

فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

روى حسان بن سليمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» [٨٨] (٤).

__________________

(١) سورة : الحج : ٣٠.

(٢) في المخطوط بعدها : من.

(٣) بياض في مصوّرة المخطوط.

(٤) الكامل لابن عدي : ٦ / ٨٤.

١٢٢

وعن عبد الله بن عمر عن درة بنت أبي لهب قالت : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله من خير الناس؟ قال : «آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم لله تعالى ، وأوصلهم لأرحامه» [٨٩].

عن ابن عباس قال : قلنا : يا رسول الله ، ما نعمل نأتمر بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلّا ائتمرنا به ، وننتهي عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلّا انتهينا عنه ، ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر ، فقال : «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به ، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله» [٩٠] (١).

الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان منها نصيب فأخذ رجل منهم فأسا فجعل ينقر في موضعه ، وقال له أصحابه : أي شيء تصنع ، تريد أن تغرق وتغرقنا؟ قال : هو مكاني ، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا» [٩١] (٢).

وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين ؛ فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق ، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عزوجل غضب الله تعالى له» [٩٢].

وقال أبو الدرداء : لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم ، ويستنصرون فلا ينصرون ، ويستغفرون فلا يغفر لهم.

وقال حذيفة اليماني : يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

وقال الثوري : إذا كان الرجل محبّبا في جيرانه محمودا عند القوم فاعلم أنه مداهن (٣).

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا). الآية. قال أكثر المفسرين : هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم : هم المبتدعة من هذه الأمّة.

عن عبد الله بن شدّاد قال : وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب حمص أو دمشق فقال لهم كلاب النار ، كلاب النار. مرتين أو ثلاثة. شرّ قتلى تظل السماء وخير قتلى قتلاهم. [قيل] : أشيء من قبل رأي رأيته أو شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : «إن هو من جل رأي رأيته ، إني إذن لجريء إن لم أسمعه من رسول

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٧ / ٢٧٧ ، والمعجم الصغير : ٢ / ٧٨ وفيهما : وإن لم تجتنبوه كله.

(٢) المعجم الأوسط : ٣ / ١٤٩ بتفاوت.

(٣) سير أعلام النبلاء : ٧ / ٢٧٨.

١٢٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا مرة أو مرتين. حتى عدّ سبع مرات. ما حدثت به. فقال رجل فإني رأيتك دمعت عيناك. قال : هي رحمة رحمتهم إنهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ، ثم قرأ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) إلى قوله (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) ثم قال : هم الحرورية (١).

وروى قبيصة عن جابر أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لما نزل بباب من أبواب دمشق يقال له الجابية ، حمد الله فأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمقامي فيكم ثم قال : «من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ (٢) وهو من الاثنين أبعد» [٩٣] (٣).

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ، (... يَوْمَ) نصب على الظرف ، أي في يوم ، وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول وقرأ يحيى بن وثّاب (تِبيض وتِسود). بكسر التاءين. على لغة تميم.

وقرأ الزهري : (تبياض وتسواد). فأما الذين [اسوادت] (٤).

و [المعنى] (٥) تبيض وجوه المؤمنين ، وتسود وجوه الكافرين. وقيل : يوم تبيض وجوه المخلصين ، وتسود وجوه المنافقين.

وقال عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار ، وتسود وجوه قريظة والنضير. سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قال : تبيض وجوه أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة.

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم مما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ، وهو قوله تعالى : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) (٦) ، فإذا انتهوا إليه حزنوا فيسود وجوههم من الحزن. ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم ، فيأتهم الله عزوجل فيسجد له من كان سجد في دار الدنيا مطيعا مؤمنا ، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كأنهم لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا ، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزنا شديدا واسودت وجوههم فيقولون : ربنا سوّدت وجوه من يعبد غيرك فما لنا مسودة وجوهنا فـ (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)؟ فيقول الله للملائكة : انظروا (كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ١٦٨ ، ومسند الشاميين : ٢ / ٢٤٨ بتفاوت فيهما ، وتاريخ دمشق : ١٢ / ٣٦٧.

(٢) الفذّ : الفرد. كتاب العين : ٨ / ١٧٧. فذ.

(٣) المصنف لعبد الرزاق : ١١ / ٣٤١.

(٤) في المخطوط : اسودن.

(٥) في المخطوط : معنى.

(٦) سورة : النساء : ١١٥.

١٢٤

وقال أهل المعاني : ابيضاض الوجوه : إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وثواب الله عزوجل ، واسودادها حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله تعالى يدل عليه : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (١). الآية. وقوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (٢) ، وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٣) ، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٤).

ثم بين حالهم ومآلهم فقال (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) ، فيه اختصار يعني : فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟) واختلفوا فيه ؛ فروى الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب أنهم كل من كفر بعد إيمانه بالله يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم عليه‌السلام وقال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٥) ، فيعرفهم الله عزوجل يوم القيامة بكفرهم فيقول : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) يوم الميثاق.

قال الحسن : هم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.

وقال يونس بن أبي مسلم : سألت عكرمة عن هذه الآية فقال : لو فسرتها لم أخرج من تفسيرها ثلاثة أيام ، ولكني سأجمل لك : هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم ، مصدقين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، ولما بعث كفروا به ، فذلك قوله (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ).

وقال الآخرون : هم من أهل ملتنا.

قال الحارث الأعور : سمعت عليا رضي‌الله‌عنه على المنبر يقول : «إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة ، وإنّ الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار» [٩٤]. ثمّ قرأ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الآية.

ثم نادى الذين كفروا بعد الإيمان ([أَكَفَرْتُمْ]) ، يدل عليه حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتي على أمتي زمان يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا» [٩٥] (٦).

وقال أبو أمامة الباهلي : هم الخوارج. وقال قتادة : هم أهل البدع كلهم.

ودليل هذه التأويلات قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٧)

__________________

(١) يونس : ٢٦.

(٢) يونس : ٢٧.

(٣) القيامة : ٢٢.

(٤) القيامة : ٢٤ ـ ٢٢.

(٥) الأعراف : ١٧٢.

(٦) المصنّف : ٨ / ٥٩٣ ، مسند ابن راهويه : ١ / ٤٠١.

(٧) الزمر : ٦٠.

١٢٥

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليردنّ الحوض من صحبتي أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولن : أصحابي ، أصحابي ، فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» [٩٦] (١).

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) هؤلاء أهل طاعته والوفاء بعهده ، (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) : جنّة الله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) فيعاقبهم بلا جرم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ).

الآية. قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أن ابن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم : إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) هم الذين هاجروا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة. وروى جويبر عن الضحاك قال : هم أصحاب محمد خاصة الرواة الدعاة الذين أمر الله عزوجل بطاعتهم. يدل عليه ما روى السدي أن عمر الخطاب قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، قال : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.

وعن عمر بن الحصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رأى (٢) من رآني» [٩٧] (٣).

الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» [٩٨] (٤).

وقال آخرون : هم جمع المؤمنين من هذه الأمة وقوله : (كُنْتُمْ) يعني أنتم كقوله : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٥) أي من هو في المهد. وإدخال (كان) واسقاطه في مثل هذا المعنى واحد ، كقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) (٦) وقال في موضع آخر : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) (٧).

وقال محمد بن جرير (٨) : هذا بمعنى التمام ، وتأويله : خلقتم ووجدتم خير أمة.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٣٨١ و ٥ / ٥٠.

(٢) كذا في المخطوط مكرّرة.

(٣) المعجم الصغير : ٢ / ٣٤ ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم : ٢٨٨.

(٤) مسند أحمد : ٣ / ١١ ، وسنن الترمذي : ٥ / ٣٥٧.

(٥) مريم : ٢٩.

(٦) الأعراف : ٨٦.

(٧) الأنفال : ٢٦.

(٨) جامع البيان للطبري : ٤ / ٦٢.

١٢٦

وقال : معنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) عند الله في اللوح المحفوظ ، (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال قوم : للناس من صلة قوله : (خَيْرَ أُمَّةٍ) : يعني أنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة : معناه كنتم خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام. قتادة هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فيسبون من سبي الروم والترك والعجم فيدخلونهم في دينهم ، فهم خير (أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

مقاتل بن حيان : ليس خلق من أهل الأديان ولا يأمرون من سواهم بالخير وهذه الآية يأمرون كل أهل دين وأنفسهم لا يظلم بعضهم بعضا ، بل يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ؛ فأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير أمم الناس.

وقال آخرون : قوله : (لِلنَّاسِ) من صلة قوله : (أُخْرِجَتْ) ومعناه ما أخرج الله للناس أمّة خيرا من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم خير أمة أقامت وأخرجت للناس ، وعلى هذا تتابعت الأخبار.

روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنّه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال : «إنكم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عزوجل» [٩٩] (١).

وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أهل الجنة عشرون ومائة صف ، منها ثمانون من هذه الأمة» [١٠٠] (٢).

نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أمة إلّا وبعضها في النار ، وبعضها في الجنّة ، وأمتي كلّها في الجنة» [١٠١] (٣).

ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل أمتي مثل المطر ؛ لا يدرى أوله خير أم آخره» [١٠٢] (٤).

وعن أنس قال : أتى رسول الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأمم كانوا يمنعون على الصراط [.......] (٥) حتى أتت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غرّا محجلين قال : فقلت : من هؤلاء الأنبياء؟ قالوا : لا ، قلت : مرسلون؟ قالوا : لا ، فقلت : ملائكة؟ قالوا : لا ، فقلت : من هؤلاء؟ قالوا : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غرّا محجلين عليهم أثر الطهور ، فلما أصبح الأسقف أسلم.

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٤٤٧ وفيه : توفون ، وتفسير الطبري : ٤ / ٦١.

(٢) المعجم الأوسط : ١ / ١٧٢.

(٣) تاريخ بغداد : ٩ / ٣٨٤.

(٤) المعجم الأوسط : ٤ / ٢٣١.

(٥) كلمة غير مقروءة.

١٢٧

عن سعيد بن المسيب ، عن عمر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها ، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» [١٠٣] (١).

وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أمتي أمة مرحومة ، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلا من الكفّار فيقول : هذا فداؤك من النار» [١٠٤] (٢).

وعن أنس قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بصوت يجيء من شعب ، قال : «يا أنس ، انطلق فانظر ما هذا الصوت» ، قال : فانطلقت فإذا برجل يصلي إلى شجرة فيقول : «اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفور لها ، المستجاب لها ، المتاب عليها». فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعلمته ذلك فقال : «انطلق فقل له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول : من أنت؟». فأتيته فأعلمته ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «أقرىء منّي رسول الله السلام وقل له : أخوك الخضر يقول [أسألك] (٣) أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها المستجاب لها المتاب عليها» [١٠٥] (٤).

وقيل لعيسى عليه‌السلام : يا روح الله ، هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال : «علماء حلماء حكماء ، أبرار أتقياء ، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلّا الله» (٥).

وبلغنا أن كعب الأحبار قيل له : لم لم تسلم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبي بكر ، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال : لأن أبي دفع إلي كتابا مختوما ، وقال : لا تفكّ ختمه. فرأيت في المنام أيام عمر رضي‌الله‌عنه قائلا قال لي : إن أبي خانك في تلك الصحيفة ، ففككتها فإذا فيها نعت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا ، فسألوه عن تفسيرها ، فقال : هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض ، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل ، وحكم الله لهم بالجنّة ، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمّهاتهم.

وقال يحيى بن معاذ : هذه الآية مدحة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن ليمدح قوما ثم يعذبهم.

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١ / ٦٩.

(٢) بتفاوت في المعجم الصغير : ١ / ١٠ ، والمعجم الأوسط : ١ / ٥.

(٣) بياض في مصوّرة المخطوط ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) الإصابة : ٢ / ٢٦٠ ، والمستدرك على الصحيحين : ٢ / ٦٧٤ ، ح ٤٢٣١.

(٥) تاريخ دمشق : ٤٧ / ٣٨٢.

١٢٨

ثم ذكر مناقبهم فقال : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) إلى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً). الآية. قال مقاتل : إنّ رؤوس اليهود كعبا وعديا والنعمان وأبا رافع وأبا ياسر وكنانة وأبو صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه : فآذوهم لإسلامهم ، فأنزل الله تعالى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلّا أذى باللسان يعني وعيدا وطعنا. وقيل : دعاء إلى الضلالة. وقيل : كلمة الكفر إن يسمعوها منهم يتأذّوا بها (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين ، وهو جزم بجواب الجزاء ، (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) استأنف (١) لأجل رؤوس الآي لأنها على النون ، كقوله (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٢). تقديرها : ثم هم لا ينصرون.

وقال في موضع آخر : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) (٣) ؛ إذ لم يكن رأس آية.

قال الشاعر :

ألم تسأل الربع القديم فينطق

أي فهو ينطق.

قال الأخفش : قوله (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) استثناء خارج من أول الكلام ، كقول العرب : ما اشتكى شيئا إلّا خيرا ، قال الله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) (٤) ولأن هذا الأذى لا يضرهم. ومعناه لكن آذى.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) : حيثما وجدوا ولقوا ، يعني : حيث ما لقوا غلبوا واستضعفوا وقتلوا فلا يؤمنون (إِلَّا بِحَبْلٍ) : عهد من الله (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) : محمد والمؤمنين يردون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار ، يعني : إلّا أن يعتصموا بحبل ، كقول الشاعر :

رأتني بحبليها فصدّت مخافة

وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق

أي أقبلت بحبليها.

وقال آخر :

حنتني حانيات الدهر حتى

كأني خامل أدنو لصيد

قريب الخطو يحسب من رآني

ولست مقيدا أني بقيد

__________________

(١) أي جعلت (ثُمَ) استئنافية لا عاطفة ، ولو جعلها عاطفة لجزم الفعل بعدها.

(٢) المرسلات : ٣٦.

(٣) فاطر : ٣٦.

(٤) النبأ : ٢٥.

١٢٩

يعني : رآني مقيد [بقيد] (١).

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) إلى (لَيْسُوا سَواءً). الآية. قال ابن عباس ومقاتل : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت رؤوس اليهود : ما آمن بمحمد إلّا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وقالوا لهم : لقد خسرتم حيث استبدلتم بدينكم دينا غيره (٢) ، فأنزل الله تعالى (لَيْسُوا سَواءً) وسواء يقتضي شيئين اثنين فصاعدا ، واختلفوا في وجه هذه الآية فقال قوم : في الكلام إضمار تقديره : ليسوا سواء (٣). (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) وأخرى غير قائمة فتزلّ الأخرى لاكتفائه بذكر أحد الفريقين كقول أبي ذؤيب :

عصيت إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها

أراد : أرشد أم غيّ ، فحذفه لدلالة الكلام عليه.

وهذا قول مجموع مقدم كقولهم : (أكلوني البراغيث) و (ذهبوا أصحابك). وقال : تمام القول عند قوله : (لَيْسُوا سَواءً) وهو وقف لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قولهم (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) ثم قال (لَيْسُوا سَواءً) يعني المؤمنين والفاسقين ، ثم وصف الفاسقين فقال : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) ، ثم وصف المؤمنين فقال : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ). الآية. فهو مردود على أول الكلام ، وهو مختار محمد بن جرير (٤) والزجاج ، قال : وإن شئت جعلت قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ابتداء لكلام آخر ؛ لأنّ ذكر الفريقين قد جرى ، ثمّ قال : ليس هذان الفريقان سواء وهم ، ثمّ ابتدأ فقال : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ).

قال ابن مسعود : معناها لا يستوي اليهود وأمة محمد القائمة بأمر الله تعالى يعني الثابتة على الحقّ المستقيم. ابن عباس : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) مهتدية قائمة على أمر الله لن تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيّعوه. مجاهد : عادلة ، السدي : مطيعة قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. وقيل : قائمة في الصلاة. قال الأخفس أمة قائمة أي ذو أمّة قائمة ، والأمّة : الطريقة ، من قولهم : أممت الشيء أي قصدته. قال النابغة : وهل يأتمن (٥) ذو أمّة وهو طائع.

أي ذو طريقة.

__________________

(١) في المخطوط : لقيد.

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٤٥.

(٣) كذا في المخطوط ، وهناك علامة سقط على كلمة سواء ، لكن لم يشر لهذا السقط في هامش مصوّرة المخطوط.

(٤) تفسير الطبري : ٤ / ٧١.

(٥) كذا في المخطوط ، والظاهر أنّه يأتمر.

١٣٠

ومعنى الآية ذوا (١) طريقة مستقيمة.

(يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) يقرءون كتاب الله. قال مجاهد : يتبعون ، يقال : تلاه ، أي اتّبعه. قال الشاعر :

قد جعلت دلوي تسيلينني

ولا أريد تبع القرين (٢)

إني لم أردهما [...] (٣).

أي تستتبعني.

(آناءَ اللَّيْلِ) ، أي ساعاته ، وإحداها إني مثل نحي وأنحاء وإنى مثل معى.

قال الشاعر :

حلو ومر كعطف القدح شيمته

في كل إني قضاء الليل ينتعل (٤)

أي تسليه آناء الليل بأمر مضى فيه ولم يتأخر.

قال الراجز في اللغة الأخرى :

لله درّ جعفر أي فتى

مشمّر عن ساقه كلّ إنى

وقال السدي : (آناءَ اللَّيْلِ) جوفه.

الأوزاعي عن حسان عطية قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ، ولو لا أن يشق على أمّتي لفرضتهما عليهم» [١٠٦] (٥).

(وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يصلون ؛ لأنّ التلاوة لا تكون في الركوع والسجود ، نظيره قوله : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي يصلّون وفي القرآن : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) (٦) أي صلوا ، وقوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٧). واختلفوا في نزول الآية ومعناها ؛ فقال بعضهم : هي قيام الليل عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب فقال : إنا نجد كلاما من كلام [الرب] (٨) أيحسب راعي إبل وغنم ، إذا جنه الليل انخذل بكن وهو قائم وساجد آناء الليل.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) الصحاح : ٦ / ٢٢٧٣.

(٣) كلمتان غير مقروءتين.

(٤) لسان العرب : ١٤ / ٥٠. إنى.

(٥) تفسير مجمع البيان : ٢ / ٣٦٨.

(٦) الفرقان : ٦٠.

(٧) النجم : ٦٢.

(٨) في المخطوط : العرب.

١٣١

ابن مسعود : هو في صلاة العتمة ، يصلونها ومن حولهم من أهل الكتاب لا يصلونها.

عاصم عن زرين عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، قال : «أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله عزوجل ذه الساعة غيركم» [١٠٧] (١) ، فأنزل الله هذه الآية : (لَيْسُوا سَواءً) حتى بلغ قوله (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ).

وروى الثوري عن منصور قال : بلغنا أنها نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.

وقال عطاء في قوله : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ). الآية. تزيد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه‌السلام وصدقوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم أسعد ابن زرارة والبراء بن معرور ومحمّد بن مسلمة وأبو قيس هرمة (٢) بن أنس ، وكانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقرّون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عزوجل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصدقوه ونصروه.

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ، قرأ الأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وحفص وخلف : بالياء فيهما ، اخبار عن الأمة القائمة. وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة. وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ، وهي اختيار أبي حاتم. وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا : الياء والتاء.

ومعنى الآية (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) : فلن يقدروا ثوابه ، ولن يجحدوا جزاءه بل يشكر [لهم] (٣) ويجازون عليه ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) : المؤمنين.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣٩٦ ، وأسباب النزول للواحدي : ٧٩.

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) في المخطوط : لكم.

١٣٢

تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، وإنما خص الأولاد ؛ لأنهم أقرب الأنساب إليه (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ، إنما جعلهم من أصحابها ؛ لأنهم من أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها كصاحب الرجل الذي لا يفارقه ، وقرينه الذي لا يزايله. يدل عليه قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، قال يمان : يعني نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مقاتل : يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم ورؤسائهم ؛ كعب وأصحابه.

مجاهد : يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم. وضرب الله مثلا فقال (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) ، قال ابن عباس : يعني السموم الحارة التي تقتل ، ومنه خلق الله الجان. ابن كيسان : الصر ريح فيها صوت ونار.

سائر المفسرين : برد شديد.

(أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) : زرع قوم (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية ومنع حق الله عزوجل (فَأَهْلَكَتْهُ). ومعنى الآية : مثل نفقات الكفار في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها وقت حاجتهم إليها بعد ما كانوا يرجون من عائدة نفعها كمثل زرع أصابه ريح بارد أو نار فأحرقته وأهلكته ، فلن ينتفع أصحابه منه بشيء بعد ما كانوا يرجون من عائدها نفعه ، قال الله تعالى : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والمعصية ومنع حق الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ). الآية.

عن أبي أمامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) قال : «هم الخوارج» [١٠٨] (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ١٧٩.

١٣٣

قال ابن عباس : كان رجل من المسلمين يواصل رجالا من اليهود ؛ لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع ؛ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم. مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادفون المنافقين ويخالطونهم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) : أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم. والبطانة : مصدر يوضع موضع الاسم فسمي بها الواحد والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث ، قال الشاعر :

أولئك خلصائي نعم وبطانتي

وهم عيبتي من دون كلّ قريب

وإنّما ما قيل لخليل الرجل : بطانة ؛ تشبيها لما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطّلاعه من أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه محل ما ولي جسده من ثيابه. ثم ذكر العلة في النهي عن مباطنتهم وعرفهم ما هم منطوون عليه من الغش والخيانة والبغي والغوائل فقال عز من قائل : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) ، أي لا يقصّرون ولا يتركون عهدهم وطاقتهم فيما يورّثكم فوق الشر والفساد. يقال : ما ألوته خيرا أو شرا أي ما قصرت في فعل ذلك. ومنه قول ابن مسعود في عثمان :

ولم تأل عن خير لأخرى باديه (١) وقال امرؤ القيس :

وما المرء مادامت حشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آل (٢)

أي مقصّر في الطلب.

الخبال : الشر والفساد ، قال الله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) (٣) ونصب (خَبالاً) على المفعول الثاني ؛ لأن الإلو تتعدى إلى مفعولين. وإن شئت : المصدر ، أي يخبلونكم خبالا. وإن شئت بنزع الخافض ، أي بالخبال ، كما يقال أوجعته ضربا أي بالضرب (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي تمنوا ضرّكم وشركم وإثمكم وهلاككم. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) قراءة العامة بالتاء ؛ لتأنيث البغضاء. ومعنى الآية قد ظهرت امارة العداوة (مِنْ أَفْواهِهِمْ) بالشتيمة والوقيعة في المسلمين. وقيل : باطلاع المشركين على أسرار المؤمنين. وقيل : هو مثل قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٤).

__________________

(١) كلمات غير مقروءة ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) لسان العرب : ٦ / ٢٨٤.

(٣) التوبة : ٤٧.

(٤) محمّد : ٣٠.

١٣٤

(وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من العداوة والخيانة (أَكْبَرُ) أعظم ، قد بينا (لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) عن الأزهر بن راشد قال : كان أنس بن مالك يحدّث أصحابه ، فإذا حدّثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يفسّره لهم ، فحدثهم ذات يوم وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» [١٠٩] (١).

فأتوا الحسن فأخبروه بذلك ، فقال : إنّما (٢) قوله : «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. وأما قوله : «لا تستضيئوا بنور (٣) المشركين» ، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية.

وقال عياض الأشعري : وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب ، فقال : إن عندنا كاتبا حافظا نصرانيا من حاله كذا وكذا. فقال : ما لك قاتلك الله؟ أما سمعت قول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية ، وقوله (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (٤)؟ هلا اتخذت حنيفيّا! قال : قلت : له دينه ولي ديني ، ولي كتابته ، لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أدنيهم إذ قصاهم الله (٥).

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ) ، (... ها) تنبيه ، و (أَنْتُمْ) كناية للمخاطبين من الذكور ، (أُولاءِ) اسم الجمع المشار إليه (تُحِبُّونَهُمْ) خبر عنهم. ومعنى الآية : أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار ، (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) هم ؛ لما بينكم من مخالفة الدين. هذا قول أكثر المفسرين. وقال المفضل : معنى (يُحِبُّونَهُمْ) تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة ، (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) هم ؛ لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. أبو العالية ومقاتل : هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم.

قتادة : في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه ، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه (٦).

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم ، فـ (إِذا لَقُوكُمْ قالُوا

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٩٩.

(٢) كذا في المخطوط ، والظاهر أنّها : أمّا.

(٣) مرّت في أوّل الحديث بلفظ : بنار.

(٤) المائدة : ٥١.

(٥) راجع تفسير القرطبي : ٤ / ١٧٩.

(٦) تفسير الطبري : ٤ / ٨٧.

١٣٥

آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا) وكان بعضهم مع بعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) يعني أطراف الأصابع ، واحدتها أنملة وأنملة. بضم الميم وفتحها. (مِنَ الْغَيْظِ) والحنق ؛ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم. وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن ثم عضّ ، قال الشاعر :

إذا رأوني أطال الله غيظهم

عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم (١)

وقال أبو طالب :

وقد صالحوا قوما علينا أشحّة

يعضّون غيضا خلفنا بالأنامل

قال الله تعالى : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) ، إن قيل : كيف لا يموتون والله تعالى إذا قال لشيء كن فيكون؟

فالجواب : أن المراد ابقوا بغيضكم إلى الممات فإن مناكم عن الاسعاف محجوبة.

وقال محمد بن جرير : خرج هذا الكلام مخرج الأمر وهو دعاء أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يدعو عليهم بالهلاك كمدا ممّا بهم من الغيظ ، قل يا محمد : اهلكوا بغيظكم (٢) : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بما في القلوب من خير وشر. روى عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال : ذكر أصحاب الأهواء فقال والذي نفسي بيده لئن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم (٣). يعني صاحب هوى ، ولقد دخلوا في هذه الآية : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) الآية.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ) ، قرأ السلمي بالياء. الباقون بالتاء. يعني : إن تصبكم أيها المؤمنون (حَسَنَةٌ) بظفركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم وتتابع من الناس في الدخول في دينكم وخفض في معاشكم (تَسُؤْهُمْ) : تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) مساءة بإخفاق سريّة لكم ، أو إصابة عدوّ فيكم أو اختلاف يكون منكم (٤) ، أو حدث ونكبة (يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم (وَتَتَّقُوا) وتخافوا ربّكم (لا يَضُرُّكُمْ) : لا ينقصكم (كَيْدُهُمْ) شيئا.

واختلفت القراءة فيه ؛ فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : لا يَضِرُكُمْ. بكسر الضاد [وراء] خفيفة. واختاره أبو حاتم ، يقال : ضار يضير ضيرا مثل باع يبيع بيعا ، ودليله في القرآن : (لا ضَيْرَ) (٥). وهو جزم على جواب الجزاء.

__________________

(١) لسان العرب : ١٢ / ٥٩.

(٢) جامع البيان للطبري : ٤ / ٨٩.

(٣) الطبقات الكبرى : ٧ / ٢٢٤.

(٤) تفسير الطبري : ٤ / ٩٠.

(٥) الشعراء : ٥٠.

١٣٦

وقرأ الضحاك بضم الضاد وجزم الراء خفيفة من (ضار يضور) ، وذكر الفرّاء عن الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول : لا ينفعني ذلك ولا يضورني. وقرأ الباقون : بضم [الضاد ، والراء] (١) مشددة ، واختاره. وهو من (ضرّ يضرّ ضرا) ، مثل (ردّ يرد ردّا). وفي رائه وجهان :

أحدهما : أنه أراد الجزم وأصله لا يضرركم فأدغمت الراء في الراء ، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة اتباعا لأقرب الحركات إليها وهي الضاد ؛ طلبا للمشاكلة كقولهم : مرّ يا هذا.

والوجه الثاني : أن يكون (لا) بمعنى ليس ويضمر الفاء فيه ، تقديره : وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضركم. قاله الفرّاء وأنشد :

فإن كان لا يرضيك حتى تردني

إلى قطري لا إخالك راضيا (٢)

إن الله بما تعملون قرأ الأعمش والحسن : بالتاء. الباقون بالياء (مُحِيطٌ) عالم.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ). الآية. نظم الآية : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) ولكن الله تعالى ينصركم عليهم كما نصركم (بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ، وإن أنتم لم تصبروا على أمري ولم تتقوا نهيي ، فإنه نازل بكم ما نزل بكم يوم أحد حيث خالفتم أمر الرسول ولم تصبروا ، فاذكروا ذلك اليوم أو غدا بينكم (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) واختلفوا في هذا اليوم الذي عنى الله تعالى بقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) ؛ فقال الحسن : هو يوم بدر. وقال مقاتل : هو الأحزاب. وقال سائر المفسرين : هو أحد ، وهو أثبت. يدل عليه قوله في عقبه : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وهذا إنما كان يوم أحد.

قال مجاهد والكلبي والواقدي : غدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال : «تأخر».

وذلك أن المشركين نزلوا بأحد. على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما. يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول.

ولم يدعه قط قبلها. واستشاره ، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله ، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلّا أصاب منّا ، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم يا رسول الله ؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.

__________________

(١) في المخطوط : الراء والضاد.

(٢) التبيان في تفسير القرآن : ٢ / ٥٧٥.

١٣٧

فأعجب رسول الله بهذا الرأي.

وقال بعض أصحابه : يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا. فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال : يا رسول الله لا تحرمني الجنة فو الذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة. فقال : «بما؟». فقال : بأني أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأني لا أفر من الزحف ، قال : «صدقت». فقتل يومئذ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد رأيت في منامي بقرا فأوّلتها خيرا ، ورأيت في ذباب (١) سيفي ثلما فأوّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة ؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها» [١١٠] (٢).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة [فيقاتل] (٣) في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر ، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا.

فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوحي يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما رأيت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «[إنه ليس لنبي] (٤) أن يلبس [لامته] (٥) أن يضعها حتى يقاتل» [١١١] (٦).

وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس ، فراح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد يوم الجمعة بعد ما صلّى بأصحابه الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وكان من أمر حرب أحد ما كان ، فذلك قوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قرأ يحيى بن ثاب : (تبوي) المؤمنين خفيفة غير مهموزة من (أبوى يبوي) مثل (أروى يروي). وقرأ الباقون : مهموزة مشددة يقال : بوأت تبوئة ، وأبويتهم إبواء ، إذا أوطنتهم ، وتبوّءوا إذا تواطنوا ، قال الله تعالى (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) (٧) ، وقال (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

__________________

(١) في بعض المصادر : ذؤابة سيفي. راجع البداية والنهاية : ٤ / ١٣ الهامش.

(٢) تفسير الطبري : ٤ / ٩٤. ٩٥.

(٣) في مصوّرة المخطوط : فيقال.

(٤) من مجمع الزوائد ، وفي مصوّرة المخطوط علامة سقط لكن لم يشر إليه في الهامش.

(٥) من مجمع الزوائد ، وفي المخطوط : لامتها.

(٦) مجمع الزوائد : ٦ / ١٠٧.

(٧) يونس : ٨٧.

١٣٨

والتشديد أفصح وأشهر ، وتصديقه قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) (١) ، وقال (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (٢).

وقرأ ابن مسعود : تبوئ للمؤمنين.

(مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) ، أي مواطن وأماكن ، قال الله تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٣) ، وقال : (أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) (٤). وقرأ أشهب : (مقاعد للقتال). (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) : تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم بنو أسامة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى أحد في ألف رجل ، وقيل : تسعمائة وتسعين رجلا ، وقال الزجاج : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحد وقت القتال ثلاثة آلاف ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا ، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة ، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أبي : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ). وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا ، ومضوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) ناصرهما وحافظهما.

وقرأ ابن مسعود : (والله وليهم) لأنّ الطائفتين جمع ، كقوله (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) (٥). (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وقال جابر بن عبد الله : ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) قال الشعبي : كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها. قال الواقدي : ذكرت قول [الشعبي] (٦) لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا : فلأي شيء سميت الصفراء؟ ولأي شيء سميت الجار؟ هذا ليس بشيء ، إنما هو اسم الموضع. قال : وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال : سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا ، وما ملكه قط أحد غيرنا ، وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة ، إنما هو من بلاد غفارة (٧).

__________________

(١) يونس : ٩٣.

(٢) العنكبوت : ٥٨.

(٣) القمر : ٥٥.

(٤) الجن : ٩.

(٥) الحجّ : ١٩.

(٦) في المخطوط : الشافعي.

(٧) تفسير الطبري : ٤ / ٩٩.

١٣٩

التقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركون بها ، وكان أول قتال قاتل فيه نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الضحاك : بدر ماء بمنى على طريق مكة بين مكة والمدينة.

وقد مدحت القول في غزوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسراياه وجيزا مجملا ؛ فإنّه باب يعظم نفعه وبالله التوفيق.

ذكر مغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

جميع ما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه ستّ وعشرون غزوة ، فأول غزوة غزاها غزوة ودّان ، وهي غزوة الأبواء ، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى ، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع ، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر ، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش ، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماء لبني سليم ، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد ، ثم غزوة نجران : موضع بالحجاز فوق الفرع ، ثم غزوة أحد ثم غزوة الأسد ، ثم غزوة بني النضير ، ثم غزوة ذات الرقاع من نجد ، ثم غزوة بدر الأخيرة ، ثم غزوة دومة الجندل ، ثم غزوة الخندق ، ثم غزوة بني قريظة ، ثم غزوة بني لحيان ، ثم غزوة بني قردة ، ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها ، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون ، ثم غزوة خيبر ، ثم غزوة الفتح : فتح مكة ، ثم غزوة حنين لقي فيها ، ثم غزوة الطائف حاصر فيها ، ثم غزوة تبوك.

قاتل منها في تسع غزوات : غزوة بدر الكبرى ، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة ، وأحد في شوال سنة ثلاث ، والخندق ، وبني قريظة في شوال سنة أربع ، وبني المصطلق ، وبني لحيان في شعبان سنة خمس ، وخيبر سنة ست ، والفتح في رمضان سنة ثمان ، وحنين في شوال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك.

ذكر سراياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

روي عن مقسم قال : كانت السرايا ستّا وثلاثين ، وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة (١) ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفائض. وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة. وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار (٢) من أرض الحجاز ، ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة ، وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد ، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع لقوا فيها ، وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها ، وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق ، وغزوة عمر بن

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) الخرار : آبار عن يسار الحجّة قريب من خم. الطبقات الكبرى : ٢ / ٥.

١٤٠