الكشف والبيان - ج ٣

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٣

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

(فِي فِئَتَيْنِ) : فرقتين وجماعتين وأصلها في الحرب من بعضهم بقي الى بعض.

(الْتَقَتا) يوم بدر.

(فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) : طاعة لله وهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، على عدّة أصحاب طالوت الّذين جازوا معه النهر وما جاز معه إلّا مؤمن ، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار.

وكان صاحب راية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمبارزين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكانت الإبل في جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين بعيرا والخيل فرسين : فرس للمقداد بن عمر الكندي ، وفرس لمرثد بن أبي فهد العنزي (١) ، وكان معهم من السلاح : ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من أستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلا من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

(وَأُخْرى) وفرقة أخرى (كافِرَةٌ) : وهم مشركو مكّة ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا مقاتلا وكانت خيلهم مائة فرس ، وكان حرب بدر مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان سبب ذلك أعين بن سفين ، واختلف القرّاء في هذه الآية ، قرأها منهم (فِئَةٌ) بالرفع على معنى منهما فئة أو إحداهما فئة.

وقرأ الزهري بالخفض على البدل من الفئتين.

وقرأ ابن السميقع : فما! ، على المدح.

وقرأ مجاهد : يقاتل بالياء ردّه الى القوم وجهان على لفظه ، وقرأ الباقون بالتاء.

(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) قرأ أبو رجاء وأبو الحرث والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب بالتاء واختاره أبو حاتم ، الباقون بالياء ، والباقون ممن قرأ بالتاء بمعناه ترون يا معشر اليهود والكفار أهل مكّة مثلي المسلمين.

ومن قرأ بالياء فاختلف في وجهه فجعل بعضهم الخطاب للمسلمين ، ثم له تأويلان أحده : ما يرى المسلمون المشركين مثلهم في العدد ، ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير بخمس أمثال فتلك الآية فإن قيل كذا جاز أن يقول مثليهم وهم قد كانوا ثلاثة أمثالهم ، فالجواب أن يقول : هذا مثل وعندك عبد محتاج إليه وإلى مثله ، احتاج إلى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة ، ويقول : معي ألف وأحتاج الى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة آلاف ، فإذا نويت أن يكون الألف داخلا في المثل كان المثل والاثنان ثلاثة.

__________________

(١) لعلّه : ابن أبي مرثد.

٢١

قاله الفرّاء : التأويل الآخر أن معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم الله في أعينهم حتى رأتها ستمائة وستة وعشرون ، وكانوا ثلاثة أمثالهم تسعمائة وخمسين ، ثم قلّلهم في أعينهم في حالة أخرى حتى رأتها مثل عدد أنفسهم.

قال ابن مسعود : في هذه الآية نظرنا الى المشركين فرأيناهم يضاعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا ولا واحدا ، ثم قللهم الله في أعينهم حتى رأتهم عددا يسيرا أقل عددا من أنفسهم.

وقال ابن مسعود أيضا : لقد قلّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل الى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة. قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفا ، وقال بعضهم : الروية راجحة الى المشركين يعني : يرى المشركون المؤمنين مثليهم قلّلهم الله في أعينهم قبل القتال يعني في أعين المشركين ليجترؤوا عليهم ولا ينصرفوا ، فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا وقلّلهم في أعين المؤمنين ليجتروا فذلك قوله : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) (١) الآية.

محمّد أبي الفرات عن سعيد ابن أبي آوس في قوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) قال : كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟ قالوا : ثلاثمائة وبضعة عشرة ، قالوا : ما كنّا نراكم إلّا تضاعفون علينا ، قال : وذلك ممّا نصر به المسلمون.

وقرأ السلمي يُرَوْنَهُمْ بضم الياء على ما لم يسمي فاعله وإن شئت على معنى الظن.

(رَأْيَ الْعَيْنِ) أي في رأي العين نصب ونزع حرف الصفة وإن شئت على المصدر أي ترونهم رأي العين ، أي : في نظر العين يقال : رأيت الشيء رأيا ورؤية ورؤيا ثلاث مصادر إلّا أنّ الرؤيا أكثر ما يستعمل في المنام ليفهم في رأى العين بمعنى النظر إذا ذكر.

وقال الأعشى :

فلما رأى لا قوم من ساعة

من الرأي ما أبصروه وما أكتمن

(وَاللهُ يُؤَيِّدُ) : يقوي (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ) : التي ذكرت (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) : لذوي العقول ، وقيل : لمن أبصر الجمعين.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) : جمع شهوة وهي نزوع عن النفس إليه ، وإنّما حرّكت الهاء في الجمع ليكون فرقا بين جمع الاسم وبين جمع النعت ؛ لأنّ النعت لا تحرك نحو : ضخمة ،

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤٤.

٢٢

ضخمات ، وحبلة حبلات ، والاسم يحرك مثل : تمرة وتمرات ، هو نفقة الجيل ونفقات ، فإذا كان ثاني الاسم تاء أو واوا ، فأكثر العرب على تسكينها [استثقالا] لتحريك الياء والواو كقولك : بيضة وبيضات ، جوزة وجوزات.

وعن أنس بن مالك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشهوات» [١٢] (١).

(مِنَ النِّساءِ) : بدأ بهنّ ؛ لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب الى الافتان.

(وَالْبَنِينَ) : عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأشعث بن قيس : هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال : نعم لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني حيلة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لئن قلت ذلك إنّهم لثمرة القلوب وقرّة الأعين وإنّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة (٢).

(وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) : المال الكثير بعضه على بعض.

ابن كيسان : المال العظيم ، أبو عبيدة : تقول العرب هو أن لا يحدّ.

وقال الباقون : فلا محدود ، ثم اختلفوا فيه ، فروى أبو صالح عن أبي هريرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القنطار : إثنا عشر ألف أوقية» [١٣] (٣).

وعن يزيد الرقاشي قال : دخلت أنا وثابت وناس معنا الى أنس بن مالك فقلنا له : يا أبا حمزة ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في قيام الليل؟ قال أنس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية أعطي قيام ليلة كاملة ، ومن قرأ مائتي آية ومعه القرآن فقد أدّى حقّه ، ومن قرأ خمسمائة آية الى أن يبلغ ألف آية كان كمن تصدّق بقنطار قبل أن يصبح ، قيل : وما القنطار؟ قال : ألف دينار.

سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال : القنطار ألف ومائتا أوقيّة ، وهو قول ابن عمر ومثله روي زر بن حبيش عن أبي بن كعب : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» [١٤] (٤).

وروى عطية عن ابن عباس وعبد الله بن عمر عن الحكم عن الضحاك : «إنّ القنطار ألف ومائتا مثقال».

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١٥٣.

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ٣٠.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٣٦٣.

(٤) تفسير القرطبي : ٤ / ٣٠.

٢٣

ومثله روى يونس عن الحسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا.

روي حمزة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القنطار ألف دينار» [١٥] (١).

سعيد بن جبير عن عكرمة : هو مائة ألف ومائة من ، ومائة [رطل] ومائة مثقال ومائة درهم ، ولقد جاء الإسلام يوم جاء [وبمكة] (٢) مائة رجل.

[وعن سفيان عن] إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال : القنطار : مائة رطل (٣).

فقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال.

أبو نظرة : مسك ثور ذهبا أو فضّة.

سعيد بن المسيّب وقتادة : ثمانون ألفا.

ليث عن مجاهد القنطار : سبعون ألفا.

شريك : أربعون ألف مثقال.

الحسن : القنطار دية أحدكم.

ومثله روى الوالبي عن ابن عباس وجويبر عن الضحّاك قال : إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم.

وعن أبي حمزة الثمالي قال : القنطار بلسان أفريقيا والأندلس ثمانية آلاف جروال من ذهب أو فضة.

وروى الثمالي عن السدي قال : أربعة آلاف مثقال.

قال الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أنّ القناطير [مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه] وأصلها من الإحكام يقال : قنطرت الشيء إذا أحكمته ، ومنه سمّيت القنطرة المقنطرة (٤).

قال الضحاك : (الْمُقَنْطَرَةِ) : المحصّنة المحكمة.

قتادة : هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض كأنّها المدفونة يقال : قنطر إذا كثر.

السدي : المخزونة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.

قال الفراء : المضعّفة كأن القنطار ثلاثة و (الْمُقَنْطَرَةِ) تسعة.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٢ / ١٠.

(٢) كذا في المخطوط ولعلّه : والقناطر.

(٣) تفسير الطبري : ٣ / ٢٧٣.

(٤) تفسير القرطبي : ٤ / ٣٠ ، ونسبه للزجاج.

٢٤

أبو عبيدة : هو مفعللة من القنطار مثل قولك ألف مؤلّف.

(مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : قيل سمّي الذهب ذهبا ؛ لأنه يذهب ولا يبقى ، والفضّة ؛ لأنّه تنفض أي تفرق.

(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) : الخيل جمع هو لا واحد له من لفظه. واحده «فرس» كالقوم والنساء والرهط والجيش ونحوها. واختلف العلماء في معنى «الْمُسَوَّمَةِ» فقال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والربيع : هي الراعية.

ومثله روى عطيّة عن ابن عباس والحسن : هي المرعيّة يقال : سامت الخيل يسوم سوما ، فهي سائمة ، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة ، وسوّمتها تسويما فهي مسوّمة. قال الله : (فِيهِ تُسِيمُونَ) (١).

وفيه قول الأخطل :

مثل ابن بزعة أو كآخر مثله

أولى لك ابن مسيمة الآجال (٢)

يعني : ابن الإبل.

حبيب بن أبي ثابت ، وابن أبي نجيع عن مجاهد : المطهّمة الحسان ليث عنها المصوّرة ، وعن عكرمة : تسويمها حسنها (٣).

السدّي : هي الرايعة ، وكلها بمعنى واحد.

أبو عبيدة ، والحسن ، والأخفش ، والقتيبيّ : المعلّمة. ومثله روى الوالبي عن ابن عباس.

قتادة : شيباتها وألوانها ، المؤرّج المكويّة ، المبرد : المعرفة في البلدان.

ابن كيسان : اليحلق وكلها قد قسارية وأصلها من السومة ، والمسيما وهي العلامة. يقال : سومت الخيل تسويما إذا علمتها. قال الله تعالى : (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (٤).

قال النابغة في صفة الخيل :

بسمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر اشبها جنّ (٥)

وقال الأعشى :

وفرسان الحفاظ بكل ثغر

يقودون المسوّمة العرابا

__________________

(١) سورة النمل : ١٠.

(٢) الأغاني : ٨ / ٣١٩ ، (دار الكتب المصرية) وفيه : كابن البزيعة.

(٣) فتح القدير : ١ / ٣٢٤.

(٤) سورة آل عمران : ١٢٥.

(٥) جامع البيان للطبري : ٣ / ٢٧٧.

٢٥

وقال ابن زيد وأبان بن ثعلب : المسومة : المعدّة للحرب والجهاد.

قال لبيد :

ولعمري لقد بلي كليب

كلّ قرن مسوّم القتال

قال الثعلبي : ورأيت في بعض التفاسير : أنّها الهماليخ.

فصل في الخيل «صفة خلقها»

روى الحسن بن علي عن أبيه علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب : إنّي خالق منك خلقا. فأجعله عزّا لأوليائي ، ومذلة على أعدائي ، وجمالا لأهل طاعتي ، فقال الريح : أخلق. فقبض منها قبضة فخلق فيها فرسا.

فقال له : خلقتك عربيا وجعلت الخير معقودا بناصيتك ، والغنائم مجموعة على ظهرك ، عطفت عليك صاحبك ، وجعلتك تطير بلا جناح ، وأنت للطلب وأنت للهرب ، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبّحوني ويحمدونني ، ويهلّلوني ويكبّروني ، تسبّحين إذا سبّحوا ، وتهلّلين إذا هلّلوا ، وتكبّرين إذا كبّروا».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من تسبيحة ، وتحميدة وتمجيدة ، وتكبيرة يكبّرها صاحبها وتسعه إلّا وتجيبه بمثلها» [١٦] (١).

ثم قال : «لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت : ربّ نحن ملائكتك نسبّحك ، ونحمدك فماذا لنا؟ فخلق الله لها خيلا بلقاء أعناقها كأعناق البخت ، قال : فلما أرسل الفرس الى الأرض فاستوت قدماه على الأرض صهل ، فقيل : بوركت من دابّة أذلّ بصهيله المشركين ، أذل به أعناقهم ، أملأ منه آذانهم ، وأرعب به قلوبهم.

فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال : أختر من خلقي ما شئت ، فاختار الفرس. فقال له : اخترت عزّك وعزّ ولدك خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا. [يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين] بركتي عليك وعليه ؛ ما خلقت خلقا أحبّ الي منك ومنه» [١٧] (٢).

فضلها :

روى أبو صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة» [١٨] (٣).

__________________

(١) الدر المنثور : ٣ / ١٩٥.

(٢) كنز العمّال : ٤ / ٤٦٥ ، ح ١١٣٨٢ ، والدرّ المنثور : ٣ / ١٩٥ ، و: ٤ / ١١١.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٤٩.

٢٦

وعن سعيد بن عروبة عن قتادة عن آنس قال : لم يكن شيء أحبّ الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد النساء من الخيل.

وعن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس من فرس عربي إلّا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول : اللهم خولتني من خولتني من بني آدم ، وجعلتني له ، فاجعلني أحبّ ماله وأهله إليه ، أو من أحب ماله وأهله إليه» [١٩] (١).

شأنها :

عن أبي وهب الحسيني ، وكانت له صحبة قال : قال رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وارتبطوا الخيل ، وامسحوا نواصيها وأكفالها ، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار ، وعليكم بكل كميت أغرّ (٢) محجّل أو أشقر محجل ، أو أدهم أغرّ محجّل» [٢٠] (٣).

وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال : كان النبي يكره الشكال (٤) من الخيل ، قال أبو عبد الرحمن : الشكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو يكون ثلاث قوائم مطلقة ، ورجل محجلة ، وليس تكون الشكال إلا في الرجل (٥).

وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشؤم في ثلاثة : المرأة والفرس والدار» [٢١] (٦).

وجوهها :

زيد بن أسلم عن أبي صالح التمار عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر. ولرجل وزر ، فأما الذي هو له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة ، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرّفن كانت أن آثارها وأرواثها حسنات له. ولو أنّها مرّت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقيها منه كان ذلك حسنات له ؛ فهي لذلك أجر. ورجل ربطها تقنّنا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها وظهرها فهي لذلك ستر. ورجل ربطها فخرا ورياء ونوى لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر» [٢٢] (٧).

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٧٠.

(٢) الأغر : هو ما له غرّة في جبهته بيضاء فوق الدرهم.

(٣) سنن النسائي : ٦ / ٢١٨.

(٤) الشكال : بياض في اليدين أو فقط في اليمنى والرجل اليمنى ، وقيل : عكسه في اليسرى.

(٥) نيل الأوطار للشوكاني : ٨ / ٢٥٤.

(٦) مسند أحمد : ٢ / ١٣٦.

(٧) السنن الكبرى : ١٠ / ١٥.

٢٧

وعن خباب بن الإرث قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل ثلاثة ؛ فرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان ؛ فأمّا فرس الرحمن فما اتخذ في سبيل الله ، وقتل عليه أعداء الله ، وأما فرس الإنسان فما استبطن ويحمل عليه ، واما فرس الشيطان فما روهب ورهن عليه وقومر عليه» [٢٣] (١).

(وَالْأَنْعامِ) : جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ، جمع لا واحد له من لفظه.

(وَالْحَرْثِ) : يعني الزرع.

(ذلِكَ) : الذي ذكرت.

(مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : لا عتاد المعاد والعقبى.

(وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) : أي المرجع مفعل من أب ، يؤوب أوبا مثل المتاب.

زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عبد الله بن الأرقم وهو يقول لعمر رضي‌الله‌عنه : يا أمير المؤمنين إنّ عندنا حلية من حلية جلود وآنية من ذهب وفضّة فما رأيك فيها. فقال عمر : إذا رأيتني فارغا فائتني ، فقال : يا أمير المؤمنين إنّك اليوم فارغ. قال : فما نطلق معه ، فجيء بالمال. فقال : أبسطه قطعا ، فبسط ثم جيء بذلك المال وصبّ عليه ثم قال : «اللهم إنّك ذكرت هذه المال فقلت : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (٢) ثم قلت (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٣) اللهم إنا لا نستطيع أن لا نفرح بما آتينا ، اللهم أنفقه في حق ، وأعوذ بك منه ، قال : فأتى بابن له يحمله ، يقال له عبد الرحمن ، فقال : يا أبه هب لي خاتما.

قال : اذهب الى أمك تسقيك سويقا ، فلم يعطه شيئا.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٥ / ٢٦٠.

(٢) سورة آل عمران : ١٤.

(٣) سورة الحديد : ٢٣.

٢٨

اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ) : أخبركم.

(بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) : الذي ذكرت تم الكلام هاهنا. ثم ابتدأ فقال : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) : تقع خبر حرف الصلة.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) : قرأ العامة بكسر الراء. وروى أبو بكر عن عاصم : بضم الراء من الرضوان في جميع القرآن وهو لغة قيس وغيلان ، وهما لغتان كالعدوان والعدوان والطغيان والطغيان.

زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول الله عزوجل لأهل الجنة : «يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك».

فيقول : «ألا أعطكم أفضل من ذلك» فيقولون : وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال : «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» [٢٤] (١).

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ) : إن شئت جعلته محل (الَّذِينَ) على الجر ردا على قوله (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) (٢). وإن شئت رفعته على الابتداء كقوله (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) (٣). ثم قال في صفتهم مبتدئا : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ).

(رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) صدّقنا.

(فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) : أسترها علينا وتجاوزها عنا.

(وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ) : في أداء الأمر ، وعن ارتكاب الزنى وعلى (الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ). وان شئت نصبتها وأخواتها على المدح ، وإن شئت خفضتها على النعت.

(وَالصَّادِقِينَ) : في إيمانهم ، قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية (وَالْقانِتِينَ) : المطيعين المصلين.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ / ٢٠٥ ، صحيح مسلم : ٨ / ١٤٤.

(٢) سورة آل عمران : ١٥.

(٣) سورة التوبة : ١١١.

٢٩

(وَالْمُنْفِقِينَ) : أموالهم في طاعة الله.

وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لله ملكا ينادي : اللهم اعط منفقا خلفا ، واعط ممسكا تلفا» [٢٥] (١).

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) : قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والكلبي والواقدي : يعني المصلين بالأسحار. نظير قوله (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٢) أي يصلّون.

وقال يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي الزهري قال : قلت لزيد بن اسلم : من (الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)؟ قال : هم الذين يشهدون الصبح (٣).

وكذلك قال ابن كيسان : يعني صلاة الصّبح في المسجد.

وقال الحسن : صلّوا الصلاة الى السحر ثم استغفروا.

قال نافع : كان ابن عمي يحيي الليل ، ثم يقول : يا نافع أسحرنا؟ فأقول : لا ، فيعاود الصلاة ، وإذا قلت : نعم ، فيستغفر الله ويدعوا حتى الصبح (٤).

وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر يتهجّد في المسجد وهو يقول : ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي‌الله‌عنه.

وروى صالح وحماد بن سلمة عن ثابت وأبان وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنّ الله عزوجل يقول : «إني لأهمّ بأهل الأرض عذابا ؛ فإذا نظرت الى عمّار بيوتي والى المتهجدين والى المتحابين فيّ ، والى (الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) صرفت عنهم» [٢٦] (٥).

محمد بن زاذان عن أم سعد قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ ثلاثة أصوات يحبهم الله عزوجل ؛ صوت الديك ، وصوت الذي يقرأ القرآن ، وصوت (الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)» [٢٧] (٦).

حمّاد بن سلمة عن سعيد الجريري قال : بلغنا أنّ داود نبي الله سأل جبرائيل عليه‌السلام : أي الليل أفضل؟ فقال : ما أدري إلا أنّ العرش يهتز من السحر (٧).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٨٤ ، والمستدرك : ٤ / ٥٥٩ ، بتفاوت يسير.

(٢) سورة الذاريات : ١٨.

(٣) تفسير الطبري : ٣ / ٢٨٤ ، وفيه : يرويه يعقوب عن زيد مباشرة.

(٤) مجمع الزوائد : ٩ / ٣٤٧.

(٥) كنز العمّال : ٧ / ٥٧٩ ، ح ٢٠٣٤٣.

(٦) كنز العمّال : ١٢ / ٣٣٥ ، ح ٣٥٢٨٥.

(٧) المصنّف لابن أبي شيبة : ٨ / ١١٥ ، وتاريخ بغداد : ٤ / ٥٤.

٣٠

وقال سفيان الثوري : إنّ لله ريحا يقال لها : الصبّحية تهب وقت الأسحار تحمل الأذكار والاستغفار الى الملك الجبّار.

قال سفيان انّه إذا كان من أوّل الليل ، نادى مناد : ألا ليقم العابدون ، فيقومون فيصلّون ما شاء الله ، ثم ينادي منادي في شطر الليل : ليقم القانتون ، فيقومون كذلك يصلّون الى السحر.

فإذا كان نادى مناد : ألا ليقم المستغفرون ، فيقومون فيستغفرون ، ويقوم آخرون يصلّون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد : اللهم ليقم الغافلون فيقومون ، من فراشهم كأنهم نشروا من قبورهم.

وقال لقمان لابنه : «يا بني لا يكون الديك أكيس منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

عن غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش وكنت اختلف إليه. فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر الى البصرة قام من الليل يتهجد ؛ فمر بهذه الآية (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية. ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) قالها مرارا. قلت : لقد سمع. فما شيئا فصلّيت معه وودعته ، ثم قلت : آية سمّعتك نردّدها فما بلغك فيها؟ قال : والله لا أحدث بها الى سنة. فلبثت على بابه ذلك اليوم ، وأقمت سنة ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد مضت السنة ، فقال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجيء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد. أدخلوا عبدي الجنة» [٢٨] (١).

خالد بن زيد عن يزيد الرقاسي عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية .. عند منامه خلق الله عزوجل له سبعين ألف ملك يستغفرون له الى يوم القيامة» [٢٩] (٢).

وعن الزبير بن العوام قال : قلت : لأدنونّ هذه [العشية] من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي عشية عرفه حتى أسمع ما يقول ، فحبست ناقتي من ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناقة رجل كان الى جنبه.

فسمعته يقول : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية. فما زال يردّدها حتى دفع.

يعقوب عن جعفر عن سعيد بن جبير قال : كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما. فلما نزلت (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية ، خرّوا سجّدا.

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٦ / ٣٢٦.

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ٤٢.

٣١

قال الكلبي : قدم حبران من أهل الشام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة صفة مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يخرج آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفاه بالصفة والنعت. فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم. قالا : وأنت أحمد؟ قال : إنا محمد وأحمد قالا : إنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنّا بك وصدّقناك. فقال : بلى. قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله هذه الآية (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية .. فأسلم الرجلان.

واختلف القرّاء في هذه الآية. فقرأ أبو نهيك وأبو الشعثاء : (شَهِدَ اللهُ) بالرفع والمدّ على معنى : هم شهداء يعني : الذين مرّ ذكرهم.

وروى المهلّب عن محارب بن دثار : شَهِدَ اللهَ منصوبة على الحال والمدح.

وقرأ الآخرون : (شَهِدَ اللهُ) على الفعل أي بيّن ؛ لأن الشهادة تبيين.

وقال مجاهد : حكم الله ، الفرّاء وأبو عبيدة : قضى الله ، المفضّل : لعلم الله.

ابن كيسان : (شَهِدَ اللهُ) بتدبيره العجيب ، وصنعه المتقن ، وأموره المحكمة من خلقه (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، وهذا كقول القائل :

ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد

وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحد (١)

وقيل لبعض الأعراب : ما الدليل على أنّ للعالم صانعا؟

فقال : إنّ البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، وهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة ؛ أما يدلّان على الصانع الخبير.

قال ابن عباس : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة ، وشهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر ، فقال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)» [٣٠].

وقرأ ابن مسعود : (أنّ لا آله إلا هو ...)

وقرأ ابن عباس : شَهِدَ اللهُ إِنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ : بكسر الألف جعله خبرا مستأنفا معترضا في الكلام على توهم الفاء ، كأنه قال : فإنّه لا إله إلّا هو ، قاله أبو عبيدة والمفضّل ، وقال بعضهم : كسره ؛ لأن الشهادة قول وما بعد القول يكون مكسورا على الحكاية فتقديره قال الله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

(وَالْمَلائِكَةُ) : قال المفضّل : معنى شهادة الله للإخبار والإعلام ، ومعنى شهادة ملائكة

__________________

(١) تفسير الثعالبي : ٢ / ١٤٩.

٣٢

الله والمؤمنين الإقرار كقوله : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) (١) أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة ، (وَأُولُوا الْعِلْمِ) على شهادة الله تعالى.

والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظا كقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) (٢) والصلاة من الله «الرحمة» ومن الملائكة «الاستغفار والدعاء» ، (وَأُولُوا الْعِلْمِ) : يعني الأنبياء عليهم‌السلام.

وقال ابن كيسان : يعني المهاجرين والأنصار.

مقاتل : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام : وأصحابه : نظيره قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٣) ، وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤).

وقال السدي والكلبي : يعني علماء المؤمنين كلهم. فقرّب الله تعالى شهادة العلماء بشهادته ؛ لأن العلم صفة الله العليا ونعته العظمى. والعلماء أعلام الإسلام والسابقون الى دار السلام وسرج الأمكنة وحجج الأزمنة.

وروى صفوان عن سليم عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ساعة من عالم متّكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما» [٣١] (٥).

المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلّموا العلم ؛ فإنّ تعلّمه لله حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ؛ وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وتذكره لأهله قربة ؛ لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل الجنة والنار ، والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة ، والميراث في الخلوة ، والدليل على السرّاء والضرّاء ، والسلاح على الأعداء ، والقرب عند الغرباء ، يرفع الله به أقواما ويجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم ، ويبيّن آثارهم ، ويرموا أعمالهم ، وينهى الى رأيهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلواتهم تستغفر لهم ، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها ، ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى ، ونور الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منازل الأحرار ، ومجالس الملوك ، والفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام ، به يعرف الحلال والحرام ، وبه توصّل الأرحام ، إمام العمل والعقل تابعه ، يلهم السعد أو يحرم إذا شقي» [٣٢] (٦).

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٣٠.

(٢) سورة الأحزاب : ٥٦.

(٣) سورة الإسراء : ١٠٧.

(٤) سورة الرعد : ٤٣.

(٥) الجامع الصغير : ٢ / ٣٩ ، ح ٤٦٢٢.

(٦) تفسير الثعالبي : ٢ / ١٢.

٣٣

(قائِماً بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل ونظام الآية «شهد الله قائما بالقسط». وهو نصب على الحال.

وقال الفرّاء : هو نصب على القطع كأن أصله القائم ، وكذلك هو في (عبد الله) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) (١).

وقال أهل المعاني في قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) : أي مدبّر ، رازق ، مجازي بالأعمال كما يقال : فلان قائم بأمري : أي مدبّر له متعهد لأسبابه ، وقائم بحق فلان : أي بحاله.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : كرّر ؛ لأنّ الأولى حلت محل الدعوى ، والشهادة الثانية حلت في محل الحكم.

وقال جعفر الصّادق : الأولى [وصف وتوحيد] والثانية رسم وتعليم يعني قولوا : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) : يعني [بالدين الطاعة والملّة] لقوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٣).

وفتح الكسائي ومحمد بن عيسى الاصفهاني ألف (إنّ) ردا على (أنّ) الأولى في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ) يعني : شهد الله أنّه ، وشهد أن الدين عند الله الإسلام ، وكسر الباقون على الابتداء. والإسلام [من السلم : الإيمان و] الطاعة يقال : أسلم أي : دخل في السلم. وذلك كقولهم : أستى وأربع وأمحط واخبت : أي دخل فيها.

سفيان : قال قتادة : في قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) قال : [شهادة] أن لا إله إلا الله. والإقرار بأنّها من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ودلّ عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا جزى إلّا به.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية ، قال الربيع : إنّ موسى عليه‌السلام لما حضرته الوفاة دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل ، واستودعهم التوراة ، وجعلهم أمناء عليها ، واستخلف يوشع بن نون.

فلمّا مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم ، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أوقعوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والإختلاف وذلك (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يعني : بيان ما في التوراة (بَغْياً بَيْنَهُمْ) : أن طلبها للملك والرئاسة والتحاسد والمناقشة ؛ فسلط الله عليهم الجبابرة.

__________________

(١) سورة النحل : ٥٢.

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ٤٣.

(٣) سورة المائدة : ٣.

٣٤

وقال بعضهم : أراد (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ، يعني : بيان نعته وصفته في كتبهم.

وقال محمد بن جعفر عن الزبير : نزلت هذه الآية في نصارى نجران ومعناها : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هو الإنجيل في أمر عيسى عليه‌السلام ، وفرّقوا القول فيه (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ، بأن الله واحد ، وأنّ عيسى عبده ورسوله (بَغْياً بَيْنَهُمْ) : أي للمعاداة والمخالفة.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) : لا يحتاج الى عقد وقبض يد.

وقال الكلبي : نزلت في يهوديين تركوا اسم الإسلام وتسمّوا باليهودية والنصرانية ، قال الله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) قال : دين الله هو الإسلام بغيا منهم فلمّا وجدا نظيره قوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) فقالت اليهود والنصارى : لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنّ اليهودية والنصرانية سبّ هو الشرك ، والدين هو الإسلام ونحن عليه.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) : خاصموك يا محمد في الدين ، (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) : أي انقدت [لأمر الله] (لِلَّهِ) : وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي ، إنّما خص الوجه لأنّه ؛ أكرم جوارح الإنسان ، وفيه بهاؤه وتعظيمه ، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي هي دون وجهه.

وقال الفرّاء : معناه أخلصت عملي لله.

يقال : أسلمت الشيء لفلان وسلمته له ، أي دفعته إليه [......] (٢) ومن هذا يقال : أسلمت الغلام إلى [....] (٣) وفي صناعة كذا. أي أخلصت لها.

والوجه : العمل كقوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) : أي قصده وعمله. وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٤).

(وَمَنِ اتَّبَعَنِ) : «من» في محل الرفع عطفا على التاء في قوله : (أَسْلَمْتُ) أي : ومن اتبعني أسلم كما أسلمت.

وأثبت بعضهم (٥) ياء قوله : اتبعني على الأصل ، وحذفه الآخرون على لفظ ينافي المصحف [إذا وقعت فيه بغير ياء]. وأنشد :

__________________

(١) سورة البيّنة : ٤.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) كلمة غير مقروءة.

(٤) سورة الليل : ٢٠.

(٥) وهم نافع وأبو عمرو ويعقوب راجع تفسير القرطبي : ٤ / ٤٥.

٣٥

كفاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسيف دما (١)

وقال آخر :

ليس تخفى يسارتي قدر يوم

ولقد يخف شيمتي إعساري (٢)

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) : يعني العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) : لفظ استفهام ومعناه أمر ، أي أسلموا كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) : أي نهوا ، (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) : فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، فقال أهل الكتاب : أسلمنا. فقال للنصارى : أتشهدون أنّ عيسى كلمة من الله وعبده ورسوله ، فقالوا : معاذ الله.

وقال لليهود : إنّ عزير هو عبد الله ورسوله ، قالوا : معاذ الله فذلك قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ). بتبليغ الرسالة ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) : عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن بالله وبأهل الثواب وبأهل العقاب.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) : يجحدون ، (بِآياتِ اللهِ) : بحجّة وأعلامه ، وقيل : هي القرآن ، وقيل : هم اليهود والنصارى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) قرأ الحسن ويُقَتِّلُونَ بالتشديد فهما على تكثر.

وقرأ حمزة : (وتقاتلون الّذين يأمرون) اعتبارا بقراءة مسعود (وقاتلوا الذين يأمرون به) ، ووجه هذه القراءة (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) وقد «قاتلوا الذين يأمرون» ؛ لأنه غير جائز عطف الماضي على المستقبل وفي حرف. أي : ويقتلون النبيين بغير حق والذين يأمرون بالقسط ، قال مقاتل : أراد به ملوك بني إسرائيل.

وقال معقل بن أبي سكين ، وابن جريح : كان الوحي يأتي الى أنبياء بني إسرائيل ، ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون. فيقوم رجال فمن اتّبعهم وصدقهم فيذّكرون قومهم فيقتلون أيضا. فهم (الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ).

وعن قبيصة بن دويب الخزاعي عن أبي عبيدة الجرّاح قال : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : «رجل قتل نبيا ، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف» ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) إلى قوله : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا في أول النهار ساعة واحدة ، فقام مائة وإثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قبلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر

__________________

(١) فتح القدير : ٥ / ٤٣٣.

(٢) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٢١٧.

٣٦

فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فأنزل الآية فيهم» [٣٣].

وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بئس القوم قوم (يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، وبئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان» [٣٤] (١).

(فَبَشِّرْهُمْ) .. أخبرهم بعذاب أليم ، وإنما أدخل الفاء [في خبرها] (٢) ؛ لأنه قوله : (الَّذِينَ) موضع الجزاء [«وإنّ» لا تبطل معنى الجزاء ؛ لأنّها بمزلة الابتداء عكس : ليت] (٣).

وقيل : أدخل الفاء على الغاء أن وتقديره : «الذين يكفرون ويقتلون فبشّرهم بعذاب أليم رجيح.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) : ذهبت وبطلت.

وقرأ أبو واقد والجرّاح : «حَبَطَتْ» بفتح التاء مستقبلة «تحبط» بكسر الباء وأصله من «الحبط» وهو أن ترعى الماشية [بلا دليل ورديع] (٤) فتنتفخ من ذلك بطونها ، وربّما ماتت منه ، ثم جعل كل شيء يهلك حبطا.

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا إذ يلم» [٣٥] (٥).

(أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا) : أي نصيبا وحظا من الكتاب. يعني : اليهود (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ).

واختلفوا في هذا الكتاب الذي أخبر الله تعالى إنّهم يدعون إليه فيعرضون عنه. فقال قوم : هو القرآن.

وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال : إنّ الله عزوجل جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله ، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنّهم على غير دين الهدى فأعرضوا عنه.

وقال قتادة : هم أعداء الله اليهود. دعوا الى حكم القرآن واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعرضوا ، وهم يجدونه مكتوبا في كتبهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٤٦.

(٢) زيادة منّا للإيضاح.

(٣) زيادة منّا للإيضاح ، والمخطوط لا يقرأ.

(٤) هكذا الظاهر ، وفي تفسير القرطبي (٣ / ٤٦) الحبط : هو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها وربّما تموت من ذلك.

(٥) صحيح ابن حبّان : ٨ / ٢٣ ، كنز العمّال : ٣ / ٢٠٤.

٣٧

السّديّ : دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال له النعمان بن أبي أوفى : هلمّ يا محمّد نخاصمك إلى الأحبار ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل الى كتاب الله. فقال : بل الى الأحبار.

فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الآخرون : هي التوراة.

روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ، قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المقدس على جماعة من اليهود ، فدعاهم الى الله عزوجل.

فقال له نعيم بن عمر وابن الحارث بن فهد : على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملّة إبراهيم. قالا : إنّ إبراهيم كان يهوديا. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأسلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنّ رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا ، وكانا في شرف منهم ، وكان في كتابهم الرجم. فكرهوا رجمهما لحالهما وشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول الله رحمة في أمرهما ، فرفعوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان ابن أبي أوفى ونخري بن عمر : جرت علينا يا محمد. ليس عليهما الرجم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم. قالوا : قد أنصفتنا. قال فمن أعلمكم؟

فقالوا : رجل أعمى يسكن فدك ، يقال له ابن صوريا ، فأرسلوا إليه ، فقدم المدينة وكان جبرائيل عليه‌السلام قد وصفه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول الله : لأنت ابن صوريا؟ قال : نعم. قال : أنت أعلم اليهود؟ قال كذلك يزعمون ، قال : فدعا رسول الله بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب. فقال له : أقرأ. فلما أتى آية الرجم وضع كفه عليه وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها ووضع كفه عليها ، وقام ابن سلام الى ابن صوريا فرفع كفه عنها ، ثم قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليهوديان المحصنان إذا زنيا ، وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها» [٣٦] (١). فأمر رسول الله باليهوديين فرجما ، فغضب اليهود لذلك غضبا شديدا ، وانصرفوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) فتح الباري : ١٢ / ١٥٠ ، يلاحظ لم يذكر كلمة : اليهوديان ، في الحديث.

٣٨

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) حظا من التوراة.

(يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، فقد علمهم أنّها في التوراة.

(وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) : أي فكيف يصنعون (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) : وهو يوم القيامة.

(وَوُفِّيَتْ) : ذكرت.

(كُلُّ نَفْسٍ) : برّ أو فاجر.

(ما كَسَبَتْ) : أي جزاء ما عملت من خير أو شر.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) : لا ينقصون من حسناتهم ولا يزداد على سيئاتهم.

روى الضحاك عن ابن عباس ، قال : «أوّل راية ترفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفار راية اليهود ، فيقمعهم الله على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار».

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) ، قد روى الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما أراد الله أن ينزّل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، و (شَهِدَ اللهُ) ، و (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) ...

إلى (بِغَيْرِ حِسابٍ) تعلقن بالعرش ، وليس بينهن وبين الله حجاب ، وقلن : يا رب تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ونحن متعلقات بالطيور والعرش. فقال تعالى : وعزّتي وجلالي ما من عبد قرأكنّ في دبر كل صلاة مكتوبة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه ، وإلّا نظرت له بعيني في كل يوم سبعين مرة ، وإلّا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وإلّا أعذته من كل عدو ونصرته عليه ، ولا يمنعه دخول الجنة إلّا الشرك».

٣٩

وقال معاذ بن جبل : أحتبست عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما لم أصلّ معه الجمعة. فقال : يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟ قلت : يا رسول الله كان ليوحنا اليهودي عليّ أوقية [من تبر] ، وكان على بابي يرصدني ، فأشفقت أن يحبسني دونك. فقال : «أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك؟». قلت : نعم يا رسول الله. قال : قل (اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) .. إلى قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وقل : «يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تعطي منها ما تشاء وتمنع منها ما تشاء ، أقض عني ديني. فإن كان عليك ملئ الأرض ذهبا قضاه الله عنك» [٣٧] (١).

قال قتادة : ذكر لنا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال ابن عباس ، وأنس بن مالك : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم. قالت : المنافقين واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس ، هم أعزّ وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ، قال : خطّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخندق في عام الأحزاب. ثمّ قطع أربعين ذراعا بين كلّ عشرة ، قال : فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلا قويا ، فقال المهاجرون : سلمان منّا. وقال الأنصار : سلمان منّا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلمان منّا أهل البيت» [٣٨].

قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا ، فحفرنا حتى بلغنا الصدى أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقّت علينا. فقلنا يا سلمان : آت إلى رسول الله وأخبره خبر هذه الصخرة. فإمّا أن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيها بأمر ، فإنّا لا نحب أن نجاوز خطة.

قال : فرقى سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ضارب عليه قبّة تركية. فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق ، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك فإنّا لا نحب أن نجاوز خطك ، قال : فهبط رسول الله مع سلمان الخندق وبقينا نحن التسعة على شفة الخندق. فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ، يعني المدينة ، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح ، وكبّر المسلمون ، ثم ضربها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكسرها ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٥٢ ، ومسند الشاميين : ٣ / ٣٢٠ ، ح ٢٣٩٨.

٤٠