الكشف والبيان - ج ٣

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٣

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

في الحراب ، حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، يقال له زيد ابن السمين ، والتمست الدرع عند طعمة فلم يوجد عنده ، وحلف لهم والله ما أخذها وماله بها من علم فقال أصحاب الدرع ، بلى والله لقد أولج علينا فأحضرها وعلينا بأثره حتى دخل داره ، فرأينا أثر الدقيق منتشرا فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق. حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه وقال اليهودي : دفعها لي طعمة بن البرق ، وشهد له ناس من اليهود على ذلك ، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة : أيطلبوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنكلمه في صاحبنا فنعذره ونجادل عنه وإن صاحبنا يرى معذورا فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلموه في ذلك ، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح ، وبرىء اليهودي فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي ، فأنزل الله تعالى يعاتبه (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الآيات.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : إن طعمة سرق درعا من أنصاري وكان الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان متناثر النخالة منه طول الطريق ، فجاء به إلى دار زيد ابن السمين على أثر النخالة [فأخذه] وحمله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم رسول الله أن يقطع يد زيد اليهودي فأنزل الله تعالى هذه الآية.

علي بن الضحاك : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار ، استودع درعا فجحده صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء قومه فعذروه وأتوا عليه فصدّقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعذرهم وردّ الذين قالوا فيه ما قالوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما تبين خيانته ارتد عن الإسلام ولحق بمكة ، فأنزل الله تعالى (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) (١) الآية.

وقال مقاتل : إن زيد السمين أودع درعا عند طعمة بن أبرق فجحده طعمة فلما جاء زيد يطلبه أغلق الباب ، فأشرف على السطح ، فألقى الدرع في دار جاره أبي هلال. ثم فتح الباب فلم يجدوا فيه فصعد السطح فقال : أرى درعا في دار أبي هلال ، فلعله درعكم فنظروا وإذا هو ذلك فرفعوه. ثم جمع طعمة قومه وجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشكوا وقالوا : إنهم قد فضحونا وسرقونا ، فعاتبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله عزوجل (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي بالأمر والنهي والفصل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) أي ما علمك الله وأوحى إليك (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي معينا (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) ابن عباس قال : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما هممت به من قطع يد زيد.

الكلبي : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) يا محمد من همك باليهودي أن تضربه.

مقاتل : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) من جدالك الذي جادلت عن طعمة (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

__________________

(١) سورة النساء : ١١٠.

٣٨١

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يعني يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) يعني خائنا في الدرع (أَثِيماً) في رميه اليهودي وقوله (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً). قد قيل فيه : إن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره ، كقوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) (١) والنبي لا يشك ممّا أنزل الله ، فإن قيل : قد أمر بالاستغفار [قلنا] هو لا يوجب وجود الذنب ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدم.

واعلم أن الاستغفار في جميع الأنبياء يعد وجوه منها ثلاثة أوجه : يكون لذنبه مقدم مثل النبوة ويكون لذنب أمته وقرابته ويكون لترك المباح قبل ورود الحضر ، ومعناه بالسمع والطاعة لما أمرت به ونهيت عنه وحملت التوفيق عليه (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) أي يستترون ويستحيون من الناس (وَلا يَسْتَخْفُونَ) أي يستترون ولا يستحيون (مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) يعني علمه.

(إِذْ يُبَيِّتُونَ). الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : يعني يقولون ، عن سفيان عن الأعمش عن أبي رزين : يولعون (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) يعني بأن اليهودي سرقه (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) يعني قد أحاط الله بأعمالهم الحسنة.

وتعلقت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية ، استدلوا منها على إن الله بكل مكان قالوا لمّا قال (وَهُوَ مَعَهُمْ) ثبت إنه بكل مكان لأنه قد اثبت كونه معهم وقال لهم حق قوله (وَهُوَ مَعَهُمْ) إنه يعلم ما يقولون ولا يخفى عليه فعلهم لأنه العالم بما يظهره الخلق وبما يستره ، وليس في وله وهو معهم ما يوجب انه بكل مكان لأنه قال (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) (٢) ولم يرد قوله انه في السماء يعني غير الذات لأن القول : أنّ زيدا في موضع كذا من غير أن يعتد بذكر فعل أو شيء من الأشياء لا يكون إلّا بالذات ، وقال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) (٣) فأخبر أنه [يرفع] الأشياء من السماء ولا يجوز أن يكون معهم بذاته ثم (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ) و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ، ولو كان قوله (وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول) ثم أقبل على قوم طعمة وقال (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي يا هؤلاء للتنبيه (جادَلْتُمْ) أي خاصمتم عن [أبي] طعمة (٤) ، ومتى سافر أبي بن كعب (عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) والمطلب به في اللغة بشدة [المخاصمة] وهو من الجدل وهو [شدّة الفتل وفيه : رجل مجدول الخلق ، وفيه : الأجدل للصقر] (٥) لأنّه من أشدّ الطيور قوّة.

__________________

(١) سورة يونس : ٩٤.

(٢) سورة الملك : ١٦.

(٣) سورة السجدة : ٥.

(٤) بشير من بني أبيرق.

(٥) زيادة عن تفسير القرطبي : ٥ / ٣٧٨.

٣٨٢

(فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ) أي عن طعمة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لما أخذه الله بعذابه وأدخله النار (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) كفيلا.

ثم استأنف وقال (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) يعني يسرق الدرع (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) برميه البريء في السرقة ، يقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) أي شركا (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) يعني بما دون الشرك (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) أي يتوب إلى الله (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) متجاوزا (رَحِيماً) به حين قبل توبته (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) يعني يمنه بالباطل (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) يقول فإنما يضر به نفسه ولا يؤخذ غير الإثم بإثم الإثم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بسارق الدرع (حَكِيماً) حكم القطع على طعمة في السرقة (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي بيمينه الكاذبة ، (أَوْ إِثْماً) بسرقته الدرع ، وبرميه اليهودي (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) أي يقذف بما جناه من مأمنه (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) والبهتان أي يبهت الرجل بما لم يفعل.

وقال الزجاج : البهتان الكذب الذي يتخير من [عظمه]. (وَإِثْماً مُبِيناً) ذنبا بينا.

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) عبد الله بن أبي بن سلول (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) يعني به عائشة أم المؤمنين حيث كذب عليها وكان من ذلك ، وقوله (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) ولم يقل فيهما وقد ذكر الخطيئة ولم يقل كفرا ، يجوز ان يكنى عن النفس والثلاثة والأكثر واحدها مؤنث بالتذكير ، والتوحيد لأن الأنفس يقع عليها فعل واحد ، فذلك جائز وإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلتها كالواحد ، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال الله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (١) جعله للتجارة ولو أتى بالتذكير فجعل كالفعل الواحد لجاز ثم قال لمحمد (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) بالنبوة (وَرَحْمَتُهُ) نصرك بالوحي (لَهَمَّتْ) يقول لقد همّت يعني أضمرت (طائِفَةٌ) يعني جماعة (مِنْهُمْ) يعني طعمة (أَنْ يُضِلُّوكَ) أي يخطؤك (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يقول وما يخطئون إلّا أنفسهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) وكان ضره على من شهد بغير حق (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني القرآن والحكمة يعني القضاء بالوحي (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) قبل الوحي (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) من الله عليك (عَظِيماً) بالنبوة.

هذا قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، ثم قال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ. عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) يعني به الإسلام والقرآن (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعني من ثقيف (أَنْ يُضِلُّوكَ) وذلك أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد قد جئناك نبايعك على أن لا حشر ولا بعث ولا نكسر أصناما بأيدينا على أن تمتّعنا بالعزّى سنة ، فلم يجبهم إلى ذلك وعصمه الله بمنّه وأخبره بنعمته

__________________

(١) سورة الجمعة : ١١.

٣٨٣

عليه انّه في حفظه وكلاءته فلا يخلص إليه أمر يكرهه ، فقال (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يعني وفد ثقيف (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) يعني لا يستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك الله لها أهلا ثم قال (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني الاحكام (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من الشرائع (وَكانَ فَضْلُ اللهِ) أي منّ الله (عَلَيْكَ) بالإيمان (عَظِيماً).

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧))

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ).

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يعني قوم طعمة (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) أي حثّ عليها (أَوْ مَعْرُوفٍ) يعينه بفرض أسباب (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) يعني بين طعمة واليهودي (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) القرض بمنح أو هدية (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلب رضاه (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) في الآخرة (أَجْراً عَظِيماً) يعني جنة.

وعن ابن سيرين : معنى النجوى في الكلام المفرد به الجماعة ، والإنسان سرا كان أو ظاهرا ، ومعنى النجوى في لغة خاصة ومنه نجوت الجلد عن البعير وغيره أي ألقيته عنه.

قال الشاعر :

فقلت أنجوا منها نجا الجلد انه

سيرضيكما منها سنام وغار به (١)

ويقال : نجوت فلانا إذا استنكهته.

قال الشاعر :

نجوت مجالدا فوجدت منه

كريح الكلب مات حديث عهد (٢)

ونجوت الوتر واستنجيته إذا أخلصه.

قال الشاعر :

فتبازت فتبازخت لها

كجلسة الأعسر يستنجي الوتر

__________________

(١) كتاب العين للفراهيدي : ٦ / ١٨٧ ، تفسير مجمع البيان : ٣ / ١٨٧.

(٢) الصحاح : ٦ / ٢٥٠٢.

٣٨٤

وأصله كله من النجوة فهو مرتفع من الأرض.

قال الشاعر :

كمن بنجوته كمن بعقوته

والمستكن كمن يمشي بقرواح (١)

فمعنى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) يعني ما دوّن منهم من الكلام (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) يجوز ان يكون في موضع الخفض والنصب والرفع ، فوجه الخفض على قولك : لا خير في كثير من نجواهم إلّا فيمن أمر بصدقة.

والنجوى هاهنا الرجال المتناجون كما قال : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى).

وقال قائلون : النجوى لمنة فيه فالمنصوب يعلا أن يجعل النجوى فعلا ويكون قوله إلّا استثناء من غير الجنس فيكون وجه النصب ظاهرا.

قال النابغة :

إلّا الأواري لأياً ما أبينها

والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (٢)

وقد يكون في موضع رفع فمن نصب على المعرفة.

وقال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) نزلت في طعمة بن الأبرق أيضا وذلك إنه لما نزل القرآن فيه وعلم قومه إنه ظالم وخاف هو على نفسه من القطع والفضيحة ، هرب إلى مكة فأنزل الله فيه (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالف (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي التوحيد بحدوده (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يقول غير دين المؤمنين دين أهل مكة عبادة الأوثان (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نكله وما أدخره إلى ما تولى في الدنيا (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) فلم ينته طعمة ولم يراجع وتعمد فأدلج على الرجل من بني سليم من أهل مكة فقال له الحجاج : كف أخلاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من البيت فتسبب فيه فلم يستطع أن يدخل فقال رجّحني بمعنى أصبح فأخذ [يتفل] (٣) ، فقال بعضهم : دعوه فإنه لجأ إليكم ، فتركوه وأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فرد فرارا منهم فسرق بعض بضاعتهم وهرب فطلبوه وأخذوه فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فصار قبره تلك الأحجار ويقال انه ركب البحر إلى جدّة فسرق من السفينة كيسا فيه

__________________

(١) الصحاح : ١ / ٣٩٦.

(٢) لسان العرب : ٣ / ١٢٦ ، والأواري جمع آري وهو مربط الدابة ، واللاي : الجهد ، والنؤي : حفرة.

(٣) كذا في المخطوط.

٣٨٥

دنانير فأمسكوا به فأخذ وألقي في البحر ، ويقال إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنما لهم إلى إن مات ، فأنزل الله فيه (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) فنزل فيه (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (١) الآية.

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) : نزلت هذه الآية في نفر من قريش ، قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ودخلوا في الإسلام ، فأعطاهم رسول الله ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ورجعوا إلى عبادة الأوثان ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يفارق الرسول ، ويعاديه ويحاربه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) يعني من بعد ما وضح له إن محمد عبده ورسوله (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي غير طريق المسلمين (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نكله إلى الأصنام يوم القيامة ، وهي لا تملك ضرا ولا نفعا ولا ينجيهم من عذاب الله (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) بعبادة الأصنام.

(وَساءَتْ مَصِيراً) يعني بئس المنزل حلوا به يوم القيامة.

الضحاك عن ابن عباس : قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) قال : إن شيخا من الاعراب جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا نبي الله أني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلّا إني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته ، وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ولا توهمت طرفة عين ، إني أعجز الله هربا وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله عزوجل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) والشرك ذنب لا يغفر لمن مات عليه (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) يعني فقد ذهب عن الطريق وحرم الخير كله.

واعلم أن في قوله تعالى (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) دليل على قوة حجة الإجماع وفي قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) دليل على فساد قول الخوارج حين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر وذلك قوله عزوجل قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ففرّق بين الشرك وسائر الذنوب وحتم على نفسه بأن لا يغفر الشرك.

لو كان الكبيرة كفرا لكان قوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) مستوعبا فلما فرّق بين الشرك وسائر الذنوب بان فساد قولهم ، وقد بيّن الله تعالى بأنه الشرك في آخر القصة وهو قوله (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) وقد علم أن صاحب الكبيرة غير مستحل لها فلم يجز أن يكون حكمه حكم الكافر ، وفيه دليل على فساد قول المعتزلة في المنزلة [بين الشرك والإيمان] إذ الله تعالى لم يجعل بين الشرك والإيمان منزلة ولم يجعل الذنوب ضدا للإيمان.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣٨.

٣٨٦

وكان فيه فساد قول من جعل الكبيرة الكفر ، وفيه دليل على فساد قول المرجئة حين قالوا : إن المؤمن لا يعذّب ، وإن كان مرتكبا للذنوب. لأن الله أخرج المشرك من المشيئة وجعل الحكم فيه حتما ، فلو لم يجز تعذيب المؤمن المذنب لأخرجه من باب الاستثناء وأطلق الحكم فيه كما [علّقه] في الشرك ، وفيه دليل على فساد قول الوعيدية وقد ذكرناه من قبل.

ثم نزلت في أهل مكة (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) كقوله تعالى (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) أي اعبدوني أستجب ، لكم يدلّ عليه قوله بعده (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) من دونه ، أي من دون الله وكان في كل واحدة فيهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة يكلمهم فذلك قوله (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (٢) وكان المشركون يدعون أصنامهم باسمها وكان هذا قول مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين.

ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس : إن يدعون من دونه إلّا أوثانا جمع الوثن فصيّر الواو همزة كقوله أقب ووقب.

وأصله وثن وقرئت أنثا على جمع الإناث كمثل مثال ومثل وثمار وثمر. قال الحسن وقتادة وأبو عبيدة : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) يعني أمواتا لا روح فيه خشبة وحجر ومدر ونحوها.

وذلك إن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث يقول من ذلك الأصنام متعجبين ، فـ (إِنْ يَدْعُونَ) وما تعبدون (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) والمريد المارد فقيل : بمعنى فاعل. نحو قدير وقادر وهو الشديد العاتي الخارج من الطاعة. يقال : مرد الرجل يمرد مرودا ومراده إذا عتى وخرج من الطاعة وأصل المريد من قول العرب : حدثنا ممرد أي مملس.

ويقال : شجرة مردا إذا يتناثر ورقها ، ولذلك سمي من لم تنبت لحيته أمرد ، أي أملس موضع اللحية.

فالمراد : الخارج من الطاعة المتملّص منها.

(لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢)

__________________

(١) سورة غافر : ٦٠.

(٢) سورة النساء : ١١٧.

٣٨٧

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

(لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ) يعني إبليس (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) يعني حظا معلوما فما أطاع فيه إبليس فهو مفروضة. قال الفراء ما جعل عليه سبيل ، وهو كالمفروض ، في بعض التفسير وكل ألف الله عزوجل وسائرهم لإبليس.

وأصل الفرض في اللغة القطع ومنه الفرضة في النهر وهي الثلمة تكون فيه (١) يقال معناها بالفراض والفرض ، والفرض الجز الذي يكون في الشباك يشد فيه الخيط ، والفريض في القوس الجز الذي يشد فيه الوتر ، والفريضة في سائر ما افترض الله عزوجل. ما أمر به العباد وجعله أمرا حتما عليهم قاطعا وقوله (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) (٢) يعني لهن قطعة من المال.

وقد فرضت للرجل أي جعلت له قطعة من المال.

قول الشاعر :

إذ أكلت سمكا وفرضا

ذهبت طولا وذهبت عرضا (٣)

فالفرض هاهنا التمر ، وقد سمي التمر فرضا لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة.

ثم قال إبليس (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) [بمعنى هؤلاء] (٤) (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أنّه لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث.

وقال بعضهم : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أي ألقي في قلوبهم [الهيمنة] (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ). قال ابن عباس عن الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير : يعني دين الله نظير قوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لدين الله.

وقال عكرمة وقوم من المفسرين : معناه : فلنغيرنّ خلق الله [بالخضاب] والوشم وقطع الآذان وفقء العيون.

__________________

(١) راجع لسان العرب : ٧ / ٢٠٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٧.

(٣) الصحاح : ٣ / ١٠٩٧ لفظة : الفرض.

(٤) كذا في المخطوط ولعله : ولأوهمنهم ، كما في معاني القرآن للنحاس : ٢ / ١٩٣.

٣٨٨

قال أهل المعاني : معنى قوله (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) إن الله خلق الانعام لتركبوها وتأكلوها فحرموها على أنفسهم ، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق الله (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) أي ربّا (مِنْ دُونِ اللهِ) فيطيعوه (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ) إلا يلقون خيرا (وَيُمَنِّيهِمْ) الفقر ألّا ينفقون في خير ولا يصلون رحما ، فقال (يُمَنِّيهِمْ) ان لا بعث ولا جنة ولا نار (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي باطلا (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) يعني مصيرهم جهنم (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي منعا قال عوف : بلغني من المؤمن بكيده من الشيطان بأكثر من مضر لو أبدلهم الله له لمات ، وإن قيل خبرونا عن قول إبليس (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (١) كيف علم ذلك؟

يقال : قد قيل في هذا أجوبة ، منها : إن قالوا إنّ الله تبارك وتعالى كان خاطبه بقوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢) فعلم إبليس انه ينال من ذرية آدم ما يتمناه.

ومنها : ان قالوا إنه لما وسوس لآدم نال منه ما نال ، طمع في ولده ولم ينل من آدم جميع ما يتمناه من الغواية فكذلك طمع في بعض ولده وأيس من جميعهم.

ومنها ان قالوا ان إبليس قد عاين الجنة والنار وعلم ان الله خلقهما لأن يسكنهما من الناس والشيطان ، فعلى هذا التأويل قال (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٣) وإن قيل : لخبرونا عن إضلال الشيطان هل إليه نجح فعله وإنفاذ أمره أم لا؟

يقال له : معنى إضلاله الدعاء إلى الضلالة والتزين له ولو كانت الضلالة إليه لأضل الخلق جميعا ولذلك منّ به أباهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت الغرف والمساكن (خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي وهذا (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ).

قال قتادة والضحاك : إن المسلمين وأهل الكتاب تناظروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابكم ، ونحن أولى بالله منكم ، فقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا [يفي] على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله تعالى (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) الآية.

وقال مجاهد : قالت قريش : لا نبعث ولا نحاسب.

وقال أهل الكتاب (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٤) فأنزل الله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ).

__________________

(١) سورة النساء : ١١٨.

(٢) سورة هود : ١١٩.

(٣) سورة النساء : ١١٨.

(٤) سورة البقرة : ٨٠.

٣٨٩

واسم ليس مضمر المعنى (لَيْسَ) ثواب الله (بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) لا ينفعه يمينه (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لمّا نزلت هذه الآية شقّت على المسلمين مشقّة شديدة ، وقالوا : يا رسول الله وأيّنا لم يعمل سوءا غيرك وكيف الجزاء؟ فقال : «منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ، ومن يجازي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات ، فويل لمن غلب إحداه عشراه.

وأما ما كان جزاءه في الآخرة فإنه يؤخر إلى يوم القيامة فيقابل بين حسناته وسيئاته ، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة ، فيعطى كل ذي عمل فضله» (١) [٣٨٣].

وروى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير عن أبي بكر الصديق قال : يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أية آية؟» فقال يقول الله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال : ما علمنا جزينا فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد هلك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تغب ألست يصبك القرف» قال : بلى ، قال : «فهو ما يجزون به» (٢) [٣٨٤].

وعن عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية في سورة النساء (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا بكر ألا اقرئك آية نزلت عليّ؟» قلت : بلى يا رسول الله ، قال : «فاقرأنيها فلا أعلم أني وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطّيت لها» فقال : «مالك يا أبا بكر».

فقلت : بأبي أنت وأمّي ، وأينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون ذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب».

وأما الآخرون فتجمع ذنوبهم حتى يجزوا يوم القيامة (٣) [٣٨٥].

وقال عطاء : لما نزلت (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ). [قال أبو بكر : يا رسول الله ما أشدّ هذه الآية! قال : «يا أبا بكر إنّك تمرض ، وإنّك تحزن ، وإنك يصيبك أذى ، فذاك بذاك» ، وقال عطاء] :

__________________

(١) عون المعبود : ٨ / ٢٤٧.

(٢) مسند أحمد : ١ / ١١ بتفاوت.

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٧١ والدرّ المنثور : ٢ / ٢٢٦.

٣٩٠

قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر يا رسول الله ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما هي المصيبات في الدنيا» (١) [٣٨٦].

وروى عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قلت : إني لأعلم أي آية من كتاب الله نزلت ببعض (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ). قال : إن المؤمن يجازى بأسوإ عمله في الدنيا ثم ذكر أشياء منه المرض والنصب وكان آخرون يذكر نصبه إليك كله كل يجازي بعمله ، يا عائشة ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب قالت : فقلت : أليس يقول الله تعالى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال : ما ذلك [العرض] إنه من نوقش في العذاب عذب فقال بيده : على المصيبة كان ينكث.

وروى ابن ميثم بن يزيد عن عبد الله بن الأرقم قال عن أبي هريرة يقول : لما نزلت (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) بكينا وحزنّا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء ، قال : «أما المذنب فمن يده إنها لكم أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا إلّا أنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا كفّر الله به خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه» (٢) [٣٨٧].

وقال الحسن : في قوله تعالى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال : هو الكافر ، لا يجزي الله المؤمن يوم القيامة ، ولكن المؤمن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته. ثم قرأ (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) (٣) الآية ، وقرأ أيضا ، (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٤).

قال الثعلبي : وقلت : لو لا السيئة لأتي [الجزاء] في الكفار. لقوله في سياق الآية (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ومن لم يكن له في القيامة نصير ولا ولي كان كافرا فإن الله عزوجل قد ضمن بنصرة المؤمنين في الدارين بقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٥) الآية.

ولكن الخطاب متى ورد مجملا وبيّن الرسول [ذلك على] لسانه إذ البيان إليه قال الله تعالى (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) وأنزل إليهم ثم بين الله تعالى فضل المؤمنين على مخالفيهم فقال (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) الآية يعني تكون في ظهر النواة.

عن مسروق قال : لما نزلت هذه الآية (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٤٠٠ وما بين معكوفين منه.

(٢) تفسير الدرّ المنثور : ٢ / ٢٢٧.

(٣) سورة الزمر : ٣٥.

(٤) سورة سبأ : ١٧.

(٥) سورة غافر : ٥١.

٣٩١

سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء حتى نزلت (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ونزل فيهم أيضا (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) [قد علم ربّنا] (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ).

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : يعني أخلص لله عمله ، وقيل : فوّض أمره إلى الله ، وقيل : مفلح (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي موحد (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) يعني دين إبراهيم (حَنِيفاً) مسلما مخلصا.

قال ابن عباس : ومن دين إبراهيم الكعبة والصلاة ويطوفون بها وحولها والسعي بين الصفا والمروة ورمى الجمرات وحلق الرأس والموقفان ، وسائر المناسك فمن صلّى نحو القبلة وأقرّ بهذه الصفة فقد اتبع ابراهيم عليه‌السلام (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً).

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، في قوله تعالى (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) صفيا وخليلا من [قولهم] : أبا الضيفان يضيف من مرّ به من الناس ، وكان منزله على ظهر الطريق ، فأصاب الناس سنة وجهدوا عنها واجتمعوا على باب داره يطلبون الطعام ، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى ذلك الخليل فسأله الميرة. قال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم إنّما يريده لنفسه احتملنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة ، فرجع رسل إبراهيم إليه فمروا بالبطحاء يعني السهلة ، فقالوا : لو انا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس إنا قد جئنا بميرة ، إنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة ، قال : فملأوا تلك الغرائر سهلة ثم إبراهيم عليه‌السلام وساره نائمة ، فأعلموا ذلك ، واهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه ، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة ، وقد ارتفع النهار ، فقالت : سبحان الله ما جاء الغلمان فقالوا لها : بلى قالت : فما جاءوا بشيء ، قالوا : بلى ، فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حواري يكون فأمرت الخبازين فخبزوا وطعموا ، قال : فلمّا استيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام ، فقال : يا سارة من أين هذا الطعام؟ قالت : من عند خليلك المصري؟

قال : هذا من عند خليلي الله ، لا من عند خليلي المصري. قال : فيومئذ اتخذه الله خليلا مصافيا (١).

وقال الزجاج : الخليل الذي ليس في محبته خلل فجائز أن يكون سمي خليل الله بانه الذي أحبه واصطفاه بالجنة تامة.

وجائز أن يسمّى خليل الله أي فقير إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلّا إلى الله مخلصا في ذلك.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ١٢٢.

٣٩٢

قال الله (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) لإن معنى الخليل في اللغة. قد قيل : هو الفقير.

قال زهير يمدح حرم بن سنان :

فإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

والخلة : الصداقة ، والخلة : [الحاجة] ، فإذا جعلنا اشتقاق الخليل من الخلة فهو الإخلال الذي يلحق الإنسان فيما يحتاج إليه ، وإن جعلنا من الخلة فهو أصل الصداقة ومعناهما جميعا واحد لأن كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة والحاجة إليه.

والخلل : كل فرجة يقع في شيء ، والخلال الذي يتخلل به ، وإنما سمي خلالا لأنه منع به الخلل من الأسنان ، والخل : الطريق في الرمل ، معناه إنه انفرجت فيه فرجة ، فصارت طريقا في الأرض والخلّ الذي يؤكل إنما سمي خلا لأنه أخل منه طعم الحلاوة (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) أي لبساطة عمله لجميع الأشياء.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ).

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في بنات أم كحه وميراثهن من أمّهن ، وقد مضت هذه القصة في أول السورة.

معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : كان الرجل بالجاهلية يكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا ، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها ، فحرّم الله تعالى ذلك ونهى عنه وأنزل هذه الآية.

مجاهد والضحاك وقتادة وإبراهيم : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان شيئا ، وكانت المرأة تكون دميمة في الجاهلية ، دميمة ولها مال فيكره وليّها أن يتزوجها من أجل دمامتها ، ويكره أن يزوّجها غيره من أجل مالها ، وكان وليّها لا يتزوجها ويحبسها عنده حتى تموت ، ويرثها.

٣٩٣

سعيد بن جبير : كان وليّ اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال ، رغب فيها ونكحها واستأثر بها ، وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال لم ينكحها ولم ينكّحها فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وعن عبد الله بن عبيدة قال : جاءت امرأة من الأنصار يقال لها خولة بنت حكيم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول إن أخي توفّي وترك بنات وليس عندهن من الحسن ما يرغب فيهن الرجال ولا يقسم لهن من ميراث أبيهنّ شيئا فنزلت فيها. (وَيَسْتَفْتُونَكَ) أي يستخبرونك (فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) يخبركم (فِيهِنَّ وَما يُتْلى) أي والذي يقرأ (عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) أي في القرآن ، وموضع ما رفع معناه (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) ويفتيكم أيضا فيهن ، ويجوز أن يكون في موضع الخفض ، فيكون معناه قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى بينكم ، وهو بعيد لأن الظاهر لا يعطف على المضمر ، وجه الرفع أبين لأن ما يتلى في الكتاب ويتلى بين ما سألوه عنه معنى ، (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) في كتابه يفتيكم فيهن وهو قوله (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الآية وقوله (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَ) أي لا تعطونهن (ما كُتِبَ لَهُنَ) يعني فرض لهن من الميراث (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي وترغبون عن نكاحهن لملكهن ، وقيل : ترغبون في نكاحهن لمالهن (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) يعني الصغار من الصبيان وهو في موضع الخفض والمعنى : قل الله يفتيكم فيهن والمستضعفين (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً).

وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب إنّ آخر آية كانت (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) وآخر سورة براءة (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) نزلت في عمرة ويقال خويلة بنت محمد بن سلمة في زوجها رافع بن الرفيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلمّا أدبرت وعلاها يعني تزوج عليها امرأة شابة وآثر عليها وحفا ابنه محمد بن سلمة وأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكت إليه ، فنزلت فيها هذه الآية هذا قول : الكلبي وجماعة المفسرين ، وقال سعيد بن جبير : كان رجل وله امرأة قد كبرت وكان له منها أولاد فأراد أن يطلقها ، ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وأقسم لي في كل شهرين إن شئت أو أكثر وإن شئت فلا تقسم لي ، فقال : إن كان يمنع ذلك فهو أحبّ إليّ ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك ، فقال : قد سمع الله ما تقول فإن شاء أجابك فأنزل الله عزوجل (وَإِنِ (امْرَأَةٌ) خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) أي علمت من زوجها نشوزا يعني بغضا.

قال الكلبي : يعني ترك مجامعتها ومضاجعتها أو إعراضا عن مساكنتها ، وعن مجالستها وعن محادثتها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) يعني على الزوج والمرأة (أَنْ يُصْلِحا) أي يستصلحا (بَيْنَهُما صُلْحاً) أي في القسمة والنفقة وهو أن يقول لها : إنك امرأة دميمة وقد دخلت في العنّ وأريد أن أتزوج عليك امرأة شابّة جميلة ، فيؤثرها في القسمة عليها لشبابها ، فإن رضيت بهذا فأقيمي ، وإن كرهت خلّيت سبيلك ، فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولا يعسر عليّ ذلك ،

٣٩٤

وإن لم ترض [أعطيت] حقّها ، فالواجب على الزوج أن يوفّيها حقّها من المقام والنفقة أو يسرّحها بإحسان ولا يحبسها على الخسف (١) ، وإن يقام عليها وفّاها حقّها مع كراهيته صحبتها ، فهو المحسن الذي مدحه الله وأخبره انه عالم بصنيعه ومجازيه على فعله ولا يجبر الرجل على وطء واحدة لأنه هو الزوج وهو حظه وإذا تركه لم يجبر عليه وليس هو كالمقام والنفقة.

وقوله (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) يعني إقامتها بعد تخييره إياها ومصالحتها على شيء معلوم في المقام والنفقة ، وهكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زوجته ومكثت معه وذلك أنها كانت امرأة كبيرة فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسرحها فطلبت إليه أن لا يفعل وقالت : إنّي أحبّ أن أبعث في نسائك يوم القيامة ، ألا فإنّ يومي وليلتي لعائشة (٢).

وقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : في قوله (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قال : المرأة تكون عند الرجل فتكون صغيرة أو كبيرة أو لا يحبّها زوجها ، فيصطلحان على صلح.

وقال سعيد بن جبير : فهو أن يتراضيا على شيء معلوم في نفسه وماله.

قال الضحاك : الصلح أن ينقصها من حقها إذا تزوج أشبّ منها وأعجب إليه (٣).

وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية : فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوّج عليها الشابة ، فيقول للمرأة الكبيرة : أعطيك من زماني نصيبا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار وترضى الأخرى بما اصطلحا عليه فإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما على القسمة.

وروى إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سليمان بن يسار عن ابن عباس : في قوله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (٤). قال : المرأة الكبيرة الدميمة تكون عند الرجل يريد طلاقها والاستبدال بها [فصالحها] هذه على بعض حقها من القسمة والنفقة ، فذلك جائز بعد ما رضيت ، فإن أنكرت بعد الصلح ، فذلك لها ، ولها حقّها ، أمسك أو طلق.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هي المرأة تكون عند الرجل وله امرأة غيرها أحبّ إليه منها فيؤثرها عليها ، فأمر الله تعالى إذا كان ذلك أن يقول لها : يا هذه إن شئت أن تقيمي على ما ترين من هذه فآويك وأنفق عليك فأقيمي ، وأن كرهت خليت سبيلك ، فإن هي رضيت أن تقيم بعد ان خيّرها فلا جناح عليه وهو قوله (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) وهو التخيير.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٤١٧.

(٢) إرواء الغليل : ٧ / ١٤٧.

(٣) راجع تفسير القرطبي : ٥ / ٤٠٤.

(٤) سورة النساء : ١٢٨.

٣٩٥

وروى إسرائيل عن سماك بن حرب عن خلد بن عرعرة قال : سأل رجل عليا عن قوله عزوجل (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) الآية قال : تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتفتدي منه تكره فرقته ، وإن أعطته من ماله فهو حل له أو أعطته من أثاثها فهو حل له (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) يقول : شحت المرأة نصيبها من زوجها وشح الرجل نصيبه من الأخرى.

قال ابن عباس : والشح هو في الشيء يحرص عليه (وَإِنْ تُحْسِنُوا) يعني تصلحوا بينهما بالسوية (وَتَتَّقُوا) الجور والميل.

وقيل : هذا الخطاب للزوج يعني : (وَإِنْ تُحْسِنُوا) بالإقامة عليها ، مع كراهتكم لصحبتهما (وَتَتَّقُوا) ظلمها (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيخبركم بأعمالكم.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) يقول : لن تقدروا ان تسوّوا بينهن في الحب (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل (فَلا تَمِيلُوا) إلى الشابة الجميلة التي تحبّونها (كُلَّ الْمَيْلِ) في النفقة والقسمة والإقبال عليها (وتدّعوا الأخرى (كَالْمُعَلَّقَةِ)) أي كالمنوطة لا أيمّا ولا ذات متاع.

قتادة والكلبي : (كَالْمُعَلَّقَةِ) كالمحبوسة وهي في امرأة أبيّ بن كعب كأنها مسجونة.

وقال مجاهد : لن تستطيعوا العدل بينهن فلا يتعمدوا [ذلك].

وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : اللهم أما قلبي فلا أملك وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل.

(وَإِنْ تُصْلِحُوا) بالعدل في القسمة بينهن (وَتَتَّقُوا) الجور (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) بما قلت إلى التي تحبّها بقلبك بعد العدل في القسمة (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) يعني عن المرأة بالطلاق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أي من النفقة يعني المرأة بزوج والزوج بامرأة. (وَكانَ اللهُ واسِعاً) لهما في النكاح (حَكِيماً) يمكن للزوج إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان.

حكم الآية

علم أن الله عزوجل الرأفة بالعباد وعلمه بأحوالهم فنبّههم على نحو وجب عليهم من حقوق النساء ونهاهم عن الميل في أفعالهم إذا لم يكن لهم سبيل إلى التسوية بينهن في المحبة ومتى جمع العبد من الفعل لمال عنه إلى واحدة بعينها دون غيرها كان ذلك جورا ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقسم ويقول : «اللهم هذا قسمي فيما أملك وليس أحكم [فيما لا يملك]» [٣٨٨] (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٤٢٤ وفيه : فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.

٣٩٦

يعني به قلبه ، وكان يطوف به على نسائه في مرضه حتى حلّلته [نساءه] (١) فأقام عند عائشة ، وعماد القسم الليل ، لأنه يسكن فيه قال الله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ) (٢) فمتى كان عند الرجل حرائر مسلمات وذمّيات فهو في القسم سواء ويقسم للحرّة ليلتين ، وللأمة ليلة إذا خلى المولى بينه وبينها في ليلتها ويومها ، وللأمة أن تحلله من قسمها دون المولى لأنه حقها في خاصة نفسها ولا يجامع المرأة في غير يومها ، ولا لرجل أن يدخل في الليل على التي لم يقسم لها ، ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجة ويعودها في مرضها في ليلة غيرها ، فإن ثقلت فلا بأس أن يقيم حتى تخف أو تموت ثمّ يوفي من بقي من نسائه مثل ما بقي عندها ، وإن أراد أن يقسم بين ليلتين ليلتين أو ثلاثا كان له ذلك (٣).

ذكر استدلال من استدل من هذه الآية على تكليف ما لا يطاق

قالوا : قال الله عزوجل (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) فأمرهم الله عزوجل أن يعدلوا ، وأخبر أنهم لا يستطيعون أن يعدلوا فقد أمرهم بما لا يستطيعون وكلفهم مالا يطيقون.

إن قال قائل : هل كلف الله الكفار ما لا يطيقون؟ قيل له : إن أردت أنه كلفهم ما لا يطيقون لعجز حائل وآفة مانعة ، فلا ، لأنه قد صحح أبدانهم وأكمل نطقهم وأوجدهم [في الأرض] (٤) ودفع عنهم العلل والآفات ، وإن أردت أنه كلّفهم ما لا يقدرون عليه بتركهم له واشتغالهم بضدّه ، فقد كلفهم ذلك.

فإن قالوا : أفيقدر الكافر لا يتشاغل للكفر؟ قيل لهم : إن معنى لا يتشاغل بالكفر هو أن تؤمن فكأنكم قلتم : يقدر ان يؤمن وهو مقيم على كفره فقد قلنا إنه مادام مشغولا بكفر ليس بقادر على الإيمان على ما جوزت اللغة من أن الإنسان قادر على الفعل بمعنى أنه إن لم يفرط فأثر فيه ـ كما قالوا ـ فلان يقدر على رجل يعني يقدر عليه لو رامه وقصد إلى حمله ، نضير قولهم : فلان يفهم أي إنه يفهم الشيء ، إذا أورد عليه ، وكذلك يقولون : الطعام مشبع ، والماء مروي ، ويعني في ذلك أن الطعام يشبع إذا أكل.

والماء يروي إذا شرب.

والذي يوضح ذلك ما يتداوله الناس بينهم من قول الرجل : قم معي في حال كذا ،

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) سورة الأنعام : ١٣.

(٣) راجع مختصر المزني : ١٨٥.

(٤) كذا الظاهر.

٣٩٧

والجواب : لا أقدر على المجيء معك لما أنا فيه من الشغل ، وقد قال الله تعالى (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) (١) يعني القبول لاستثقالهم إيّاه ، ومن المشتبه من [قال :] وهل يقدر الكافر على الإيمان؟ يقول : إن اراده كان قادرا عليه ، فإذا قال له : فيقدر أن يريده؟ قال : إن كره الكفر ، وإذا قيل له : هل يقدر على الكفر؟ قال : يقدر على ذلك إن أراد الإيمان ، فكلّما كرّر عليه السؤال كرّر هذا الجواب.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لها مالكا.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥))

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة على الإسلام (وَإِيَّاكُمْ) يا أهل القرآن في كتابكم (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي وحّدوا الله وأطيعوه ولا تشركوا به شيئا (وَإِنْ تَكْفُرُوا) بما أوصاكم الله به (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعنى فإن لله ملائكة هم أطوع له منكم (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) عن جميع خلقه غير محتاج إلى شيء ممّا في أيديهم.

وحقيقية الغنيّ عند أصحاب الصفات من له غنى.

والغنى هو القدرة على ما يريد ، والغنيّ القادر على ما يريد ، ثم ينظر فإن كان قادرا على [وصف] الحاجة عليه وسمناه بذلك ، وإن كان الوصف بالحاجة عليه لم يصفه به ، والفقر العجز عن ذلك وعدمه. وإلى هذا ذهب [المعتزلة].

وقال الجبائي : إن معنى الوصف لله بأنه غني هو أنّه لا تصل إليه المنافع والمضار ، ولا يجوز عليه اللذات والسرور والآلام ، والأول أصوب بذلك في الشاهد والغائب ، وإطلاق المسلمين بعضهم لبعض إنه غني وفقير ، والله اعلم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

__________________

(١) سورة هود : ٢٠.

٣٩٨

الضحاك عن ابن عباس : يعني دافعا مجيرا.

عكرمة عن ابن عباس : يعني شهيدا (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) فيميتكم يعني الكفار (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يعنى بغيركم خيرا منكم وأطوع (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) أي مستطيعا على ذلك.

القادر والقدير عند أصحاب الصفات من له قدرة قائمة به بائن بها عن العاجز ثم يختلف القادرون بعد ذلك فمنهم من تكون قدرته حالّة في بعضه ، ومنهم من تكون قدرته غير موصوفة بالحلول ، والقدرة هي التي يكون بها الفعل من غير ان يموت بموته ولا يموت ويعود للعجز معها.

قالت المعتزلة : القادر هو الذي يجوز منه الفعل ، والدليل على صحة ما قال أصحاب الصفات إن القادر رأيناه مخالفا للمعاجز فيما قدر عليه وقد بطل أن يخالفه من أجل إنه صفة لموصوف يخالف سائر الموصوفين بها أو يخالف من أجل إنه محدث به خلاف العاجز فلما يتعلق هذه الأقسام صح إنه إنما يخالفه لأن له قدرة ليست للعاجز فلذلك قلنا إن القديم جل جلاله قادر بقدرة دون أن يكون قادر بنفسه.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

يقول : من كان يريد بعمله الذي فرضه الله [بقدرته] عرضا من الدنيا ولا يريد به الله أثابه الله عليه ما أحب الله من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أحب الله ، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله ، ومن أراد بعمله الذي افترضه الله عزوجل عليه في الدنيا ثواب الآخرة أثابه الله عليه من عرض الدنيا ما أحب الله ودفع عنه ما أحب الله وجزاه في الآخرة الجنة بعمله.

وروى سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نيّة المؤمن خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيته ، وكل يعمل على نيته ، وليس من مؤمن يعمل عملا إلّا صار في قلبه صورتان» (١) [٣٨٩].

فإن كانت الأولى لله فلا يهده الآخرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) الآية يعني كونوا قوامين بالشهادة ويعني بالقسط العدل.

قال ابن عباس : معناه : كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كانت (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) في الرحم فأقيموها عليهم لله تعالى ، ولا تحابوا غنيا لغناه ، ولا ترحموا

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١ / ٦١ وكنز العمّال : ٣ / ٤١٩ ح ٧٢٣٧ باختلاف في المقطع الأخير.

٣٩٩

فقيرا لفقره فذلك قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) منكم فهو يتولى ذلك منهم (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) يعني أن تتركوا الحق وتتبرأوا.

قال الفراء : ويقال معناه : لا تتبعوا الذنوب لتعدلوا كما يقال : لا تتبعن هواك ليرضى عنك أي أنهاك عن هذا كيما يرضى ربّك.

ويقال : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) فرارا من إقامة الشهادة (وَإِنْ تَلْوُوا) باللسان فتحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق (أَوْ تُعْرِضُوا) عنها فتكتمونها ولا تقيمونها عند الحكام (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من إقامتها وكتمانها (خَبِيراً) ويقال : معناه : (وَإِنْ تَلْوُوا) أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويت حقّه أي دافعته وبطلته.

وقال ابن عباس : هذه الآية في [القاضي] وليّه شدقه وإعراضه عن أحد الخصمين.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزول هذه الآية : «(مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فليقم شهادته على ما كانت ، و (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا يجحد حقّا هو عليه ، وليؤدّه عفوا ، ولا يلجئه إلى سلطان [ليأخذ] (١) بها حقه ، وأما رجل خاصم إليّ فقضيت له إلى أخيه بحق ليس هو له عليه ، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من جهنم» (٢) [٣٩٠].

مسألة في اللغة

قال أهل المعاني : معنى القسط العدل ، يقال أقسط الرجل يقسط إقساطا إذا عدل وقسط يقسط قسوطا إذ جار.

قال الله تعالى : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٣) وقال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).

ويقال : قسط البعير يقسط قسطا إذا يبست يده ، ويد قسطا أي يابسة ، فكان أقسط معناه أقام الشيء على حقيقته في العدل ، وكان معنى قسط أي [خيار] أي يبس الشيء وأفسد جهته المستقيمة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ

__________________

(١) المخطوط مشوش ولم نجده في المصادر وما أثبتناه استظهارا منا.

(٢) المعجم الكبير : ٢٣ / ٣٨٢ باختصار.

(٣) سورة الحجرات : ٩.

٤٠٠