الكشف والبيان - ج ٣

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٣

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

وقال الأشعث بن يسار : توفى أبو قيس وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه ، فقالت : إني أعدك ولدا وأنت من صالح قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعي إلى بيتك» [٢٧٧] فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) (١).

(ما) بمعنى من ، وقيل : ولا تنكحوا النكاح يعني (ما نَكَحَ (آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) اسم الجنس ليدخل فيه الحرائر والإماء ، أما الحرائر فتحرم بالعقد ، والإماء بالوطء.

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قال المفضّل : يعني بعد ما سلف فدعوه واجتنبوه.

قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : معناه كما قد سلف (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) يورث بغض الله ، والمقت أشد البغض (وَساءَ سَبِيلاً) (٢) وبئس ذلك طريقا. كانت العرب يقولون لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت ومقي ، وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن عمرو بن أمية.

السدي عن عدي بن ثابت عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية فقلت : أين تريد؟ فقال : أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل تزوج بامرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) هي جمع أم ، والأم في الأصل أمهه على وزن فعلة ، مثل قبرة وحمرة فسقطت الهاء في [التوحيد وعادت] في الجمع كقولهم : شاه ومياه.

قال الشاعر :

أمهتي خندف والروس أبي (٣)

وقيل : أصل الأم أمة ، وأنشدوا :

تقبلتها عن أمة لك طالما

تثوب إليها في النوائب أجمعا (٤)

فيكون الجمع حينئذ أمهات. ومثاله في الكلام عمّة وعمّات.

وقال الراعي :

كانت نجائب منذر ومحرق

أماتهن وطرقهن فحيلا (٥)

فحرم الله تعالى في هذه الآية نكاح أربع عشرة امرأة : سبعا بنسب وسبعا بسبب ، فأما

__________________

(١) أسباب النزول : ٥٥.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) تفسير القرطبي : ٥ / ١٠٧.

(٤) تفسير القرطبي : ٥ / ١٠٧ ، ولسان العرب : ١٢ / ٣٠.

(٥) لسان العرب : ١١ / ٥١٦.

٢٨١

النسب قوله : (أُمَّهاتُكُمْ) فهي أمهات النسبة (وَبَناتُكُمْ) جمع البنت (وَأَخَواتُكُمْ) جمع الأخت (وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) جمع العمّة والخالة (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ).

وأما السبب فقوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وهي أمهات الحرمة كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (١) ثم قال : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (٢). وقرأ عبد الله : (واللاي) بغير تاء كقوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) (٣).

قال الشاعر :

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البرئ المغفلا (٤)

عروة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حرمته الولادة حرمه الرضاع» (٥) [٢٧٨].

ومالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر عن عميرة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (٦) [٢٧٩].

الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي كرم الله وجهه قال : قلت يا رسول الله ما لك تنوق في قريش وتدعنا قال : «وعندك أحد؟» قلت : نعم بنت حمزة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة» (٧) [٢٨٠].

وهب بن كيسان عن عروة عن عائشة : أن أبا القعيس ـ وهو أفلح ـ استأذن على عائشة بعد آية الحجاب ، فأبت أن تأذن له فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ائذني له فإنّه عمك» فقالت : إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل ، قال : «إنه عمك فليلج عليك» (٨).

وإنما يحرم الرضاع بشرطين إثنين أحدهما : أن يكون خمس رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي ممّا يقرأ من القرآن.

وروى عبد الله بن الحرث عن أم الفضل : أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الرضاع فقال : «لا تحرم الاملاجة ولا الأملاجتان» (٩) [٢٨١].

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٦.

(٢) سورة التحريم : ٥٣.

(٣) سورة الطلاق : ٤.

(٤) تفسير القرطبي : ٥ / ١٠٩ ، لسان العرب : ١٥ / ٤٤٥.

(٥) السنن الكبرى : ٣ / ٢٩٥.

(٦) تفسير القرطبي : ٥ / ١٠٨ ، أحكام القرآن : ٢ / ١٥٧.

(٧) صحيح مسلم : ٤ / ١٦٤ ، وسنن النسائي : ٣ / ٢٩٧.

(٨) مسند أحمد : ٦ / ١٩٤ ، صحيح البخاري : ٦ / ١٦٠.

(٩) سنن الدارقطني : ٤ / ١٠١ و ١٠٦.

٢٨٢

قال قتادة : المصة والمصتان.

والشرط الثاني : أن يكون من الحولين ، وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم ، وكان أبو حنيفة يرى ذلك بعد الحولين ستة أشهر.

ومالك : بعد الحولين شهرا ، والدليل على أن ما بعد الحولين من الرضاع بقوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (١) وليس بعد الكمال والتمام شيء ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا رضاع بعد الحولين ، وإنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم» (٢) [٢٨٢].

(وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) أم المرأة حرام دخل بها أو لم يدخل ، وهو قول أكثر الفقهاء ، وعليه الحكم والفتيا ، وقد شدد أهل العراق فيها حتى قالوا : لو وطأها أو قبّلها أو لامسها بالشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا إنما يحرم بالنكاح الصحيح ، والحرام لا يحرم الحلال ، وكان ابن عباس يقرأ (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) ويحلف بالله ما نزل إلّا هكذا ويقول : هي بمنزلة الربائب ، فلما كانت الربائب لا يحرمن بالعقد على أمهاتهن دون الوطء ، كذلك أمهات النساء لا يحرمن بالعقد على بناتهن دون الوطء ، وهو قول علي وزيد وجابر وابن عمر وابن الزبير قالوا : نكاح أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن حلال ، والقول الأول هو الأصح.

قال ابن جريح : قلت لعطاء : الرجل ينكح المرأة ثم يراها ولا يجامعها حتى يطلقها ، أيحل له أمّها؟ قال : لا ، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت له : كان ابن عباس يقرأ : (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال : لا.

وروى عمرو بن المسيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل ، بها ثم طلقها فإن شاء تزوج بالبنت».

(وَرَبائِبُكُمُ) جمع الربيبة وهي ابنت المرأة ، قيل لها : ربيبة ، لتربيته إياها ، فعيلة بمعنى مفعولة (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أي في ضمانكم وتربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان إذا كان يلي تربيته ، ويقال : امرأة طيبة الحجر إذا لم تربّ ولدا إلّا طيب الولد.

قال الكميت :

الكرمات [نسبة] في قريش

[وسواهم] والطيبات الحجورا

ومنه قيل للحظر حجر ، والأصل فيه الناحية ، يقال : فلان يأكل في حجره ويريض حجره.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٣.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٤٣٢ ، وسنن الدارقطني : ٤ / ١٠١ بتفاوت في الألفاظ.

٢٨٣

(مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي جامعتموهن (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم.

روى الزهري عن عروة : أن زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : يا رسول الله انكح أختي قالت : فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو تحبين ذلك؟» قلت : نعم ليست لك بمخلية وأحب من يشاركني في خير أختي.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ ذلك لا يحلّ لي». فقلت : والله يا رسول الله إنّا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درّة بنت أبي سلمة فقال : «بنت أم سلمة؟» فقلت : نعم ، قال : «والله إنها لو تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن» (١) [٢٨٣].

(وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) يعني أزواج أبنائكم ، والذكر حليل ، وجمعه أحلّه وأحلّاء ، مثل عزيز وأعزة وأعزّاء ، وإنما سمّي بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه ، يقال : حلّ وهو حليل ، مثل صحّ وهو صحيح ، وقيل : سمّي بذلك لأن كل واحد منهما يحلّ حيث يحلّ صاحبه من الحلول وهو النزول ، وقيل : لأن كلّ واحد منهما يحل إزار صاحبه ، من الحل وهو ضد العقد.

قال الشاعر :

يدافع قوما على مجدهم

دفاع الحليلة عنها الحليلا

يدافعه يومها تارة

ويمكنه رجلها أن يشولا

(الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) دون من تبنيتموهم.

قال عطاء : نزلت في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) حرّتين كانتا بالعقد أو أمتين بالوطء (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ).

قال عطاء والسدي : يعني إلّا ما كان من يعقوب عليه‌السلام ، فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراجيل أم يوسف وكانتا أختين.

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) الآية.

قال عمرو بن مرّة : قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين يسأل عن هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) فلم يقل فيها شيئا ، فقال سعيد : كان لا يعلمها.

وقال مجاهد : لو أعلم من يفسّر في هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل ، قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ).

__________________

(١) مسند الشاميين : ٤ / ٢٠٨ ، السنن الكبرى : ٣ / ٢٩٠.

٢٨٤

قال المفسرون : هذه السابعة من النساء اللواتي حرّمن بالسبب.

قرأه العامة : (وَالْمُحْصَناتُ) بفتح الصاد ، يعني في زوال الأزواج أحصنهنّ أزواجهن.

قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كنّ يهاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهنّ أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين ، فنهى المسلمين عن نكاحهنّ ثم استثنى فقال : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني السبايا اللاتي سبين ولهم أزواج في دار الحرب ، فحلال لمالكهن وطأهن بعد الاستبراء.

فقال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين جيشا إلى أوطاس ، فلقوا العدو فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين ، فكرهوا وطأهنّ وتأثموا من ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقرأ علقمة : (وَالْمُحْصِناتُ) بكسر الصاد ، ودليله قول عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وعبيدة وأبي العالية والسدي ، قالوا : والمحصنات في هذه الآية والعفائف ومعناها : والعفائف من النساء عليكم حرام إلّا ما ملكت إيمانكم منهن بنكاح أو ملك يمين وثمن ، وقيل : معناه الحرائر.

قال الباقر ويمان : معناه (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) عليكم حرام ما فوق الأربع ، (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فإنه لا عدد عليكم فيهن.

وقال ابن جريج : سألنا عطاء عنها فقال : معنى قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أن تكون لك أمة عند عبد لك قد أحصنها بنكاح وتنزعها منه إن شئت.

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) نصب على المصدر ، أي كتب الله عليكم كتابا ، وقيل : نصب على الإغراء ، أي الزموا واتقوا كتاب الله عليكم.

وقرأ ابن السميقع : كتب الله عليكم أي أوجب ، وهذه أربعة عشر امرأة ، محرمات بالكتاب.

فأما الستّة : فقد حرّمت امرأتين ، وهو ما

روى هشام عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها» (١) [٢٨٤].

(وَأُحِلَّ لَكُمْ) قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : (وَأَحَلَّ لَكُمْ) بضم الألف.

الباقون : بالنصب ، وهي قراءة علي وابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، فمن رفع فلقوله : (حُرِّمَتْ) ، ومن نصب ، فللقرب من ذكر الله في قوله : (كِتابَ اللهِ).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ١٣٦ ، وتأويل مختلف الحديث : ١٨١.

٢٨٥

(ما وَراءَ) ما سوى (ذلِكُمْ) الذي ذكرت من المحرمات (أَنْ تَبْتَغُوا) بدل من (ما) فمن رفع أحلّ فـ (إن) عنده في محل الرفع ، ومن نصب فـ (إن) عنده في محل النصب.

قال الكسائي والفراء : موضعه نصب في القراءتين بنزع الخافض ، يعني : لأن تبتغوا وتطلبوا.

(بِأَمْوالِكُمْ) أما بنكاح وصداق أو بملك وثمن (مُحْصِنِينَ) متعففين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) زانين ، وأصله من سفح المذي والمني (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) اختلف في معنى الآية : فقال مجاهد والحسن : يعني ممّا انتفعتم وتلذذتم للجماع من النساء بالنكاح الصحيح.

(فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن ، فإذا جامعها مرّة واحدة فقد وجب لها المهر كاملا.

وقال آخرون : هو نكاح المتعة ، ثم اختلف في الآية أمحكمة هي أم منسوخة؟

فقال ابن عباس : هي محكمة ورخّص في المتعة ، وهي أن ينكح الرجل المرأة بولي وشاهدين إلى أجل معلوم ، فإذا انقضى الأجل فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبري ما في رحمها وليس بينهما ميراث.

قال حبيب بن أبي ثابت : أعطاني ابن عباس مصحفا فقال : هذا على قراءة أبي ، فرأيت في المصحف (فما استمتعم به منهن إلى أجل مسمى).

وروى داود عن أبي نضرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة فقال : أما تقرأ سورة النساء؟ قلت : بلى ، قال : فما تقرأ : (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى)؟ قلت : لا أقرأها هكذا.

قال ابن عباس : والله لهكذا أنزلها الله ، ثلاث مرّات.

وروى عيسى بن عمر عن طلحة بن مصرف أنه قرأ : (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى).

وروى عمرو بن مرّة عن سعيد بن جبير : أنه قرأها : (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى).

وروى شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) أمنسوخة هي؟ قال : لا. قال الحكم : قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلّا شقي.

أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال : نزلت هذه الآية (المتعة) في كتاب الله ، لم تنزل آية بعدها تنسخها ، فأمرنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمتعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينهنا عنه ، وقال رجل بعد برأيه ما شاء!

٢٨٦

قال الثعلبي : قلت ولم يرخص في نكاح المتعة إلّا عمران بن الحصين وعبد الله بن عباس وبعض أصحابه وطائفة من أهل البيت (١) ، وفي قول ابن عباس.

يقول الشاعر :

أقول للرّكب إذ طال الثواء بنا

يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس

هل لك في رخصة الأطراف ناعمة

تكون مثواك حتى مرجع الناس (٢)

وسائر العلماء والفقهاء والصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة ومتعة النساء حرام.

وروى الربيع بن بسرة الجهني عن أبيه قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمرته فشكونا إليه العزبة ، فقال : «يا أيها الناس استمتعوا من هذه النساء» ثم صحبت غاديا على رسول الله فإذا هو يقول : «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلّا أن الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة» (٣) [٢٨٥].

وقال خصيف : سألت الحسن عن نكاح المتعة ، فقال : إنما كان ثلاثة أيام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نهى الله عزوجل عنه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الكلبي : كان هذا في بدء الإسلام ، أحلّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثة أيام ثم حرّمها ، وذلك أنه كان إذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها أجرها الذي كان شرط لها ، ثم قال : زيديني في الأيام فأزيدك في الأجر ، فإن شاءت فعلت ذلك ، فإذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها الأجر وفارقها ، ثم نسخت بآية الطلاق والعدة والممات.

وروى الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أن عليا قال لابن عباس : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأهلية.

وروى الفضل بن دكين عن البراء بن عبد الله القاص عن أبي نضرة عن ابن عباس أن عمر رضي‌الله‌عنه نهى عن المتعة التي تذكر في سورة النساء فقال : إنما أحل الله ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنساء يومئذ قليل ، ثم حرّم عليهم بعد أن نهى عنها.

وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها لا أجد رجلا ينكحها إلّا رجمته بالحجارة.

__________________

(١) قال أبو عمر : أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلالا (تفسير القرطبي : ٥ / ١٣٣)

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ١٣٣ ، الدر المنثور : ٢ / ١٤١.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٤٠٦.

٢٨٧

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث» (١) [٢٨٦].

وقال ابن أبي مليكة : سألت عائشة عن المتعة فقالت : بيني وبينهم كتاب الله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (٢).

وعن عائشة : والله ما نجد في كتاب الله إلّا النكاح والاستسراء. وقال ابن عمر : المتعة سفاح.

عطاء : المتعة حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير.

قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن جبير يقول : سمعت أبا علي الحسين بن أحمد الخياط يقول : سمعت أبا نعيم بن عبد الملك بن محمد بن عدي يقول : سمعت [...] (٣) يقول : الشافعي يقول : لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرّم ثم أحل ثم حرّم غير المتعة.

(فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أي مهورهن ، سمّي المهر أجرا ، لأنه ثمن البضع وأجر الاستمتاع ألا تراه يتأكد بالخلوة والدخول.

واختلفوا في حدّه ، فأكثره لا غاية له ، وأما أقلّه فقال أبو حنيفة : لا مهر دون عشرة دراهم أو قيمتها من الذهب ، لأن الله عزوجل قال : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) ولا يطلق اسم المال على أقل من هذا القدر.

وعند الشافعي : لا حدّ له ، فأجاز الشيء الطفيف حتى القبضة من الطعام ، وكذلك كل عمل أوجب أجرا قليلا كان أو كثيرا ، والسورة من كتاب الله عزوجل أو آية لقوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

وعن سلمة بن وردان قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من أصحابه ، فقال : «يا فلان هل تزوجت؟» قال : لا ، وليس عندي ما أتزوج ، قال : «أليس معك (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٤)؟» قال : بلى ، قال : «ربع القرآن» قال : «أليس معك (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) (٥)؟» قال : بلى ، قال : «ربع القرآن» قال : «أليس معك (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٦)؟» قال : بلى ، قال : «ربع القرآن» ، قال : «أليس معك (إِذا زُلْزِلَتِ) (٧)؟» قال : بلى ، قال : «ربع القرآن»

__________________

(١) مسند أبي يعلي : ١١ / ٥٠٤ ، وفتح الباري : ٩ / ١٣٨.

(٢) سورة المؤمنون : ٥ ـ ٦.

(٣) كلمة غير مقروءة.

(٤) سورة الإخلاص : ١.

(٥) سورة النصر : ١.

(٦) سورة الكافرون : ١.

(٧) سورة الزلزال : ١.

٢٨٨

قال : «أليس معك آية الكرسي؟» قال : بلى ، قال : «ربع القرآن» ، قال : «تزوج تزوج تزوج» (١) [٢٨٧].

وقد ذكرت حجج الفريقين فيما قيل.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) يعني فيما تفتدي به المرأة نفسها ، (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) فضلا وسعة.

المسيب بن شريك عن عمران بن جرير عن النزال بن سبرة عن ابن عباس قال : من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرّم عليه نكاح الإماء.

(أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) الحرائر ، وقرأ الكسائي : (الْمُحْصِناتِ) بكسر الصاد ، كل القرآن إلّا في أول هذه السورة ، الباقون : بالفتح.

(الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إلى قوله (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) سادتهن فـ (آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) من غير ضمار (مُحْصَناتٍ) عفائف (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) زانيات (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أحباب يزنون بهن في السر.

(فَإِذا أُحْصِنَ) قرأ أهل الكوفة : بفتح الألف ، على معنى حفظن فروجهن ، وقرأ الآخرون : بالضم ، على معنى أنهنّ أحصنّ بأزواجهنّ (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) يعني الزنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) الحرائر إذا زنين (مِنَ الْعَذابِ) يعني الحدّ ، نظيره : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) (٢) وهو خمسون جلدة وتغريب نصف سنة على الصحيح من مذهب الشافعي ، ويحتاج أن يغرّب الزاني إلى موضع يقصر إليه الصلاة ، وللسيد إقامة الحدّ بالزنا على عبده وأمته.

سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يغيرها ، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها ، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها ، فإن عادت الرابعة فليبعها ولو بضفير أو حبل» (٣) [٢٨٨].

(ذلِكَ) يعني نكاح الإماء عند عدم الطول (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) يعني الإثم والضرر بغلبة الشهوة (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء متعففين (خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

عن يونس بن مرداس وكان خادما لأنس قال : كنت بين أنس وأبي هريرة ، فقال أنس : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أحبّ أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر».

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٢٢١ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١٣٥.

(٢) سورة النور : ٨.

(٣) شرح مسلم : ١١ / ٢١١ ، ومصنف بن أبي شيبة : ٨ / ٣٦٩.

٢٨٩

فقال أبو هريرة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت» (١) [٢٨٩].

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أي أن يبيّن ، (اللام) بمعنى أن ، والعرب تعاقب بين لام كي وبين أن فتضع إحداهما مكان الأخرى كقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (٢) وقوله : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) ، ثم قال في موضع آخر : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٤) ، وقال : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) (٥) ، ثم قال في موضع آخر : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) (٦).

وقال الشاعر :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل (٧)

يريد أن أنسى ، ومعنى الآية : يريد الله أن يبيّن شرائع دينكم ومصالح أمركم.

الحسن : يعلمكم ما تأتون وما تذرون. عطاء : يبيّن لكم ما يقربكم منه. الكلبي : ليبيّن لكم أن الصبر من نكاح الإماء خير لكم.

(وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ) شرايع (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) في تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، كما ذكر في الآيتين. هكذا حرّمها على من كان قبلكم من الأمم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) يتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبيّن لكم ، قاله الكلبي.

وقال محمد بن جرير : يعني يرجع بكم من معصيته التي كنتم عليها قبل هذا إلى طاعته التي أمركم بها في هذه الآية (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يصلح عباده من أمر دينهم ودنياهم (حَكِيمٌ) في تدبيره فيهم (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إن وقع تقصير منكم في أمره (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق (مَيْلاً عَظِيماً) بإتيانكم ما حرّم عليكم ، واختلفوا في الموصوفين باتباع الشهوات من هم :

فقال السدي : هم اليهود والنصارى.

وقال بعضهم : هم اليهود ، وذلك أنهم ينكحون بنات الأخ وبنات الأخت ، فلما حرّمهما الله قالوا : إنكم تحلّون بنات الخالة والعمّة ، والخالة والعمّة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت كما تنكحون بنات الخالة والعمّة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) وسنن ابن ماجة : ١ / ٥٩٨.

(٢) سورة الشورى : ١٥.

(٣) سورة الأنعام : ٧٣.

(٤) سورة غافر : ٦٦.

(٥) سورة الصف : ٨.

(٦) سورة التوبة : ٣٢.

(٧) تفسير القرطبي : ٥ / ١٤٨ ، لسان العرب : ٣ / ١٨٨.

٢٩٠

مجاهد : هم الزناة ، يريدون أن تميلوا عن الحق فتكونوا مثلهم تزنون كما يزنون.

ابن زيد : هم جميع أهل الكتاب في دينهم.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) في نكاح الأمة ، إذا لم تجدوا طول الجرة وفي كل أحكام الشرع (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) في كل شيء.

طاوس والكلبي وأكثر المفسرين : يعني في أمر الجماع لا يصبر على النساء ولا يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.

قال سعيد بن المسيب : ما آيس الشيطان من بني آدم إلّا أتاه من قبل النساء ، وقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشى بالأخرى ، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء.

مالك بن شرحبيل قال : قال عبادة بن الصامت : ألا ترونني لا أقوم إلّا رفدا ولا آكل إلّا ما لوق لي وقد مات صاحبي منذ زمان ، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحكيه عليّ أنه لا سمع له ولا بصر.

قال الحسن : هو أن خلقه من ماء مهين بيانه قول الله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (١).

ابن كيسان : (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) يستميله هواه وشهوته ويستطيشه خوفه وحزنه.

قال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (٢) ، (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (٣) ، (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٤) (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٥) ، (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) (٦) ، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٧) (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) (٨) ، (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) (٩) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ

__________________

(١) سورة الروم : ٥٤.

(٢) سورة النساء : ٢٦.

(٣) سورة النساء : ٢٧.

(٤) سورة النساء : ٢٨.

(٥) سورة النساء : ٣١.

(٦) سورة النساء : ٤٨.

(٧) سورة النساء : ٤٠.

(٨) سورة النساء : ١١٠.

(٩) سورة النساء : ١٤٧.

٢٩١

مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بالحرام يعني الربا والقمار والقطع والغصب والسرقة والخيانة.

وقال ابن عباس : هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيت أخذته وإلّا رددته ورددت معه درهما ، ثم قال : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) يعني لكن إذا كانت تجارة استثناء منقطع ، لأن التجارة ليست بباطل.

قرأ أهل الكوفة : (تِجارَةً) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد.

وقرأ الباقون : بالرفع وهو اختيار أبي حاتم ، فمن نصب فعلى خبر كان تقديره : إلّا أن تكون الأموال تجارة.

كقول الشاعر :

إذا كان طاعنا بينهم وعناقا (١)

ومن رفع فعلى معنى الا أن تقع تجارة وحينئذ لا خبر له. كقول الشاعر :

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب (٢)

ثم وصف التجارة فقال : (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) يرضى كل واحد منهما بما في يديه.

قال أكثر المفسرين : هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد عقد المبيع حتى يتفرقا من مجلسهما الذي تعاقدا فيه ، كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» (٣) [٢٩٠].

__________________

(١) تفسير الطبري : ٣ / ١٧٩.

(٢) لسان العرب : ١ / ٥٠٩.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ٤٠٢.

٢٩٢

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيع عن تراضي بالخيار بعد الصفقة ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلما (١)» [٢٩١].

وروى حكيم بن حزام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما ، فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» (٢) [٢٩٢].

وابتاع عمر بن جرير فرسا ثم خير صاحبه بعد البيع ، ثم قال : سمعت أبا هريرة يقول : هذا البيع عن تراض.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعني إخوانكم ، أي لا يقتل بعضكم بعضا.

قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبي عن جدّي عن علي بن الحسين الهلالي قال : سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول : سأل الفضل بن عياض عن قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قال : لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال : لما بعثه رسول الله عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، فلما قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت ذلك له فقال : «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» [٢٩٣].

قلت : نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قول الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) فتيمّمت ثم صليت ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل شيئا (٣).

وعن الحسن : أن الحرث بن عبد الله خلا بالنفر من أصحابه وقال : إن هؤلاء ولغوا في دمائهم فلا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة ملء كف من دم مسلم أهراقه ، فأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن رجلا ممّن كان قبلكم خرجت به قرحة بيده فأخذ حزة فحزّها بيده حتى قطعها فما رقأ دمها حتى مات فقال ربّكم تعالى : بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها فقد حرمت عليه الجنة» (٤) [٢٩٤].

سماك عن جابر بن سمرة : أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٤٥ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٩١.

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٨ ، مسند أحمد : ٣ / ٤٠٢.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ٢٠٣ ، المستدرك : ١ / ١٧٧.

(٤) صحيح مسلم : ١ / ٧٥.

٢٩٣

حماد بن زيد عن عاصم الأسدي : ذكر بأن مسروقا بن الأجدع أتى صفين فوقف بين الصفين ثم قال : يا أيها الناس أنصتوا ، ثم قال : أرأيتم لو أنّ مناديا ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال : إن الله ينهاكم عمّا أنتم فيه ، أكنتم مطيعيه؟ قالوا : نعم. قال : فو الله لنزل بذلك جبرئيل على محمد فما زال يأتي من هذا ثم تلا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) الآية ثم انساب في الناس فذهب (١).

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الذي ذكرت من المحرمات (عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ) ندخله في الآخرة نارا (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) هيّنا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية.

اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيرا للصغائر.

فروى عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قال : قلت : ثم ماذا؟ قال : «أن تزني بحليلة جارك (٢)» [٢٩٥] هذا الحديث من قول الله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٣) الآية.

صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري» (٤).

الشعبي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكبائر الإشراك بالله ، واليمين الغموس ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) ، وقول الزور. أو قال. شهادة الزور» (٥) [٢٩٦].

سفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو قال : من الكبائر أن يشتم الرجل والديه. قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمّه فيسب أمّه.

أبو الطفيل عن ابن مسعود قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، والأياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله.

عكرمة عن عمار قال : حدثنا طيسلة بن علي النهدي قال : سألت ابن عمر عن الكبائر ، فقال : هي تسع قلت ما هن؟ قال : الإشراك بالله تعالى ، وقتل المؤمن متعمدا ، وعقوق الوالدين

__________________

(١) بطوله في الطبقات الكبرى : ٦ / ٧٨.

(٢) صحيح البخاري : ٧ / ٧٥ ، ومسند أحمد : ١ / ٣٨٠.

(٣) سورة الفرقان : ٦٨.

(٤) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٩٧.

(٥) سنن الترمذي : ٤ / ٣٠٣ ، ح ٥٠٠٩.

٢٩٤

المسلمين ، وأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، والسحر ، واستحلال الميتة قبلكم أحياء وأمواتا.

وقال جعفر الصادق : الكبائر ثلاث : تركك ملتك ، وتبديلك سنّتك ، وقتالك أهل صفقتك.

وقال فرقد المسيحي : قرأت في التوراة : أمهات الخطايا ثلاث وهي : أول ذنب عصى الله به الكبر ، وكان ذلك لإبليس عليه اللعنة ، والحرص ، وكان ذلك لآدم عليه‌السلام ، والحسد ، وكان لقابيل حين قتل هابيل.

عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكبائر أولهنّ : الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنة والانقلاب على الأعراب بعد الهجرة فهذه سبع» (١) [٢٩٧].

سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن رجلا سأله عن الكبائر السبع ، قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع إلّا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار.

علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال : الكبائر عشرون : الشرك بالله عزوجل ، وعقوق الوالدين ، وقتل المؤمن ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، واليأس من روح الله ، والسحر ، والزنا والربا ، والسرقة ، وأكل مال اليتيم ، وترك الصلاة ، ومنع الزكاة ، وشهادة الزور ، وقتل الولد خشية أن يأكل معك ، والحسد ، والكبر ، والبهتان ، والحرص ، والحيف في الوصية ، وتحقير المسلمين.

السدي عن ابن مالك قال : ذكروا الكبائر عند عبد الله فقال عبد الله : افتحوا سورة النساء ، وكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثون آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية.

وقال ابن سيرين : ذكر عند ابن عباس الكبائر فقال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ، حتى الطرفة وهي النظرة.

سعيد بن جبير عنه : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر ، فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحد فريضة أو مكذبا بقدر.

علي بن أبي طلحة عنه : كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب.

سعيد بن جبير : كل ذنب نسبه الله إلى النار وأوعد عليه النار فهي كبيرة.

الحسن : الموجبات للحدود.

__________________

(١) زاد المسير : ٢ / ١١٤.

٢٩٥

الضحاك : ما وعد الله تعالى عليه حدّا في الدنيا وعذابا في الآخرة.

الحسين بن الفضل : ما سمّاه الله في كتابه القرآن كبيرا أو عظيما ، نحو قوله : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (١) ، (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٢) ، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣) ، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (٤) ، (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (٥) ، (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (٦).

مالك بن معول : الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل الشّينة.

وكيع : كل ذنب أصرّ عليه العبد فهو كبيرة ، وليس من الكبائر ما تاب منه العبد واستغفر منه.

أحمد بن عاصم الأنطاكي : الكبائر ذنوب العمد ، والسيئات الخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وحديث النفس ، المرفوعة من هذه الأمة.

سفيان الثوري : الكبائر ما فيه المظالم بينك وبين العباد ، والصغائر ما بينك وبين الله تعالى ، لأن الله كريم يغفره ، واحتجّ

بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينادي يوم القيامة مناد من بطنان العرش يا أمّة محمد إن الله عزوجل يقول : أمّا ما كان لي قبلكم فقد وهبتها لكم وبقي التبعات ، فتواهبوا وادخلوا الجنة برحمتي» (٧) [٢٩٨].

المحاربي : الكبائر ذنوب المذنبين المستحلين مثل ذنب إبليس ، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم.

السدي : الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها ، وتبعاتها ما يجتمع فيه الصالح والفاسق ، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العينان تزنيان واليدان تزنيان ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (٨) [٢٩٩].

وقال قوم : الكبيرة ما قبح في العقل والطبع مثل القتل والظلم والزنا والكذب ونحوها ، والصغيرة ما نهى الله عنه شرعا وسمعا.

وقال : كل ذنب يتجاوز عنه بفضله يوم القيامة فهو صغيرة ، وكل ذنب عذّب عليها بعدله فهو كبيرة. وقيل : الكبائر الذنوب الباطنة والسيئات الذنوب الظاهرة.

وقال بعضهم : الصغائر ما يستحقرونه العباد والكبائر ما يستعظمونه فيخافون واقعته.

__________________

(١) سورة النساء : ٢.

(٢) سورة الإسراء : ٣١.

(٣) سورة لقمان : ١٣.

(٤) سورة يوسف : ٢٨.

(٥) سورة النور : ١٦.

(٦) سورة الأحزاب : ٥٣.

(٧) عدة الداعي : ١٣٦.

(٨) مسند أبي يعلي : ١١ / ٣٠٩.

٢٩٦

وقال أنس بن مالك : إنكم تعملون أعمالا هي أدق من الشعر في أعينكم كنّا نعدّها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكبائر.

وقال بعضهم : الكبائر الشرك وما يؤدّي إليه ، وما دون الشرك فهو من السيئات ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١).

فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عدد

الكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة

أحدها : الإشراك بالله لقوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (٢).

الثاني : الأياس من روح الله لقوله : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) (٣) الآية.

والثالث : القنوط من رحمة الله لقوله : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (٤).

والرابع : الأمن من مكر الله لقوله : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٥).

والخامس : عقوق الوالدين لقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٦).

والسادس : قتل النفس التي حرّم الله لقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (٧).

والسابع : قذف المحصنة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ) (٨) الآية.

والثامن : الفرار من الزحف لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) (٩) الآية.

التاسع : أكل الربا لقوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) (١٠) الآية.

والعاشر : السحر لقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) (١١) الآية.

والحادي عشر : الزنا : (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) (١٢).

والثاني عشر : اليمين الكاذبة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (١٣).

__________________

(١) سورة النساء : ٤٨. (٢) سورة المائدة : ٧٢.

(٣) سورة يوسف : ٨٧. (٤) سورة الحجر : ٦٢.

(٥) سورة الأعراف : ٩٩.

(٦) سورة الإسراء : ٢٣.

(٧) سورة النساء : ٩٣.

(٨) سورة النور : ٢٣.

(٩) سورة الأنفال : ١٥.

(١٠) سورة البقرة : ٢٧٥.

(١١) سورة البقرة : ١٠٢.

(١٢) سورة الفرقان : ٦٨. (١٣) سورة آل عمران : ٧٧.

٢٩٧

والثالث عشر : منع الزكاة لقوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) (١) الآيتين.

والرابع عشر : الغلول لقوله : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٢).

والخامس عشر : شهادة الزور لقوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) (٣) الآية.

والسادس عشر : الميسر وهو القمار لقوله : (الْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) (٤).

والسابع عشر : شرب الخمر لقوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) (٥) الآية.

والثامن عشر : ترك الصلاة متعمدا لقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) (٦) الآية.

والتاسع عشر : قطيعة الرحم لقوله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (٧) وقوله : (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) (٨).

والعشرون : الحيف من الوصية لقوله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) (٩) الآية.

والحادي والعشرون : أكل مال اليتيم لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) (١٠) الآية.

والثاني والعشرون : التعرب بعد الهجرة لقوله : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) (١١).

والثالث والعشرون : استحلال الحرم لقوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) (١٢) ، وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) (١٣).

والرابع والعشرون : الارتداد لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) (١٤) الآية.

والخامس والعشرون : نقض العهد لقوله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (١٥).

فذلك قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ).

وقرأ ابن مسعود : كبر ما تنهون عنه ، على الواحد ، وفيه معنى مع (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٤. (٢) سورة آل عمران : ١٦١.

(٣) سورة البقرة : ٢٨٣. (٤) سورة المائدة : ٩٠.

(٥) سورة المائدة : ٩٠. (٦) سورة البقرة : ٢٣٨.

(٧) سورة النساء : ١. (٨) سورة محمد : ٢٢.

(٩) سورة البقرة : ١٨٢.

(١٠) سورة النساء : ١٠.

(١١) سورة آل عمران : ١٤٤.

(١٢) سورة المائدة : ٢.

(١٣) سورة الحج : ٢٥.

(١٤) سورة محمد : ٢٥.

(١٥) سورة الرعد : ٢٥.

٢٩٨

من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر» (١) [٣٠٠].

(وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) وهي الجنة.

وقرأ عاصم وأهل المدينة : (مَدْخلا) بفتح الميم وهو موضع الدخول.

وقرأ الباقون : بالضم على المصدر ، معنى الإدخال.

وروي عن أبي هريرة وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس على المنبر ثم قال : «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات ثم سكت فأقبل كل رجل منّا يبكي حزنا ليمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «ما من عبد يأتي بالصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلّا فتحت له أبواب الجنة يوم القيامة حتى أنها لتصطفق» [٣٠١] ثم تلا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (٢) الآية.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية.

يقال : جاءت وافدة النساء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله أليس الله ربّ الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعا ، فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكر النساء؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة؟ فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، وقوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) (٣) الآية ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (٤).

وقيل : لمّا جعل الله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) في الميراث ، قالت النساء : نحن أحوج إلى أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم ، لأنا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منّا ، فنزّل الله هذه الآية.

وقال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا ، وإنما لنا نصف الميراث ، فليتنا رجال فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال ، فنزلت هذه الآية.

وقال قتادة والسدي : لما نزل قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، قال الرجال : إنا لنرجو أن يفضل علينا النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث ، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا ، فأنزل الله (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) من الثواب والعقاب (وَلِلنِّساءِ) كذلك ، قاله قتادة ، وقال أيضا : هو أن الرجل يجزي بالحسنة عشرة والمرأة تجزي بها عشرا.

__________________

(١) مسند ابن الجعد : ٨٤ ، مسند ابن يعلى : ٣٩ (بتفاوت يسير)

(٢) المستدرك : ٢ / ٢٤٠ ، صحيح ابن خزيمة : ١ / ١٦٣.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٥.

(٤) سورة النحل : ٩٧.

٢٩٩

وقال ابن عباس : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) من الميراث ، وللنساء نصيب منه (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والأحراز ، فنهى الله تعالى عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد.

قال الضحاك : لا يحل لمسلم أن يتمنى مال أحد ، ألم يسمع الذين قالوا : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) (١) إلى أن قال (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) (٢) حين خسف بداره وأمواله يقولون : (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) (٣).

وقال الكلبي : لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته ، ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله ، وهو كذلك في التوراة ، وذلك قوله في القرآن : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) (٤).

قرأ ابن كثير وخلف والكسائي : (وسلوا الله) وسل وفسل بغير همزة فنقل حركة الهمزة إلى السين.

الباقون : بالهمزة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلوا الله من فضله فإنه يحبّ أن يسأل وأن من أفضل العبادة انتظار الفرج» (٥).

أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لم يسأل الله عزوجل من فضله غضب عليه» (٦) [٣٠٢].

هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : سلوا ربّكم حتى الشبع من لم ييسّره الله لم يتيسّر.

وقال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلّا ليعطي.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) أي ولكل واحد من الرجال والنساء موالي ، أي عصبة يرثونه (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) من ميراثهم له ، والوالدون والأقربون على هذا التأويل هم الموروثون ، وقيل : معناه ولكل جعلنا موالي ، أي قرابة من الذين تركهم ، ثم فسّر الموالي فقال : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي هم الوالدان والأقربون خبر مبتدأ محذوف فالمعنى : من تركة الوالدان والأقربون ، وعلى هذا القول هم الوارثون (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) في محل الرفع بالابتداء ، والمعاقدة هي المعاهدة بين اثنين.

__________________

(١) سورة القصص : ٧٩.

(٢) سورة القصص : ٨٢.

(٣) سورة القصص : ٨٢.

(٤) سورة النساء : ٣٢.

(٥) سنن الترمذي : ٥ / ٢٢٥ ، ح ٣٦٤٢.

(٦) تفسير الطبري : ٥ / ٦٨ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١٦٤.

٣٠٠