الكشف والبيان - ج ٣

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٣

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

وروى حمّاد عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال : كان الرجل يسلم ، ثم يأتي قومه وهم مشركون ، فيمرّ بهم جيش من جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فيقتل فيمن يقتل فيعتق قاتله رقبة ولا دية له] (١) فنزلت هذه الآية (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وليست له دية ، وكان الحرث بن زيد قتل مؤمنا من قوم كانوا حربا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية ولكنّه لم يكن بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قومه عهد ثم قال (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عهد فأصبتم رجلا منهم (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) على الفاعل (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) لا تفرق بين صيامه (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) وجعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمن قتله خطئا (حَكِيماً) فيمن حكم عليه.

والدية في الخطأ ، مائة من الإبل ، عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقّة ، وعشرون جذعة ، ويكلف العاقلة غير إبله وجعل دونها ، وإن لم يكن في بلده إبل كلّف إبل أقرب البلدان إليه ، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قوّمها عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وكان قد كلف الأعرابي الذهب والورق لأنه لم يجد الإبل ويؤخذ ذلك من القروي لإعواز الإبل (٢).

فقال الشافعي في القديم : على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم.

وأما [أسنان] المغلظة في شبه العمد والعمد إذا ردّ إلى الدية ليربطون خلفه ، [......] (٣) حقّه ، وثلاثون جذعة (٤).

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية نزلت في معين بن ضبابة الكناني ، وذلك إنه وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلما فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك فأرسل معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من بني فهر ، فقال له : ائت بني النجار؟ وأقرأهم السلام وقل لهم : إن رسول الله يأمركم ان علمتم قاتل هشام بن ضبابة فيقتص منه وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا له ديته فأبلغهم الفهري ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : سمعا وطاعة لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدي ديته قال : فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب غرّه الشيطان قال : فوسوس إليه ، فقال : أي شيء صنعت تقبل دية أخاك فيكون عليك سبّة أقتل الذي معك فيكون نفسا مكان نفس ومعك الدية.

__________________

(١) زيادة عن تفسير الطبري : ٥ / ٢٨١.

(٢) مختصر المزني : ٢٤٤.

(٣) كلمة غير مقروءة.

(٤) كتاب الأم للشافعي : ٦ / ١٢١.

٣٦١

قال : فغفل معين الفهري فرماه بصخرة فشدخ رأسه ، ثم ركب بعيرا منها وساق بقيّتها راجعا إلى مكة كافرا ، فجعل يقول في شعره :

قتلت به فهرا وحملت عقله

سراة بني النجار ، أرباب فارع

وأدركت ثاري واضطجعت موسّدا

وكنت إلى الأوثان ، أوّل راجع (١)

قول فيه (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) بكفره ، وارتداده عن الإسلام.

حكم هذه الآية

فقالت الخوارج والمعتزلة : إنّها نزلت في المؤمن إذا قتل مؤمنا وهذا الوعيد لاحق به.

وقالت المرجئة : إنّها نزلت في كافر قتل مؤمنا ، فأما المؤمن إذا قتل مؤمنا فإنه لا يدخل النار.

وقالت طائفة من أصحاب الحديث ، إنها نزلت في مؤمن قتل مؤمنا وواعد عليه ما لبث إلّا أن يتوب أو يستغفر.

وقالت طائفة منهم : كل مؤمن قتل مؤمنا فهو خالد في النار غير مؤيد ويخرج منها بشفاعة وجزاء وزعموا انه لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا.

وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا فإنه لا يكفر بفعله ولا يخرج عن الإيمان ، إلّا إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة.

فأما إذا لم يفعله على جهة الاستحلال والديانة فإنّ ديته قتيلا ممن قتله وذلك كفارة له ، فإن كان تائبا من ذلك ولم يكن منقادا ممن قيل كانت التوبة لهذا كفارة له.

وإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا [قود] (٢) فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأرضى خصمه بما شاء ، وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعدها إن شاء الله لا يخلف وعدا وترك المجازاة بالوعيد يكون تفضلا ، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

والدليل على أن المؤمن لا يصير بقتله المؤمن كافرا ولا خارجا من الإيمان أنّ الله تعالى حين ذكر إيجاب القصاص سمّى القاتل مؤمنا بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (٣).

__________________

(١) لسان العرب : ٨ / ٢٥١ ، وفيه الأصنام بدل الأوثان ، زاد المسير : ٢ / ١٧٣.

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) سورة البقرة : ١٧٨.

٣٦٢

والقصاص لا يكون إلّا في قتل العمد فسمّاهم مؤمنين وآخى بينهم كقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (١) فلم يرد به إلّا أخوة الإيمان ، والكافر لا يكون أخا للمؤمن.

ثم قال (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وذلك لا يلحق الكفار ثم أوجب على المعتدين بعد ذلك عذابا أليما بقوله (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

ولم يرد مع مثلها الغضب ، ولا التخليد في النار ولا يسمى هذا العذاب نارا ، والعذاب قد يكون نارا وقد يكون غيرها في الدنيا ، ألا ترى إلى قوله (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) (٣) يعني القتل والأسر ، والدليل عليه قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (٤) مخاطبا المقاتلين فخاطب به المصلين ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان ، لجاز مخاطبتهم به لذلك قال الله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) واقتتال الطائفتين كان على العمد أو على الخطأ ، والدليل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه كان يبلّغ أصحابه على أن لا يشركوا (بِاللهِ شَيْئاً) ولا يقتلوا (النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) وعلى ما في القرآن ممن فعل من ذلك شيئا ، فكان عليه أجرا (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ، ومن كفر بالله فأمره إلى الله عزوجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ، ولو كان القاتل خارجا عن الإسلام.

لم يكن لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معنى ، وروي أنّ مؤمنا قتل مؤمنا متعمّدا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يأمر القاتل بالإيمان من فعله ولو كان [كافرا] أو خارجا عن الإيمان. لأمره أولا بالإيمان.

وقال : لطالب الدم أتعفو؟ قال : لا ثم قال أتأخذ الدية؟ قال : لا ، فأمره بقتله ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثة حتى قبل الدية ولم يحكم على القاتل بالكفر ، ولو كان ذلك كفرا لبينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن بكفر كان قد حرم بها أهله عليه ، ولم يجز على الرسول الإغفال عنه لأنه الناصح ، الشفيق ، المبعوث بالتأديب والتعليم.

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قال : «ثلاثة من أهل الإسلام. الكفّ عمّن قال : لا إله إلّا الله لا نكفره بذنب [ولا نخرجه من الإسلام بعمل] ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقوم الساعة ، والإيمان بالأقدار» (٥).

ودليل آخر على إن القاتل لا يصير كافرا بالقتل وهو أن الكفر من الجحود وأيضا الشرك اضافة ، والقاتل لم يجحد ولم قبول الفرائض ولا أضاف إلى الله شركاء ، ولو جاز أن يكون كافرا من لم يأت بالكفر فجاز أن يكون مؤمنا من لم يأت بالإيمان [......] (٦).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٨.

(٢) سورة البقرة : ١٧٨.

(٣) سورة التوبة : ١٤.

(٤) سورة المائدة : ٦.

(٥) كنز العمال : ١٥ / ٨١١ ح ٤٣٢٢٦ ، والجامع الصغير : ١ / ٥٢٧ بتفاوت.

(٦) كلمة غير مقروءة.

٣٦٣

وقد تكلفت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية.

وقيل : إن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا يدخل في النار مؤبدا لأنّ الله تعالى قال : (خالِداً فِيها).

يقال لهم : إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا متعمدا.

وقد ذكرنا القصة فيه وسياق الآية وروايات المفسرين [لها] على أنّا لو سلّمنا إنّها نزلت في مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ، فإنا نقول لهم : لم قلتم إن الخلود هو التأبيد ، خبرونا عن قول الله (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) فما معنى الخلد هاهنا في النار ، يقولون : إنه المراد به التأبيد في الدنيا.

والدنيا تزول وتفنى.

ومثله قوله (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (١) وكذلك قوله (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (٢) إنما يعني في الدنيا أفتقولون إنّه أراد به التأبيد؟

فإن قالوا : لا ولا بد منه ، فيقال لهم : قد ثبت أن معنى الخلود هو معنى التأبيد ، فكذلك يقول العرب : لأودعنّ فلانا في السجن ، أفتقولون إنه أراد به التأبيد والسجن ينقطع ويفنى؟

وكذلك المسجون يدخل ويخرج منه فإن قالوا : إن الله لما قال : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) دلّ على كفره لأن الله لا يغضب إلّا على من كان كافرا أو خارجا من الإيمان.

قلنا : إن هذه الآية لا توجب عليه الغضب لأن معناه (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) ان يغضب عليه ويلعنه ، وما ذكر الله من شيء وجعله جزاء لشيء فليس يكون ذلك واجبا كقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (٣) وكم محارب لله ولرسوله لم يحلّ به شيء من هذه المعاني. إلى أن فارق الدنيا. (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤).

ولم يقل : أجزي بكل سيئة بسيئة مثلها.

ولو كان المعنيان في ذلك سواء لم يكن إذا لقوله (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٥) معنى ، فكذلك هاهنا.

ولو كان ذلك على معنى الوجوب.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٣٤.

(٢) سورة الهمزة : ٣.

(٣) سورة المائدة : ٣٣.

(٤) سورة الشورى : ٤٠.

(٥) سورة المائدة : ١٥.

٣٦٤

كان لقوله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) ووجدنا في لغة العرب. إنه إذا قال القائل : جزاؤه كذا ثم لم يجازه لم يكن كاذبا ، وإذا قال : أجزيه ، ولم يفعل كان كاذبا ، فعلم أن منهما فرضا واضحا يدل على صحة هذا التأويل.

ما روى العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس.

قوله (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (١) أي في جزائه إن شاء عذبه وان شاء غفر له.

وروى شعبة عن يسار عن أبي صالح قال : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) إن جازاه فهو جزاؤه.

روى الحجاج بن الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في قوله تعالى : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قال : جزاؤه إن جازاه [قال : فليس] قوله (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) من الأفعال الماضية.

ومتى قلتم أن المراد منه : فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة؟ يقال لهم : قد يرد الخطاب بصفة الماضي والمراد المستقبل.

وهو قوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٢). (وَحَشَرْناهُمْ) (٣) (وَقالَ قَرِينُهُ) (٤) كل ذلك يكون مستقبلا ، وقد يرد بلفظ المستقبل ، والمراد به الماضي كقوله (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٥).

بمعنى إلّا ان آمنوا ، ومثله كثير ، وقد قيل في تأويل هذه الآية : إن هذا الوعيد (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) مستحلا لقتله ، وأما قوله : من زعم أنه لا توبة له فأنه خارج من الكتاب والسنّة. وذلك يغفر الله لهم الذنوب.

وأمر بالتوبة منها فقال (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) (٦) ونحوه من الآيات. ولم يفصل بين ذنب وذنب ، وإذا كان الله قابل التوبة من الكفر فقبول التوبة من القتل أولى.

قال الله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٧) إلى قوله (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) (٨) وقال إخوة يوسف (اقْتُلُوا يُوسُفَ) (٩) ثم قال (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (١٠) يعني بالتوبة وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمن كل ذنب يقبل التوبة؟ فقال : نعم ، فإن قيل : فلم يقولون في الاخبار التي وردت أنّ القاتل لا توبة له؟ قيل : تأويلها إن صح الخبر بها على أنه إذا لم يرتكب ذنبا ولم يستغفر الله منه ويدل على هذا ما حدّث :

__________________

(١) سورة النساء : ٩٣. (٢) سورة الكهف : ٩٩.

(٣) سورة الكهف : ٤٧. (٤) سورة ق : ٢٣.

(٥) سورة البروج : ٨. (٦) سورة النور : ٣١.

(٧) سورة الفرقان : ٦٨.

(٨) سورة البقرة : ٦٢.

(٩) سورة يوسف : ٩.

(١٠) سورة يوسف : ٩.

٣٦٥

خالد بن دهقان عن أبي زكريا قال : سمعت أم [الدرداء] تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كل ذنب عسى الله أن يغفر إلّا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا» (١) [٣٧٥].

قال خالد بن دهقان : فقال هاني بن كلثوم : سمعت محمود بن ربيع يحدّث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قتل مؤمنا ثم اغتبط (٢) بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» (٣) [٣٧٦].

قال خالد : سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله : اغتبط بقتله ، قال : هم الذين يقتتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر الله منه أبدا.

سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا أعلم للقاتل توبة إلّا أن يستغفر الله.

وروى أبو الأشهب عن سليمان بن علي الكلبي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (٤) إلى قوله (جَمِيعاً). هات يا أبا سعيد ، أي علينا كما كانت على بني إسرائيل.

فقال : إي والله الذي لا إله إلّا هو ما جعل دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا ، فإن قيل : فما تقولون فيما روى سفيان عن المغيرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (٥) قال : ما [نسخها] شيء.

وروى الحجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي [بزة] أنه سأل سعيد : هل لمن قتل مؤمنا من توبة؟ فقال : لا ، فنزلت عليه الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٦) إلى قوله (إِلَّا مَنْ تابَ).

قال سعيد : فقرأها عليّ ابن عباس [كما قرأتها] (٧) عليّ فقال : هذه مكّية نسختها أي مدنية التي في سورة النساء.

وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت قال : لما نزلت هذه الآية التي

__________________

(١) كنز العمال : ١٥ / ٢٠ ح ٣٩٨٨٩.

(٢) في المصدر : فاغتبط.

(٣) مسند الشاميين : ٢ / ٢٦٦.

(٤) سورة المائدة : ٣٢.

(٥) سورة النساء : ٩٣.

(٦) سورة الفرقان : ٦٨.

(٧) كذا في المخطوط.

٣٦٦

في الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (إِلَّا مَنْ تابَ) (١) عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت في سورة النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) الآية فنسخت الغليظة اللينة يقال : إن الغليظة نزلت بعد اللينة بستة أشهر.

نقول ومن الله التوفيق : إن قول المفسرين واختلافهم في الآيتين أيهما أنزلت قبل ، وقوله : إن واحدة منها ناسخة والأخرى منسوخة فلا فائدة منه إذ ليس سليما سبيل الناسخ والمنسوخ ، لأن النسخ لا يقع في الأخبار ، وإنما يقع في الأحكام والآيتان جميعا [خبر أنّ].

فإن تكن الآية التي أنزلت في النساء أولا فإنها مجملة لم يستوف حكمها بالنص.

وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان.

وإن كانت هي في الفرقان نزلت متقدمة. ثم أنزلت التي في النساء فإنه استغنى بتفسير ما في القرآن عن إعادة تفسيرها في النساء والله أعلم.

وأما قول من زعم أن من وافى القيامة وهو مرتكب الكبائر. وهو مؤمن لم يضره ذلك فإنه [رادّ] لكتاب الله تعالى لأن الله تعالى قال (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢) ، فلم يطلق المغفرة لما دون الشرك بل ردّه إلى المشيئة ليعلم إن منه ما يكون مغفورا أي ما يكون صاحبه معذورا ثمّ يخرج من النار فلا يؤبد فيها ، ويؤيد ذلك. قضية الشفاعة وغيرها.

فدلت هذه الدلائل على بطلان قول الوعيدية والمرجئة ، وصحة قولنا ، فهذا حكم الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية.

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد [بن ذبيان] يقال له : مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين.

فلما رأى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل ، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكبّر فنزل وهو يقول : لا إله إلّا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك وجدا شديدا.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٧٠.

(٢) سورة النساء : ٤٨.

٣٦٧

وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قتلتموه إرادة ما معه» [٣٧٧] ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية على اسامة بن زيد فقال : يا رسول الله استغفر لي وقال : «فكيف بلا إله إلّا الله» قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات (١).

قال أسامة : فما رآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلّا يومئذ ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استغفر لي بعد ، ثلاث مرات. فقال : أعتق رقبة.

وبمثله قال قتادة ، وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه غنم فسلّم عليهم فقالوا : ما سلّم عليكم إلّا متعوّذا ، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

وروى المبارك عن الحسن أنّ أناسا من المسلمين لقوا أناسا من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال : فشدّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف. قال : إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه.

قال : وكان والله قليلا نزرا.

قال : فرفع ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم! ، فقال : يا رسول الله إنما قالها متعوذا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فهلّا شققت عن قلبه؟» (٢).

قال : لم يا رسول الله؟ قال : «لتنظر صادقا كان أو كاذبا» قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال : «إنما ينبئ عنه لسانه» [٣٧٨] قال : فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح. وقد وضع إلى جنب قبره ، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثا فلما رأى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب ، قال : فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية.

قال الحسن : أما ذاك ما كان أن تكون الأرض [تحبس] من هو شر منه ولكن وعظا لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين (فَتَبَيَّنُوا) يعني المؤمن من الكافر ، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر

__________________

(١) شرح مسلم للنووي : ٢ / ١٠١.

(٢) مستدرك الصحيحين : ٣ / ١١٦.

٣٦٨

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضا.

قال : ابن سيرين : إنما قال : (إِلَيْكُمُ) لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها ، ويقال : العرض ما سوى الدراهم والدنانير (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) يعني ثوابا كثيرا لمن ترك قتل المؤمن (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا إله إلّا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها ، فنهاهم أن يخيفوا أحدا بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالهجرة (فَتَبَيَّنُوا) أن تقتلوا مؤمنا (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الخير والشر (خَبِيراً).

روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) ، قال : حرّم الله على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا إله إلّا الله : لست مؤمنا ، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

زعم ابن [سيرين] هو القول بهذه الآية.

وقالوا لما قال الله (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلّا قولهم فلولا أن الإيمان هو القول ، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذا؟ فقتلوه والله تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله» (١) [٣٧٩] وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط». ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول. ثم لم يكن ذلك ايمانا منهم.

وقد تبين من معنى هذه الآية ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هلا شققت عن قلبه» (٢) [٣٨٠] فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره ، وأنّ حقيقة التصديق بالقول ، ولكن ليس للعبد حكم إلّا على ما سمعه منه فقط ، وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر وهو أنّ الله تعالى أخبر أنه منّ على المؤمنين من بين جميع الخلق. ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ الله لو خلق الخلق كلّهم للإيمان. كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم ، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان بالله إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عائد غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١١.

(٢) كنز العمّال : ١٠ / ٣٨٩ ح ٢٩٩٢٨.

٣٦٩

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) الآية.

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لما ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين عن غيرهم في الجهاد أتى عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش الأسدي. وليس الأزدي. وهما عميان فقال : يا رسول الله ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين فأمر بالجهاد وحالنا على ما ترى ونحن نلبي الجهاد فهل لنا من رخصة فنزل (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) في البصر فهم من الذين جاهدوا مع المجاهدين لزمانتهم.

وروى مجاهد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لما نزلت هذه الآية (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال ابن أم مكتوم : اللهم أنزل عذري ، فنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فوضعت بينهم وكان بعد ذلك يغزو ويقول ادفعوا إليّ اللواء ويقول : أقيموني بين الصفين فإني لا [أستطيع] أن أفرّ.

معمر عن ابن شهاب عن زيد بن ثابت قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفخذه على فخذي وقد أملى عليّ (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فعرض ابن أم مكتوم قال : فبقيت فخذ رسول الله على فخذي حتى كادت تتحطّم ونزلت عليه (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)

وبقية الآية (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن الغزو أو الجهاد ، الذين هم غير أولي الضرر وهم أولي الزمانة والضعف في الدين والبصر ، والضرر مصدر ، يقال : رجل ضرير من الضرر.

وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أولي. الضرر.

(وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس المؤمنين القاعدون عن الجهاد من غير هم والمؤمنون المجاهدون غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، لأن الضرر أقعدهم عنه والضرر رفع على نعت القاعدين ، ونصب على الاستثناء (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) أي فضيلة (وَكُلًّا) يعني المجاهد والقاعد (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ومن يجاهد [الجنّة ، وزاد] (١) من فضل المجاهدين فقال (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) قال : كان يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في سبيل الله درجة ، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة.

وقال ابن [محيريز] في هذه الآية : هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدد [حضر الفرس الجواد المضمر] (٢) سبعين خريفا.

__________________

(١) زيادة لتقويم النصّ وعبارة المخطوط لا تقرأ.

(٢) زيادة عن تفسير الطبري : ٩ / ٢٤٠ ح ١٢١٩١.

٣٧٠

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية. نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا ، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة. وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس.

ورأوا قلة المؤمنين قالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) ، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم ، فذكر الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي يقبض أرواحهم ملك الموت.

وقوله (تَوَفَّاهُمُ) إن نصبت جعلته ماضيا فيكون في موضع النصب وإن نصبت أمسى فيكون على مستقبل ومعنى (تَتَوَفَّاهُمُ) وأراد بالملائكة ملك الموت لأن الله تعالى قد يحمل الخطاب في موضع ويفسره في موضع فيكون الحكم للمفّسر فيرد عهد الله وقوله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يحتمل أن يكون أراد به ملك الموت واحتمل أن يكون غيره لكنه لمّا فسّره في موضع آخر بقوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (١) علم أن المراد بقوله (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ملك الموت والله أعلم.

فإن قيل : فلم أخرجه بلفظ الجماعة؟ قيل : قد يرد الخطاب بلفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله عزوجل (إِنَّا نَحْنُ) ولا عليك إن الله واحد.

__________________

(١) سورة السجدة : ١١.

٣٧١

ومثله في القرآن كثير وقوله (ظالمي) (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالشرك ، والنفاق ، ونصب (ظالِمِي) على الحال من (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) في حال تحملهم أي شركهم (قالُوا) يعني الملائكة.

(فِيمَ كُنْتُمْ) أي في ما ذا كنتم؟ سؤال تقريع وتوبيخ ويجوز أن يكون معناه : فيمن كنتم أفي المشركين أم في المسلمين؟

(قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) أي مقهورين عاجزين (فِي الْأَرْضِ) يعني أرض مكة فأخرجونا معهم كارهين (قالُوا) يعني الملائكة (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ) يعني أرض المدينة (واسِعَةً) أي آمنة (فَتُهاجِرُوا فِيها) فتضلّوا بها وتخرجوا من بين أظهر مكة.

وروى سليمان بن عمرو عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير في قوله (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) قال إذا عمل بالمعاصي في أرض فأخرج منها.

وروى سليمان بن عمرو عن عباد بن منصور بن الناجي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فرّ بدينه من أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب به الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١) [٣٨١].

فأكذبهم الله عزوجل وإنّما أنّهم كانوا مستطيعين الهجرة فقال (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ) أي منزلهم (جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) أي بئس المصير إلى جهنم.

ثم استثنى أهل مكة منهم فقال : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) يعني المؤمنين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة ومنعوا من اللحوق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتجهزون للحوق به (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) و (الْمُسْتَضْعَفِينَ) نصب على الاستثناء من مأواهم (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) لا يقدرون على حيلة ولا قوة ولا نفقة للخروج منها (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لا يعرفون طريقا إلى الخروج منها وقال : إنّما يعني طريق المدينة قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من الذين (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) وكنت غلاما صغيرا (فَأُولئِكَ) الذين هم بهذه الصفة (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي يتجاوز (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) وفي هذه الآية دليل على إمكان قول من قال إن الإيمان هو الاقرار فقط وذلك إن هؤلاء القوم كانوا قد أضمروا الإقرار فلم ينفعهم ذلك بعد أن لم تكن سرائرهم موافقه لأقوالهم (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً).

مجاهد : (مُراغَماً كَثِيراً) : أي متزحزحا على كره.

علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس ، وعليّ بن الحكم عن الضحاك : المراغم : السهول من الأرض إلى الأرض.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٣ / ١٧٢ ، وتفسير القرطبي : ٥ / ٣٤٧.

٣٧٢

أما السعة فسعة من الرزق ، وبه قال مقاتل بن حيان.

وقال أبو عبيدة : المراغم والمهاجر واحد ، يقال : راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب ، والمذهب في الأرض.

قال النابغة الجعدي :

كطود يلاذ بأركانه

عزيز المراغم والمهرب (١)

وقال الشاعر :

إلى بلد غير داني المحل

بعيد المراغم والمضطرب (٢)

قال القيسي : فأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج من قومه مراغما أي مغاضبا لهم ومهاجرا أي مقاطعا عن دينهم ، وقيل للمذهب مراغم وللمصير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هجرة لأنها كانت هجرة الرجل قومه.

وقيل : إن أصله من الرغام وهو التراب أي راغمته أي هاجرته ولم أبال وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب.

فلما نزلت هذه الآيات سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير [وضيئا] يقال له : جندع (٣) فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله وإني لأجد حيلة وإن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها ، والله لا أبقى الليلة بمكة ، أخرجوني ، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به إلى التسنيم فأدركه الموت بها فصفق يمينه على شماله. ثم قال : هذه لك هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات شهيدا فأتى خبره أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : لو وافى المدينة لكان مهاجرا ، وقال المشركون وضحكوا منه ما أدرك هذا ما طلب ، فأنزل الله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) قبل بلوغه إلى مهاجره (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ) أي وجب ثوابه (عَلَى اللهِ) بإيجابه ذلك على نفسه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) كان منه في حال الشرك (رَحِيماً) بما كان منه في الإسلام.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي هاجرتم فيها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج وإثم (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) يعني من الأربع ركعات إلى ركعتين (إِنْ خِفْتُمْ) أي علمتم (أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في الصلاة (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) مجاهرا بعداوته وقال : [....] عدوا بمعنى أعداء والله (٤) أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٣٢٢ ، وتفسير القرطبي : ٥ / ٣٤٨.

(٢) لسان العرب : ١٢ / ٢٤٧.

(٣) في تفسير الطبري : ٥ / ٣٢٤ : ضمرة.

(٤) راجع تفسير القرطبي : ٥ / ٣٦٣.

٣٧٣

قوله (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ).

تمام الكلام هاهنا.

ثم أصبح يقصر صلاة المسافر واو العطف فقال : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يريد فإن خفتم وهو حرف شرط وفي القرآن مثل هذا كثير أي خفي الخبر بتمامه ثم عطف عليه حرف منفصل عنه في الباطن وهو في الظاهر كالمتصل كقوله (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (١) الآية.

هذا اعتراف امرأة العزيز ثم وصل بها حكاية أخرى عن يوسف وهو قوله (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) لأن بعد الاعتراف بالذنب لا معنى لقولها (لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ).

وفي التفسير : أنّ يوسف لما قال هذه المقالة. قال له جبرئيل عليه‌السلام ولا حين هممت؟ وعندئذ قال يوسف (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) (٢) ومثل قوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) وقال : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٣) افتتاح كلام آخر يريد به النفي لأنه لو كان متصلا بأول الكلام كان معناه [....] (٤).

قال : وحمل الآية على نحو ما أشرنا إليه من النظم يفيد زيادة معنى وهو وجوب القصر في السفر من غير خوف نص الآية لأنك متى ما فصلت قوله تعالى (أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) متصلا بذكر قصر الصلاة لزمك أن تقول قصر الصلاة في السفر من غير خوف بالسنّة وأن السنّة ناسخة الكتاب ، قيل : على زيادة معنى مع استقامة نظمها أولى من حملها على غيرها.

حكم الآية

اختلف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعدهم في إتمام الصلاة في السفر أربع ركعات ولكن أبيح له القصر تخفيفا عنه وإليه ذهب الشافعي ، ورجّح الوجوب طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان في غزوة بني لحيان (٥).

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) الآية.

روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر قالا : إن المشركين لما رأوا أن رسول

__________________

(١) سورة يوسف : ٥١.

(٢) تفسير الطبري : ١٣ / ٤.

(٣) سورة القصص : ٦٨.

(٤) كلام غير مقروء.

(٥) راجع أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ٣٣١.

٣٧٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه [قاموا إلى] صلاة الظهر يصلّون جميعا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمهم ندموا على تركهم إلّا كانوا كبرا عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر. وإذا رأيتموهم قد قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم.

فلما قاموا إلى الصلاة العصر نزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف فإن الله يقول (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) مقيما يعني شهيدا معهم (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا) إلى آخر الآية قال : فعلمه جبرئيل صلاة أخرى.

فلما قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصلاة وقف أصحابه صفين ثم كبر فكبروا جميعا ، ثم إن الصف الآخر استقبلوا العدو بوجوهم يحمون النبي وأصحابه ، فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصف الذي معه ركعة وسجدتين ثم قاموا وكبروا وراءهم من غير أن يتكلموا إلى مصاف أصحابهم ونكص آخرون حتى قاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بهم ركعة وسجدتين ثم تشهد وسلّم ثم قام الصف الذي خلفه فرجعوا إلى مصاف أصحابهم ، وكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان وأربع سجدات والقوم ركعة وسجدتين وصلّى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين.

كيفية صلاة الخوف

اختلف العلماء في كيفية صلاة الخوف.

فقال الشافعي : إذا صلّى في سفر صلاة الخوف من عدو غير مأمون ، صلى الإمام بطائفة ركعة وطائفة فجاءه العدو فإذا فرغ العدو قام فلبث قائما وأطال وأتمم الطائفة للركعة التي بقيت عليها يقرأ بأم القرآن وسورة ، ويخفف ويسلم وينصرف فيقف وجاءه العدو ، ويأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالسا وتقوم الطائفة تتم لنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام كل واحدة منهما مع إمامها ما أحدثت الأخرى منه.

واحتج بقول الله تعالى. (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ) الآية.

فاحتج أيضا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك يوم ذات الرقاع.

وروى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) قال : هذا في الصلاة عند الخوف يقيم الإمام ويقوم معه طائفة منهم وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو فيصلي الإمام بمن معه ركعة ثم يثبت قائما فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون حتى يأتوا بأصحابهم فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يجلس الإمام فينظرهم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ويشهدون ثم يسلم بهم الإمام ، فهكذا صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ذات الرقاع.

٣٧٥

ويدل على صحة هذا التأويل أيضا حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف وكان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقوم الإمام في صلاة الخوف ويقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهؤلاء ركعة. قال : فإذا صلّى بهم ركعة قاموا مكانهم والإمام قائم فيصلوا ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فيصلي بهم ركعة. ثم قاموا مكانهم فصلّوا ركعة.

قال الشافعي : فإن كانت صلاة المغرب فإن صلّى ركعتين بالطائفة الاولى فيثبت قائما وأتموا لأنفسهم فحسن ، وإن ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم [فجائز] ثم يأتي بالطائفة الأخرى فيصلي بها بقي عليه ثم يثبت جالسا حتى يقضي ما بقي عليها ثم يسلم بهم.

قال : وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالسا في الثانية أو قائما في الثالثة حتى يتم الطائفة التي معه. ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت الأخرى.

قال : وإن كان العدو قليلا من ناحية القبلة والمسلمون كثير يأمنوهم في مستوى لا يسترهم شيء إن حملوا عليهم زادهم صلّى بهم الإمام جميعا وركع وسجد بهم جميعا إلّا صف عليه أو بعض صف الوراء وإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوا.

وإذا ركع ركع بهم جميعا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولئك إلّا صفا أو بعض صف يحرسونهم فيهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين يحرسونهم ثم يتشهد ويتشهدون ثم يسلم بهم جميعا معا وقال : وهو تأخر منهم يحرسونهم إلى الصف الثاني.

ويقدم الثاني فحرسوا فلا بأس ، وهذا نحو صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم عسفان.

روى شبل عن محمّد بن يوسف عن مجاهد في قوله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) قال قوم : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان (١) فتوافقوا فصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعا ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على صفوفهم ، وأثقالهم وأنزل الله تعالى (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) فصلى العصر فصف أصحابه صفين. ثم كبر بهم جميعا ثم سجد الأولون سجدة فالآخرون ثم سجدوا حين قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصف الأقل ثم كبّر بهم وركعوا بهم جميعا فتقدم الصف الآخر وليتأخر الصف الأول فيها فصلوا جميعا كما فعلوا أول مرة وقصر صلاة العصر في ركعتين ، وتشهد ، فهذا حديث جابر في صلاة الخوف.

عطاء عن جابر قال : صلينا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف وكان العدو بيننا وبين القبلة فأقيمت الصلاة فصففنا خلفه صفين. وكبّر وكبّرنا معه جميعا ثم ركع وركعنا معه ثم رفع رأسه فسجد فلما سجد هو والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو.

__________________

(١) جبل بناحية مكّة على طريق المدينة.

٣٧٦

وكلما قضى رسول الله السجود هو والصف الذي يليه. قاموا بحذاء الصف المؤخّر بالسجود فسجدوا ثم تأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر ثم كبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ركع وركعنا جميعا.

ثم رفع رأسه فاستوى قائما فسجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الاولى ، فلما قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السجود هو والصف الذي يليه سجد الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلموا جميعا ، كما نصنع وسلّم هؤلاء بأقرانهم.

قال الشافعي : ولو صلّى بالخلف [....] (١).

فإذا صلّى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم يسلم جائز وهكذا صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن المحل.

وروى يحيى بن أبي كبر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أخبره إنه صلى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فصلى رسول الله أربع ركعات وصلّى كل طائفة ركعتين.

قال المزني : وهذا يدل عندي بوجوب فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا مذهب الشافعي في صلاة الخوف.

وقال أبو حنيفة : السنّة أن يفرّق الإمام المسلمين فرقتين ، فيصلّي بفرقة ركعة ، وفرقة فجاءه العدو ثمّ يتشهّد بالفرقة التي سلّمت فيصلي بركعة وهم في الصلاة فيقفون.

وجاءه العدو وجاءت الفرقة الأخرى فصلت مع الإمام الركعة الأخرى. ثم انصرفت وعادت الفرقة الاولى وصلت صلاتها فعادت إلى مواجهة العدو وانصرفت الفرقة الأخرى.

وأتمّت صلاتها ، وذهب أبو حنيفة في هذا إلى حديث ابن عمر في صلاة الخوف.

وهو ما روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يحدث انه صلاها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصفّ وراءه طائفة وأقبلت طائفة على العدو ، فركع [بهم] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة وسجدتين ، [سجد] مثل نصف صلاة الصبح ثم انصرفوا وأقبلوا على العدو وصلت الطائفة الأخرى فصلوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل مثل ذلك ، ثم سلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة [وسجدتين] (٢).

قال نافع عن ابن عمر : فإن كان خوفا أشد من ذلك ، فليصلوا قياما وركبانا حيث جهتهم وهذه صلاته بذي قردة.

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ١٥٠.

٣٧٧

وروي عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف بذي قرد فصف صفا يوازي العدو.

وقال : فصلى بالصف الذي معه ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلوا ركعة ثم سلّم فيهم جميعا ثم انصرف وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى ركعتين ولكل واحد من الفريقين ركعة.

حديث أبي هريرة في صلاة الخوف

وروى عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة : هل صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة : نعم ، فقال مروان : متى؟ قال : عام غزوة نجد ، قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصلاة العصر. وقامت معه طائفة وطائفة اخرى مما يلي العدو ، وأظهرهم إلى القبلة فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبّر الذين معه ، والذين يقاتلون العدو جميعا. ثم ركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه. والآخرون قيام مما يلي القوم ، وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقامت معه الطائفة الذين معه فذهبوا إلى العدو ، فقاتلوهم فأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو وركعوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم كما هو.

ثم قاموا فركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد ، وسجدوا ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو. فركعوا ، وسجدوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد كما هو فثم سلّم وسلموا جميعا ، فصلى رسول الله ركعتين. ولكل رجل من الطائفتين ركعتان.

واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون خلاف في هذا بين العلماء إلّا ما حكى عن أبي يوسف والمزني أنهما قالا : لا يصلي صلاة الخوف بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس هذا موضع الكلام طلبهما في هذا بالقدر الذي ذكرت في هذا الموضع ينفع إن شاء الله.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) نزلت هذه الآية في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة.

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا محاربا وبني أنمار [فهزمهم الله وأحرزوا الذراري والمال] فنزل رسول الله والمسلمون معه ولا يرون من العدو واحدا فوضع الناس أسلحتهم وأمتعتهم من ناحية [وخرج رسول الله] فمشى لحاجات وقد وضع سلاحه حتى قطع (١) الوادي ، [والسنماء ترش] فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه وجلس رسول الله وهوى بصخرة ليضربه غويرث بن الحرث المحاربي ، ثم الحضرمي ، فقال أصحابه : يا غويرث. هذا محمد قد انقطع من أصحابه. قال : قتلني الله إن تركته ثم انحدر من الجبل ومعه

__________________

(١) في المصادر : درأ.

٣٧٨

السيف فلم يشعر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده وقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله» ثم دعا : اللهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت. ثم أهوى بالسيف على رسول الله ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه وبدر سيفه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذه ثم قال : «من يعصمك الآن يا غويرث» قال : لا أحد.

قال : اشهد أن لا إله إلّا الله وأني عبده ورسوله ، فقال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليه ، فأعطاه رسول الله سيفه فقال غويرث : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنت خير مني. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أجل أنا أحق بك منك ثم رجع غويرث إلى أصحابه» [٣٨٢]. فقالوا : ويلك لقد رأيناك أهويت بالسيف قائما على رأسه ما منعك منه؟ قال : والله إني أهويت إليه بالسيف لكني لا أدري من زلخني من كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي من بين يديّ فسبقني فأخذه وقال : يا غويرث من يمنعك مني الآن ، فقلت : لا ثم قال : اشهد أن لا إله إلّا الله وإني رسول الله وأعطيك سيفك فقلت : لا ، ولكني أعطيك موثقا أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا ، فردّ السيف إليّ.

قال : وسكن الوادي فقطعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وأخبرهم الخبر ، وأقرأهم هذه الآية (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا ضرر (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) من عدوكم (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) يهانون فيه.

قال الزجاج : الجناح الإثم وأصله من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانبا عن القصد ثمّ قال (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا تعدلون عن الحق إن وضعتم أسلحتكم ، والأذى مقصور ، يقال : أذى يأذي أذى ، مثل فرع يفرع فرعا (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها (فَاذْكُرُوا اللهَ) يعني فصلوا لله (قِياماً) للصحيح (وَقُعُوداً) للسقيم (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس ، ويقال : معناه فاذكروا الله بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) يعني صلاة الخوف والمرض والقتال ، ورجعتم إلى منازلكم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أتموا الصلاة أربعا (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي واجبا مفروضا في الحضر والسفر ، فركعتان في السفر وأربع في الحضر ، وكتب الله عليهم ووقته أي جعل للأوقات ومنه قوله تعالى (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) ووقتت مخففة.

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ

٣٧٩

جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) لا تضعفوا في طلب القوم. أبي سفيان وأصحابه يوم أحد وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) أي تتوجعون وتشتكون من الجراح (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) أي يتوجعون ويشتكون من الجراح (كَما تَأْلَمُونَ) وأنتم مع ذلك آمنون (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ) الأجر والثواب والنصر الذي وعدكم الله وإظهار دينكم على سائر الأديان.

(ما لا يَرْجُونَ) وقيل : [تفسر] الآية : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) أي تخافون من عذاب الله ما لا يخافون. قال الفراء : لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلّا مع الجحد ، كقول الله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يخافون أيام الله وكذلك قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي لا تخافون لله عظمة ، وهي لغة حجازية.

قال الشاعر :

لا ترتجي حين تلاقي الذائدا

أ سبعة لاقت معا أم واحدا (١)

وقال الهذلي : يصف [معتار] العسل ذا النوب وهي النحل.

ويروى في بيت نوب عوامل

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عوامل (٢).

قال : ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ولا خفتك وأنت تريد رجوتك (٣).

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار ، يقال له طعمة بن أبرق أحد بني ظفر حي من سليم سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان ، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق ، وكان الدقيق ينشر من خرق

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٣٥٨.

(٢) تفسير الطبري : ٥ / ٣٥٨ ، وروي : عواسل.

(٣) لسان العرب : ١٤ / ٣١٠.

٣٨٠