الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٦

في الزمان ، أم في الصقع والمكان ، أم في ظاهر الإسلام ، أم في ظاهره وباطنه على كل حال ، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه بالمدح دون من عداه ، أم لقسم آخر غير ما ذكرناه؟

فإن قالوا : هو شامل لكل من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الزمان أو المكان أو ظاهر الإسلام ، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح الكفار وأهل النفاق ، وهذا ما لا يرتكبه عاقل.

وإن قالوا : إنه يشمل كل من كان معه على ظاهر الديانة وباطنها معا دون من عددتموه من الأقسام.

قيل لهم : فدلوا على أئمتكم وأصحابكم ، ومن تسمون من أوليائكم ، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الإيمان ، ثم ابنوا حينئذ على هذا الكلام ، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بما لا تثبت معه حجة ، ولا لكم عليه دليل ، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة بواطن القوم من الضلال ، إذ ليس به قرآن ولا خبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما اعتمد على الظن والحسبان.

وإن قالوا : إن متضمن القرآن من الصفات المخصوصة إنما هي علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الإسلام دون أن تكون منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال.

قيل لهم : فدلوا الآن على من سميتموه كان مستحقا لتلك الصفات ، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد ، وهذا ما لا سبيل إليه حتى يلج الجميل في سم الخياط.

١٤١

فصل

ثم يقال لهم : تأملوا معنى الآية ، وحصلوا فائدة لفظها ، وعلى أي وجه تخصص متضمنها من المدح ، وكيف مخرج القول فيها؟ تجدوا أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها ، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم وسلب الفضل بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها ، وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من أصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبه الأولى ، وثبوت صفاتهم بالخير والتقى (١) في صحف إبراهيم وموسى وعيسى عليه‌السلام ، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا بها من جملة المسلمين ، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين.

فقال سبحانه : (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) (٢).

وكأن تقدير الكلام : إن الذين بينت (٣) أمثالهم في التوراة والإنجيل من جملة أصحابك ومن معك ـ يا محمد ـ هم أشداء على الكفار ، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.

__________________

(١) في أ : بالجبر والنفي.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٣) في ب : يثبت ، وفي ح : ثبت.

١٤٢

وجرى هذا في الكلام مجرى من قال : زيد بن عبد الله إمام عدل ، والذين معه يطيعون الله ، ويجاهدون في سبيل الله ، ولا يرتكبون شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم ، إذ هم أولياء الله الذين تجب مودتهم دون من معه ممن عداهم ، وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، فالواجب أن تستقرئ الجماعة في طلب هذه الصفات ، فمن كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له التعظيم ، ومن كان على خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه ، وكاشف عن نقصه ، ودال على موجب لومه ، ومخرج له عن منازل التعظيم.

فنظرنا في ذلك واعتبرناه ، فوجدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأبا دجانة ـ وهو سماك بن خرشة الأنصاري (١) ـ وأمثالهم من المهاجرين والأنصار رضي‌الله‌عنهم ، قد انتظموا صفات الممدوحين من الصحابة في متضمن القرآن.

وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الأقران ، وكافحوا منهما الشجعان ، وقتلوا منهم الأبطال ، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء الكفار ، وبنوا بسيوفهم قواعد الإيمان ، وجلوا عن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله الكرب

__________________

(١) أبو دجانة الأنصاري : صحابي ، شجاعا بطلا ، له آثار جميلة في الإسلام ، شهد بدرا ، وثبت يوم أحد ، وأصيب بجراحات كثيرة ، واستشهد باليمامة في الإسلام (١١ هـ) «معجم رجال الحديث ٨ : ٣٠٣ ، سير أعلام النبلاء ١ : ٢٤٣ / ٣٩ ، أسد الغابة ٢ : ٣٥٢».

١٤٣

والأحزان ، وظهر بذلك شدتهم على الكفار ، كما وصفهم الله تعالى في محكم القرآن ، وكانوا من التواصل على أهل الإسلام والرحمة بينهم على ما ندبوا إليه ، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان.

فأما إقامتهم الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات ، فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد من الناس ، فثبت لهم حقيقة المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم الكتب ، واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم ، ممن قد ارتفع في حاله الخلاف ، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق.

ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لأجل أئمتهم وأعظمهم قدرا عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه ، فوجدنا هم على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما رسمناه.

وذلك أنه لم يكن لأحد منهم مقام في الجهاد ، ولا عرف لهم قتيل من الكفار ، ولا كلم كلاما في نصرة الإسلام ، بل ظهر منه الجزع في مواطن القتال ، وفر في يوم خيبر واحد وحنين ، وقد نهاهم الله تعالى عن الفرار ، وولوا الأدبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان ، وأسلموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للحتوف (١) في مقام بعد مقام ، فخرجوا بذلك عن الشدة على الكفار ، وهان أمرهم على أهل الشرك والضلال ، وبطل أن يكونوا

__________________

(١) في ب ، م : للخوف.

١٤٤

من جملة المعنين (١) بالمدحة في القرآن ولو كانوا على سائر ما عدا ما ذكرناه من باقي الصفات ، وكيف وأنى يثبت لهم شئ منها بضرورة ولا استدلال ، لأن المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية دون بعضها ، وفي خروج القوم من البعض بما ذكرناه (٢) مما لا يمكن دفعه إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم بالذم بما وصفناه؟! وهذا بين جلي والحمد لله.

فصل

ثم يقال لهم : قد روى مخالفوكم عن علماء التفسير من آل محمد عليهم‌السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمة عليهم‌السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس ، وروايتهم لما ذكرنا عمن سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان والرأي ، لإسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الرجوع إليه عند الاختلاف ، وأمر باتباعه في الدين ، وأمن متبعه من الضلال.

ثم إن دليل القرآن يعضده البيان ، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن ذكره بالشدة على الكفار ، والرحمة لأهل الإيمان ، والصلاة له ، والاجتهاد في الطاعات ، بثبوت صفته في التوراة والإنجيل ، وبالسجود لله تعالى

__________________

(١) في ب ، ح : المعينين.

(٢) (من البعض بما ذكرناه) ليس في ب ، م.

١٤٥

وخلع الأنداد ، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للأوثان ، وتقربه للات والعزى دون الله الواحد القهار ، لأنه يوجب الكذب في المقال ، أو المدحة بما يوجب الذم من الكفر والعصيان.

وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأصنام ، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للأوثان من دون الله تعالى ، ويشركون به الأنداد ، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة والإنجيل بذكر السجود على ما نطق به القرآن.

وثبت لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم‌السلام ذلك ، للاتفاق على أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى ، ولا سجدوا لأحد سواه ، وكان مثلهم في التوراة والإنجيل واقعا موقعه على ما وصفناه ، مستحقا به المدحة قبل كونه لما فيه من الاخلاص لله سبحانه على ما بيناه.

ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء آل محمد صلوات الله عليهم ، بما دل به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مقاله الذي اتفق العلماء عليه ، وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الإنصاف.

فصل

على أنه يقال لهم : خبرونا عن طلحة والزبير ، أهما داخلان في جملة الممدوحين بقوله تعالى : (محمد رسول الله والذين معه أشداء على

١٤٦

الكفار) (١) إلى آخره ، أم غير داخلين في ذلك؟

فإن قالوا : لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة القوم.

خرجوا من مذاهبهم وقيل لهم : ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا بكر وعمر وعثمان ، فكل شئ تدعونه في استحقاق الصفات ، فطلحة والزبير أشبه أن يكونا عليها منهم ، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على جميع الأحوال؟! فلا يجدون شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى الظاهرة الفساد.

وإن قالوا : إن طلحة والزبير في جملة القوم الممدوحين بما في الآي.

قيل لهم : فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن حقه ، وإنكار إمامته ، واستحلال حربه ، وسفك دمه ، والتدين بعداوته على أي جهة شئتم : كان ذلك من تعمد ، أو خطأ ، أو شبهة ، أو عناد ، أو نظر ، أو اجتهاد!

فإن قالوا : إن مدح القرآن ـ على ما يزعمون ـ لم يعصمهما من ذلك ، ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه ، لأن منع دفعه جحد الاضطرار.

قيل لهم : فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر وعثمان قد دفعوا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن حقه ، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم عليهم ، وأنكروا إمامته وقد كانت ثابتة ، ودفعوا النصوص عليه وهي له واجبة ، ولم

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

١٤٧

يعصمهم ذلك ، ثم توجه المدح لهم من الآية ، كما لم يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد؟ وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه ، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن الضلالة ، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار.

فصل

ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في الحال ، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب ، ولا أوجب العصمة له من الضلال ، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال.

ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الإيمان في الخاتمة ، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك ، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب ، فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم (١) ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال : (كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (٢).

__________________

(١) (به من وصفهم) ليس في ب ، ح ، م.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

١٤٨

فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به ، وجعل الأجر مشترطا لهم بالأعمال الصالحة ، ولم يقطع على الثبات ، ولو كان الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب ، ومبينا لهم المغفرة والرضوان ، لاستحال الشرط فيهم بعده وتناقض الكلام ، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد ، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر ، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات ، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الأجوبة والاسقاطات ، والمنة لله.

١٤٩
١٥٠

مسألة أخرى

وقد تعلق هؤلاء القوم أيضا بعد الذي ذكرناه عنهم فيما تقدم من الآي بقوله تعالى : (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) (١).

فزعموا بجهلهم أن هذه الآية دالة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وعبد الرحمن وأبا عبيدة بن الجراح من أهل الجنة على القطع والثبات ، إذ كانوا ممن أسلم قبل الفتح ، وأنفقوا وقاتلوا الكفار ، وقد وعدهم الله الحسنى ـ وهي الجنة وما فيها من الثواب ـ وذلك مانع من وقوع معصية منهم يجب عليه بها العقاب ، وموجب لولايتهم في الدين وحجيتهم على كل حال (٢).

__________________

(١) سورة الحديد ٥٧ : ١٠.

(٢) ممن ذهب إلى هذا الرأي الكلبي والزمخشري والقرطبي والنسفي والفخر الرازي ، أنظر تفسير الكشاف ٤ : ٤٧٤ ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٤٠ ، تفسير النسفي ٣ : ٤٧٨ ، تفسير الفخر الرازي ٢٩ : ٢١٩.

١٥١

فصل

فيقال لهم : إنكم بنيتم كلامكم في تأويل هذه الآية وصرف الوعد فيها إلى أئمتكم على دعويين :

إحداهما : مقصورة عليكم لا يعضدها برهان ، ولا تثبت بصحيح الاعتبار.

والأخرى : متفق على بطلانها ، لا تنازع في فسادها ولا اختلاف ، ومن كان أصله فيما يعتمده ما ذكرناه ، فقد وضح جهله لذوي الألباب.

فأما الدعوى الأولى : فهي قولكم أن أبا بكر وعمر قد أنفقا قبل الفتح ، وهذا ما لا حجة فيه بخبر صادق ولا كتاب ، ولا عليه من الأمة إجماع ، بل الاختلاف فيه موجود ، والبرهان على كذبه (١) لائح مشهود.

وأما الدعوى الأخيرة : وهي قولكم أنهما قاتلا الكفار فهذه مجمع على بطلانها غير مختلف في فسادها ، إذ ليس يمكن لأحد من العقلاء أن يضيف إليهما قتل كافر معروف ، ولا جراحة مشرك موصوف ، ولا مبارزة قرن ولا منازلة كفؤ ، ولا مقام مجاهد.

وأما هزيمتهما من الزحف فهي أشهر وأظهر من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد ، وإذا خرج الرجلان من الصفات التي تعلق الوعد بمستحقها من جملة الناس ، فقد بطل ما بنيتم على ذلك من الكلام ،

__________________

(١) في أ : على كذب مدعيه.

١٥٢

وثبت بفحوى القرآن ودلائله استحقاقهما الوعيد بضد ما استحقه أهل الطاعة.

فصل

على أن اعتلالكم يوجب عموم الصحابة كلها بالوعد ، ويقضي لهم بالعصمة من كل ذنب ، لأنهم بأسرهم بين رجلين : أحدهما أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل ، والآخر كان ذلك منه بعد الفتح ، ومن دفع (١) منهم عن ذلك كانت حاله حال أبي بكر وعمر وعثمان في دفع الشيعة لهم عما أضافه إليهم أشياعهم من الإنفاق لوجه الله تعالى ، وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، وكان القرآن ناطقا بأن الله تعالى قد وعد جماعتهم الحسنى ، فكيف يختص بذلك من سميتموه ، لولا العصبية والعناد؟!

فصل

ثم يقال لهم : إن كان لأبي بكر وعمر وعثمان الوعد بالثواب ، لما ادعيتموه لهم من الإنفاق والقتال ، وأوجب ذلك عصمتهم من الآثام ، لأوجب ذلك لأبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية (٢) وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص أيضا ، بل هو لهؤلاء أوجب ، وهم به أحق من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن سميتموه ، لما نحن مثبتوه في المقال.

__________________

(١) في ب ، وقع.

(٢) (ومعاوية) ليس في ب ، ح ، م.

١٥٣

وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن أبا سفيان أسلم قبل الفتح بأيام ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمان لمن دخل داره تكرمة له وتمييزا عمن سواه ، وأسلم معاوية قبله في عام القضية (١) وكذلك كان إسلام يزيد بن أبي سفيان (٢).

وقد كان لهؤلاء الثلاثة من الجهاد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان ، لأن أبا سفيان أبلى يوم حنين بلاء حسنا ، وقاتل يوم الطائف قتالا لم يسمع بمثله في ذلك اليوم لغيره ، وفيه ذهبت عينه ، وكانت راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ابنه يزيد بن أبي سفيان ، وهو يقدم بها بين يدي المهاجرين والأنصار.

وقد كان أيضا لأبي سفيان بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامات ومعروفة في الجهاد ، وهو صاحب يوم اليرموك ، وفيه ذهبت عينه الأخرى ، وجاءت الأخبار أن الأصوات خفيت فلم يسمع إلا صوت أبي سفيان ، وهو يقول : يا نصر الله اقترب. والراية مع ابنه يزيد ، وقد كان له بالشام وقائع مشهورات (٣).

ولمعاوية من الفتوح بالبحر وبلاد الروم والمغرب والشام في أيام عمر وعثمان وأيام إمارته وفي أيام أمير المؤمنين عليه‌السلام وبعده ما لم يكن لعمر

__________________

(١) كان معاوية يقول أنه أسلم عام القضية وكتم إسلامه من أبيه وأمه. أنظر أسد الغابة ٤ : ٣٨٥.

(٢) أسلم يوم فتح مكة. أنظر سير أعلام النبلاء ١ : ٣٢٩ ، أسد الغابة ٥ : ١١٢.

(٣) أنظر الإصابة ٣ : ٢٣٧ ، سير أعلام النبلاء ٢ : ١٠٦.

١٥٤

ابن الخطاب.

وأما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص فشهرة قتالهما مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده تغني الإطالة بذكرها في هذا الكتاب ، وحسب عمرو بن العاص في فضله على أبي بكر وعمر تأمير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إياه عليهما في حياته (١) ولم يتأخر إسلامه عن الفتح فيكون لهما فضل عليه بذلك ، كما يدعى في غيره.

وأما خالد بن الوليد فقد أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ، وأنفذه في سرايا كثيرة (٢).

ولم ير لأبي بكر وعمر ما يوجب تقديمهما على أحد في أيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن أنصف الخصوم جعلوا ما عددناه لهؤلاء القوم فضلا على من سموه في متضمن الآي ، وإلا فالتسوية واجبة بينهم في ذلك على كل حال ، وهذا يسقط تعلقهم بالتخصيص فيما سلمناه لهم تسليم جدل من التفضيل على ما أدعوه في التأويل ، وإن القول فيه ما قدمناه.

فصل

ثم يقال لهم : أليست الآية قاضية بالتفضيل ودالة على الثواب والأجر لمن جمع بين الإنفاق والقتال معا ، ولم يفرد أحدهما عن الآخر ،

__________________

(١) عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لواء لعمرو على أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل. أنظر سير أعلام النبلاء ٣ / ٥٧ و ٦٧.

(٢) أنظر سير أعلام النبلاء ١ : ٣٦٦.

١٥٥

فيكون مختصا به على الانفراد؟! فلا بد من أن يقولوا : بلى. وإلا خالفوا ظاهر القرآن.

فيقال لهم : هب أنا سلمنا لكم أن لأبي بكر وعمر وعثمان إنفاقا ، ولم يصح ذلك بحجة من خبر صادق ولا إجماع ولا دليل قرآن ، وإنما هي دعوة عرية عن البرهان ، فأي قتال لهم قبل الفتح أو بعده مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يكونوا بمجموع الأمرين مستحقين للتفضيل على غيرهم من الناس؟! فإن راموا ذكر قتال بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجدوا إليه سبيلا على الوجوه كلها والأسباب ، اللهم إلا أن يقولوا ذلك على التخرص والبهت بخلاف ما عليه الاجماع ، وذلك باطل بالاتفاق.

ثم يقال لهم : قد كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامات في الجهاد ، وغزوات معروفات ، ففي أيها قاتل أبو بكر وعمر وعثمان ، أفي بدر ، فليس لعثمان فيها ذكر واجتماع ، ولم يحضرها باتفاق ، وأبو بكر وعمر كانا في العريش محبوسين عن القتال ، لأسباب تذكرها الشيعة ، وتدعون أنتم خلافا لما تختصون (١) به من الاعتقاد؟!

أم بأحد فالقوم بأسرهم ولوا الأدبار ، ولم يثبت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وانضاف إليه نفر من الأنصار؟!

أم بخيبر وقد عرف العلماء ومن خالطهم من العامة ما كان من أمر أبي بكر وعمر فيها من الفساد والرجوع من الحرب والانهزام ،

__________________

(١) في أ ، ب ، ح : تختصمون.

١٥٦

حتى غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» (١) فأعطاها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان الفتح على يديه ، كما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

أم في يوم الأحزاب فلم يكن لفرسان الصحابة وشجعانها ومتقدميها في الحرب إقدام في ذلك اليوم سوى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه خاصة ، وقتله عمرو بن عبد ود ، ففتح الله بذلك على أهل الإسلام؟!

أم في يوم حنين فأصل هزيمة المسلمين كانت فيه بمقال من أبي بكر ، واغتراره بالجمع ، واعتماده على كثرة القوم دون نصر الله ولطفه وتوفيقه ، ثم انهزم هو وصاحبه أول الناس ، ولم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا تسعة نفر من بني هاشم ، أحدهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وثبتوا به في ذلك المقام؟! ثم ما بين هذه الغزوات وبعدها ، فحال القوم فيها في التأخر عن الجهاد ما وصفناه لغيره من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ومسلمة الفتح ، وأضرابهم من الناس وطبقات الأعراب في القتال والإنفاق ، وما هو مشهور عند نقلة الآثار ، وقد نقلنا لأبي سفيان وولديه في هذا الباب ما لا يمكن دعوى مثله لأبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمناه وشرحناه.

وإذا لم يكن للقوم من معاني الفضل ما يوجب لهم الوعد (٢) ، بالحسنى على ما نطق به القرآن ، ولا اتفق لهم الجمع بين الإنفاق والقتال

__________________

(١) تقدم تخريجاته في ص ٣٤.

(٢) في ب ، ح : الوجه.

١٥٧

بالإجماع وبالدليل (١) الذي ذكرناه ، فقد ثبت أن الآية كاشفة عن نقصهم ، دالة على تعريتهم (٢) مما يوجب الفضل ، ومنبهة على أحوالهم المخالفة لأحوال مستحقي التعظيم والثواب.

فصل

ثم يقال لهم أيضا : أخبرونا عن عمر بن الخطاب ، بما ذا قرنتموه بأبي بكر (٣) وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ، فيما ادعيتموه لهم من الفضل في تأويل الآية ، ولم يكن له قتال قبل الفتح ولا بعده ، ولا ادعى له أحد إنفاقا على كل حال!

وهب أن الشبهة دخلت عليكم في أمر أبي بكر بما تدعونه من الإنفاق ، وفي عثمان ما كان منه من النفقة في تبوك ، وفي طلحة والزبير وسعيد بالقتال ، أي شبهة دخلت عليكم في عمر بن الخطاب ، ولا إنفاق له ولا قتال؟! وهل ذكركم إياه في القوم إلا عصبية وعنادا وحمية في الباطل ، وإقداما على التخرص في الدعاوى والبهتان.

فصل آخر

ثم يقال لهم : خبرونا عن طلحة والزبير ما توجه إليهما من الوعد

__________________

(١) في أ : دليله.

(٢) في أ : تعريهم.

(٣) في أ : قربتموه إلى أبي بكر.

١٥٨

بالحسنى في الآية على ما ادعيتموه للجماعة ، وهل عصمهما ذلك من خلاف أمير المؤمنين عليه‌السلام وحربه ، وسفك دماء أنصاره وشيعته ، وإنكار حقوقه التي أوجبها الله تعالى له ودفع إمامته؟!

فإن قالوا : لم يقع من الرجلين شئ من ذلك ، وكانا معصومين عن جميعه. كابروا وقبحت المناظرة لهم ، لأنهم اعتمدوا العناد في ذلك ودفعوا علم الاضطرار.

وإن قالوا : إن الوعد من الله سبحانه لطلحة والزبير بالحسنى لم يمنعهما من سائر ما عددناه ، للاتفاق منهم على وقوعه من جهتهما والاجماع.

قيل لهم : ما أنكرتم أن يكون ذلك أيضا غير عاصم لأبي بكر وعمر وعثمان مع دفع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن حقه ، وإنكار فضله (١) ، وجحد إمامته والنصوص عليه ، ولا يمنع التسليم لكم ما ادعيتموه من دخولهم في الآية ، وتوجه المدحة إليهم منها ، والوعد بالحسنى والنعيم على غاية منيتكم ، فيما ذكرته الشيعة في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحال المتقدمين عليه ، كما رتبنا ذلك فيما تقدم من السؤال ، فلا يجدون منه مهربا.

فصل

وقد زعم بعض الناصبة أن الآية قاضية بفضل أبي بكر على أمير

__________________

(١) في أ ، ب ، ح : فرضه.

١٥٩

المؤمنين عليه‌السلام ، فإن زعم أن أبا بكر له إنفاق بالإجماع وقتال مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن عليا لم يكن له إنفاق (١) على ما زعم وكان له قتال ، ومن جمع الأمرين كان أفضل من المنفرد بأحدهما على النظر الصحيح والاعتبار.

فيقال له : أما قتال أمير المؤمنين عليه‌السلام وظهور جهاده مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واشتهاره فمعلوم بالاضطرار ، وحاصل عليه من الآية بالإجماع والاتفاق ، وليس لصاحبك قتال بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باتفاق العلماء ، ولا يثبت له جهاد بخبر ولا قرآن ، ولا يمكن لأحد ادعاء ذلك له على الوجوه كلها والأسباب ، إلا أن يتخرص باطلا على الظن والعناد.

وأما الإنفاق فقد نطق به القرآن لأمير المؤمنين عليه‌السلام في آية النجوى (٢) بإجماع علماء القرآن ، وفي آية المنفقين بالليل والنهار (٣) ، وجاء التفسير بتخصيصها فيه عليه‌السلام ، ونزل الذكر بزكاته عليه‌السلام في الصلاة (٤) ،

__________________

(١) (بالإجماع .. إنفاق) ليس في ب ، ح ، م.

(٢) وهي قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) سورة المجادلة ٥٨ : ١٢. وانظر مستدرك الحاكم ٢ : ٤٨٢ والرياض النضرة ٣ :

٢٢٢.

(٣) وهي قوله تعالى : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة البقرة ٢ : ٢٧٤. وانظر مناقب ابن المغازلي : ٢٨٠ / ٣٢٥ ، الرياض النضرة ٣ : ١٧٨ ، شواهد التنزيل ١ : ١٠٩.

(٤) وهو قوله تعالى : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) سورة المائدة ٥ : ٥٥ وانظر تفسير الحبري ٢٥٨ / ٢١ و ٢٦٠ / ٢٢ ، معرفة علوم الحديث للحاكم : ١٠٢ ، فرائد السمطين ١ : ١٨٧ ـ ١٩٥.

١٦٠