الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٦

وصدقته على المسكين واليتيم والأسير في : (هل أتى على الإنسان) (١).

وليس يثبت لأبي بكر إنفاق يدل عليه القرآن بظاهره ، ولا قطع العذر به من قول إمام صادق في الخبر عن معناه ، ولا يدل عليه تواتر ولا إجماع ، مع حصول العلم الضروري بفقر أبي بكر ، وما كان عليه من الاضطرار المانع لصحة دعوى الناصبة له ذلك ، حسب ما تخرصوه في المقال ، ولا فرق بين من ادعى لأبي بكر القتال مع ما بيناه ومن ادعى مثل ذلك لحسان ، وبين من ادعى له الإنفاق مع ما بيناه ومن ادعى مثله لأبي هريرة وبلال.

وإذا كانت الدعوى لهذين الرجلين على ما ذكرناه ظاهرة البطلان ، فكذلك ما شاركهما في دلالة الفساد من الدعوى لأبي بكر على ما وصفناه ، فبطل مقال من ادعى له الفضل في الجملة ، فضلا عمن ادعاه له على أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما بنى عليه الناصب الكلام ، وبان جهله ، والله الموفق للصواب.

__________________

(١) سورة الإنسان ٧٦ : ١. وانظر تفسير الحبري : ٣٢٦ / ٦٩ ، شواهد التنزيل ٢ : ٢٩٨ ـ ٣١٥.

١٦١
١٦٢

باب آخر

من السؤال عن تأويل القرآن

وأخبار يعزونها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وأنه قد مدح أئمتهم على التخصيص والاجمال

مسألة

فإن قالوا : وجدنا الله تعالى قد مدح أبا بكر في مسارعته إلى صديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهد له بالتقوى على القطع والثبات ، فقال الله تعالى :

(والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) (١).

وإذا ثبت أن هذه الآية نزلت في أبي بكر على ما جاء به الأثر ، استحال أن يجحد فرض الله تعالى ، وينكر واجبا ، ويظلم في أفعاله ، ويتغير عن حسن أحواله ، وهذا ضد ما تدعونه عليه وتضيفونه (٢) إليه

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ : ٣٣ ـ ٣٥.

(٢) في أو يصفونه.

١٦٣

من جحد النص على أمير المؤمنين عليه‌السلام فقولوا في ذلك كيف شئتم لنقف عليه.

جواب

قيل لهم : قد أعلمناكم فيما سلف أن تأويل كتاب الله تعالى لا يجوز بأدلة الرأي ، ولا تحمل معانيه على الأهواء ، ومن قال فيه بغير علم فقد غوى ، والذي ادعيتموه من نزول هذه الآية في أبي بكر على الخصوص فهذا راجع إلى الظن ، والعمل عليه غير صادر عن اليقين ، وما اعتمدتموه من الخبر فهو مخلوق ، وقد سبرنا الأخبار ونخلنا الآثار فلم نجده في شئ منها معروف ، ولا له ثبوت من عالم بالتفسير موصوف ، ولا يتجاسر أحد من الأمة على إضافته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن عزاه إلى غيره فهو كداود ومقاتل بن سليمان (١) وأشباههما من المشبهة الضلال ، والمجبرة الاغفال الذين أدخلوا في تأويل كلام الله تعالى الأباطيل ، وحملوا معانيه على ضد الحق والدين ، وضمنوا تفسيرهم الكفر بالله العظيم ، والشناعة (٢) للنبيين والملائكة المقربين عليهم‌السلام أجمعين ، ومن

__________________

(١) مقاتل بن سليمان بن بشير البلخي ، من أعلام المفسرين ، كان متروك الحديث إذ نسبه الكثيرون إلى الكذب ووضع الحديث ، عاش في بغداد وتوفي بالبصرة في سنة ١٥٠ هـ. «تهذيب التهذيب ١٠ : ٢٧٩ / ٥٠١ ، الجرح والتعديل ٨ : ٣٥٤ / ١٦٣٠ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٢٠١ / ٧٩ ، وفيات الأعيان ٥ : ٢٥٥ / ٧٣٣».

(٢) في أ : والشتم.

١٦٤

اعتمد (١) في معتقده على دعاوى ما وصفناه فقد خسر الدنيا والآخرة بما بيناه ، وبالله العصمة وإياه نسأل التوفيق.

فصل

على أن أكثر العامة وجماعة الشيعة يروون عن علماء التأويل وأئمة القول في معاني التنزيل أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام على الخصوص ، وإن جرى حكمها في حمزة وجعفر وأمثالهما من المؤمنين السابقين ، وهذا يدفع (٢) حكم ما ادعيتموه لأبي بكر ويضاده ، ويمنع من صحته ويشهد بفساده ، ويقضي بوجوب القول به دون ما سواه ، إذا كان واردا من طريقين ، ومصطلحا عليه من طائفتين مختلفين ، ومتفقا عليه من (٣) الخصمين المتباينين ، فحكمه بذلك حكم الاجماع ، وما عداه فهو من طريق ـ كما وصفناه ـ مقصور على دعوى الخصم خاصة بما بيناه ، وهذا ما لا يحيل الحق فيه على أحد من العقلاء ، فممن روى ذلك على ما شرحناه :

إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن السدي ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (والذي جاء بالصدق وصدق به).

__________________

(١) في ب ، م : ومن اعتقد.

(٢) في أ : يرفع ، وفي بـ نسخة بدل : يرجع.

(٣) في أ ، ب ، ح : وثانيا قرآن ، بدل : ومتفقا عليه من.

١٦٥

قال : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

ورواه عبيدة بن حميد ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثل ذلك سواء (٢).

وروى سعيد ، عن الضحاك ، مثل ذلك أيضا (٣).

وروى أبو بكر الحضرمي ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله تعالى : (والذي جاء بالصدق) «هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صدق به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام» (٤).

وروى علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير (٥) ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام ، مثل ذلك سواء (٦).

فصل

وقد روى أصحاب الحديث من العامة عن طرقهم خاصة أنها نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده دون غيره من سائر الناس.

فروى علي بن الحكم ، عن أبي هريرة ، قال : بينا هو يطوف

__________________

(١ و ٢) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٩٢ ، تلخيص الشافي ٣ : ٢١٥ ، تفسير الحبري : ٣١٥ / ٦٢.

(٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٩٢ ، مجمع البيان ٨ : ٧٧٧ ، شواهد التنزيل ٢ : ١٢٢ / ٨١٣.

(٤) كشف الغمة ١ : ٣٢٤ ، تلخيص الشافي ٣ : ٢١٤.

(٥) (عن أبي بصير) ليس في ب ، ح ، م ، وعلي بن أبي حمزة يروي عن الصادق عليه‌السلام مباشرة وكذلك بتوسط أبي بصير ، راجع معجم رجال الحديث ١١ : ٢٢٧.

(٦) تلخيص الشافي ٣ : ٢١٥ ، وانظر مناقب ابن المغازلي ٢٦٩ / ٣١٧ ، كفاية الطالب : ٢٣٣ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٢ : ٤١٨ و ٤١٩ / ٩٢٤ / ٩٢٥.

١٦٦

بالبيت إذ لقيه معاوية بن أبي سفيان ، فقال له أبو هريرة : يا معاوية ، حدثني الصادق المصدق والذي جاء بالصدق وصدق به : أنه يكون أمرا (١) يود أحدكم لو علق بلسانه منذ خلق الله السماوات والأرض ، وأنه لم يل ما ولي (٢).

ورووا عن السدي وغيره من السلف ، عن قوله تعالى : (والذي جاء بالصدق وصدق به) قال : جاء بالصدق عليه‌السلام ، وصدق به نفسه عليه‌السلام (٣).

وفي حديث لهم آخر ، قالوا : جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصدق ، وصدق به يوم القيامة إذا جاء به شهيدا (٤).

فصل

وقد رووا أيضا في ذلك ما اختصوا بروايته دون غيرهم ، عن مجاهد في قوله تعالى : (والذي جاء بالصدق) أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي صدق به أهل القرآن ، يجيئون (٥) به يوم القيامة ، فيقولون : هذا الذي دعوتمونا إليه (٦) قد اتبعنا ما فيه (٧).

__________________

(١) في ب ، م : يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) تلخيص الشافي ٣ : ٢١٤.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٧٧٧ ، تلخيص الشافي ٣ : ٢١٤.

(٤) تلخيص الشافي ٣ : ٢١٤.

(٥) في م : يحدثون.

(٦) في أ والمصادر : أعطيتمونا.

(٧) تلخيص الشافي ٣ : ٢١٥ ، الدر المنثور ٧ : ٢٢٩ ، تفسير الطبري : ٢٤ : ٤ ، تفسير القرطبي ١٥ : ٢٥٦.

١٦٧

فصل

وقد زعم جمهور متكلمي العامة وفقهائهم أن الآية عامة في جميع المصدقين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعلقوا في ذلك بالظاهر أو العموم ، وبما تقدمه (١) من قول الله تعالى : (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (٢).

وإذا كان الاختلاف بين روايات العامة وأقاويلهم في تأويل هذه الآية على ما شرحناه ، وإذا تناقضت أقوالهم فيه بما بيناه سقط جميعها بالمقابلة والمكافأة ، وثبت تأويل الشيعة للاتفاق الذي ذكرناه ، ودلالته على الصواب حسب ما وصفناه ، والله الموفق للصواب.

مسألة

فإن قال قائل منهم : كيف يتم لكم تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يقول الله تعالى : (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون) (٣).

ومن قولكم أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يذنب ذنبا ، ولا قارف معصية ،

__________________

(١) في ب ، ح ، وربما تعلق به.

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٣٢ ، ٣٣.

(٣) سورة الزمر ٣٩ : ٣٥.

١٦٨

صغيرة ولا كبيرة ، على خطأ ولا عمد ، فكيف يصح أن الآية ـ مع ما وصفنا ـ فيه؟!

جواب

قيل لهم : لسنا نقول في عصمة أمير المؤمنين عليه‌السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نزيد على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم‌السلام من كبائر الآثام ، وقد قال الله تعالى في نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (١).

وقال تعالى : (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) (٢).

وقال تعالى : (ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك) (٣).

فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف الكبائر ، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان ، فكذلك القول فيما تضمنته الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وجه آخر : أن المراد بذكر التكفير إنما هو ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب ، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على الاطلاق ، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع ، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا للعصمة ، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ : ٢.

(٢) سورة التوبة ٩ : ١١٧.

(٣) سورة الشرح ٩٤ : ٢ ، ٣.

١٦٩

وجه آخر : وهو أن التكفير المذكور بالآية إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل ، وجعله جزاء للمعني بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور ، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.

١٧٠

مسألة أخرى

فإن قالوا : فما عندكم في قوله تعالى : (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) (١) مع ما جاء في الحديث أنها نزلت في أبي بكر على التخصيص (٢) ، وهذا ظاهر عند (٣) الفقهاء وأهل التفسير؟

الجواب : قيل لهم في ذلك كالذي قبله ، وهو من دعاوى العامة بغير بينة ولا حجة تعتمد ولا شبهة ، وليس يمكن إضافته إلى صادق عن الله سبحانه ، ولا فرق بين من ادعاه لأبي بكر وبين من ادعاه لأبي هريرة ، أو المغيرة بن شعبة ، أو عمرو بن العاص ، أو معاوية بن أبي سفيان ، في تعري دعواه عن البرهان ، وحصولها في جملة الهذيان ، مع أن ظاهر الكلام يقتضي عمومه في كل معط من أهل التقوى والإيمان ، وكل

__________________

(١) سورة الليل ٩٢ : ٥ ـ ٧.

(٢) الدر المنثور ٨ : ٥٣٥ ، جامع البيان للطبري ٣٠ : ١٤٢ ، الكشاف ٤ : ٧٦٢ ، تفسير الثعالبي ٤ : ٤٢٠ ، تفسير الرازي ٣١ : ١٩٨.

(٣) في أ : مع.

١٧١

من خلا من الكفر والطغيان ، ومن حمله على الخصوص فقد صرفه عن الحقيقة إلى المجاز ، ولم يقنع منه فيه إلا بالجلي من البرهان.

فصل

على أن أصحاب الحديث من العامة قد رووا ضد ذلك عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد ذكروا أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وسمرة بن جندب (١) ، وأخبروا عن سبب نزولها فيهما بما يطول شرحه ، وأبو الدحداح الأنصاري هو الذي أعطى واتقى ، وسمرة بن جندب هو الذي بخل واستغنى ، وفي روايتهم لذلك إسقاط لما رواه بعضهم من خلافه في أبي بكر ، ولم يسنده إلى صحابي معروف ، ولا إمام من أهل العلم موصوف ، وهذا بين لمن تدبره.

فصل

مع أنه لو كانت الآية نازلة في أبي بكر على ما ادعاه الخصوم ، لوجب ظهورها فيه على حد يدفع (٢) الشبهة والشكوك ، ويحصل معه اليقين بسبب ذلك ، والمعنى الذي لأجله نزل التنزيل وأسباب ذلك

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٢٥ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٥٩ ، أسباب النزول للسيوطي : ١٩٥ ، تفسير البحر المحيط ٨ : ٤٨٣.

(٢) في أ : يرفع.

١٧٢

متوفرة من الرغبة في نشره ، والأمان من الضرر في ذكره ، ولما لم يكن ظهوره على ما وصفناه دل على بطلانه بما بيناه ، والحمد لله.

١٧٣
١٧٤

مسألة أخرى

فإن قالوا : أفليس قد وردت الأخبار بأن أبا بكر كان يعول على مسطح ويتبرع عليه ، فلما قذف عائشة في جملة أهل الإفك امتنع من بره ، وقطع عنه معروفه ، وآلى في الامتناع من صلته (١) ، فأنزل الله تعالى : (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) (٢).

وأخبر أن أبا بكر من أهل الفضل والدين والسعة في الدنيا ، وبشره بالمغفرة والأجر العظيم ، وهذا أيضا يضاد معتقدكم فيه.

الجواب :

قيل لهم : لسنا ندفع أن الحشوية قد روت ذلك ، إلا أنها لم تسنده

__________________

(١) أسباب النزول للسيوطي ٢ : ٣٠ ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٢ : ٢٠٧ ، الكشاف ٣ : ٢٢٢ تفسير البيضاوي ٢ : ١١٩ ، تفسير الرازي ٢٣ : ١٨٦.

(٢) سورة النور ٢٤ : ٢٢.

١٧٥

إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا روته عن حجة في الدين ، وإنما أخبرت به عن مقاتل والضحاك وداود الحواري والكلبي وأمثالهم ممن فسر القرآن بالتوهم ، وأقدم على القول فيه بالظن والتخرص حسب ما قدمناه.

وهؤلاء بالإجماع ليسوا من أولياء الله المعصومين ولا أصفيائه المنتجبين ، ولا ممن يلزم المكلفين قولهم والاقتداء بهم على كل حال في الدين ، بل هم ممن يجوز عليه الخطأ وارتكاب الأباطيل.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يضرنا ما ادعوه في التفسير ، ولا ينفع خصومنا على ما بيناه ممن يوجب اليقين ، على أن الآثار الصحيحة والروايات المشهورة والدلائل المتواترة قد كشفت عن فقر أبي بكر ومسكنته ، ورقة حاله وضعف معيشته ، فلم يختلف أهل العلم أنه كان في الجاهلية معلما ، وفي الإسلام خياطا (١) ، وكان أبوه صيادا ، فلما كف بذهاب بصره وصار مسكينا محتاجا ، قبضه عبد الله بن جدعان لندي (٢) الأضياف إلى طعامه ، وجعل له في كل يوم على ذلك أجرا درهما (٣) ، ومن كانت حاله في معيشته على ما وصفناه ، وحال أبيه على ما ذكرناه ، خرج عن جملة أهل السعة في الدنيا ، ودخل في الفقراء فما أحوجهم إلى

__________________

(١) ذكر ابن رسته في الأعلاق النفيسة : ١٩٢ أن أبا بكر كان بزازا.

(٢) ندوت القوم : جمعتهم في مجلس ، والمراد هنا يدعوهم إلى الطعام. «الصحاح ـ ندا ـ ٦ : ٢٥٠٥».

(٣) أنظر الشافي ٤ : ٢٤ و ٢٥ ، تلخيص الشافي ٣ : ٢٣٨.

١٧٦

المسألة والاجتداء! وهذا يبطل ما توهموه.

فصل

على أن ظاهر الآية معناها موجب لتوجهها إلى الجماعة دون الواحد ، والخطاب بها يدل على تصريحه على ذلك ، فمن تأول القرآن بما يزيله عن حقيقته ، وادعى المجاز فيه والاستعارة بغير حجة قاطعة ، فقد أبطل (١) بذلك وأقدم على المحظور وارتكب الضلال.

فصل

على أنا لو سلمنا لهم أن سبب نزول هذه الآية امتناع أبي بكر من بر مسطح ، والايلاء منه بالله تعالى لا يبره ويصله (٢) ، لما أوجب من فضل أبي بكر ما ادعوه ، ولو أوجبه لمنعه من خطأه في الدين ، وإنكاره النص على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجحده ما لزمه والاقرار به على اليقين ، للاجماع على أن ذلك غير عاصم من الضلال ، ولا مانع من مقارفة الآثام ، فأين موضع التعلق بهذا التأويل في دفع ما وصفناه آنفا لولا الحيرة والصد عن السبيل؟!

__________________

(١) أي جاء بالباطل. «المعجم الوسيط ـ بطل ـ ١ : ٦١».

(٢) في ب ، ح ، م لامتناع بره وفضله بدل (لا يبره ويصله).

١٧٧

فصل

وبعد : فليس يخلو امتناع أبي بكر عيلولة مسطح والإنفاق عليه من أن يكون مرضيا لله تعالى ، وطاعة له ورضوانا ، أو أن يكون سخطا لله ومعصية وخطأ ، فلو كان مرضيا لله سبحانه وقربة إليه لما زجر عنه وعاتب عليه ، وأمر بالانتقال عنه وحض على تركه وإذا لم يك لله تعالى طاعة ، فقد ثبت أنه معصية مسخوطة وفساد في الدين ، وهذا دال على نقص الرجل وذمه ، وهو بالضد مما توهموه.

فصل

على أن مسطحا من بني عبد مناف (١) ، وهو من ذوي القربى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما نزل من القرآن في إيجاب صلته وبره والنفقة عليه فإنما هو شئ على استحقاقه ذلك عند الله تعالى ، ودال على فضله ، وعائد على قومه بالتفضل وأهله وعشيرته ، وكاشف عما يجب بقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من التعظيم لمحسنهم ، والعفو عن مسيئهم ، والتجاوز عن الخاطئ منهم ، وليس يتعدى ذلك إلى المأمور به ، ولا يكسبه شيئا ، وفي هذا إخراج لأبي بكر من الفضيلة بالآية على ما شرحناه.

__________________

(١) هو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف. أنظر جمهرة أنساب العرب : ٧٣ ، سير أعلام النبلاء ١ : ١٨٧.

١٧٨

فصل

على أن مسطحا ، وإن كان من بني عبد مناف ، فإنه ابن خالة أبي بكر ، لأن أمه أثاثة بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم ، وكان أبو بكر يمونه لرحمه منه ، دون حقه بالهجرة والإيمان ، فلما كان منه من أمر عائشة ما كان امتنع من عيلولته وجفاه ، وقطع رحمه غيظا عليه وبغضا له ، فنهاه الله تعالى عن ذلك ، وأمره بالعود إلى بره ، وأخبره بوجوب ذلك عليه لهجرته وقرابته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودل بما أنزله فيه على خطئه في حقوقه وقطيعته من استحقاقه لضد ذلك بإيمانه وطاعته لله تعالى وحسن طريقته ، فأين يخرج من هذا فضل بأبي بكر؟! إلا أن تكون المثالب مناقب ، والذم مدحا ، والقبيح حسنا ، والباطل حقا ، وهذا نهاية الجهل والفساد.

فصل

ويؤكد ذلك أن الله عز وجل رغب للنهي عن قطيعة من سماه في صلته في المغفرة إذا انتهى عما نهاه عنه ، وصار إلى مثل (١) ما أمره به ، حيث يقول : (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) (٢).

فلولا أنه كان مستحقا للعقاب لما جعل المغفرة له بشرط الانتقال ، وإذا لم تتضمن الآية انتقاله مع ما دلت عليه ، قبحت حاله

__________________

(١) في أ ، ب ، ح : إلى ضد.

(٢) سورة النور ٢٤ : ٢٢.

١٧٩

وصارت وبالا عليه ، حسب ما ذكرناه.

فصل

فأما ادعاؤهم أن الله تعالى شهد لأبي بكر بأنه من أهل الفضل والسعة ، فليس الأمر كما ظنوه ، وذلك لقوله تعالى : (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) (١) إنما هو نهي يختص بذكر أهل الفضل والسعة ، يعم في المعنى كل قادر عليه ، وليس بخبر في الحقيقة ولا المجاز.

وإنما يختص بذكر ما سميناه على حسب اختصاص الأمر بالطاعات بأهل الإيمان حيث يقول تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله) (٢) و (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) (٣).

وإن كان المعني من الأمر بذلك عاما لجميع المكلفين ، والمراد في الاختصاص من اللفظ ما ذكرناه ملاءمة الوصف لما دعا إليه من الأعمال ، وهو يجري مجرى قول القائل لمن يريد تأديبه ووعظه : لا ينبغي لأهل العقل والمروءة والسداد أن يرتكبوا الفساد ، ولا يجوز لأهل الدين والعفاف أن يأتوا (٤) قبائح الأفعال ، وإن كان المخاطب بذلك ليس من أهل المروءة والسداد ، ولا أهل الديانة والعفاف ، وإنما خص

__________________

(١) سورة النور ٢٤ : ٢٢.

(٢) سورة الأنفال ٨ : ٢٠.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٠٢.

(٤) في ب ، ح ، م : أن يرتكب.

١٨٠