الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٦

٢١

٢٢

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب

(الافصاح في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام)

من مصنفات

الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان

المعروف بـ (الشيخ المفيد) قدس الله سره السعيد

٢٣
٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله موجب الحمد ومستحقه ، وصلواته على خيرته من خلقه : محمد وآله.

أما بعد :

فإني ـ بمشيئة الله وتوفيقه ـ مثبت في هذا الكتاب جملا من القول في الإمامة يستغنى ببيانها عن التفصيل ، ومعتمد في إيضاحها على موجز يغني عن التطويل وراسم في أصول ذلك رسوما يصل بها إلى فروعها ذوو التحصيل ، وإن كان ما خرج من تصنيفاتي وأمالي في هذا الباب يوفي (١) ـ والله المحمود على ما تضمن ـ معناه من كل كتاب ، ويعرف الزيادة فيه متأمله من ذوي الألباب.

__________________

(١) (يوفى) ليس في ب.

٢٥

والغرض فيما نورده الآن ـ بمعونة الله عز وجل ـ بعد الذي ذكرناه ، ووصفنا حاله وبيناه ، تلخيص جنس مفرد لم يتميز بالتحديد فيما أسلفناه ، ولا وجدناه على ما نؤمه لأحد من أصحابنا المتقدمين رضي‌الله‌عنهم ولا عرفناه ، مع صدق الحاجة إليه فيما كلفه الله تعالى جميع من ألزمه فروضه وأمره ونهاه (١) ، إذ كان به تمام الاخلاص لمن اصطفاه سبحانه من خلقه وتولاه ، وكمال الطاعة في البراءة إليه ممن بمعصيته (٢) له عاداه ، وبالله استعين ، وإياه أستهدي إلى سبيل الرشاد.

__________________

(١) في ب ، م : ونهيه.

(٢) في ب : ممن يرى بمعصية. وفي أ ، ح : ممن يرى منه معصيته.

٢٦

مسألة

إن سأل سائل ، فقال : أخبروني عن الإمامة ، ما هي في التحقيق على موضوع الدين واللسان؟

قيل له : هي التقدم فيما يقتضي طاعة (١) صاحبه ، والاقتداء به فيما تقدم فيه على البيان.

فإن قال : فحدثوني عن هذا التقدم ، بماذا حصل لصاحبه : أبفعل نفسه ، أم بنص مثله في الإمامة عليه ، أم باختياره؟

قيل له : بل بإيثار سبق ظهور حاله أوجب له ذلك عند الله تعالى ليزكي أعماله ، فأوجب على الداعي إليه بما يكشف عن مستحقه النص عليه ، دون ما سوى ذلك مما عددت في الأقسام.

فإن قال : فخبروني عن المعرفة بهذا الإمام ، أمفترضة على الأنام ، أم مندوب إليها كسائر التطوع الذي يؤجر فاعله ، ولا يكتسب تاركه الآثام؟

__________________

(١) (طاعة) ليس في ب ، م.

٢٧

قيل له : بل فرض لازم كأوكد فرائض الإسلام.

فإن قال : فما الدليل على ذلك ، وما الحجة فيه والبرهان؟

قيل له : الدليل على ذلك من أربعة أوجه :

أحدها : القرآن ، وثانيها : الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثالثها : الاجماع ، ورابعها : النظر القياسي والاعتبار.

فأما القرآن : فقول الله سبحانه وتعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (١) فأوجب معرفة الأئمة من حيث أوجب طاعتهم ، كما أوجب (٢) معرفة نفسه ، ومعرفة نبيه ـ عليه وآله السلام ـ بما ألزم من طاعتهما (٣) على ما ذكرناه.

وقول الله تعالى : (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا) (٤) وليس يصح أن يدعى أحد بما لم يفترض عليه علمه والمعرفة به.

وأما الخبر : فهو المتواتر (٥) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال : «من مات وهو لا يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية» (٦) وهذا صريح بأن الجهل

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٥٩.

(٢) (معرفة الأئمة .. كما أوجب) ليس في أ.

(٣) في أ : طاعتها.

(٤) سورة الإسراء ١٧ : ٧١.

(٥) في أ : التواتر.

(٦) كمال الدين ٢ : ٤١٢ / ١٠ ، الكافي ١ : ٣٠٨ / ٣ ، غيبة النعماني : ٣٣٠ / ٥ ، حلية الأولياء ٣ : ٢٢٤ ، مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٩٦ ، مجمع الزوائد ٥ : ٢١٨.

٢٨

بالإمام يخرج صاحبه عن الإسلام.

وأما الاجماع : فإنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن معرفة إمام (١) المسلمين واجبة على العموم ، كوجوب معظم الفرائض في الدين.

وأما النظر والاعتبار : فإنا وجدنا الخلق منوطين بالأئمة في الشرع ، إناطة يجب بها عليهم معرفتهم على التحقيق ، وإلا كان ما كلفوه من التسليم لهم في أخذ الحقوق منهم ، والمطالبة لهم في أخذ مالهم ، والارتفاع إليهم في الفصل عند الاختلاف ، والرجوع إليهم في حال الاضطرار ، والفقر إلى حضورهم لإقامة الفرائض من صلوات وزكوات وحج وجهاد ، تكليف ما لا يطاق ، ولما استحال ذلك على الحكيم الرحيم سبحانه ، ثبت أنه فرض معرفة الأئمة ، ودل على أعيانهم بلا ارتياب.

فإن قال : فخبروني الآن من كان الإمام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقائم في رئاسة الدين مقامه ، لأعرفه فأؤدي بمعرفته ما افترض له علي من الولاء؟

قيل له : من أجمع المسلمون على اختلافهم في الآراء والأهواء على إمامته بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، ولم يختلفوا من بعد وفاته فيما أوجب له ذلك من اجتماع خصال الفضل له والأقوال فيه والأفعال : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

__________________

(١) في أ ، ح ، م : أئمة.

(٢) في أ ، ح زيادة : على حال.

٢٩

فإن قال : أبينوا لي عن صحة هذا المقال ، فإني أراكم مدعين الاجماع فيما ظاهره الاختلاف ، ولست أقنع منكم فيه إلا بالشرح لوجهه والبيان (١).

قيل له : ليس فيما حكيناه من الاجماع (٢) اختلاف ظاهر ولا باطن ، فإن ظننت ذلك لبعدك عن الصواب ، أفلا ترى أن الشيعة من فرق الأمة تقطع بإمامته عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل ، وتقضي له بذلك إلى وقت وفاته ، وتخطئ من شك في هذا المقال على كل حال؟

والحشوية (٣) والمرجئة (٤) والمعتزلة متفقون على إمامته عليه‌السلام بعد عثمان ، وأنه

__________________

(١) في ب ، م : والمقال.

(٢) (من الاجماع) ليس في ب ، م.

(٣) سميت الحشوية بهذا الاسم ، لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي يدخلونها فيها وليست منها ، وهم من فرق المرجئة يقولون بالجبر والتشبيه ، وإن الله تعالى موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر ، وقالوا : كل ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبي فهو حجة. «المقالات والفرق : ٦ ، ١٣٦». وأراد المصنف بالحشوية هنا أهل السنة عموما ، أنظر ص ٩١ و ٢١٦.

(٤) المرجئة : اختلف فيهم على أقوال : فقيل هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضير مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم عن المعاصي ، أي أخره عنهم.

وقيل : هم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل ، لأنهم يقدمون القول ويؤخرون العمل.

وقيل : ما عدا الشيعة من العامة ، وسموا مرجئة لأنهم زعموا أن الله تعالى أخر نصب الإمام ليكون نصبه باختيار الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. «المقالات والفرق : ٥ ، ١٣١ ، مجمع البحرين ـ رجا ـ ١ : ١٧٧».

٣٠

لم يخرج عنها حتى توفاه الله تعالى راضيا عنه ، سليما من الضلال؟ والخوارج ـ وهم أخبث أعدائه وأشدهم (١) عنادا ـ يعترفون له بالإمامة ، كاعتراف الفرق الثلاث ، وإن فارقوهم بالشبهة في انتهاء الحال؟

ولا سادس في الأمة لمن ذكرناه يخرج بمذهبه عما شرحناه ، فيعلم بذلك وضوح ما حكمنا به من الاجماع على إمامته (٢) بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما وصفناه.

فأما الاجماع على ما يوجب له الإمامة من الخلال : فهو إجماعهم على مشاركته عليه‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النسب ، ومساهمته له في كريم الحسب ، واتصاله به في وكيد السبب (٣) ، وسبقه كافة الأمة إلى الاقرار ، وفضله على جماعتهم في جهاد الكفار ، وتبريزه عليهم في المعرفة والعلم بالأحكام ، وشجاعته وظاهر زهده اللذين لم يختلف فيهما (٤) اثنان ، وحكمته في التدبير وسياسة الأنام ، وغناه بكماله في التأديب المحوج إليه المنقص (٥) عن الكمال ، وببعض هذه الخصال يستحق الإمامة فضلا عن جميعها على ما قدمناه.

وأما الاجماع على الأفعال الدالة على وجوب الإمامة والأقوال :

__________________

(١) في أ ، ح زيادة : له.

(٢) في أ : بإمامته.

(٣) في أ : النسب.

(٤) في أ : الذي لم يختلف فيه.

(٥) في ب ، ح ، م : النقص.

٣١

فإن الأمة متفقة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قدمه في حياته ، وأمره على جماعة من وجوه أصحابه ، واستخلفه في أهله واستكفاه أمرهم عند خروجه إلى تبوك قبل وفاته ، واختصه لإيداع أسراره ، وكتب عهوده ، وقيامه مقامه في نبذها إلى أعدائه ، وقد كان ندب ليعرض ذلك من تقدم عليه ، فعلم الله سبحانه أنه لا يصلح له ، فعزله بالوحي من سمائه.

ولم يزل (١) يصلح به إفساد من كان على الظاهر من خلصائه ، ويسد به خلل أفعالهم المتفاوتة بحكمه وقضائه ، وليس يمكن أحد ادعاء هذه الأفعال من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لغير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، على اجتماع ولا اختلاف ، فيقدح بذلك في أس (٢) ما أصلناه وبيناه.

وأما الأقوال المضارعة لهذه الأفعال في الدلالة : فهي أكثر من أن تحصى على ما شرطناه (٣) في الاختصار ، وإن كنا سنورد منها ما فيه كفاية ، إن شاء الله تعالى :

فمنها : ما سلم لروايته الجميع من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بغدير خم (٤) ، بعد أن قرر أمته على المفترض له من الولاء الموجب لإمامته عليهم ، والتقدم لسائرهم في الأمر والنهي والتدبير ، فلم ينكره أحد منهم ،

__________________

(١) (يزل) ليس في أ.

(٢) الأس : الأصل. «الصحاح ـ أسس ـ ٣ : ٩٠٣».

(٣) في أ ، ب ، ح : على شرطنا.

(٤) خم : بئر حفرها مرة بن كعب ، ونسب إلى ذلك غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة. «معجم البلدان ٢ : ٣٨٨».

٣٢

وأذعنوا بالإقرار له طائعين : «من كنت مولاه فعلي مولاه» (١) فأعطاه بذلك حقيقة الولاية ، وكشف به عن مماثلته له في فرض الطاعة والأمر لهم ، والنهي والتدبير والسياسة (٢) والرئاسة ، وهذا نص ـ لا يرتاب بمعناه من فهم اللغة ـ بالإمامة.

ومنها أيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا اختلاف بين الأمة : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي» (٣) فحكم له بالفضل على الجماعة ، والنصرة والوزارة والخلافة ، في حياته وبعد وفاته ، والإمامة له ، بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسى عليه‌السلام في حياته ، وإيجاب جميعها لأمير المؤمنين عليه‌السلام إلا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا ، وأوجبه بلفظ يعدله من بعد وفاته ، وبتقدير ما كان يجب لهارون من موسى لو بقي بعد أخيه ، فلم يستثنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبقي لأمير المؤمنين عليه‌السلام عموم ما حكم له من المنازل ، وهذا نص على إمامته ، لا خفاء به على من تأمله ، وعرف وجوه القول فيه ، وتبينه.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الاتفاق : «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، يأكل معي من هذا الطائر» (٤) فجاءه بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأكل

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٢٧ / ١ ، علل الشرائع : ١٤٤ ، أمالي الصدوق : ٢٩١ ، حلية الأولياء ٤ : ٢٣ ، مسند أحمد ١ : ٣٣١ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٣٤.

(٢) (والسياسة) ليس في أ.

(٣) علل الشرائع : ٢٢٢ ، أمالي الصدوق : ١٤٦ / ٧ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٠ / ٢٣ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٤١ / ٣٧٣١ ، مسند أحمد ٦ : ٤٣٨ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٨.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٧ / ٢ ، أمالي الصدوق : ٥٢١ / ٣ ، الخصال : ٥٥٥ ،

٣٣

معه ، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله تعالى أفضلهم عنده ، إذ كانت محبته منبئة عن الثواب دون الهوى وميل الطباع ، وإذا صح أنه أفضل خلق الله تعالى ثبت أنه كان الإمام ، لفساد تقدم المفضول على الفاضل في النبوة وخلافتها العامة في الأنام.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خيبر : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» (١) فأعطاها من بين أمته جميعا عليا عليه‌السلام ، ثم بين له من الفضيلة بما بان به من الكافة ، ولولا ذلك لاقتضى الكلام خروج الجماعة من هذه الصفات على كل حال ، وذلك محال ، أو كان التخصيص بها ضربا من الهذيان ، وذلك أيضا فاسد محال ، وإذا وجب أنه أفضل الخلق بما شرحناه ، ثبت أنه كان الإمام دون من سواه ، على ما رتبناه.

وأمثال ما ذكرناه مما يطول به (٢) التقصاص من تفضيله له عليه‌السلام على كافة أصحابه وأهل بيته ، بأفعاله به وظواهر الأقوال فيه ومعانيها المعقولة ، لمن فهم الخطاب والشهادة له بالصواب ، ومقتضى العصمة من الذنوب والآفات ، مما يدل على غناه عن الأمة ، ويكشف بذلك عن كونه

__________________

صحيح الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧٢١ ، المستدرك ٣ : ١٣٠ ، مجمع الزوائد ٧ : ١٣٨.

(١) أمالي الطوسي ١ : ٣١٣ ، إرشاد المفيد : ٣٦ ، إعلام الورى : ٩٩ ، مسند أحمد ١ : ١٨٥ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ / ٣٢ ، صحيح الترمذي ٥ : ٦٣٩ ، المناقب لابن المغازلي : ١٧٧.

مناقب الخوارزمي : ١٠٥ ، ذخائر العقبى : ٧٢ ، الرياض النضرة ٣ : ١٤٨ و ١٥١.

(٢) في أ : بذكره. والتقصاص : التتبع. أنظر المعجم الوسيط ٢ : ٧٣٩.

٣٤

إماما بالتنزيل الذي رسمناه ، وقد استقصينا القول في أعيان هذه المسائل على التفصيل والشرح والبيان في غير هذا المكان (١) ، فلا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا مع الغرض الذي أخبرنا به عنه ووصفناه.

واعلم ـ أرشدك الله تعالى ـ أن فيما رسمناه من هذه الأصول أربع مسائل ، يجب ذكرها والجواب عنها ، لتزول به شبهة أهل الخلاف :

أولها : السؤال عن وجه الدلالة من الاجماع الذي ذكرناه في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على إمامته من بعده على الفور ، دون من قام ذلك المقام ممن يعتقد الجمهور في فعله الصواب.

ثانيها : عن الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام الأفضل عند الله تعالى من الجميع ، وإن كان أفضل منهم في ظاهر الحال.

ثالثها : عن الدليل على فساد إمامة المفضول على الفاضل بحسب ما ذكرناه.

رابعها : عن حجة دعوى الاجماع في سائر ما عددناه ، مع ما يظن فيه من خلاف البكرية والعثمانية والخوارج ، وما يعتقدونه من الدفع لفضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

الجواب عن السؤال الأول : أنه إذا ثبت بالحجة القاهرة من الاجماع وجود إمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل : وثبوت إمامته على الفور ، ولم يكن على من ادعي ذلك له سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام إجماع على حال

__________________

(١) أنظر رسالته «تفضيل أمير المؤمنين على سائر الصحابة» والفصول المختارة من العيون والمحاسن ١ : ٦٤.

٣٥

من الأحوال ، لما يعرف من مذاهب شيعة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، في العباس وأبي بكر ، وتقدمه في ذلك المقام ، ونفي الإمامة عنه على كل حال ، ومذهب شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام في ما تدعيه الراوندية (١) من إمامة العباس وأنها لم تصح له في حال ، ولم يكن دليل من كتاب ولا سنة ، ولا اعتبار على إمامة المتقدم فينوب ذلك مناب الاجماع ، ثبت أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان إماما في تلك الحال ومستقبلها إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته على ما وصفناه ، وإلا خرج الحق عن الاجماع (٢) ، وبطل قول كافة الأمة فيما شهدوا به من وجود الإمام (٣) وثبوت الإمامة له على القطع والثبات ، وذلك فاسد بالنظر الصحيح والاجماع.

والجواب عن السؤال الثاني : أن الدلائل قد قامت على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينطق عن الهوى ، ولا فعل في شرعة شيئا ولا قال إلا بوحي (٤) يوحى ، وقد علمنا أن الوحي من الله جل اسمه العالم بالسر وأخفى ، وأنه جل اسمه لا يحابي خلقه ، ولا يبخس أحدا منهم حقه.

فلولا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان الأفضل عنده جل اسمه لما فرض على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله التفضيل له على الكافة ، والتنويه بفضله من بين

__________________

(١) الراوندية : هم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب ، قالوا : إن أحق الناس بالإمامة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله العباس بن عبد المطلب لأنه عمه ووارثه وعصبته. «المقالات والفرق : ١٨٠ ، فرق الشيعة : ٤٦».

(٢) (عن الاجماع) ليس في أ.

(٣) في أ : الإمامة.

(٤) في أ : شيئا وقال إن هو إلا وحي ، وفي ب ، م : شيئا إلا بوحي.

٣٦

الجماعة ، والاقرار له من التعظيم بما لم يشركه فيه غيره ، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان محابيا له وباخسا لغيره حقه ، أو غير عالم بحقيقة الأمر في مستحقه ، وذلك كله محال ، فثبت أن الفضل الذي بان به أمير المؤمنين عليه‌السلام في الظاهر من الجماعة بأفعال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله ، أدل دليل على فضله في الحقيقة ، وعند الله سبحانه على ما ذكرناه.

والجواب عن السؤال الثالث : ما قدمناه في فساد نبوة المفضول على الفاضل ، ومشاركة الإمامة للنبوة في معنى التقدم والرفعة والرئاسة وفرض الطاعة ، وبما يفسد به علو المفضول على الفاضل في الثواب ، ودلالة التعظيم الديني على منزلة المعظم في استحقاق الجزاء بالأعمال ، وثبوت علو تعظيم الإمام على الرعية في شرعية الإسلام ، وفي كل ملة ، وعند أهل كل نحلة وكتاب.

والجواب عن السؤال الرابع : أنا لا نعلم بكريا ولا عثمانيا ولا خارجيا دفع إجماع المختلفين على تسليم ما رويناه من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وعددناه ، وكيف ينكرون رواية ذلك وهم أنفسهم قد رووه ، ونقوله عن أسلافهم وتقبلوه ، وأعملوا أفكارهم في الاستخراج بوجوهه وتأولوه؟! وليس خلافهم للشيعة فيما تعلقوا به من معانيه خلافا في صحة سنده والتسليم لرواته ، كما أن اختلاف المسلمين في تأويل القرآن لا يوجب إنكارهم للتنزيل.

ومن دفع ما وصفناه من هذه الحال وجب رده إلى أصحاب

٣٧

الحديث ممن سميناه ، وإن كان الموجود في أصولهم ـ من نقلهم (١) ـ شاهدا عليهم بما ذكرناه ، على أننا لا ننكر أن يدفع المتفق عليه واحد من أهل النظر أو اثنان ، أو ألف من العامة أو ألفان ، لكنه لا يكون ذلك باتفاق الحجة قادحا فيما انعقد به الاجماع ، لوجود أمثاله فيما نعتناه.

وإنما مدار الأمر على اصطلاح (٢) معظم العلماء ، واجتماع المختلفين على التسليم عند السلامة من العصبية ، وحال السكون عن المماراة (٣) والمجادلة ، ونقل المتضادين في الآراء والاعتقادات مع العداوة في أصل الديانات والمناصبة ، ولولا أن الأمر كذلك لما ثبت إجماع (٤) على شئ من شريعة الإسلام ، لوجود المختلفين فيها على كل حال.

وها هنا منصفة بيننا وبين أهل الخلاف ، وهي أن يذكروا شيئا من فرائض الشريعة وواجبات الأحكام ، أو مدائح قوم من الصحابة ، أو تفضيلا لهم على غيرهم من الأنام ، ممن يلجؤون في صحته إلى الاجماع ، فإن لم نوجدهم خلاف فيه ، من أمثال المنكرين لما عددناه من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإلا فقد ظهرت الحجة لهم فيما ادعوه ، وهيهات.

فإن قال قائل (٥) : فإذا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الإمام بعد

__________________

(١) في أ ، ح : نقله. والمراد ظاهرا الحديث.

(٢) يقال اصطلح القوم : زال ما بينهم من خلاف واتفقوا. «المعجم الوسيط ١ : ٥٢٠».

(٣) المماراة : الجدال والنزاع. «الصحاح ـ مرا ٦ : ٢٤٩١».

(٤) في ب ، م : إجماع في.

(٥) (قائل) ليس في ب ، ح ، م.

٣٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون سائر الناس ، فعلى أي وجه تقدم عليه أبو بكر وعمر وعثمان ، وادعوا الإمامة دونه ، وأظهروا أنهم أحق بها على كل حال؟

قيل له : لقد كان ذلك على وجه الدفع له عليه‌السلام عن حقه ، والخلاف عليه في مستحقه ، وليس ذلك بمستحيل ممن ارتفعت عنه العصمة ، وإن كان في ظاهر الأمر على أحسن الصفات.

فإن قال : فكيف يجوز ذلك ممن سميناه ، وهم وجوه أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمهاجرين والسابقين إلى الإسلام؟

قيل له : أما وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان السابقين إلى الإيمان بواضح الدليل وبين البرهان فهو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أخو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووزيره وناصره ووصيه وسيد الأوصياء ، وعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء رضوان الله عليهم ، وابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعفر بن أبي طالب الطيار مع الملائكة في الجنان رضي‌الله‌عنه ، وابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه ، الذين سبقوا من سميت إلى الإيمان ، وخرجوا في مواساة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الديار والأوطان ، وأثنى الله عليهم في محكم القرآن ، وأبلوا دون أصحابه (١) في الجهاد وبارزوا الأقران ، وكافحوا الشجعان ، وقتلوا الأبطال ، وأقاموا عمود الدين وشيدوا الإسلام.

__________________

(١) في أ : أصحابك.

٣٩

ثم الطبقة التي تليهم ، كخباب (١) وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن حارثة ، ونظرائهم في الاجتهاد وحسن الأثر والبلاء والاخلاص لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السر والاعلان.

وبعد : فلو سلمنا لك دعواك لمن ادعيت الفضل لهم على ما تمنيت ، لم يمنع مما ذكرناه ، لأنه لا يوجب لهم العصمة من الضلال ، ولا يرفع عنهم جواز الغلط والسهو والنسيان ، ولا يحيل منهم تعمد العناد.

وقد رأيت ما صنع شركاؤهم في الصحبة والهجرة والسبق إلى الإسلام حين رجع الأمر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام باختيار الجمهور منهم والاجتماع (٢) ، فنكث بيعته طلحة والزبير ، وقد كانا بايعاه على الطوع والإيثار ، وطلحة نظير أبي بكر ، والزبير أجل منهما على كل حال ، وفارقه سعد بن أبي وقاص وهو أقدم إسلاما من أبي بكر ، وأشرف منه في النسب ، وأكرم منه في الحسب ، وأحسن آثارا من الثلاثة في الجهاد.

وتبعه على فراقه وخذلانه محمد بن مسلمة وهو من رؤساء الأنصار ، واقتفى آثارهم في ذلك وزاد عليها بإظهار سبه (٣) والبراءة منه حسان ، فلو كانت الصحبة مانعة من الضلال لمنعت من ذكرناه ومعاوية

__________________

(١) خباب بن الأرت التميمي ، صحابي ، من نجباء السابقين ، شهد المشاهد كلها ، ونزل الكوفة فمات سنة (٣٧) هـ. «سير أعلام النبلاء ٢ : ٣٢٣ / ٦٢. حلية الأولياء ١ : ٣٥٩ ، الإصابة ٢ : ١٠١ / ٢٢٠٦ ، رجال الشيخ الطوسي : ١٩ / ٣.

(٢) (والاجتماع) ليس في ب ، م.

(٣) في ب ، ح ، م : وزاد عليهم في سبه.

٤٠