الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٦

يستبصر به أهل الاعتبار ، وإن عدلنا عن ذكر الأكثر إيثارا للاختصار.

فأما من كان منهم يظاهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإيمان (١) ، ممن يقيم معه الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، وينفق في سبيل الله ، ويحضر الجهاد ، ويباطنه بالكفر والعدوان (٢) ، فقد نطق بذكره القرآن كما نطق بذكر من ظهر منه النفاق :

قال الله تعالى (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) (٣).

وقال جل اسمه فيهم : (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) (٤).

وقال تعالى : (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (٥).

وقال سبحانه : (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم

__________________

(١) في ب ، م : فأما من كان منهم زمن حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بظاهر الإيمان.

(٢) في ب ، م : وبباطنه الكفر والعدوان.

(٣) سورة النساء ٤ : ١٤٢.

(٤) سورة التوبة ٩ : ٥٤.

(٥) سورة التوبة ٩ : ١٠١.

٦١

ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) (١).

وقال عز وجل : (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) (٢).

وقال فيهم وقد أحاطوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجعلوا مجالسهم منه عن يمينه وشماله ، ليلبسوا بذلك على المؤمنين :

(فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) (٣).

ثم دل الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على جماعة منهم وأمره بتألفهم ، والاغضاء عمن ظاهره بالنفاق منهم ، فقال : (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) (٤).

وقال : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (٥).

وقال تعالى : (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه

__________________

(١) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ٣٠.

(٢) سورة المنافقون ٦٣ : ٤.

(٣) سورة المعارج ٧٠ : ٣٦ ـ ٣٩.

(٤) سورة التوبة ٩ : ٩٥.

(٥) سورة الأعراف ٧ : ١٩٩.

٦٢

عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) (١).

وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا ، وفي الغنائم جزءا مفروضا ، وكان من عددناه ، وتلونا فيه القرآن ، وروينا في أحواله (٢) الأخبار ، قد كانوا من جملة الصحابة (٣) ، وممن شملهم اسم الصحبة ، ويتحقق إلى الاعتزاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق بحسب ما شرحناه ، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة ، ومشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في القطع على فعل الصواب ، وهل يوجب بذلك (٤) العصمة والتأييد ، إلا بأنه مخذول مصدود (٥) عن البيان؟!

__________________

(١) سورة فصلت ٤١ : ٣٤ ، ٣٥.

(٢) في ب : أحوالهم.

(٣) في أ ، ح : العصابة.

(٤) في ب ، م زيادة : بدون.

(٥) في ب ، : الإمامة حاشا فإنه غني.

٦٣
٦٤

فصل

فإن قال قائل : لسنا ندفع أنه قد كان في وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طوائف من أهل النفاق يستترون (١) بالإسلام ، وأن منهم من كان أمره مطويا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منهم من فضحه الوحي وعرفه الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا ندفع أيضا أنه قد وقع من جماعة من الصحابة الأخيار ذلك سهوا عن الصواب ، وخطأ في الهزيمة من الذي فرض عليهم مصابرته في الجهاد ، فإن الله تعالى قد عفا عنهم بما أنزله في ذلك من القرآن.

لكنا ندفعكم عن تخطئة أهل السقيفة ، ومن اتبعهم من أهل السوابق والفضائل ، ومن قطع له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسلامة ، وحكم له بالصواب (٢) ، وأخبر عنه أنه من أهل الجنان ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه‌السلام ، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف الزهري وأبي عبيدة بن الجراح ، الذين (٣) قال

__________________

(١) في م : يستهزؤن.

(٢) في أ ، ح : بالثواب.

(٣) (وأبي عبيدة بن الجراح ، الذين) ليس في ب.

٦٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم : «عشرة من أصحابي في الجنة» (١) على ما جاء به الثابت في الأخبار ، ومن قاربهم في الفضائل ، وماثلهم في استحقاق الثواب ، فيجب أن يكون الكلام في هؤلاء القوم على الخصوص ، دون العموم في الأتباع والأصحاب.

قيل لهم : لو كان سؤالكم فيما سلف عن خاصة من عممتموه على الاطلاق ، لصدر جوابنا عنه بحسب ذلك على التمييز والإفراد ، لكنكم تعلقتم بالاسم الشامل ، فاغتررتم باستحقاق التسمية بالصحبة والاتباع على الاطلاق ، فأوضحنا لكم عن غلطكم فيما ظننتموه منه بما لا يستطاع دفعه على الوجوه كلها والأسباب.

وإذا كنتم الآن قد رغبتم عن ذلك السؤال ، واعتمدتم في المسألة عمن ذكرتموه على الخصوص دون كافة الأصحاب ، فقد سقطت أعظم أصولكم في الكلام ، وخرجت الصحبة والاتباع والمشاهدة وسماع الوحي والقرآن ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإنفاق والجهاد من إيجاب الرحمة والرضوان ، وسقط الاحتجاج في الجملة ، بالعصمة من كبائر الآثام والردة عن الإسلام بذلك ، وبما رويتموه عن (٢) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأخبار ، ولم يبق لكم فيمن تتولونه وتدينون (٣) بإمامته إلا الظن والعصبية

__________________

(١) سنن أبي داود ٤ : ٢١١ / ٤٦٤٩ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٤٨ / ٣٧٤٨ ، كنز العمال ١١ :

٦٣٨ / ٣٣١٠٥ ، و ٦٤٦ / ٣٣١٣٧ مع اختلاف.

(٢) (وسماع الوحي .. رويتموه عن) من نسخة أ.

(٣) في أ : فيما توالونه وتتقون.

٦٦

للرجال ، والتقليد في الاعتقاد ، والاعتماد على ما يجري مجرى الأسمار (١) والخرافات ، وما لا يثبت على السير والامتحان (٢) ، وسنقفكم على حقيقة ذلك فيما نورده من الكلام ، إن شاء الله تعالى.

فصل

وعلى أن الذي تلوناه في باب الأسرى ، وإخبار الله تعالى عن إرادة المشير به لعرض الدنيا ، وحكمه عليه باستحقاق تعجيل العقاب ، لولا ما رفع عن أمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، وأخره للمستحقين منهم إلى يوم المآب ، لخص أبا بكر ومن شاركه في نيته وإرادته فيه ، لأنه هو المشير في الأسرى بما أشار على الاجماع من الأمة والاتفاق ، فما عصمته السوابق والفضائل على ما ادعيتموه له من الأخبار بعاقبته ، والقطع له بالجنان ، حسبما اختلفتموه من الغلط في دين الله عز وجل ، والتعمد لمعصية الله ، وإيثار عاجل الدنيا على ثواب الله تعالى ، حتى وقع من ذلك ما أبان الله به عن سريرته ، وأخبر لأجله عن استحقاقه لعقابه ، وهو وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح في جملة من انهزم يوم أحد ، وتوجه إليهم الوعيد من الله عز وجل ، ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله

__________________

(١) أي أحاديث الليل. أنظر النهاية ٢ : ٣٩٩.

(٢) في ب : والاستحسان.

٦٧

تعالى : (إذ تصعدون ولا تلون على أحد) (١) الآية.

وكذلك كانت حاله يوم حنين ، بلا اختلاف بين نقلة الآثار ، ولم يثبت أحد منهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس ، فقال : لم نغلب اليوم من قلة. ثم كان أول المنهزمين ، ومن ولى من القوم الدبر ، فقال الله تعالى : (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) (٢) فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره ، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق.

وقد كان منه ومن صاحبه يوم خيبر ما لا يختلف فيه من أهل العلم اثنان ، وتلك أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان ، فلم يفيا لله تعالى بالعقد مع قرب العهد ، وردا راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أقبح ما يكون من الانهزام ، حتى وصفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالفرار ، وأخرجهما من محبة الله عز وجل ، ومحبة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفحوى مقاله لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو ما يدل عليه الخطاب حيث يقول : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» (٣) فأعطاها أمير المؤمنين عليه‌السلام.

هذا وقد دخل القوم كافة سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله تعالى :

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٥٣.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٢٥.

(٣) تقدم مع تخريجاته في ص ٣٤.

٦٨

(ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا) (١).

فأما ما تعلقوا به في العفو عنهم في قوله تعالى : (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) (٢) الآية ، فإنه طريف ، يدل على جهلهم ، وضعف عقولهم ، وذلك أنهم راموا بما تعلقوا به من السوابق التي زعموا لأئمتهم ، والقضايا والأخبار عن العواقب دفعا عن إضافة الظلم إليهم ، والخطأ في دفع النص على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجحد حقوقه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بما جلب عليهم إيجاب التخطئة لهم في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحكم عليهم بنقض العهود ، وارتكاب كبائر الذنوب ، وتوجه الذم إليهم من أجل ذلك والوعيد ، ثم اشتغلوا بطلب الحيل في تخليصهم من ذلك (٣) وتمحل وجوه العفو عنهم فيما لا يمكنهم دفاعه من خلافهم على الله تعالى ، وعلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بين أظهرهم ، وما كان أغناهم عن هذا التخليط والتهور لو سلكوا طريق (٤) الرشاد ، ولم تحملهم العصبية على تورطهم ، وتدخلهم في (٥) العناد!

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٥.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٥٥.

(٣) (من ذلك) ليس في ب ، م.

(٤) في أ : طرق.

(٥) في أ : ويدخلهم فيه.

٦٩

وبعد : فإن العفو من الله سبحانه قد يكون عن العاجل من العقاب ، وقد يكون عن الآجل من العذاب ، وقد يكون عنهما جميعا إذا شاء ، وليس في الآية أنه عفا عنهم على كل حال ، ولا أنه يعفو عنهم في يوم المآب ، بل ظاهرها يدل على الماضي دون المستقبل ، ويؤيده قوله تعالى : (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا) (١).

فقد ثبت أنه لا يكون العفو في كل حال ، وإن عفا فقد عفا عن السؤال ، فإذن لا بد أن يكون معنى العفو على ما قلناه في الدنيا عن العاجل دون الآجل ، كما عفا سبحانه عنهم في يوم بدر ، لما كان منهم من الرأي في الأسرى ، وقد أخبر أنه لولا ما سبق في كتابه ، من دفع العقاب عن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وترك معاجلتهم بالنقمات ، لمسهم منه جل جلاله عذاب عظيم ، أو يكون العفو عن خاص من القوم دون العموم ، وإلا لتناقض (٢) القرآن.

وعلى أي الوجهين ثبت العفو عن المذكورين ، فقد خرج الأمر عن يد خصومنا في براءة ساحة من يذهبون إلى إمامته وتعظيمه والولاية له (٣) لأنه لا تتميز الدعوى إلا بدليل ، ولا دليل للقوم إلا ما تلوناه في العفو ، وذلك غير موجب بنفسه التغيير والتمييز بخروجه عن

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٥.

(٢) في أ : تناقض.

(٣) (وتعظيمه والولاية له) ليس في ب.

٧٠

الاستيعاب ، وعن الوقوع على كل حال.

على أنا لو سلمنا لهم العفو عنهم على ما تمنوه ، لما أوجب ذلك لهم العفو عما اكتسبوه من بعد من الذنوب ، ولا دل (١) على عصمتهم فيما يستقبل من الأوقات ، ولا خروجهم عن العمد في المعاصي والشبهات ، فأين وجه الحجة لهم فيما اعتمدوه لولا ضعف الرأي واليقين؟!

فأما ما ادعوه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «عشرة من أصحابي في الجنة» (٢) ثم سموا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تقدم ذكره فيما حكيناه ، فإنه ساقط من غير وجه :

أحدها : أن الذي رواه فيما زعموا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سعيد بن زيد ابن نفيل ، وهو أحد العشرة بما تضمنه لفظ الحديث على شرحهم إياه ، وقد ثبت أن من زكى غيره بتزكية نفسه لم تثبت تزكيته لذلك في شريعة الإسلام ، ومن شهد لغيره بشهادة له فيها نصيب لم تقبل شهادته باتفاق.

ومنها : أن سعيدا واحد ، ورواية الواحد لا يقطع بها على الحق عند الله سبحانه.

ومها : أن دليل العقل يمنع من القطع بالجنة والأمان من النار لمن تجوز منه مواقعة قبائح الأعمال ، ومن ليس بمعصوم من الزلل والضلال ، لأنه متى قطع له بما ذكرناه ، وهو من العصمة خارج بما

__________________

(١) في أ : ولا دليل.

(٢) تقدمت مصادر الحديث ص ٦٦.

٧١

وصفناه ، كان مغرى بمواقعة الذنوب والسيئات ، مرحا في ارتكاب ما تدعوه إليه الطبائع والشهوات ، لأنه يكون آمنا من العذاب ، مطمئنا إلى ما أخبر به من حسن عاقبته ، وقطع له به من الثواب في الجنات ، وذلك فاسد لا يجوز على الحكيم سبحانه ، ولا يصح منه تدبير العباد.

وإذا وجب ما ذكرناه ، وكانت الأمة مجمعة على ارتفاع العصمة عمن ضمن الخبر أسماءهم ، سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لما تذهب إليه الشيعة من عصمته ، ومفارقته للجماعة في التوفيق للصواب ، ثبت أن الحديث باطل مختلق ، مضاف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فصل

على أنه يقال لهم لو كان الخبر كما زعمتم صحيحا ، وكان الاتفاق عليه من الجماعة ما تدعون واقعا ، لكان الأمان من عذاب الله لأبي بكر وعمر وعثمان به حاصلا ، وكان الذم عنهم في حقيقة ذلك زائلا ، ولو كان الأمر كذلك لما جزع القوم عند احتضارهم من لقاء الله تعالى ، ولا اضطربوا من قدومهم على أعمالهم ، مع اعتقادهم أنها مرضية لله سبحانه ، ولا شكوا بالظفر في ثواب الله عز وجل.

ولجروا في الطمأنينة لعفو الله تعالى ، لثقتهم بخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مجرى أمير المؤمنين عليه‌السلام في التضرع إلى الله عز وجل في حياته أن يقبضه الله تعالى إليه ، ويعجل له السعادة بما وعده من الشهادة ، وعند احتضاره أظهر من سروره بقرب لقائه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستبشاره بالقدوم

٧٢

على الله عز وجل ، لمعرفته بمكانه منه ، ومحله من ثوابه ، وقد سبق من كلام الصالحين أن من أطاع الله أحب لقاءه ، ومن عصاه كره لقاءه.

والخبر الظاهر أن أبا بكر جعل يدعو بالويل والثبور عند احتضاره ، وأن عمر تمنى أن يكون ترابا عند وفاته ، وود لو أن أمه لم تلده ، وأنه نجا من أعماله كفافا ، لا له ولا عليه ، وما ظهر من جزع عثمان ابن عفان عند حصر القوم له ، وتيقنه بهلاكه ، دليل على أن القوم لم يعرفوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تضمنه الخبر من استحقاقهم الجنة على كل حال ، ولا أمنوا من عذاب الله سبحانه لقبيح ما وقع منهم الأعمال.

وبعد : فكيف ذهب عن عثمان بن عفان الاحتجاج بهذا الخبر ـ إن كان حقا ـ على حاصريه في يوم الدار ، وما الذي منعه من الاحتجاج به عليهم في استحلال دمه ، وقد ثبت في الشرع حظر دماء أهل الجنان ، وما باله تعلق في دفعهم عن نفسه بكل ما وجد إليه السبيل من الاحتجاج ، ولم يذكر هذا الخبر في جملة ما اعتمده في هذا المقال؟! كلا لو كان الأمر على ما ظنه الجهال من صحة هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو روايته في وقت عثمان ، لما ذهب عليه التعلق به على ما بيناه.

مع أنا لو سلمنا لهم ما يتمنونه من ثبوت الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما أمكنهم به دفع ما ذكرناه من إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجحد القوم لفرض طاعته على الشبهة والعناد ، لأنهم قد علموا ما جرى بين أمير

٧٣

المؤمنين عليه‌السلام وبين طلحة والزبير من المباينة في الدين ، والتخطئة من بعضهم لبعض والتضليل والحرب ، وسفك الدم على الاستحلال به دون التحريم ، وخروج الجميع من الدنيا على ظاهر التدين بذلك ، دون الرجوع عنه بما يوجب العلم واليقين.

فإن كان ما وقع من الفريقين صوابا ـ مع ما ذكر ناه ـ لم ينكر أن يعتقد أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه الإمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل ، ويرى أبو بكر وعمر وعثمان خلاف ذلك ، وكونهم على صواب.

وإن كان أحد الفريقين على خطأ ، لم ينكر أيضا أن يكون المتقدمون على المؤمنين عليه‌السلام في النص وإنكاره على خلاف الصواب ، وإن كانوا جميعا من أهل الثواب (١).

وإن كان الفريقان في حرب البصرة على ضلال ، وذلك لا يضرهما في استحقاق النعيم والأمان من الجحيم ، كان المتقدمون في الإمامة ودفعها على خطأ ، وإن كانوا من أهل النعيم ، ولم يضر ذلك بأمانهم (٢) من عذاب السعير ، وهذا أقرب لأنه جرى ما جرى من أهل البصرة ، وفي ذلك زيادة عليه بالحرب وسفك الدماء ، وإظهار البراءة والتفسيق.

وإن زعم مخالفونا أن المحق من الفريقين أمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) في أ : الصواب.

(٢) تحرفت في النسخ إلى : بإمامتهم.

٧٤

وأصحابه دون من خالفهم ، غير أن المخالفين تابوا قبل خروجهم من الدنيا فيما بينهم وبين الله عز وجل ، بدلالة الخبر وما تضمنه من استحقاقهم لثواب الله تعالى على التحقيق.

فكذلك يقال لهم : إن المتقدمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام كانوا بذلك ضالين ، ولكنهم تابوا قبل خروجهم من الدنيا في سرائر هم وفيما بينهم وبين خالقهم ، وإن لم يكن ذلك منهم على الظهور ، بدلالة الخبر على ما رتبوه ، وهذا يدمر معتمدهم فيما تعلقوا به من الحديث في دفع النص على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام لتقدم من سموه ، وزعموا أنه (١) من أهل الجنة ، ولا يجوز لهم دفع الحق على كل الوجوه ، والله الموفق.

__________________

(١) في ب ، م : أنهم.

٧٥
٧٦

فصل

فإن قال قائل : فإني أترك التعلق بالخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن القوم في الجنة لما طعنتم به فيه ، مما لا أجد منه مخلصا ، ولكن خبروني عن قوله تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) (١).

أليس قد أوجب لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد جنات عدن ، ومنع بذلك من تجويز الخطأ عليهم في الدين والزلل عن الطريق المستقيم ، فكيف يصح القول مع ذلك بأن الإمامة كانت دونهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام وأنهم دفعوه بالتقدم عليه عن حق وجب له على اليقين ، وهل هذا إلا متناقض؟!

قيل له : إن الله سبحانه لا يعد أحدا بالثواب إلا على شرط الاخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه ، وأجل من أن يعري

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠٠.

٧٧

ظاهر اللفظ بالوعد عن الشروط ، لما في العقل من الدليل على ذلك والبرهان.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، فالحاجة ماسة إلى ثبوت أفعال من ذكرت في السبق والطاعة لله تعالى في امتثال أوامره ظاهرا على وجه الاخلاص ، ثم الموافاة بها على ما ذكرناه حتى يتحقق لهم الوعد بالرضوان والنعيم المقيم وهذا لم يقم عليه دليل ، ولا تثبت لمن ذكرت حجة توجب العلم واليقين ، فلا معنى للتعلق بظاهر الآية فيه ، مع أن الوعد من الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، دون أن يكون متوجها إلى التالين الأولين.

والذين سميتهم من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن ضممت إليهم في الذكر ، لم يكونوا من الأولين في السبق ، وإنما كانوا من التالين للأولين ، والتالين للتالين.

والسابقون الأولون من المهاجرين ، هم : أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجعفر بن أبي طالب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وخباب ، وزيد بن حارثة ، وعمار وطبقتهم.

ومن الأنصار النقباء المعروفون (١) ، كأبي أيوب ، وسعد بن معاذ ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، ومن كان في طبقتهم من الأنصار.

__________________

(١) في أ : المقربون.

٧٨

فأما أصحابك فهم الطبقة الثانية ممن ذكرناه ، والوعد إنما حصل للمتقدمين في الإيمان دونهم على ما بيناه ، وهذا يسقط ما توهمت.

فصل

ثم يقال له : قد وعد الله المؤمنين والمؤمنات في الجملة مثل وعد به السابقين من المهاجرين والأنصار ، ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن كل من استحق اسم الإيمان ، ولا إيجاب العصمة له من الضلال ، ولا القطع له بالجنة على كل حال.

قال الله عز وجل : (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) (١).

فإن وجب للمتقدمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام الثواب على كل حال ، لاستحقاقهم الوصف بأنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على ما ادعيت لهم في المقال ، فإنه يجب مثل ذلك لكل من استحق اسم الإيمان في حال من الأحوال ، بما تلوناه ، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإسلام.

ويقال له أيضا : قد وعد الله الصادقين مثل ذلك ، فقطع لهم بالمغفرة والرضوان ، فقال سبحانه : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٧٢.

٧٩

ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) (١).

فهل يجب لذلك أن يقطع على كل من صدق في مقاله بالعصمة من الضلال ، ويوجب له الثواب المقيم ، وإن ضم إلى فعله قبائح الأفعال؟!

فإن قال : نعم. خرج عن ملة الإسلام ، وإن قال : لا يجب ذلك لعلة من العلل. قيل له في آية السابقين مثل ما قال ، فإنه لا يجد فرقا.

ويقال له أيضا : ما تصنع في قول الله تعالى : (وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) (٢)؟!

أتقول أن كل من صبر (٣) على مصاب فاسترجع مقطوع له بالعصمة والأمان من العذاب ، وإن كان مخالفا لك في الاعتقاد ، بل مخالفا للإسلام؟!

فإن قال : نعم ظهر خزيه ، وإن قال : لا يجب ذلك. وذهب في الآية إلى الخصوص دون الاشتراط ، سقط معتمده من عموم آية السابقين ، ولم يبق معه ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليه في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وخطأ المتقدمين عليه حسب ما ذكرناه.

وهذا باب إن بسطنا القول فيه ، واستوفينا الكلام في معانيه ،

__________________

(١) المائدة ٥ : ١١٩.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٧.

(٣) في ب : أتقول إن كان من خبر.

٨٠