الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٦

التأويل دون العناد ، فلهذا افترق الأمران.

قيل لهم : انفصلوا (١) ممن قلب القصة عليكم ، فحكم على محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام في حروبه ، واستحلال دماء المؤمنين من أصحابه ، ومنعه الزكاة وإنكار حقوقه بالعناد ، وحكم على مانعي أبي بكر الزكاة بالشبهة والغلط في التأويل ، وهذا أولى بالحق والصواب ، لأن أهل اليمامة لم يجحدوا فرض الزكاة ، وأنما أنكروا فرض حملها إلى أبي بكر ، وقالوا :

نحن نأخذها من أغنيائنا ، ونضعها في فقرائنا ، ولا نوجب على أنفسنا حملها إلى من لم يفترض له ذلك علينا بسنة ولا كتاب.

ولم نجد لمحاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام حجة في خلافه واستحلال قتاله ولا شبهة أكثر من أنهم نكثوا بيعته فقد أعطوه إياها من أنفسهم بالاختيار ، وادعوا بالعناد أنهم أجابوا إليها بالاضطرار ، وقرفوه (٢) بقتل عثمان وهم يعلمون اعتزاله فتنة عثمان ، وطالبوه بتسليم قتلته إليهم وليس لهم في الأرض سلطان ، ولا يجوز تسليم القوم إليهم على الوجوه كلها والأسباب ، ودعاه المارقون منهم إلى تحكيم الكتاب ، فلما أجابهم إليه زعموا أنه قد كفر بإجابتهم إلى الحكم بالقرآن ، وهذا ما لا يخفى العناد من جماعتهم فيه على أحد من ذوي الألباب.

__________________

(١) في ب ، م : انقضوا.

(٢) قرفه : اتهمه. «الصحاح ـ قرف ـ ٤ : ١٤١٥».

١٢١

فصل

فإن قالوا : فإذا كان محاربو أمير المؤمنين عليه‌السلام كفارا عندكم بحربه ، مرتكبي العناد في خلافه ، فما باله عليه‌السلام لم يسر فيهم بسيرة الكفار فيجهز على جرحاهم ، ويتبع مدبرهم ، ويغنم جميع أموالهم ، ويسبي نساء هم وذراريهم ، وما أنكرتم أن يكون عدوله عن ذلك في حكمهم يمنع من صحة القول عليهم بالإكفار؟

قيل لهم : إن الذي وصفتموه في حكم الكفار إنما هو شئ يختص بمحاربي المشركين ، ولم يوجد في حكم الاجماع والسنة فيمن سواهم من سائر الكفار ، فلا يجب أن يعدى منهم إلى غيرهم بالقياس ، ألا ترون أن أحكام الكافرين تختلف ، فمنهم من يجب قتله على كل حال ، ومنهم من يجب قتله بعد الامهال ، ومنهم الجزية ويحقن دمه بها ولا يستباح ، ومنهم من لا يحل دمه ولا تؤخذ منه الجزية على حال ، ومنهم من يحل نكاحه ومنهم من يحرم بالإجماع ، فكيف يجب اتفاق الأحكام من الكافرين على ما أوجبتموه فيمن سميناه ، إذا كانوا كفارا ، وهي على ما بيناه في دين الإسلام من الاختلاف؟!

فصل

ثم يقال لهم : خبرونا هل تجدون في السنة أو الكتاب أو الاجماع الحكم (١) في طائفة من الفساق بقتل المقبلين منهم وترك المدبرين ، وحظر

__________________

(١) (الحكم) ليس في ب ، م.

١٢٢

الإجهاز على جرحى المقاتلين وغنيمة ما حوي عسكرهم دون ما سواه من أمتعتهم وأموالهم أجمعين؟

فإن ادعوا معرفة ذلك ووجوده طولبوا بتعيينه فيمن عدا البغاة من محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنهم يعجزون عن ذلك ، ولا يستطيعون إلى إثباته سبيلا.

وإن قالوا : إن ذلك ، وإن كان غير موجود في طائفة من الفاسقين ، فحكم أمير المؤمنين عليه‌السلام به في البغاة دليل على أنه في السنة أو الكتاب (١) ، وإن لم يعرف وجه التعيين.

قيل لهم : ما أنكرتم أن يكون حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام في البغاة ممن سميتموه دليلا على أنه حكم الله تعالى قي طائفة من الكافرين موجود في السنة والكتاب ، وإن لم يعرف الجمهور الوجه في ذلك على التعيين ، فلا يجب أن يخرج القوم من الكفر لتخصيصهم من الحكم بخلاف ما حكم الله تعالى به فيمن سواهم من الكافرين ، كما لا يجب خروجهم من الفسق بتخصيصهم من الحكم بخلاف ما حكم الله تعالى به فيمن سواهم من (٢) الفاسقين ، وهذا ما لا فصل فيه.

فصل

على أن أكثر المعتزلة يقطعون بكفر المشبهة والمجبرة ، ولا

__________________

(١) في ب : في السنة والكتاب.

(٢) (الكافرين كما .. سواهم من) ليس في أ ، ب ، م.

١٢٣

يخرجونهم بكفرهم عن الملة ، ويرون (١) الصلاة على أمواتهم ، ودفنهم في مقابر المسلمين ، وموارثتهم ، ومنهم من يرى مناكحتهم ، ولا يلحقونهم بغيرهم من الكفار في أحكامهم المضادة لما وصفناه ، ولا يلزمون أنفسهم مناقضة في ذلك.

وأبو هاشم الجبائي (٢) خاصة يقطع بكفر من ترك الكفر وأقام على قبيح أو حسن يعتقد قبحه ، ولا يجري عليه شيئا من أحكام الكافرين من قتل ، أو أخذ جزية ، أو منع من موارثة ، أو دفن في مقابر المسلمين ، أو صلاة عليه بعد أن يكون مظهر للشهادتين ، والاقرار بجميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الاجمال ، وهذا يمنعه فيمن تقدم ذكره من المعتزلة وأصحابهم من المطالبة في محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام بما سلف حكايته عن الخصوم ، ولا يسوغ لهم الاعتماد بذكر الإسلام من الأذى (٣).

فصل

فإن قالوا : كيف يصح لكم إكفار أهل البصرة والشام وقد سئل

__________________

(١) في أ : بكفرهم عن المسألة ، وترك.

(٢) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، أبو هاشم ، من كبار المعتزلة ، عالم بالكلام ، له آراء انفرد بها عنهم ، وله مصنفات في الاعتزال ، ولد ببغداد ، وتوفي بها في سنة ٣٢١ هـ. أنظر «تاريخ بغداد ١١ : ٥٥ / ٥٧٣٥ ، وفيات الأعيان ٣ : ١٨٣ / ٣٨٣ ، سير أعلام النبلاء ١٥ : ٦٣ / ٣٢».

(٣) (ولا يسوغ .. الأذى) ليس في ب ، ح ، م.

١٢٤

أمير المؤمنين عليه‌السلام عنهم ، فقال : «إخواننا بغوا علينا» (١) ، ولم ينف عنهم الإيمان ، ولا حكم عليهم بالشرك والإكفار؟!

قيل لهم : هذا خبر شاذ ، لم يأت به التواتر من الأخبار ، ولا أجمع على صحته رواة الآثار ، وقد قابله ما هو أشهر منه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأكثر نقلة ، وأوضح طريقا في الإسناد ، وهو أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام بالبصرة ، والناس مصطفون للحرب ، فقال له : علام نقاتل هؤلاء القوم ـ يا أمير المؤمنين ـ ونستحل دماءهم وهم يشهدون شهادتنا ، ويصلون إلى قبلتنا؟

فتلا عليه‌السلام هذه الآية ، رافعا بها صوته : (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) (٢).

فقال الرجل حين سمع ذلك : كفار ، ورب الكعبة. وكسر جفن سيفه ولم يزل يقاتل حتى قتل (٣).

وتظاهر الخبر عنه عليه‌السلام أنه قال يوم البصرة : «والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم : (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل

__________________

(١) تقدم مع تخريجاته في ص ١١٨.

(٢) سورة التوبة : ٩ : ١٢.

(٣) الاحتجاج : ١٦٩ ـ ١٧٠.

١٢٥

الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (١).

وجاء مثل ذلك عن عمار وحذيفة رحمة الله عليهما (٢) ، وغيرهما من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالأمر في اجتماع أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام على إكفار عثمان والطالبين بدمه وأهل النهروان أظهر من أن يحتاج فيه إلى شرح وبيان ، وعنه أخذت الخوارج مذهبها الموجود في أخلافها اليوم من الإكفار لعثمان بن عفان وأهل البصرة والشام ، وإن كانت الشبهة دخلت عليهم في سيرته عليه‌السلام فيهم ، وما استعمله من الأحكام حتى ناظره أسلافهم عند مفارقتهم له فحججهم (٣) بما قد تواترت به الأخبار.

فصل

على أنا لو سلمنا لهم الحديث في وصفهم بالإخوة له عليه‌السلام ، لما منع من كفرهم ، كما لم يمنع من بغيهم ، ولم يضاد ضلالهم باتفاق مخالفينا ، ولا فسقهم عن الدين واستحقاقهم اللعنة والاستخفاف والإهانة وسلب اسم الإيمان عنهم والإسلام ، والقطع عليهم بالخلود في الجحيم.

__________________

(١) أمالي الطوسي ١ : ١٣٠ ، تفسير العياشي ٢ : ٧٩ / ٢٧ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ١٤٨ ، شواهد التنزيل ١ : ٢٠٩ / ٢٨٠ و ٢٨١ ، والآية من سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٢) تفسير التبيان ٣ : ٥٥٥ ، مجمع البيان ٣ : ٣٢١ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ١٤٨.

(٣) في م : في حبهم.

١٢٦

قال الله تعالى : (وإلى عاد أخاهم هودا) (١) ، فأضافه إليهم بالإخوة وهو نبي الله وهم كفار بالله عز وجل.

وقال تعالى : (وإلى ثمود أخاهم صالحا) (٢).

وقال : (وإلى مدين أخاهم شعيبا) (٣) ولم يناف ذلك كفرهم ، ولا ضاد ظلالهم وشركهم ، فأحرى أن لا يضاد تسمية أمير المؤمنين عليه‌السلام محاربيه بالإخوة مع كفرهم بحربه ، وضلالهم عن الدين بخلافه ، وهذا بين لا إشكال فيه.

فصل

ومما يدل على كفر محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام علمنا بإظهارهم التدين بحربه ، والاستحلال لدمه ودماء المؤمنين من ولده وعترته وأصحابه ، وقد ثبت أن استحلال دماء المؤمنين أعظم عند الله من استحلال (٤) جرعة خمر ، لتعاظم المستحق (٥) عليه من العقاب بالاتفاق.

وإذا كانت الأمة مجمعة على إكفار مستحل الخمر ، وإن شهد الشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، فوجب القطع على كفر مستحل

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ٦٥ ، سورة هود ١١ : ٥٠.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٧٣ ، سورة هود ١١ : ٦١.

(٣) سورة الأعرف ٧ : ٨٥ ، سورة هود ١١ : ٨٤.

(٤) في أ زيادة : شرب.

(٥) في ب : المستحل.

١٢٧

دماء المؤمنين ، لأنه أكبر (١) من ذلك وأعظم في العصيان بما ذكرناه ، وإذا ثبت ذلك صح الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما وصفناه.

دليل آخر : ويدل على ذلك أيضا ما تواترت به الأخبار من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : «حربك ـ يا علي ـ حربي ، وسلمك سلمي» (٢).

وقد ثبت أنه لم يرد بذلك الخبر عن كون حرب أمير المؤمنين عليه‌السلام حربه على الحقيقة ، وإنما أراد التشبيه في الحكم دون ما عداه ، وإلا كان الكلام لغوا ظاهر الفساد ، وإذا كان حكم حربه عليه‌السلام كحكم حرب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجب إكفار محاربيه ، كما يجب بالإجماع إكفار محاربي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

دليل آخر : وهو أيضا ما أجمع على نقله حملة الآثار من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من آذى عليا فقد آذاني ، ومن آذاني ، فقد آذى الله تعالى» (٣) ولا خلاف بين أهل الإسلام أن المؤذي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحرب والسب والقصد له بالأذى والتعمد لذلك كافر ، خارج عن ملة الإسلام ، فإذا ثبت ذلك وجب الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام بما أوجبه

__________________

(١) في أ : أكثر ، وفي ب ، م : أكفر.

(٢) أمالي الطوسي ١ : ٣٧٤ ، تفسير فرات : ١٨١ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٢١٧ ، مناقب الخوارزمي : ٧٦ ، مناقب ابن المغازلي : ٥٠ / ٧٣ ، الفصول المختارة : ١٩٧.

(٣) الرياض النضرة ٣ : ١٢٢ ، ذخائر العقبى : ٦٥ ، الجامع الصغير للسيوطي : ١٢٢ ، ينابيع المودة : ٢٠٥ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٢١١.

١٢٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك بما بيناه.

دليل آخر : وهو أيضا ما انتشرت به الأخبار ، وتلقاه العلماء بالقبول عن رواة الآثار ، من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه».

وقد ثبت أن من عادى الله تعالى وعصاه على وجه المعاداة فهو كافر خارج عن الإيمان ، فإذا ثبت أن الله تعالى لا يعادي أولياءه وإنما يعادي أعداءه ، وصح أنه تعالى معاد لمحاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام لعداوتهم له ، بما ذكرناه من حصول العلم بتدينهم بحربه عليه‌السلام بما ثبت به عداوة محاربي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويزول معه الارتياب ، وجب إكفارهم على ما قدمناه.

وقد استقصيت الكلام في هذا الباب في كتابي المعروف بـ (المسألة الكافئة) (٢) وفيما أثبته منه هاهنا كفاية ، إن شاء الله.

فصل

ثم يقال للمعتزلة ومن وافقهم في إنكار إمامة معاوية بن أبي

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٤٦٠ / ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٧ / ١٨٣ و ٥٩ / ٢٢٧ ، مشكل الآثار ٢ : ٣٠٧ ، مسند أحمد ١ : ٨٨ و ٤ : ٣٧٠ ، أخبار أصفهان ٢ : ٢٢٧ ، تاريخ بغداد ١٤ / ٢٣٦ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١١٠.

(٢) ذكر هذا الكتاب تلميذاه النجاشي والطوسي وسمياه «المسألة الكافئة في إبطال توبة الخاطئة». أنظر رجال النجاشي : ٣٩٩ ، فهرست الطوسي : ١٥٨.

١٢٩

سفيان وبني أمية من عقلاء أصحاب الحديث : ما الفرق بينكم فيما تأولتم به الآية ، وأوجبتم به منها طاعة أبي بكر وعمر ، وبين الحشوية فيما أوجبوا به منها طاعة معاوية وبني أمية وجعلوه حجة لهم على إمامتهم ، وعموا بالمعني بها أبا بكر وعمر وعثمان ومن ذكرناه.

وذلك أن أكثر فتوح الشام وبلاد المغرب والبحرين والروم وخراسان كانت على يد معاوية بن أبي سفيان وأمرائه كعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة ومعاوية بن حديج وغير من ذكرناه ، ومن بعدهم على أيدي بني أمية وأمرائهم بلا اختلاف.

فإن جروا (١) على ذلك خرجوا عن أصولهم ، وزعموا أن الله سبحانه أوجب طاعة الفاسقين ، وأمر باتباع الظالمين ، ونص على إمامة المجرمين ، وإن امتنعوا منه لعلة من العلل مع ما وصفناه من قتالهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوم كفار أولي بأس شديد منعوا من ذلك في الرجلين بمثلها ، فلا يجدون فصلا مع ما يلحق مقالتهم من الخلل والتناقض بالتخصيص على التحكم دون الحجة والبيان ، ومن الله نسأل التوفيق.

__________________

(١) في ب ، ح ، أ : أقروا.

١٣٠

فصل

فإن قال : قد قطعتم عذري في الجواب عما تعلق به خصماؤكم من تأويل هذه الآية ، وأزلتم ـ بحمد الله ـ ما اشتبه علي من مقالهم فيها ، ولكن كيف يمكنكم تأويل قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (١).

وقد علمتم أنه لم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا أبو بكر ، فوجب أن يكون إماما وليا لله تعالى بما ضمنه التنزيل ، وهذا ما لا نرى لكم عنه محيصا؟!

قيل له : قد بينا فيما سلف وجه التأويل لهذه الآية ، وذكرنا (٢) عن خيار الصحابة أنها نزلت في أهل البصرة ، بما رويناه عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وقد جاءت الأخبار بمثل ذلك عن أمير

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٢) تقدم البحث حوله مع التخريجات في ص ١٢٥ و ١٢٦.

١٣١

المؤمنين عليه‌السلام ، ووردت بمعناه عن عبد الله بن مسعود ، ودللنا أيضا على كفر محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام بما لا يخفى الصواب فيه على ذوي الإنصاف ، وذلك موجب لردتهم عن الدين الذي دعا الله تعالى إليه العباد ، فبطل صرف تأويلها عن هذا الوجه إلى ما سواه.

فصل

مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنه المعني بالمدحة فيها ، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه.

وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه ، وعرفها كافة عباده ، بما يوجب لهم العلم بحقائقها ، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين عليه‌السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد :

فأولها : وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله.

وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذا الوصف من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» (١) فأعطاها عليا عليه‌السلام ، ولم

__________________

(١) تقدم مع تخريجاته في ص ٣٤.

١٣٢

يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الأحوال ، بل مجئ هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه‌السلام بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام ، واتباعه بوصف الكرار دون الفرار ، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر ، وألزمهما ذم الفرار.

وثانيها : وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين ، حيث يقول جل اسمه : (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (١).

وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين ، ونكايته في المشركين ، وغلظته على الفاسقين ، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين ، ورأفته بالمؤمنين ، ورحمته للصالحين.

ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية ، أو الظن دون اليقين ، لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام ، ولا بارز قرنا ، ولم ير له (٢) موقف عني فيه بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، ولا نازل بطلا ، ولا سفك بيده لأحد المشركين دما ، ولا كان له فيهم جريح ، ولم يزل من قتالهم هاربا ، ومن حربهم ناكلا ، وكان على المؤمنين غليظا ، ولم يكن بهم رحيما.

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٥٤. ـ

(٢) (بارز .. له) ليس في أ ، ب ، م.

(٣) في ب ، زيادة : ولا بارز قرنا.

١٣٣

ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليها‌السلام وما أدخله من الذل على ولدها ، وما صنع بشيعتها (١) ، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعامله على الصدقات ، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم (٢) ، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين.

فثبت أنه كان من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين.

ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية (٣) من الذكر الحكيم ينعت (٤) أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة ، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالانفراد بها من العالمين.

فقال جل اسمه : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (٥).

فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام بدلالة متضمنها ، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه ، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لأبي

__________________

(١) للتوسع في هذا البحث راجع الشافي ٤ : ٥٧ ـ ١٢٣ ، تقريب المعارف : ١٦٣ ـ ١٦٨ ، الصراط المستقيم ٢ : ٢٨٢ ـ ٣٠٢ ، نهج الحق : ٢٦٥ ـ ٢٧٢.

(٢) في أ : الذميم.

(٣) في ب ، ح ، م : ثم خرج به جل اسمه بما وصله في الآية.

(٤) في ب ، ح ، م : حازه بدل (بنعت).

(٥) سورة المائدة ٥ : ٥٥ : ٥٦.

١٣٤

بكر على ما بيناه.

فصل

ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه‌السلام لهم من بعده ، حيث جاءه سهيل بن عمرو (١) في جماعة منهم ، فقالوا : يا محمد ، إن أرقاءنا لحقوا بك فأرددهم علينا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لتنتهن ـ يا معشر قريش ـ أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضر بكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله».

فقال له بعض أصحابه : من هو ـ يا رسول الله ـ أبو بكر؟!

فقال : «لا» فقال : فعمر؟! فقال : «لا ، ولكنه خاصف النعل في الحجرة» وكان علي عليه‌السلام يخصف نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحجرة (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين» (٣)

__________________

(١) سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، القرشي العامري من لؤي ، خطيب قريش وأحد ساداتها في الجاهلية ، أسلم يوم الفتح بمكة ، وهو الذي تولى أمر الصلح بالحديبية. توفي بالشام في ١٨ هـ. «سير أعلام النبلاء ١ : ١٩٤ / ٢٥ ، الجرح والتعديل ٤ : ٢٤٥ / ١٠٥٨ ، صفوة الصفوة ١ : ٧٣١ / ١١٢ ، الإصابة ٣ : ١٤٦ / ٣٥٦٦».

(٢) إرشاد المفيد : ٦٤ ، صحيح الترمذي ٥ : ٦٣٤ / ٣٧٥١ ، مستدرك الحاكم ٢ : ١٢٥ و ١٣٧ ، مسند أحمد ٣ : ٨٢ ، مناقب ابن المغازلي : ٤٣٨ ـ ٤٤٠ ، دلائل النبوة للبيهقي ٦ : ٤٣٥.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٩ ، أسد الغابة ٤ : ٣٣ ، تاريخ بغداد ١٣ : ١٨٧ ، مجمع الزوائد ٦ : ٢٣٥ ، مناقب الخوارزمي : ١٢٢ و ١٢٥ ، الطرائف : ١٠٤ / ١٥٤ ، فرائد السمطين ١ : ٢٨٢ / ٢٢١.

١٣٥

وقول الله عز وجل : (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) (١).

وهي في قراءة عبد الله بن مسعود : منهم بعلي منتقمون (٢) وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل (٣).

وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما ذكرناه ، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه‌السلام خاصة على ما بيناه.

وقد صح أنه المراد بقوله تعالى : (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) (٤) على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه ، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه.

فصل

على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية ، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها ، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا ، لم نجد في (٥) ذلك أكثر من الأخبار

__________________

(١) سورة الزخرف ٤٣ : ٤١.

(٢) (وهي في .. منتقمون) ليس في ب ، ح.

(٣) أنظر الفرودس ٣ : ١٥٤ / ٤٤١٧ ، شواهد التنزيل ج ٢ : ١٥١ ـ ١٥٥ ، الدر المنثور ٧ : ٣٨٠.

(٤) سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٥) في أ ، ب ، م : نفي.

١٣٦

بوجود بدل من (١) المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين ، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال ، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال.

ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له ، وقال لهم : يا هؤلاء ، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني ، ويجاهد معي على الاخلاص في النصحية لي ، ولا يخالف أمري.

لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته ، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم ، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم ، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع ، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه.

وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه ، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه ، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا ، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك ، ورجع بالخيبة حسيرا ، ومن الله نسأل التوفيق.

__________________

(١) في أ ، ب ، م : بوجوده يدل على. وزاد عليها في ب ، م : أن.

١٣٧
١٣٨

فصل

فإن قال : أفليس الله تعالى يقول في سورة الفتح : (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه) (١).

وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورؤساء من كان معه ، وإذا كانوا كذلك فهم أحق الخلق بما تضمنه القرآن من وصف أهل الإيمان ، ومدحهم بالظاهر من البيان ، وذلك مانع من الحكم عليهم بالخطأ والعصيان (٢)؟!

قيل لهم : إن أول ما نقول في هذا الباب أن أبا بكر وعمر وعثمان ومن تضيفه (٣) الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٢) في ب ، ح ، م : النسيان.

(٣) في أ : يصفه ، وفي ب ، م : تضفه.

١٣٩

أبو هريرة وأبو الدرداء ، بل لا يتخصصون بشئ لا يعم عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وأبا الأعور السلمي ويزيد و (١) معاوية بن أبي سفيان ، بل لا يختصون منه بشئ دون أبي سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليد بن عقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس ، لأن كل شئ أوجب دخول من سميتهم في مدحة القرآن ، فهو موجب دخول من سميناه ، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة (٢) وفلان وفلان.

إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن كان معه ، ولأكثرهم من النصرة للإسلام والجهاد بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والآثار الجميلة والمقامات المحمودة ما ليس لأبي بكر وعمر وعثمان ، فأين موضع الحجة لخصومنا في فضل من ذكره على غيره من جملة من سميناه ، وما وجه دلالتهم منه على إمامتهم ، فإنا لا نتوهمه ، بل لا يصح أن يدعيه أحد من العقلاء؟!

فصل

ثم يقال لهم : خبرونا عما وصف الله تعالى به من كان مع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما تضمنه القرآن ، أهو شامل لكل من كان معه عليه الصلاة والسلام

__________________

(١) في ب ، ح : بن.

(٢) (ومالك بن نويرة) ليس في ب ، ح ، م.

١٤٠