الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٦

مسألة أخرى

فإن قالوا : أفليس قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر في حياته على جميع أهل بيته وأصحابه ، حيث أمره أن يصلي بالناس في مرضه مع قوله عليه‌السلام «الصلاة عماد الدين» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «إمامكم خياركم» (٢) وهذا أوضح دليل على إمامته بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفضله على جميع أمته؟!

جواب :

قيل لهم : أما الظاهر المعروف فهو تأخير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر عن الصلاة وصرفه عن ذلك المقام ، وخروجه مستعجلا وهو من ضعف الجسم بالمرض على ما لا يتحرك معه العاقل إلا بالاضطرار ، ولتدارك ما يخاف بفوته عظيم الضرر والفساد ، حتى كان عزله عما كان تولاه من تلك الصلاة.

__________________

(١) كنز العمال ٧ : ٢٨٤ / ١٨٨٨٩ و ١٨٨٩١.

(٢) كنز العمال ٧ : ٥٩٦ / ٣٠٤٣٣ ، عوالي اللئالي ١ : ٣٧ / ٢٧ ، وفيهما : ليؤمكم خياركم.

٢٠١

فأما تقدمه على الناس فكان بقول عائشة دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبذلك جاءت الأخبار وتواترت الأحاديث والآثار ، ومن الدعي غير ذلك فعليه حجة البرهان والبيان.

فصل

على أننا لو صححنا حديث عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسلمنا لهم صدقها فيه (١) تسليم جدل ، وإن كانت الأدلة تبطله وتقضي بفساده من كل وجه ، لما أوجب ما ادعوه من فضله على الجماعة ، لأنهم مطبقون على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري (٢) ، ولم يوجب ذلك له فضلا عليه ولا غيره من المسلمين.

ولا يختلفون أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في الصلاة عليهم ، ولم يدل ذلك على فضله عليهم في الظاهر ، ولا عند الله تعالى على حال من الأحوال.

وهم متفقون على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأمته : «صلوا خلف كل بر وفاجر» (٣) وأباح لهم الصلاة خلف الفجار ، وجوز بذلك إمامة إمام لهم

__________________

(١) (صدقها فيه) ليس في ب.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٢٣٠ / ٨١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٩٢ / ١٢٣٦ ، سنن النسائي ١ : ٧٧ ، سنن أبي داود ١ : ٣٨ / ١٥٥٢.

(٣) كنز العمال ٦ : ٥٤ / ١٤٨١ عن سنن البيهقي ، عوالي اللئالي ١ : ٣٧ / ٢٨.

٢٠٢

في الصلاة منقوص مفضول ، بل فاسق فاجر مرذول ، بما تضمنه لفظ الخبر ومعناه ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.

فصل

ثم يقال لهم : قد اختلف المسلمون في تقديم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر للصلاة.

فقال المسمون السنة : إن عائشة أمرت بتقديمه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقالت الشيعة : إنها أمرته بذلك عن نفسها دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بلا اختلاف بينهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى المسجد وأبو بكر في الصلاة ، فصلى تلك الصلاة ، فلا يخلو أن يكون صلاها إماما لأبي بكر والجماعة ، أو مأموما لأبي بكر مع الجماعة ، أو مشاركا لأبي بكر في إمامتهم ، وليس قسم رابع يدعى فنذكره على التقسيم.

فإن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاها إماما لأبي بكر والجماعة فقد صرفه بذلك عما أوجب فضله عند كم من إمامة القوم ، وحطه عن الرتبة التي ظننتم حصوله فيها بالصلاة ، وبطل ما اعتمدتموه (١) من ذلك ، ووجب له خلافه من النقص والخروج عن الفضل على التأبيد ، إذا كان آخر أفعال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جار حكمها على التأبيد (٢) وإقامة الشريعة وعدم

__________________

(١) في ح : ما ادعيتموه.

(٢) في ح ، م : الندب.

٢٠٣

نسخها إلى أن تقوم الساعة ، وهذا بين لا ريب فيه.

وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله مأموما لأبي بكر فقد صرف إذن عن النبوة ، وقدم عليه من أمره الله تعالى بالتأخير عنه ، وفرض عليه غض الطرف عنده ، ونسخ بذلك نبوته وما يجب له بها من إمامة الجماعة ، والتقدم عليهم في الدين ، وهذا ما لا يطلقه مسلم.

وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إماما للجماعة مع أبي بكر على الاشتراك في إمامتهم ، وكان ذلك آخر أعماله في الصلاة ، فيجب أن يكون سنة ، وأقل ما فيه جوازه وارتفاع البدعة منه ، والاجماع منعقد على ضد ذلك ، وفساد إمامة نفسين في الصلاة معا لجماعة من الناس ، وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به القوم من صلاة أبي بكر ، وما ادعوه له بها من الفضل على تسليم الخبر دون المنازعة فيه ، فكيف وقد بينا سقوطه بما قدمناه.

فصل

على أن الخبر بصلاة أبي بكر وإن كان أصله من حديث عائشة ابنته خاصة على ما ذكروه ، فإنه قد جاء عنها في التناقض والاختلاف وذلك شاهد بفساده على البيان :

فروى أبو وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ١٨١٢ ، السيرة الحلبية ٣ : ٤٦٤.

٢٠٤

وروى إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة في حديث في الصلاة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى عن يسار أبي بكر قاعدا ، وكان أبو بكر يصلي بالناس قائما (١).

وفي حديث وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أيضا ، قالت : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه عن يمين أبي بكر جالسا ، وصلى أبو بكر قائما بالناس (٢).

وفي حديث عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحذاء أبي بكر جالسا ، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (٣).

فتارة تقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إماما بأبي بكر ، وتارة تقول : كان أبو بكر إماما ، وتارة تقول : صلى عن يمين أبي بكر ، وتارة تقول : صلى عن يساره ، وتارة تقول : صلى بحذائه ، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهر ما فيها من الاضطراب والاختلاف على بطلان الحديث ، وتشهد بأنه موضوع.

فصل آخر

على أن الخبر الثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «إنما جعل

__________________

(١) السيرة الحلبية ٣ : ٤٦٤.

(٢) السيرة الحلبية ٣ : ٤٦٧ ، سيرة ابن هشام ٤ : ٣٠٢.

(٣) السيرة الحلبية ٣ : ٤٦٤ و ٤٦٥.

٢٠٥

الإمام إماما ليؤتم به ، فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين» (١) يبطل أيضا حديث صلاة أبي بكر ، ويدل على اختلافه ، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به ، مع ترك المتمكن منه على فاعله ، ومتى ثبت أوجب تضليل أبي بكر وتبديعه على الإقدام على خلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واستدلوا بمثل ذلك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ كان هو المؤتم بأبي بكر ، وفي كلا الأمرين بيان فساد الحديث مع ما في الوجه الأول من دليل فساده.

فصل آخر

مع أن الرواية قد جاءت من غير طريق عن عائشة أنها قالت : جاء بلال فأذن بالصلاة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مغمى عليه ، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت ، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلي بالناس (٢).

وهذا صريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها ، دون أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإذنه ورأيه ورسمه.

والذي يؤيد ذلك ويكشف عن صحته ، الاجماع على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج مبادرا معجلا بين يدي رجلين من أهل بيته

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٢١٤ ، ٤٢٠ ، صحيح البخاري ١ : ١٧١ / ٤٤ ، صحيح مسلم ١ :

٣٠٨ / ٧٧ ، صحيح الترمذي ٢ : ١٩٤ / ٣٦١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٧٦ / ٨٤٦ ، سنن النسائي ٢ : ٨٣.

(٢) كنز العمال ٥ : ٦٣٤ / ٤١١٦ عن اللالكائي في السنة.

٢٠٦

حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه.

ثم الاجماع أيضا على قول البني صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أفاق لعائشة وحفصة : «إنكن كصويحبات يوسف عليه‌السلام» (١) ذما لهما على ما أفتنا به أمته ، وإخبارا عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس ، ولو كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله تقدم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها ، ولا رجع باللوم على غيره فيها ، وهذا ما لا خفاء به على ذوي الأبصار.

وفي هذه المسألة كلام كثير ، قد سبق أصحابنا رحمهم‌الله إلى استقصائه ، وصنف أبو عيسى محمد بن هارون الوراق (٢) كتاب مفردا في معناه سماه كتاب (السقيفة) يكون نحو مائتي ورقة ، لم يترك لغيره زيادة عليه فيما يوضح عن فساد قول الناصبة وشبههم التي اعتمدوها من الخبر بالصلاة ، وأشار إلى كذبهم فيه ، فلذلك عدلت عن الإطالة في ذكر البراهين على ما قدمت ، واقتصرت على الاختصار ، وإن كان فيما أثبته كفاية لذوي الأبصار ، والحمد لله.

__________________

(١) كنز العمال ٥ : ٦٣٤ / ٤١١٦ عن اللالكائي في السنة.

(٢) ترجم له النجاشي في رجاله : ٣٧٢ / ١٠١٦ وعد من تصانيفه كتاب السقيفة ، وأطراه المحقق الداماد في الراشحة الثامنة من الرواشح السماوية وقال : هو من أجلة المتكلمين من أصحابنا وأفاضلهم.

٢٠٧
٢٠٨

مسألة أخرى

فإن قالوا : إن لأبي بكر من الإنفاق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولا لغيره من الصحابة ، حتى جاء الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال : «ما نفعنا مال كمال أبي بكر» (١).

وقال عليه‌السلام في موطن آخر : «ما أحد من الناس أعظم نفعا علينا حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة» (٢).

جواب :

قيل لهم : قد تقدم لنا من القول فيما يدعى من إنفاق أبي بكر ما يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف ، وإن كنا لم نبسط الكلام في معناه بعد ، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة ، وهي التي ذكرته عن

__________________

(١) مسند أحمد ٢ : ٢٥٣ و ٣٦٦. وأخرجه في كنز العمال ١١ : ٥٤٩ / ٣٢٥٧٦ و ٥٥٥ / ٣٢٦٠٨ ، ١٢ : ٥٠٥ / ٣٥٦٤٨ عن مسند أحمد ، وابن ماجة ، وحلية الأولياء ، وابن عساكر.

(٢) كنز العمال ١١ : ٥٥٤ / ٣٢٦٠٤ عن الطبراني في المعجم الكبير.

٢٠٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأضافته بغير حجة ، وقد عرفت ما كان من خطأها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى نزل فيها وفي صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب : (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) (١).

ثم الذي كان منها في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد الأسباب في خلعه ، وقتله ، فلما كان من أمره ما كان ، وبايع الناس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام حسدته على ذلك ، وكرهت أمره ، ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه ، وقذفت أمير المؤمنين عليه‌السلام بدمه ، وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما أمرها به في كتابه ، فألبت عليه ودعت إلى حربه ، واجتهدت في سفك دمه واستئصال ذريته وشيعته ، وأثارت من الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في الدين إلى هذه الغاية.

ومن كانت هذه حالها لم يوثق بها في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا آمنت على الأدغال (٢) في دين الله تعالى ، لا سيما فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ الأوفر ، وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا.

__________________

(١) سورة التحريم ٦٦ : ٤.

(٢) أدغل في الأمر : أدخل فيه ما يخالفه ويفسده. «الصحاح ـ دغل ـ ٤ : ١٦٩٧».

٢١٠

فصل

على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على ما تدعيه الجهال ، لوجب أن يكون له وجه معروف ، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور ، كما اشتهرت صدقة أمير المؤمنين عليه‌السلام بخاتمه ، وهو في الركوع حتى علم به الخاص ، والعام ، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والاعلان ، ونزول بها محكم القرآن ، ولم تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه ، حتى أجمعت عليها أمة الإسلام ، وجاء بها صريح القول في البيان ، واستفاض إطعام المسكين (١) واليتيم والأسير ، وورد الخبر به مفصلا في (هل أتى على الإنسان) (٢).

فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة نفقة عثمان بن عفان في جيش العسرة ، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان (٣) ، ولما خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه ، وكان مقصورا على ابنته خاصة ، ويكفي في ما شرحناه ، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان ، والتقرب إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان ، مما يدل على فساده بلا ارتياب.

__________________

(١) (حتى أجمعت .. المسكين) ليس في ح ، وفي ب : وصدقته حين أجمع المسكين.

(٢) سورة الإنسان ٧٦ : ١.

(٣) (فكان أقل .. اثنان) ليس في ب ، ح ، م.

٢١١

فصل

مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك بأنه المتولي عناء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سائر الناس ، ورفع الحاجة عنه في الدين والدنيا إلى أحد من العباد ، فقال تعالى (ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى) (١).

فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد من الناس لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى ، ولما ثبت أنه غني في الهدى بالله وحده ، ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه.

فصل

على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى من أشياء يتعدى الفضل إلى أحد من الناس ، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه عليهم‌السلام ، وبعمه أبي طالب رحمة الله ، وولده عليه‌السلام ، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي‌الله‌عنها ، ولم يكن لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال.

وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد المطلب ، ثم بأبي طالب من بعه ، فرباه وكفله صغيرا ، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه بنفسه وولده كبيرا ، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم وهم ملوك العرب ، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف ، ثم ما أفاده من

__________________

(١) سورة الضحى ٩٣ : ٦ ـ ٨.

٢١٢

بعده في خروجه إلى الشام من الأموال ، وما كان انتقل إليه من زوجته خديجة بنت خويلد.

وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من سعة الأحوال ، وكان لها من جليل الأموال ، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر الناس سوى من سميناه سبب لشئ من ذلك ، يتعدى به فضلهم إليه (١) على ما بيناه ، بل كانوا فقراء فأغناهم الله بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا ضلالا فدعاهم إلى الهدى ، ودلهم على الرشاد ، وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار اتباع نبوته إلى الملك والسلطان.

وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل الإسلام من المال ما ينسب به إلى اليسار ، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه ، هل لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء حاله في الجاهلية والإسلام ، ورذالة قبيلته من قريس كلها ، وظهور المسكنة في جمهورهم على الاتفاق؟

ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والإنفاق عليه ونفعه بالمال ، كما ادعاه الجاهلون ، لا غنى أباه ببعضه عن النداء على مائة ة عبد الله بن جدعان (٢) بأجرة على ذلك (٣) بما يقيم به

__________________

(١) في أ : فضل منه إليهم ، وفي ب : فضله إليهم.

(٢) في أ : لينتال.

(٣) (بأجرة على ذلك) ليس في م.

٢١٣

رمقه ، ويستر به عورته بين الناس ، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع الخلقان (١) بباب بيت الله الحرام إلى مخالطة وجوه التجار ، ولكان غنيا به في الجاهلية عن تعليم الصبيان ومقاساة (٢) الأطفال في ضرورته إلى ذلك لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه. وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه له من الإنفاق للمال ، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مدحه على الإنفاق.

فصل آخر

مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال على ما ظنه الجهال لكان خلو القرآن من مديح له على الاجماع وتواتر الأخبار ، مع نزوله بالمدح على اليسير من ذوي الإنفاق ، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى ، وأنه يعتمد بالسمعة والرياء ، وكان فيه ضرب من النفاق.

وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه بذكر اليسير من طاعاته ، ويخفي الكثير ، ولا يمدح الصغير ، ويهمل الكبير ، ففي خلو القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط الذي وصفناه أوضح برهان على ما قدمناه.

ثم يقال لهم : قد علمت الكافة أن نفقات الصحابة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة الجهاد وصلات

__________________

(١) الخلقان : جمع خلق ، الثوب البالي. «الصالح ـ خلق ٤ : ١٤٧٢».

(٢) المقاساة : المكابدة والمعالجة. «تاج العروس ـ قسا ـ ١٠ : ٢٩٣».

٢١٤

فقراء المسلمين ، وتزويد المرملين (١) ، ومعونة المساكين ، ومواساة المهاجرين ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسترفد (٢) أحدا منهم ولا استوصله ، ولا جعل عليه قسما من مؤنته ، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته ، وقد حرم الله تعالى عليه وعلى أهل بيته أكل الصدقات ، وأسقط عن كافتهم الأجر له على تبليغهم عن الله تعالى الرسالات ، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات ، في دعائهم إلى الأعمال الصالحات ، واستنقاذهم بلطفه من المهلكات ، وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله من أزهد الناس في الدنيا وزينتها ، ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه ، وما أفاء الله تعالى من الغنائم والأنفال ، وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه ، وذوي الخلة من أتباعه حتى استدان من المال (٣) ما قضاه أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاته ، وكان هو المنجز لعداته (٤) فأي وجه مع ما وصفناه من حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله لإنفاق أبي بكر على ما ادعوه ، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من العناد؟!

__________________

(١) المرمل : الذي نفد زاده. «الصحاح ـ رمل ـ ٤ : ١٧١٣».

(٢) الاسترفاد : الاستعانة. «مجمع البحرين ـ رفد ـ ٣ : ٥٤».

(٣) في ب : الشرع بدل (المال).

(٤) تهذيب الآثار ١ : ٦٠ ، فردوس الأخبار ٣ : ٦١ / ٤١٧٠ ، شواهد التنزيل ١ : ٣٧٣؟ ٥١٥ و ٥١٦ ، وأخرجه في كنز العمال ٧ : ٢٤٩ / ١٨٧٨٢ عن ابن أبي شيبة وقال : رجاله ثقات.

٢١٥

فصل

مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما يذكرونه من إنفاق أبي بكر ، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة (١) من مواليه ، وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان.

وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من الحجج والبرهان ، وهو راجع في أصله إلى عائشة ، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.

ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما كان مصححا لروايتهم مدح أبي بكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإخباره بانتفاعه بنفقته عليه ومواساته بالمال ، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أخا ولا والدا ، ولا قريبا ولا نسيبا ، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام.

ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال أبي بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لموضع إيمانه برسالته ، وإقراره بنبوته ولكونه في جملة أصحابه ، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة الله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين ، لأن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتضمن الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء

__________________

(١) هو بلال بن رباح ، وحمامة أمه ، مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، توفي بدمشق في الطاعون سنة (١٨) وقيل غير ذلك ، أنظر ترجمته في رجال الكشي : ٣٨ / ٧٩ ، رجال الطوسي : ٨ / ٤ ، معجم رجال الحديث ٣ : ٣٦٤ ، سير أعلام النبلاء ١ : ٣٤٧.

٢١٦

والصالحين ، وقد انكشف عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم ، وضعف بصائرهم ، وسخافة عقولهم ، ومن الله نسأل التوفيق.

فصل

على أن الثابت من الحديث في مح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة بنت خويلد رضي‌الله‌عنها دون أبي بكر ، والظاهر المشهور من انتفاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمالها ، يوضح عن صحته واختصاصها به دون من ادعى له بالبهتان ، وقد اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية ، وجاء مستفيضا عن عائشة بنت أبي بكر على البيان.

فروى عبد الله بن المبارك ، عن مجالد (١) ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ذكر خديجة أحسن الثناء عليها ، فقلت له يوما : ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال : ما أبدلني الله خيرا منها ، صدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها» (٢).

وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي بكر بالمواساة ، ويوجب تخصيصها بذلك دونه ، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من

__________________

(١) في ب ، ح ، م : مجاهد ، وهو تصحيف صوابه ما في المتن من نسخة أو المصادر ، وانظر ترجمة مجالد بن سعيد ، في طبقات ابن سعد ٦ : ٢٤٣ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ٣٩ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٨٤.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٦ : ١١٧ عن شيخه علي بن إسحاق ، عن ابن المبارك ، سير أعلام النبلاء ٢ : ١١٧ ، كنز العمال ١٢ : ١٣٢.

٢١٧

سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام ، إذ فيه شهادة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس.

٢١٨

مسألة أخرى

فإن قالوا : فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لأصحابه : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١)؟

أليس هذا نص منه على إمامتهما ، وإيجاب على الأمة جميعا فرض طاعتهما ، وفي ذلك أدل دليل على طهارتهما وصوابهما فيما صنعاه من التقدم على أمير المؤمنين ، وصحة خلافتهما؟!

جواب

قيل لهم : هذا حديث موضوع ، والخلل في سنده مشهور ، والتناقض في معناه ظاهر ، وحاله في متضمنه لائحة للمعتبر الناظر.

فأما خلل إسناده : فإنه معزى إلى عبد الملك بن عمير (٢) ، عن

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٣٨٢ و ٣٨٥ و ٣٩٩ و ٤٠٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٧ / ٩٧ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٠٩ / ٣٦٦٢ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٧٥. مصابيح السنة ٤ : ١٦٢ / ٤٧٤٢ و ٢١٨ / ٤٨٨٩.

(٢) قال الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي ٣ : ٣٣ : كان فاسقا جريئا على الله ، وهو الذي قتل عبد الله بن يقطر رسول الحسين بن علي إلى مسلم بن عقيل .. وكان مروانيا.

٢١٩

ربعي بن حراش ، ثم من بعده تارة يعزى إلى حذيفة بن اليمان ، وتارة إلى حفصة بنت عمر بن الخطاب.

فأما عبد الملك بن عمير فمن أبناء الشام ، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته ، ولم يزل يتقرب إلى بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر ، والطعن في أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى قلدوه القضاء ، وكان يقبل فيه الرشا ، ويحكم بالجور والعدوان ، وكان متجاهرا بالفجور والعبث بالنساء ، فمن ذلك أن الوليد بن سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إليه في أموال وعقار ، وكانت كلثم من أحسن نساء وقتها وأجملهن فأعجبته ، فوجه القضاء على أخيها تقربا إليها ، وطمعا فيها ، فظهر ذلك عليه واستفاض عنه ، فقال فيه هذيل الأشجعي (١) :

أتاه وليد بالشهود يقودهم

على ما ادعى من صامت المال والخول

يسوق إليه كلثما وكلامها

شفاء من الداء المخامر والخبل

فما برحت تومي إليه بطرفها

وتومض (٢) أحيانا إذا خصمها غفل

__________________

وقال أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته ، وذكر إسحاق الكوسج عن أحمد أنه ضعفه جدا. أنظر ترجمته في الجرح والتعديل : ٥ : ٣٦٠ ، تهذيب التهذيب ٦ : ٤١١ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٤٣٨.

(١) هو هذيل بن عبد الله بن سالم بن هلال الأشجعي ، شاعر كوفي معروف ، وله هجاء في ثلاثة من قضاة الكوفة : عبد الملك بن عمير ، الشعبي ، ابن أبي ليلى. أنظر جمهرة أنساب العرب : ٢٤٩ ، الأعلام للزركلي ٩ : ٧٢.

(٢) أومضت المرأة : سارقت النظر. «الصحاح ـ ومض ـ ٣ : ١١١٣».

٢٢٠