تفسير القاسمي - ج ٣

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٣

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٥

الثُّلُثُ) أي ثلث المال مما ترك. والباقي للأب. للذكر مثل حظ الأنثيين. لكن قرر لها الثلث تنزيلا لها منزلة البنت مع الابن ، لا منفردة ، حطّا لها عن درجتها ، لقيام البنت مقام الميت في الجملة. قاله المهايميّ (فَإِنْ كانَ لَهُ) أي للميت (إِخْوَةٌ) من الأب والأم. أو من الأب أو من الأم ، ذكورا أو إناثا (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) يعني لأم الميت سدس التركة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) خبر مبتدأ محذوف. أي هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث. ومن بعد قضاء دين على الميت. وقرئ في (السبع) : يوصي مبنيا للمفعول وللفاعل.

قال الحافظ ابن كثير : أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدّين مقدم على الوصية. وروى أحمد والترمذي (١) وابن ماجة وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إنكم تقرؤون هذه الآية : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ). وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدين قبل الوصية. وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات. الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه.

ثم قال الترمذيّ : لا نعرفه إلا من حديث الحارث. وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. لكن كان حافظا للفرائض ، معتنيا بها وبالحساب. فالله أعلم.

قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا. وفيها مشروعية الوصية. واستدل بتقديمها في الذّكر من قال بتقديمها على الدين في التركة. وأجاب من أخرها بأنها قدمت لئلا يتهاون بها. واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر ، ولو استغرق المال. ومن أجازها للوارث والكافر ، حربيّا أو ذميّا. واستدل بها من قال : إن الدّين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث. ومن قال إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله : (أَوْ دَيْنٍ). انتهى.

وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة (٢) بسند صحيح عن سعد بن الأطول إن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم. وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه. فقال : يا رسول الله! قد أديت عنه. إلّا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة. قال : فأعطها فإنها محقة.

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : الفرائض ، ٥ ـ باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم.

(٢) أخرجه ابن ماجة في : الصدقات ، ٢٠ ـ باب أداء الدين عن الميت ، حديث ٢٤٣٣.

٤١

لطيفة :

(فائدة) وصف الوصية بقوله : (يُوصِي بِها) ، هو الترغيب في الوصية والندب إليها. وإيثار (أو) المفيدة للإباحة في قوله : أو دين ، على (الواو) للدلالة على تساويهما في الوجوب. وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين. وتقديم الوصية على الدّين ، ذكرا مع تأخرها عنه حكما ، ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها ، لكونها مظنة التفريط في أدائها ، ولاطرّادها. بخلاف الدين ـ أفاده أبو السعود (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم. والمعنى : فرض الله الفرائض ، على ما هو ، على حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم. فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع. وأنتم لا تدرون تفاوتها. فتولى الله ذلك فضلا منه. ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير. وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة ، وردّ لما كان في الجاهلية.

قال السمرقنديّ : ويقال : معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث. وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتا فيرث منه الآخر. انتهى. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف. أي فرض الله ذلك فرضا. أو لقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ). فإنه في معنى : يأمركم ويفرض عليكم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي بالمصالح والرتب (حَكِيماً) أي في كل ما قضى وقدر. فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى ، دخولا أوليّا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (١٢)

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) من المال (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) ذكر أو أنثى،

٤٢

منكم أو من غيركم (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) على نحو ما فصّل (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) من المال. والباقي لباقي الورثة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) أي من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من المال (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) ذكر أو أنثى ، منهن أو من غيرهن (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) على النحو الذي فصل (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الكلام فيه كما تقدم. وفي تكرير ذكر الوصية والدين ، من الاعتناء بشأنهما ، ما لا يخفى.

لطيفة :

في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء ، لأنه تعالى حيث ذكر الرجال ، في هذه الآية ، ذكرهم على سبيل المخاطبة. وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة. وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات. وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك. وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء ، كما فضلوا عليهن في النصيب. كذا يستفاد من الرازيّ. (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) أي تورث كذلك (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا) أي الإخوة والأخوات من الأم (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) أي من واحد (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم. قال المجد في (القاموس) : الكلالة : من لا ولد له ولا والد. أو ما لم يكن من النسب لحّا. أو من تكلل نسبه بنسبك. كابن العم ، وشبهه أو هي الإخوة للأم. أو بنو العلم الأباعد. أو ما خلا الوالد والوالد. أو هي ، من العصبة ، من ورث منه الإخوة للأم. فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة. وقال ابن برّي : اعلم أن الكلالة في الأصل هي مصدر (كلّ الميت يكلّ كلّا ، وكلالة) فهو كلّ إذا لم يخلف ولدا ولا والدا يرثانه. هذا أصلها. قال : ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث. فتكون اسما للميت الموروث وإن كانت في الأصل اسما للحدث. على حد قولهم : هذا خلق الله. أي مخلوق الله قال : وجاز أن تكون اسما للوارث على حد قولهم : رجل عدل أي عادل. وماء غور أي غائر. قال : والأول هو اختيار البصريين من أن الكلالة اسم للموروث. قال : وعليه جاء التفسير في الآية ، أن الكلالة الذي لم يخلف ولدا ولا والدا. فإذا جعلتها للميت ، كان انتصابها في الآية على وجهين :

أحدهما ـ أن تكون خبر (كان) تقديره : وإن كان الموروث كلالة ، أي كلّا ليس له ولد ولا والد.

٤٣

والوجه الثاني ـ أن يكون انتصابها على الحال من الضمير في (يورث) أي يورث وهو كلالة. وتكون (كان) هي التامة التي ليست مفتقرة إلى خبر. قال : ولا يصح أن تكون الناقصة ، كما ذكره الحوفيّ ، لأن خبرها لا يكون إلا الكلالة. ولا فائدة في قوله (يورث). والتقدير : إن وقع أو حضر رجل يموت كلالة ، أي يورث وهو كلالة ، أي كلّ. وإن جعلتها للحدث دون العين ، جاز انتصابها. على ثلاثة أوجه :

أحدها ـ أن يكون انتصابها على المصدر ، على تقدير حذف مضاف ، تقديره : يورث وراثة كلالة. كما قال الفرزدق : ورثتم قناة الملك لا عن كلالة. أي ورثتموها وراثة قرب ، لا وراثة بعد ، وقال عامر بن الطفيل :

وما سوّدتني عامر عن كلالة

أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب

ومنه قولهم : هو ابن عمّ كلالة ، أي بعيد النسب. فإذا أرادوا القرب قالوا هو ابن عم دنية.

والوجه الثاني ـ أن تكون الكلالة مصدرا واقعا موقع الحال. على حد قولهم : جاء زيد ركضا ، أي راكضا. وهو ابن عمي دنية ، أي دانيا. وابن عمي كلالة أي بعيدا في النسب.

والوجه الثالث ـ أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف. تقديره : وإن كان الموروث ذا كلالة. قال : فهذه خمسة أوجه في نصب الكلالة. أحدها ـ أن تكون خبر (كان) والثاني ـ أن تكون حالا. الثالث ـ أن تكون مصدرا ، على تقدير حذف مضاف. الرابع ـ أن تكون مصدرا في موضع الحال. الخامس ـ أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف. فهذا هو الوجه الذي عليه أهل البصرة والعلماء باللغة. أعني أن الكلالة اسم للموروث دون الوارث. قال : وقد أجاز قوم من أهل اللغة ، وهم أهل الكوفة ، أن تكون الكلالة اسما للوارث. واحتجوا في ذلك بأشياء : منها قراءة الحسن : وإن كان رجل يورث كلالة. (بكسر الراء). فالكلالة ، على ظاهر هذه القراءة ، هي ورثة الميت. وهم الإخوة للأم. واحتجوا أيضا بقول جابر أنه قال : يا رسول الله! إنما يرثني كلالة. فإذا ثبت حجة هذا الوجه ، كان انتصاب كلالة أيضا على مثل ما انتصبت في الوجه الخامس من الوجه الأول ، وهو أن تكون خبر (كان) ويقدر حذف مضاف ، ليكون الثاني هو الأول ، تقديره : وإن كان رجل يورث ذا كلالة ، كما تقول ذا قرابة ، ليس فيهم ولد ولا والد. قال : وكذلك إذا جعلته حالا من

٤٤

الضمير في (يورث) تقديره : ذا كلالة. قال : وذهب ابن جنيّ ، في قراءة من قرأ يورث كلالة ويورّث كلالة ، أن مفعولي (يورث ويورّث) محذوفان أي يورث وارثه ماله. قال : فعلى هذا يبقى (كلالة) على حاله الأولى التي ذكرتها. فيكون نصبه على خبر (كان) أو على المصدر. وتكون (الكلالة) للموروث لا للوارث. قال : والظاهر أن الكلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث. والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أخرى. والله أعلم.

وقال ابن الأثير : الأب والابن طرفان للرجل. فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه. فسمى ذهاب الطرفين كلالة.

وفي الأساس : ومن المجاز كلّ فلان كلالة ، إذا لم يكن ولدا ولا والدا. أي كلّ عن بلوغ القرابة المماسة.

وقال الأزهريّ : ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين : أحدهما ـ قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ). والموضع الثاني قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) [النساء : ١٧٦]. فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم ، والإخوة للأب والأم. فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت وللأختين الثلثين. وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين. وجعل للأخ والأخت من الأم ، وفي الآية الأولى ، الثلث. لكل واحد منهما السدس. فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة ، ومرة على الإخوة والأخوات للأم والأب. ودل قول الشاعر. أن الأب ليس بكلالة ، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة ، وهو قوله :

فإن أبا المرء أحمى له

ومولى الكلالة لا يغضب

أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم. وموالي الكلالة ، وهم الإخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب. انتهى.

وروى ابن جرير وغيره عن الشعبيّ قال : قال أبو بكر رحمة الله عليه : إني قد رأيت في الكلالة رأيا. فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له. وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان. والله بريء منه. أنت الكلالة ما خلا الولد والوالد.

تنبيه :

اتفق العلماء على المراد من قوله تعالى : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) ـ الأخ والأخت

٤٥

من الأم. وقرأ سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف : وله أخ أو أخت من أم. وكذا فسرها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيما رواه قتادة عنه. قال الكرخيّ : القراءة الشاذة كخبر الآحاد. لأنها ليست من قبل الرأي. وأطلق الشافعيّ الاحتجاج بها ، فيما حكاه البويطيّ عنه ، في باب (الرضاع) وباب (تحريم الجمع) وعليه جمهور أصحابه. لأنها منقولة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتها ، انتفاء خصوص خبريتها. وقال القرطبيّ : أجمع العلماء على أن الإخوة هاهنا هم الإخوة لأم. قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم ، أو للأب ، ليس ميراثهم هكذا. فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ـ هم الإخوة لأبوين ، أو لأب.

لطيفة :

إفراد الضمير في قوله تعالى : (وَلَهُ أَخٌ). إما لعوده على الميت المفهوم من المقام ، أم على واحد منهما ، والتذكير للتغليب. أو على الرجل ، واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) حال من ضمير (يُوصى) (على قراءته مبنيا للفاعل) أي غير مدخل الضرر على الورثة. كأن يوصي بأكثر من الثلث. ومن فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور (على قراءته مبنيا للمجهول) وتخصيص هذا القيد بهذا المقام ، لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم. وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس مرفوعا : الضرار في الوصية من الكبائر. ورواه النسائيّ في (سننه) عن ابن عباس موقوفا. وهو الصحيح كما قال ابن جرير (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد لفعل محذوف. وتنوينه للتفخيم. كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ). أو منصوب ب (غير مضار) على أنه مفعول به. فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال. أو منفي معنى. فيعمل في المفعول الصريح. ويعضده القراءة بالإضافة. أي غير مضار لوصية الله وعهده في شأن الورثة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمضار وغيره (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة ، فلا يغتر بالإمهال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٣)

(تِلْكَ) الأحكام (حُدُودُ اللهِ) أحكامه وفرائضه المحدودة التي لا تجوز

٤٦

مجاوزتها. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في قسمة المواريث وغيرها (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت شجرها ومساكنها (خالِدِينَ فِيها) لا يموتون ولا يخرجون (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) النجاة الوافرة بالجنة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤)

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في قسمة المواريث وغيرها (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) بتجاوز أحكامه وفرائضه بالميل والجور (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) أي لكونه غيّر ما حكم الله به ، وضادّ الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به. ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم. وقد روى أبو داود (١) في باب (الإضرار في الوصية) من (سننه) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الرجل ليعمل ، أو المرأة ، بطاعة الله ستين سنة. ثم يحضرهما الموت فيضارّان في الوصية. فتجب لهما النار. وقرأ أبو هريرة : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ ...) حتى بلغ ، (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ورواه الترمذيّ وابن ماجة. ورواه الإمام أحمد (٢) بسياق أتم ولفظه : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة. فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله ، فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة. فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله. فيدخل الجنة. قال ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شتم : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ). إلى قوله : (عَذابٌ مُهِينٌ).

ثم بين تعالى بعضا من الأحكام المتعلقة بالنساء ، إثر بيان أحكام المواريث بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (١٥)

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الوصايا ، ٣ ـ باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية ، حديث ٢٨٦٧.

(٢) أخرجه في المسند ٢ / ٢٧٨.

٤٧

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي الخصلة البليغة في القبح ، وهي الزنى ، حال كونهن (مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَ) أي فاطلبوا من القاذفين لهن (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي من المسلمين (فَإِنْ شَهِدُوا) عليهن بها (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) أي احبسوهن فيها. ولا تمكنوهن من الخروج ، صونا لهن عن التعرض بسببه للفاحشة (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي يستوفي أرواحهن. وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها. أو يتوفاهن ملائكة الموت (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي يشرع لهن حكما خاصّا بهن. ولعل التعبير عنه ب (السبيل) للإيذان بكونه طريقا مسكوكا. قاله أبو السعود.

وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده ، وجعل لهن سبيلا. وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أنزل الوحي كرب له وتربّد وجهه. وإذا سرّي عنه قال : خذوا عني خذوا عني (ثلاث مرار) قد جعل الله لهن سبيلا. الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة والرجم. والبكر جلد مائة ونفي سنة. هذا لفظ الإمام أحمد (١) وكذا رواه أبو داود الطيالسي (٢) ولفظه عن عبادة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا نزل عليه الوحي ، عرف ذلك فيه. فلما نزلت (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وارتفع الوحي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة. والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦)

(وَالَّذانِ) : بتخفيف النون وتشديدها (يَأْتِيانِها) أي الفاحشة (مِنْكُمْ) أي الرجال (فَآذُوهُما) بالسب والتعيير ، ليندما على ما فعلا (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) أي أعمالهما (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) بقطع الأذية والتوبيخ ، وبالإغماض والستر. فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً) أي على من تاب (رَحِيماً) واسع الرحمة. وهو تعليل للأمر بالإعراض.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٥ / ٣١٧.

(٢) أخرجه في مسنده. الحديث رقم ٥٨٤.

٤٨

تنبيه :

هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة. قال الإمام الشافعيّ في الرسالة في (أبواب الناسخ والمنسوخ) بعد ذكره هاتين الآيتين [٣٧٦] : ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

[٣٧٧] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين (لحديث عبادة بن الصامت المتقدم).

ثم قال : [٣٨٠] فدلت سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرّين ، ومنسوخ عن الثيبين. وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين. ثم قال :

[٣٨١] لأن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ـ أوّل ما نزل. فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين.

[٣٨٢] فلما رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عزا ولم يجلده ، وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الأسلميّ ، فإن اعترفت رجمها ـ دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين. وثبت الرجم عليهما. لأن كل شيء أبدا بعد أول فهو آخر. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧)

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه ، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه توابا رحيما. بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم. قوله تعالى (التَّوْبَةُ) مبتدأ وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) خبره. وقوله تعالى : (عَلَى اللهِ) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار. ومعنى كون التوبة عليه سبحانه ، صدور القبول عنه تعالى. وكلمة (عَلَى) للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه. والمراد بالسوء المعصية ، صغيرة أو كبيرة ـ كذا في أبي السعود. (بِجَهالَةٍ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (يَعْمَلُونَ) أي متلبسين بها. أي جاهلين سفهاء. أو ب (يَعْمَلُونَ)

٤٩

على أن الباء سببية. أي يعملونه بسبب الجهالة. والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل. لا عدم العلم. فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة : والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب. كقوله : فنجهل فوق جهل الجاهلينا. (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي من زمان قريب. وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ. وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلا. إذ بتأخيرها وتسويفها يدخل في زمرة المصرّين. فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب. والإنابة إلى المولى بعده فورا. ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه. إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان. وهو واجب على الفور. وتتمته في (الإحياء).

إذا عرفت هذا ، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى (مِنْ قَرِيبٍ) ما قبل حضور الموت ـ بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه. أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان ، عياذا بالله تعالى. (فإن قيل) : من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت؟ (قلنا) يستفاد من الآية التي بعدها ، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك. لا من قوله تعالى (مِنْ قَرِيبٍ) بما أولوه. وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) ـ صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة. فبقي ما وراءه في حيّز القبول. وقد روى الإمام أحمد (١) عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. ورواه ابن ماجة والترمذيّ وقال : حسن غريب.

وروى أبو داود (٢) الطيالسيّ عن عبد الله بن عمرو قال : من تاب قبل موته بعام تيب عليه. ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه. ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. (قال أيوب). فقلت له إنما قال الله عزوجل : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ). فقال : إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى نحوه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وابن مردويه. وروى مسلم (٣) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب

__________________

(١) أخرجه في مسنده المسند ٢ / ١٢٣.

(٢) أخرجه في مسنده ، الحديث ٢٢٨٤.

(٣) أخرجه مسلم في : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، حديث ٤٣.

٥٠

الله عليه. وروى الحاكم مرفوعا : من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه. وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن (١) : التائب من الذنب كمن لا ذنب له : وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي يقبل توبتهم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨)

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) عند النزاع (قالَ) عند مشاهدة ما هو فيه (إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب. روى الإمام أحمد (٢) عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله يقبل توبة عبده ويغفر لعبده ما لم يقع الحجاب. قيل : يا رسول الله! وما الحجاب؟ قال : أن تموت النفس وهي مشركة. ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ أَعْتَدْنا) أي أعددنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم. روى البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما (٣) قال : كانوا ، إذا مات الرجل ، كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء

__________________

(١) أخرجه في : الزهد ، ٣٠ ـ باب ذكر التوبة ، حديث ٤٢٥٠.

(٢) أخرجه في المسند ٥ / ١٧٤.

(٣) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ٤ ـ سورة النساء ، ٦ ـ باب (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

٥١

بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها. فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ). الآية. ورواه أبو داود والنسائيّ وغيرهم ، ولفظ أبي داود عن ابن عباس : أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته. فيعضلها حتى تموت ، أو ترد إليه صداقها : فأحكم الله عن ذلك. أي نهى عنه.

قال السيوطيّ : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد. ولا يجري مجرى الأموال بوجه. و (كَرْهاً) (بفتح الكاف وضمها) قراءتان. أي حال كونهن كارهات لذلك! أو مكرهات عليه. والتقييد (بالكره) لا يدل على الجواز عند عدمه. لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه. كما في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١]. (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) الخطاب للأزواج. كما عليه أكثر المفسرين. روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أن الآية في الرجل تكون له المرأة. وهو كاره لصحبتها. ولها عليه مهر. فيضرها لتفتدي به. والعضل الحبس والتضييق. أي : ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. أي من الصداق. بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي زنى. كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين. يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك ، وتخالعها. كما قال تعالى في سورة البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩]. الآية.

وروي عن ابن عباس أيضا وغيره : الفاحشة المبينة النشوز والعصيان. واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله : الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ، ويفارقها. قال ابن كثير : وهذا جيد ، والله أعلم. قال أبو السعود : (مبينة) على صيغة الفاعل من (بيّن) بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعول. وعلى صيغة الفاعل من (أبان) بمعنى تبين أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة. ويعضده قراءة أبيّ : إلا أن يفحشن عليكم. انتهى. وفي (الإكليل) استدل قوم بقوله : (بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) ـ على منع الخلق بأكثر مما أعطاها انتهى.

ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله : (وَعاشِرُوهُنَ) أي صاحبوهن (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن. أو سبب النشوز أو سوء الخلق. فلا يحل لكم حينئذ.

٥٢

قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب. واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) يعني كرهتم الصحبة معهن (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير. وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن ، على خلاف الطبع. وفي (الإكليل) قال الكيا الهراسيّ : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس. وفيها دليل على أن الطلاق مكروه.

وقد روى مسلم (١) في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يفرك مؤمن مؤمنة. إن كره منها خلقا رضي منها آخر. (يفرك) بفتح الياء والراء ، معناه بغض.

لطيفة :

قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه ، وانحصار العلّية في الثاني ، للتوسل إلى تعميم مفعوله ـ ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه. بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق ، حسب اقتضاء الحكمة. وإن ما نحن فيه مادة من موادها. وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ، ما لا يخفى.

تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن :

كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة. وهي قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). قال ابن كثير : أي طيبوا أقوالكم لهن. وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم. كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله. كما قال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) [البقرة : ٢٢٨]. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي. رواه الترمذيّ عن عائشة ، وابن ماجة (٢) عن ابن عباس ، والطبرانيّ عن معاوية. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خيركم خيركم للنساء. رواه الحاكم عن ابن عباس. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي. ما أكرم النساء إلا

__________________

(١) أخرجه في : الرضاع ، حديث ٦١.

(٢) أخرجه ابن ماجة في : النكاح ، ١١ ـ باب حسن معاشرة النساء ، حديث ١٩٧٧.

٥٣

كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم. رواه ابن عساكر عن عليّ عليه‌السلام. وعن عمر بن الأحوص رضي الله عنه أنه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع يقول ، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه ، وذكر ووعظ ، ثم قال : «ألا واستوصوا بالنساء خيرا. فإنما هنّ عوان عندكم. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقّا. ولنسائكم عليكم حقا. فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون. ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن». رواه الترمذي (١) وقال : حديث حسن صحيح.

وقوله (عوان) أي أسيرات. جمع عانية.

وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت. رواه أبو داود (٢).

وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : «ليس من اللهو إلا ثلاث : تأديب الرجل فرسه ، ورميه بقوسه ونبله ، ومداعبة أهله». رواه أبو داود. وفي رواية له : كل شيء يلهو به الرجل باطل ، إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبته أهله.

قال ابن كثير : وكان من أخلاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقة ، ويضاحك نساءه. حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، يتودد إليها بذلك. قالت : سابقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبقته. وذلك قبل أن أحمل اللحم. ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني.

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : النكاح ، ١١ ـ باب ما جاء في حق المرأة على زوجها.

(٢) أخرجه أبو داود في : النكاح ، ٤١ ـ باب في حق المرأة على زوجها ، حديث ٢١٤٢.

(٣) أخرجه الترمذيّ في : فضائل الجهاد ، ١١ ـ باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله. ونصه : عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ليدخل بالسهم الواحد ، ثلاثة ، الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ، والممدّ به» وقال «ارموا واركبوا ، ولأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا. كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل. إلا رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، فإنهنّ من الحق».

ثم قال : عن عقبة بن عامر الجهنيّ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مثله.

٥٤

فقال : هذه بتلك. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد. يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار. وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام. يؤانسهم بذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). انتهى.

وقال الغزاليّ في (الإحياء) في (آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح) : الأدب الثاني ـ حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ، ترحما عليهن ، لقصور عقلهن. قال الله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) : وقال في تعظيم حقهن : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [النساء : ٢١]. وقال تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) [النساء : ٣٦]. قيل : هي المرأة.

ثم قال : واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها ، اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام ، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل. وراجعت امرأة عمر عمر رضي الله عنه فقال : أتراجعيني؟ فقالت : إن أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراجعنه ، وهو خير منك. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لعائشة (١) : «إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى. قالت. فقلت : من أين تعرف ذلك؟ فقال : أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا. ورب محمد! وإذا كنت غضبى قلت : لا. ورب إبراهيم! قالت. قلت : أجل. والله! يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك».

ثم قال الغزالي : الثالث ـ أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة. فهي التي تطيب قلوب النساء. وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال. حتى روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما وسبقها في بعض الأيام. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه بتلك.

قال العراقيّ : رواه أبو داود (٢) ، والنسائي في (الكبرى) وابن ماجة في حديث عائشة بسند صحيح.

وقالت عائشة رضي الله عنها : سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ١٠٨ ـ باب غيرة النساء ووجدهن.

(٢) أخرجه أبو داود في : الجهاد ، ٦١ ـ باب في السبق على الرجل ، حديث ٢٥٧٨.

٥٥

يلعبون في يوم عيد. فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت. قلت : نعم. فأرسل إليهم فجاؤوا. وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بين البابين. فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه. وجعلوا يلعبون وأنظر. وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : حسبك! وأقول : لا تعجل. (مرتين أو ثلاثا) ثم قال : يا عائشة! حسبك. فقلت نعم». وفي رواية للبخاري (١) قالت : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد. حتى أكون أنا الذي أسأم. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، الحريصة على اللهو.

وقال عمر رضي الله عنه : ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبيّ. فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلا.

وقال لقمان رحمه‌الله تعالى : ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبيّ. وإذا كان في القوم وجد رجلا.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) لجابر : «هلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟» رواه الشيخان. ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت : والله! لقد كان ضحوكا إذا ولج ، سكوتا إذا خرج ، آكلا ما وجد ، غير سائل عما فقد. انتهى بتصرف.

ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢٠)

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) أي تزوج امرأة ترغبون فيها (مَكانَ زَوْجٍ) ترغبون

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ١١٤ ـ باب نظر المرأة إلى الحبش وغيرهم من غير ريبة.

(٢) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ١٢٢ ـ باب تستحد المغيبة وتمتشط. ونصه : عن جابر بن عبد الله قال : كنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة فلما قفلنا كنا قريبا من المدينة تعجلت على بعير لي قطوف. فلحقني راكب من خلفي فنخس بعيري بعنزة كانت معه. فسار بعيري ما أنت راء من الإبل. فالتفت فإذا أنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : يا رسول الله! إني حديث عهد بعرس. قال : «أتزوجت؟» قلت : نعم. قال «بكرا أم ثيبا» قال قلت : بل ثيبا. قال «فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟» قال فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال «أمهلوا حتى تدخلوا ليلا (أي عشاء) كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة».

٥٦

عنها بأن تطلقوها (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَ) أي إحدى الزوجات. فإن المراد بالزوج الجنس. (قِنْطاراً) أي مالا كثيرا مهرا (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي يسيرا ، فضلا عن الكثير (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) أي باطلا (وَإِثْماً مُبِيناً) بينا. والاستفهام للإنكار والتوبيخ. أي أتأخذونه باهتين وآثمين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١)

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) إنكار لأخذه إثر إنكار ، وتنفير عنه غب تنفير ، على سبيل التعجب. أي بأي وجه تستحلون المهر (وَقَدْ أَفْضى) أي وصل (بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) فأخذ عوضه (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد ، يعسر معه نقضه. كالثوب الغليظ يعسر شقه.

قال الزمخشريّ : الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة. ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه. فقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة. فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ انتهى.

قال الشهاب الخفاجيّ : قلت بل قالوا :

صحبة يوم نسب قريب

وذمة يعرفها اللبيب

أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ). أو قول الوليّ عند العقد : أنكحتك على ما في كتاب الله : من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

تنبيه في فوائد :

الأولى ـ في قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك : كما روى الإمام أحمد (١) عن أبي العجفاء السلميّ قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغلوا صدق النساء. ألا لا تغلوا صدق النساء. فإنها لو كانت

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١ / ٤٠.

٥٧

مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ما أصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة من نسائه ، ولا أصدق امرأة من بناته ، أكثر من اثنتي عشرة أوقية. وإن الرجل ليبتلى بصدقة امرأته (وقال مرة : وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته) حتى تكون لها عداوة في نفسه. وحتى يقول : كلفت إليك عرق القربة. ورواه أهل السنن. وقال الترمذيّ : هذا حديث صحيح.

وروى أبو يعلى عن مسروق قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أيها الناس! ما إكثاركم في صدق النساء! وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال ثم نزل. فاعترضته امرأة من قريش. فقالت : يا أمير المؤمنين! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم. قال : نعم. فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال : وأيّ ذلك؟ قالت : أما سمعت الله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً). الآية. قال فقال : اللهم! غفرا. كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب.

قال أبو يعلي : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيّد قويّ. قاله ابن كثير.

وفي (الحجة البالغة) ما نصه : لم يضبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهر بحدّ لا يزيد ولا ينقص. إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة. والرغبات لها مراتب شتى. ولهم في المشاحّة طبقات. فلا يمكن تحديده عليهم. كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص. ولذلك قال : التمس ولو خاتما من حديد (١). غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّا. أي نصفا ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ٤ ـ باب السلطان وليّ ، لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «زوجناكها بما معك من القرآن». ونصه : عن سهل بن سعد قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إني وهبت من نفسي. فقامت طويلا. فقال رجل : زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة. قال : «هل عندك من شيء تصدقها؟» قال : ما عندي إلا إزاري. فقال : «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك. فالتمس شيئا» فقال : ما أجد شيئا. قال : «التمس ولو خاتما من حديد» فلم يجد. فقال : «أمعك من القرآن شيء؟» قال : نعم. سورة كذا وسورة كذا. لسور سماها. فقال : «زوجناكها بما معك من القرآن».

٥٨

وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه. أخرج أبو داود والحاكم ، وصححه ، من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «خير الصداق أيسره».

وفي صحيح مسلم (٢) عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا. قال : قد نظرت إليها. قال : على كم تزوجتها؟ قال على أربع أواق. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل. ما عندنا ما نعطيك. ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه. قال فبعث بعثا إلى بني عبس ، بعث ذلك الرجل فيهم.

الثانية : خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي ، تنبيها بالأعلى على الأدنى. لأنه إذا كان هذا ، على كثير ما بذل لامرأته من الأموال ، منهيّا عن استعادة شيء يسير حقير منها ، على هذا الوجه ، كان من لم يبذل إلا الحقير منهيّا عن استعادته بطريق الأولى. ومعنى قوله (وَآتَيْتُمْ) والله أعلم : وكنتم آتيتم. إذ إرادة الاستبدال ، في ظاهر الأحمر ، واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية ـ كذا في الانتصاف.

الثالثة : اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء. واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة. ومنشأ ذلك : أن (أفضى) في قوله تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ). يجوز حملها على الجماع كناية ، جريا على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيي من ذكره. والخلوة لا يستحيي من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية : ويجوز إبقاؤها على ظاهرها.

قال ابن الأعرابيّ : الإفضاء في الحقيقة الانتهاء. ومنه : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ). أي انتهى وآوى. هذا ، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام. ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض. والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع ، لا مجرد الخلوة. فوجب حمل الإفضاء إليه ـ ذكره الرازيّ من

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : النكاح ، ٣١ ـ باب فيمن تزوج ولم يسمّ صداقا حتى مات ، حديث ٢١١٧.

(٢) أخرجه في : النكاح ، ١٢ ـ باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها ، حديث ٧٥.

٥٩

وجوه. ثم قال : وقوله تعالى (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) كلمة تعجب. أي لأيّ وجه ولأيّ معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك ، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما ، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.

الرابعة : في (الإكليل) استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقا. وقال : إنها ناسخة لآية البقرة. وقال غيره : إن هذه الآية منسوخة بها. وقال آخرون : لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها انتهى.

أقول : إن القول الثالث متعين. لأن كلّا من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم. وذلك لأن قوله في البقرة : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] ـ صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثما بترك حقه ، أبيح لها أن تفتدي منه وحلّ له أخذ الفداء مما آتاها ، لقوله تعالى ثمّ : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ، فَإِنْ خِفْتُمْ) [البقرة : ٢٢٩] إلخ. والحكمة في حل الأخذ ظاهرة. وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه ، واسترداد ما لو أخذ منه ، لكان في صورة المظلوم. لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه. فكان من العدل الإلهيّ أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال. وأما هذه الآية فهي في حكم آخر. وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه ، أو ترغب في خلع نفسها منه ، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع ، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئا قط بعد الإفضاء. لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلما واضحا. لأنه أخذ بلا جريرة منها. فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها ، رحمة منه تعالى ، وعدلا في القضيتين. فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين. وليت شعري ماذا يقول في الحديث المرويّ في البخاري (١) وغيره ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرأة ثابت : «أتردّين عليه حديقته!

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الطلاق ، ١٢ ـ باب الخلع وكيفية الطلاق منه ، حديث ٢١٥٣ ونصه : عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله! ثابت بن قيس ، ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتردين عليه حديقته؟» قالت : نعم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقبل الحديقة وطلقها تطليقة».

٦٠