تفسير القاسمي - ج ٣

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٣

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٥

وهي سابغة الذيل ، كلها من هذا النفس البديع.

واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم. وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه‌السلام ، وبين أنه ما حصل لهم ذلك المقصود ، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجلّ المراتب ـ بيّن تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة ، من القطع بكذبهم. مثبتا أنهم في مبالغتهم في عداوته ، سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره ، الذي منه التصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مؤكدا له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩)

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي : ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان ، إلا ليؤمنن به قبل موته. أي : موت عيسى عليه‌السلام. أي : لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام. حتى يدخل فيه جميع أهل الملل. إشارة إلى أن موسى عليه‌السلام ، إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زمانا طويلا ، فالنبيّ الذي ينسخ شريعة موسى ، وهو عيسى عليهما‌السلام ، هو الذي يؤيد الله به هذا النبيّ العربيّ ، في تجديد شريعته ، وتمهيد أمره ، والذود عن دينه. ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة ، وأتباع مستكثرة. أمر قضاه الله تعالى في الأزل. فاقصروا أيها اليهود. فمعنى الآية إذن ، والله أعلم : إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه‌السلام على شك ، إلا وهو يوقن بعيسى عليه‌السلام قبل موته ، بعد نزوله من السماء ، أنه ما قتل وما صلب. ويؤمن به عند زوال الشبهة أفاده البقاعي.

روى البخاريّ (١) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده! ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها. ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأنبياء ، ٤٩ ـ باب نزول عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، حديث ١١١٥.

٤٤١

بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). وأخرجه مسلم (١) أيضا وابن مردويه وزاد بعد قوله (قبل موته) : موت عيسى ابن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.

ورواه الإمام أحمد (٢) عن حنظلة عن أبي هريرة أيضا مرفوعا ولفظه : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطى المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما.

قال وتلا أبو هريرة : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ...). فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال : يؤمن به قبل موت عيسى. فلا أدري هذا كله حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو شيء قاله أبو هريرة.

ورواه حامد (٣) أيضا عن عبد الرحمن عن أبي هريرة وفيه : ويهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام. ويمكث أربعين ثم يتوفى ويصلّي عليه المسلمون. وفي حديث النّوّاس بن سمعان عند مسلم (٤) : فينزل عند المنارة شرقيّ دمشق.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير ، هنا ، الأحاديث المتواترة في نزوله عليه‌السلام ، من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنوّاس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمّع بن جارية وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهم. وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية. وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح.

قال ابن كثير : وقد بنيت في هذه الأعصار ، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، منارة للجامع الأمويّ ، بيضاء من حجارة منحوتة ، عوضا عن المنارة التي هدمت

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث ٢٤٢ ـ ٢٤٦.

(٢) أخرجه في المسند ٢ / ٢٩٠.

(٣) أخرجه في المسند ٢ / ٤٣٧ ونصه : عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الأنبياء إخوة لعلّات. دينهم واحد وأمهاتهم شتى. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ. وإنه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه. فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض. سبط. كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل. بين ممصّرتين (الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة) فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل. حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام. ويهلك الله في زمانه المسيح الكذاب. وتقع الأمنة في الأرض. حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعا. والنمور مع البقر. والذئاب مع الغنم. ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات ، لا يضر بعضهم بعضا. فيمكث ما شاء الله أن يمكث. ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه».

(٤) أخرجه مسلم في : الفتن وأشراط الساعة ، حديث ١١٠.

٤٤٢

بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وكان أكثر عمارتها من أموالهم. وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم عليه‌السلام. وهذا من إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك. انتهى.

قلت : وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى.

وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في (تاريخه) عن بعض السلف ؛ أن عيسى عليه‌السلام ، بعد نزوله ، يدفن مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرته. فالله أعلم.

والتأويل المذكور في الآية رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير (١) والعوفي (٢) ، كلاهما عن ابن عباس.

وروى ابن أبي حاتم بسنده عن الضحاك عن ابن عباس في الآية قال : يعني اليهود خاصة. وبه إلى الحسن : يعني النجاشيّ أصحابه.

وبه إليه قال : إن الله رفع إليه عيسى وهو باعثه قبل يوم القيامة ، مقاما يؤمن به البر والفاجر.

وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد.

قال ابن كثير : وهذا القول هو الحق. وروي عن ابن عباس أيضا ومحمد بن الحنفية ومجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين والضحاك وجويبر ؛ أن المعنى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت ذلك الكتابيّ عند الغرغرة. حين لا ينفعه الإيمان. ذهابا إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل. لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.

قال عكرمة : قال ابن عباس : لا يموت اليهوديّ حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله. ولو عجل بالسلاح.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت : فائدته الوعيد. وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب ، عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم ـ بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به. وليكون إلزاما للحجة لهم. انتهى.

__________________

(١) عن سعيد بن جبير ، الأثر رقم ١٠٧٩٤ و ١٠٧٩٥ من التفسير.

(٢) عن العوفيّ ، الأثر رقم ١٠٨٠٧ من التفسير.

٤٤٣

قال الأصبهانيّ : ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ بن كعب رضي الله عنه (إلا ليؤمننّ به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجمع.

والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلهم صحيحة. كما قاله ابن كثير.

وثمة وجه آخر وهو أن الضمير الأول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني للكتابيّ. رواه ابن جرير (١) : عن عكرمة قال : لا يموت النصرانيّ ولا اليهوديّ حتى يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلا الآية. قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول. وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب ، بعد نزول عيسى عليه‌السلام ، إلا آمن به قبل موته أي : قبل موت عيسى عليه‌السلام.

قال ابن كثير : ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح. لأنه المقصود من سياق الآي ، في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك. فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك. وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه. وهم لا يتبيّنون ذلك. ثم إنه رفعه إليه. وإنه باق حيّ. وإنه سينزل قبل يوم القيامة. كما دلت عليه الأحاديث المتواترة. فيقتل مسح الضلالة ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية (يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف).

فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ. ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم.

ثم قال : فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى : أن كل كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما‌السلام ـ فهذا هو الواقع. وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به. ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له ، إذا كان قد شاهد الملك. كما قال تعالى : في أول هذه السورة : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ...) [النساء : ١٨]. وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) الآية (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) أي : عيسى عليه‌السلام (عَلَيْهِمْ) أي : على أهل الكتاب (شَهِيداً) أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء.

وبعد نزوله إلى الأرض. قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلّغهم الرسالة من الله ، وأقرّ بعبوديته لله عزوجل. وهكذا كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

__________________

(١) الأثر رقم ١٠٨١٣ من التفسير.

٤٤٤

أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ...) إلى قوله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٦].

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) (١٦٠)

(فَبِظُلْمٍ) أي : بسبب ظلم عظيم ؛ فالتنوين للتفخيم. وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه ، بعد أن حرمته التوراة (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي تلبسوا باليهودية. وفيه تعظيم ظلمهم أيضا. إذ صدر عنهم بعد ما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) قال ابن كثير : هذا التحريم قد يكون قدريّا. بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم. فحرموها على أنفسهم تضييقا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيّا. بمعنى أنه تعالى حرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك. كما قال تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) [آل عمران : ٩٣]. أي : ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة. كما قال في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام : ١٤٦]. أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.

ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم (كَثِيراً) أي : ناسا كثيرا. أو صدّا كثيرا. فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق. وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه. ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقا من الأنبياء. وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦١)

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي : في التوراة (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ)

٤٤٥

بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) أي : من اليهود المصرّين على الكفر. لا لمن تاب وآمن من بينهم (عَذاباً أَلِيماً) وجيعا يخلص إلى قلوبهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢)

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) أي : الثابتون في العلم المستبصرون فيه. كعبد الله بن سلام.

قال الرازيّ : الراسخون في العلم : الثابتون فيه. وهم في الحقيقة المستدلون. لأن المقلد يكون بحيث إذا شكّك يشكّ. وأما المستدل فإنه لا يتشكك ، البتة. فالراسخون هم المستدلون (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي : من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ ، بصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك وأنه صدق ما أنزل من قبلك. فلا بد من الإيمان به أيضا (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) قال ابن كثير : هكذا هو في مصاحف الأئمة. وكذا هو في مصحف أبيّ بن كعب.

قال الزمخشريّ : ارتفاع (الراسخون) على الابتداء. و (يؤمنون) خبره و (المقيمين) نصب على المدح. لبيان فضل الصلاة. وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان. وغبي عليه أن السابقين الأولين ، الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذب المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم. وخرقا يرفوه من يلحق بهم.

وقيل : هو عطف على (بما أنزل إليك) أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو. وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ. انتهى.

وجوز عطف (المقيمين) على الضمير في (منهم) وعطفه على الضمير في

٤٤٦

(إليك). والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه. قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [يونس : ٥٧] كذا في حواشي الشذور. وقد أشار الزمخشريّ بقوله (كانوا أبعد همة) إلى ردّ ما نقل ، أن عثمان رضي الله عنه ، لما فرغ من المصحف أتى به إليه. فقال : قد أحسنتم وأجملتم. أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش ، لم يوجد فيه هذا.

قال الحافظ السخاويّ : هذا الأثر ضعيف. والإسناد فيه اضطراب وانقطاع. لأن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماما يقتدون به. فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط ، إلا فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ، كيف يقيمه غيرهم؟

وتأول قوم اللحن في كلامه (على تقدير صحته عنه) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله :

منطق رائع وتلحن أحيا

نا. وخير الكلام ما كان لحنا

أي : المراد به الرمز. بحذف بعض الحروف خطّا. كألف (الصّابرين) مما يعرفه القراء إذا رأوه. وكذا زيادة بعض الحروف. كذا في (عناية الراضي) (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) رفعه بالعطف على (الرَّاسِخُونَ) أو على الضمير في (يُؤْمِنُونَ) أو على أنه مبتدأ ، والخبر (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ). والوجوه المذكورة تجري في (الْمُقِيمِينَ) على قراءة الرفع (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني : والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب. وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع ، لأنه المقصود في هذا المقام. لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم. وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه. فبيّن لهم ما يلزمهم ويجب عليهم (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) يعني الجنة. لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.

لطيفة :

في الآية وجوه من الإعراب. أحسنها ما اعتمده أبو السعود ، من أن جملة (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) إلخ خبر للمبتدأ الذي هو (الرَّاسِخُونَ) وما عطف عليه. وأن جملة (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ) إلخ حال من (الْمُؤْمِنُونَ) مبينة لكيفية إيمانهم. أو اعتراض مؤكد لما قبله. قال : وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم. كأنه قيل إثر قوله تعالى

٤٤٧

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما. وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ) إلخ خبرا للمبتدأ ، ففي كمال السداد ، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣)

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشادا ، ولكن للتعنت واللجاج ، وبيّن أنواعا من فضائحهم ـ أشار إلى رد شبهتهم. فاحتج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل. وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم. ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى. وإذ لم يكن هذا من شرط النبوة ، وضح أن سؤالهم محض تعنت.

تنبيه :

قيل : بدأ بنوح لأنه أول نبيّ شرع الله تعالى على لسانه الأحكام ، والحلال والحرام. وفي (العناية) بدأ به تهديدا لهم. لأنه أول نبيّ عوقب قومه. لا أنه أول مشرع ، كما توهم. وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. لا أنه غير موحى إليه أصلا ، كما قيل. انتهى. (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب عليهم‌السلام (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤)

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي : في السور المكية (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي : لم نسمهم لك في القرآن. وقد أحصى بعض المدققين أنبياء

٤٤٨

اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين. روى في عدتهم أحاديث تكلّم في أسانيدها. منها حديث أبي ذر : إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر. صححه ابن حبان. وخالفه ابن الجوزيّ فذكره في (موضوعاته) واتهم به إبراهيم بن هاشم. وقد تكلم فيه غير واحد (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة. لأن تأكيد (كلّم) بالمصدر يدلّ على تحقيق الكلام. وأن موسى عليه‌السلام سمع كلام الله بلا شك. لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر. فلا يقال : أراد الحائط يسقط إرادة. وهذا رد على من يقول : إن الله خلق كلاما في محلّ. فسمع موسى ذلك الكلام. قال الفراء : العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما ، بأي طريق وصل. لكن لا تحققه بالمصدر. وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام. فدل قوله تعالى (تَكْلِيماً) على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة. قال بعضهم : كما أن الله تعالى خص موسى عليه‌السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء ، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء. كذا في (اللباب).

تنبيه :

يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام. فإنها من أعظم مسائل الدين. وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين. واضطربت فيها الأقوال. وكثرت بسببها الأهوال. وأثارت فتنا وجلبت محنا. وكم سجنت إماما. وبكت أقواما. وتشعبت فيها المذاهب. واختلفت فيها المشارب. ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة. المقتفين لأثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم. فنقول : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عليه رحمة الرحيم السلام ، في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه :

فصل

ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان. مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات ، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة : أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدا وإليه يعود. هكذا قال غير واحد من السلف. روي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال : ما زلت أسمع

٤٤٩

الناس يقولون ذلك. القرآن الذي أنزله الله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم. وهو كلام الله لا كلام غيره. وإن تلاه العباد وبلّغوه بحركاتهم وأصواتهم. فإن الكلام لمن قاله مبتدئا ، لا لمن قاله مبلغا مؤديا. قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦]. وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢]. وقال تعالى : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة : ٢ ـ ٣]. وقال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٨]. والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه. كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله. وإعراب الحروف هو من تمام الحروف. كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات. وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : حفظ إعراب القرآن أحبّ إلينا من حفظ بعض حروفه.

ثم قال رحمه‌الله : والتصديق بما ثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه‌السلام بصوت ، إلى أمثال ذلك من الأحاديث. فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة. وقال أئمة السنة : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، حيث تلي ، وحيث كتب. فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة. لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل. ولا يقال غير مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد. ولم يقل قط أحد من أئمة السلف : إن أصوات العباد بالقرآن قديمة. بل أنكروا على من قال (لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق) وأما من قال : إن المداد قديم ـ فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة. قال الله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [الكهف : ١٠٩] ، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته. وكذلك من قال (ليس القرآن في المصحف. وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة) فهو مبتدع ضال. بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما بين الدفتين. والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس ، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء. وكذلك من زاد على السنة فقال : إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة ، مبتدع ضال. كمن قال : إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت ـ فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة. وكذلك من زاد وقال : إن المداد قديم ـ فهو ضال. كمن قال : ليس في المصاحف كلام الله. وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون : إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط ، كلام الله ـ فهو بمنزلة من يقول : ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه. هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل

٤٥٠

التكذيب من جانب النفي. وكلاهما خارج عن السنة والجماعة. وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة ، نفيا وإثباتا. وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل. فإن من قال : إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم ، فهو ضال جاهل. ومن قال : إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن ـ فهو ضال مبتدع. بل الواجب أن يقال. هذا القرآن العربيّ هو كلام الله. وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها. كما دخلت معانيه. ويقال : وما بين اللوحين جميعه كلام الله. فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله. وإن كان غير منقوط ولا مشكول ، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة ، كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله. فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظيّ لا حقيقة له. ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.

وسئل رحمه‌الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما : القرآن حرف وصوت. وقال الآخر : ليس هو بحرف ولا صوت. وقال أحدهما : النقط التي في المصحف والشكل من القرآن. وقال الآخر : ليس ذلك من القرآن. فما الصواب في ذلك؟

فأجاب رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس. ويخلطون الحق بالباطل. فالذي قال : إن القرآن حرف وصوت ، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله ، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين ، وأن جبرئيل سمعه من الله ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢]. وقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [الأنعام : ١١٤] ـ فقد أصاب في ذلك. فإن هذا مذهب من سلف الأمة وأئمتها. والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع. ومن قال : إن القرآن العربيّ لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره ، عبّر به عن المعنى القائم بذات الله ، كما يقول ذلك ابن كلّاب والأشعريّ ومن وافقهما ـ فهو قول باطل من وجوه كثيرة. فإن هؤلاء يقولون : إنه معنى واحد قائم بالذات. وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد. وإنه لا يتعدد ولا يتبعض. وإنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وبالعبرانية كان توراة. وبالسريانية كان إنجيلا. فيجعلون معنى آية الكرسي ، وآية الدّين ، وقل هو الله أحد ، وتبت يدا أبي لهب ، والتوراة والإنجيل وغيرهما ـ معنى واحدا. وهذا قول فاسد بالعقل والشرع. وهو قول أحدثه ابن كلاب. لم يسبقه إليه غيره من السلف. وإن أراد قائل بالحرف والصوت ، أن الأصوات

٤٥١

المسموعة من القراء ، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي ـ أخطأ وابتدع ، وقال ما يخالف العقل والشرع. فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (١) : زينوا القرآن بأصواتكم. فبين أن الصوت صوت القارئ. والكلام كلام الباري. كما قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦]. فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله لا كلام غيره. كما ذكر الله ذلك. وفي السنن (٢) عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال : ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي. قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) : هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي. ولكنه كلام الله تعالى.

والناس إذا بلّغوا كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) كقوله : إنما الأعمال بالنيات ـ يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه. والمحدّث بلّغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالقرآن أولى أن يكون كلام الله ، إذا بلّغته الرسل عنه ، وقرأه الناس بأصواتهم. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه. ونادى موسى بصوت نفسه. كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف. وصوت العبد ليس هو صوت الرب. ولا مثل صورته. فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وقد نص أئمة الإسلام ، أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة : من أن الله ينادي بصوت. وإن القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت. ليس منه شيء كلاما لغيره. لا جبرئيل ولا غيره. وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم. فالصوت المسموع من العبد صوت

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التوحيد ، ٥٢ ـ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة وزينوا القرآن بأصواتكم».

قال الحافظ في (الفتح) : هذا الحديث من الأحاديث التي عقلها البخاريّ ولم يصلها في موضع آخر من كتابه. وقد أخرجه في كتاب (خلق أفعال العباد) من رواية عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء ، بهذا.

وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارميّ ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من هذا الوجه.

(٢) أخرجه أبو داود في : السنّة ، ٢٠ ـ باب في القرآن ، حديث ٤٧٣٤.

(٣) أخرجه البخاريّ في : الوحي ، ١ ـ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حديث ١.

عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

٤٥٢

القارئ. والكلام كلام الباري. وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب. بل يجعل هذا هو هذا. فينفيهما جميعا. ويثبتهما جميعا. فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربيّ كلام الله ، وأن يكون مناديا لعباده بصوته ، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله. كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله. ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا. لا فرق بين القديم والحادث. وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني ، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل. حيث جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق. وإذا أثبت ، جعل صوت الرب هو صوت العبد ، أو سكت عن التمييز بينهما ، مع قوله : إن الحروف متعاقبة في الوجود ، مقترنة في الذات ، قديمة أزلية الأعيان ، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد ، ويتحد بصفته ، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل. وقد علم أن نفي الفرق والمباينة ، بين الخالق وصفاته ، والمخلوق وصفاته ، خطأ وضلال. لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها. بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد. ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حروفه ومعانيه. وأنه ينادي عباده بصوته. ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد. وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد ، ولا مداد المصاحف ، قديما. بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين. مقروء بألسنتهم. محفوظ بقلوبهم. وهو كلام الله. والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط. لأنهم كانوا عربا لا يلحنون. ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها. فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز. وإن كتبت بنقط وشكل جاز. ولم يكره ، في أظهر قولي العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم النقط والشكل حكم الحروف فإن الشكل يبين إعراب القرآن ، كما يبين النقط الحروف. والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط ، مخلوق. وكلام الله العربيّ الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط ، وبغير شكل ونقط ، ليس بمخلوق. وحكم الإعراب حكم الحروف. لكن الإعراب لا يستقل بنفسه. بل هو تابع للحروف المنقوطة. والشكل والنقط لا يستقل بنفسه. بل هو تابع للحروف المرسومة. فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام. بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله : معانيه وحروفه وإعرابه. والله تكلم بالقرآن العربيّ الذي أنزله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والناس يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم ، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله. وهو القرآن العربيّ

٤٥٣

الذي أنزل على نبيه. سواء كتب بشكل ونقط ، أو بغير شكل ونقط. والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق. والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل ، غير مخلوق. والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين. لأن كلام الله مكتوب فيها. واحترام النقط والشكل ، إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا ، كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين. كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين. ولهذا قال أبو بكر وعمر : حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه. فجميعه كلام الله. فلا يقال : بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله. وهو سبحانه نادى موسى. بصوت سمعه موسى. فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن. كما قال تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٥ ـ ١٦] .. والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة. وقد قال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٣ ـ ١٦٤]. فقد فرّق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى. فمن قال : إن موسى لم يسمع صوتا ، بل ألهم معناه ـ لم يفرق بين موسى وغيره. وقد قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣] ، وقال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١]. فقد فرّق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب. كما كلم الله موسى. فمن سوّى بين هذا وهذا ، كان ضالًّا. وقد قال الإمام أحمد رحمه‌الله وغيره : لم يزل الله متكلما إذا شاء. وهو يتكلم بمشيئته وقدرته. يتكلم بشيء بعد شيء. كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) [طه : ١١] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك. وقال تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ ، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ، وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢]. فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة. ولم ينادهما قبل ذلك. وكذلك قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١]. بعد أن خلق آدم وصوّره. ولم يأمرهم قبل ذلك. وكذا قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ

٤٥٤

كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩]. فأخبر أنه قال له : كن فيكون. بعد أن خلقه من تراب. ومثل هذا الخبر في القرآن كثير. يخبر أنه تكلم في وقت معين. ونادى في وقت معين. وقد ثبت في الصحيحين (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨]. قال : نبدأ بما بدأ الله به. فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.

والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق. منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين. ثم قالت طائفة : هو معنى واحد. وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهيّ والخبر بكل مخبر. إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا. وهذا القول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة : هو حروف وأصوات قديمة الأعيان ، لازمة لذات الله ، لم تزل لازمة لذاته. وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا. أزلا وأبدا. لم تزل ولا تزال. لم يسبق منها شيء شيئا. وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة : إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته. وإنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى. وإنما تجدد استماع موسى. لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس ، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى. ولكن تلك الساعة سمع النداء. وهؤلاء وافقوا الذين قالوا : إن القرآن مخلوق ، في أصل قولهم. فإن أصل قولهم : إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وقالوا : هذه حوادث. والرب لا تقوم به الحوادث. فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول.

واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم. وأخطئوا في ذلك. فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا. وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به ، ولا فعل يفعله. وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا. بغير أمر حدث. أو يغيّرون العبارة فيقولون : لم يزل قادرا. لكن يقولون : إن المقدور كان ممتنعا. وإن الفعل صار ممكنا له ، بعد أن صار ممتنعا عليه. من غير تجدد شيء. وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا : كان قادرا في الأزل على ما يمكن ، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل. فيجمعون بين النقيضين. حيث يثبتونه قادرا في حال كونه المقدور عليه ممتنعا عندهم. ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل ، وبين عينه كما لم يفرّق الفلاسفة بين هذا وهذا. بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الحج ، ١٩ ـ باب حجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حديث ١٤٧.

٤٥٥

بقدمه. فضلّوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم. بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث. بعد أن لم يكن. إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته. كما تدل على ذلك الدلائل القطعية. والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما ، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء. بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته. ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين ، له. ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة. فكيف بالفاعل بالإرادة؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته ، إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط. فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط. بل قد يقارنه. كما تقارن الحياة العلم. وأما ما كان فاعلا ، سواء سمي علة أو لم يسم ، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين. والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته. ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين. وقول القائل (حركت يدي فتحرك الخاتم) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين. ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل. ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه. ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث. وهذا خلاف المشاهدة. وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل. بل لم يزل متكلما إذ شاء ، فاعلا لما يشاء ، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال ، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام. والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب. وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته. وفيه من الإحسان ما دل على رحمته. وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته. وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى. مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته ، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود. لا نقص فيه. منزه عن كل نقص. وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره. فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل. منزه فيها عن التشبيه والتمثيل. ومنزه عن النقائص مطلقا. فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل. وكماله من لوازم ذاته المقدسة. لا يستفيده من غيره. بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء. وما جعله فيهم من صفات الأحياء. وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله ، أن الجهمية والمعتزلة ، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم ، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا. بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده. والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام. بل كان ذلك ممتنعا عليه. وكان معطلا عن ذلك. وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على

٤٥٦

الفعل فيما لا يزال ، مع امتناع الفعل عليه في الأزل. فيجمعون بين النقيضين. حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته. إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا. والأزل لا أول له. والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين. ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث. وهو الفعل المعين والمفعول المعين. وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام. بل هذا يكون دائما. وإن كان كلّ من آحاده حادثا. كما يكون دائما في المستقبل ، وإن كان كل من آحاده فانيا. بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما ، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل. ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك. لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة ، كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب الوجود بغيره. فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء. مع مخالفتهم لسلفهم ، أرسطو وأتباعه ، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك. وإن قالوا بقدم الأفلاك. وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين. بناء على إثبات علة غاية لحركة الفلك. بتحرك الفلك للنسبة بها. لم يثبتوا له فاعلا مبتدعا. ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره. وهم ، وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم ، فهم يسلمون لجمهور العقلاء ، أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم. فاحتاجوا أن يقولوا : كلامه مخلوق منفصل عنه. وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له. لكن قالوا : تقوم به الأمور الاختيارية. فقالوا : إنه في الأزل لم يكن متكلما ، بل ولا كان الكلام مقدورا له. ثم صار متكلما بلا حدوث حادث ، بكلام يقوم به. وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم. وطائفة قالت : إذا كان القرآن غير مخلوق ، فلا يكون إلا قديم العين ، لازما لذات الرب. فلا يتكلم بمشيئته وقدرته. ثم منهم من قال : هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض. ومنهم من قال : إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات. وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته. وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية. وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض. ولن يأتي يوم القيامة. ولم يناد موسى حين ناداه. ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات. ولا تفرحه توبة التائبين. وقالوا في قوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٥] ، ونحو ذلك ، أنه لا يراها إذا وجدت. بل إما أنه لم يزل رائيا لها. وإمّا أنه لم يتجدد شيء موجود ، بل تعلق معدوم. إلي أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة. مع مخالفة صريح العقل. والذي ألجأهم لذلك ، موافقتهم للجهمية على

٤٥٧

أصل قولهم : في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام. وخالفوا السلف والأئمة في قولهم : لم يزل الله متكلما إذا شاء. ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم : الخلقية. والحدوثية. والاتحادية. والاقترانية. وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة. الذين يقولون : إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته. لا قديم النوع ولا قديم العين. ولا حادث ولا مخلوق. بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء. ويقولون : إنه كلم موسى من سماء عقله. وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات. فإنه إنما يعلمها على وجه كلّي. ويقولون ، مع ذلك : إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله. وقولهم (يعلم نفسه ومفعولاته) حق ، كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤]. لكن قولهم ، مع ذلك (إنه لا يعلم الأعيان المعينة) جهل وتناقض. فإن نفسه المقدسة معينة. والأفلاك معينة. وكل موجود معين. فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات. إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان. فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات : تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا. وهم ، إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى. إن هؤلاء يقولون : إن الحوادث تقوم بالقديم. وإن الحوادث لا أول لها. لكن نفوا ذلك عن الباري. لاعتقادهم أنه لا صفة له. بل هو وجود مطلق. وقالوا : إن العلم نفس عين العالم. والقدرة نفس عين القادر. والعلم والعالم شيء واحد. والمريد والإرادة شيء واحد. فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى. وجعلوا الصفات هي الموصوف. ومنهم من يقول : بل العلم كل المعلوم. كما يقوله الطوسيّ صاحب (شرح الإشارات) فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه. وابن سينا أقرب إلى الصواب. لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به ، وجعل الصفة عين الموصوف ، وكل صفة هي الأخرى. ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول : معاني الكلام شيء واحد. لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا : إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا ، جاز أن يكون العلم هو القدرة ، والقدرة على الإرادة. فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه. ثم قالوا : وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى ، جاز أن تكون الصفة هي الموصوف. فجاء ابن عربيّ وابن سبعين والقونويّ ونحوهم ، فقالوا : إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف ، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق ، هو الموجود الممكن المحدث المخلوق. فقالوا : إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق. وقالوا :

٤٥٨

الوجود واحد. ولم يفرّقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين. كما لم يفرّق أولئك بين الكلام الواحد بالعين ، والكلام الواحد بالنوع. وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام ، إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد. الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات. كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه ، وقالوا : هو يتكلم بحرف وصوت قديم ، قالوا : أولا إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ولا تسبق الباء السين ، بل لما نادى موسى فقال : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي). (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ، كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودا في الأزل ، يقارن بعضها بعضا ، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله. ثم قال فريق منهم : إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القرّاء. وقال بعضهم : بل المسموع صوتان : قديم ومحدث. وقال بعضهم : أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم : محل المداد قديم أزليّ. وحكي عن بعضهم أنه قال : المداد قديم أزليّ وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه. بل منهم من يظن أنه قديم في علمه. ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره. ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق. ومنهم من لا يميز بين ما يقول. فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات. ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات. وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل. والصواب في هذا الباب وغيره ، مذهب سلف الأمة وأئمتها : أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء. وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى. لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم. وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته. ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال ـ باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات ـ باطلة. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. وقد بسطناها في (الواجب الكبير). والله أعلم بالصواب. (وقال تقي الدين أيضا في مقالة له في هذا البحث) : أول من أظهر إنكار التكليم والمخالّة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية. وأمر علماء الإسلام ، كالحسن البصريّ وغيره ، بقتله. فضحّى به خالد بن عبد الله القسريّ ، أمير العراق بواسط. فقال : أيها الناس ضحوا. تقبل الله ضحاياكم. فإني مضحّ بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا. ولم يكلم موسى تكليما. تعالى الله عما يقول الجعد علوّا كبيرا.

٤٥٩

ثم نزل فذبحه. وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان. فأنكر أن يكون الله يتكلم. ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام وقال : كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر. ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل ، من المنتسبين إلى الإسلام ، من المعتزلة ونحوهم ، في بعض مقالة الصابئة والمشركين. متعاقبة للجعد والجهم. وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين : منهم من يقول : إن السموات مخلوقة بعد أن لم تكن. كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى. ومنهم من ابتدع فقال : بل هي قديمة أزلية. لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه. ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية. ولهم مقالات كثيرة الاضطراب ، في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد. لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى يجمعهم. والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور. التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى. وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية. وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء. والحيوان والمعدن والنبات. ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله ، وعلم ما فوق السموات. وأول الأمر وآخره. وهذا غلط بيّن. اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن. وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين. وأنهم إن يتبعون إلا الظن. فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى ، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله ، من أهل الكلام والجدل ـ صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم. كما أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (١) : لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. قالوا يا رسول الله! فارس والروم؟ قال : ومن الناس إلا فارس والروم؟ فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة. وهو الكلام في الأجسام والأعراض. بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام. ثم حدوثها. ثم يقال ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم. فلما رأوا أن الأعراض ، التي هي الصفات ، تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض ـ التزموا نفيها عن الله. لأن ثبوتها مستلزم حدوثه. وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه بل ربما اعتقدوا أنه لا

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الاعتصام ، ١٤ ـ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لتتبعن سنن من كان قبلكم ، حديث ٢٥٨٩ ونصه : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها ، شبرا بشبر وذراعا بذراع» فقيل : يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال «ومن الناس إلا أولئك»؟

٤٦٠