تفسير القاسمي - ج ٣

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٣

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٥

هذا ما نقله ابن كثير. وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة ؛ أن الآية واردة في صلاة الخوف ، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة. بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتمّ بركعة. ويصلي منفردا في ركعة. انتهى.

قال العلامة أبو السعود : إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته. وفي حق ما يتعلق به من الصلوات. وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر. فكل ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القصر في حال الأمن ، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف ، وبالضرب في المدة المعينة ـ بيان لإجمال الكتاب.

المسألة الثانية ـ إذا حمل القصر على قصر العدد ، وأن الرباعية تكون ركعتين ، فما حكم هذا القصر؟ قلنا : في هذا مذاهب أربعة : الأول ـ أن القصر رخصة والإتمام أفضل. الثاني ـ أنه حتم ، الثالثة ـ أنه سنة غير حتم. الرابع ـ أنه مخير كما يخير في الكفارات. وأنهما ، أعني القصر والإتمام ، واجبان. وهاك بيان متعلق هذه المذاهب. تعلق أهل القوم الأول بقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ). وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز ، لا فيما هو فرض. نحو : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) [البقرة : ٢٣٠] و (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [البقرة : ٢٣٦]. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩]. إن قيل : قد يستعمل ذلك في الواجب مثل : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٧٨]. أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز. ومن جهة السنة ، ما روي عن عائشة قالت : اعتمرت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت : يا رسول الله! بأبي وأمي أنت! قصرت وأتممت. وصمت وأفطرت. فقال : أحسنت ، يا عائشة! وما عاب عليّ. وكان عثمان يقصر ويتم.

ومن جهة المعنى ، أو المعقول والمفهوم من لفظ (القصر) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر. كما خص له في الإفطار. وفي الحديث : تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا : حملنا لفظ الجناح على الفرض ، وإن كان مجازا ، لما روي عن ابن عباس (١) قال : فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. وعن عمر (٢) : صلاة الجمعة ركعتان وصلاة

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : إقامة الصلاة والسنة فيها ، ٧٣ ـ باب تقصير الصلاة في السفر ، حديث ١٠٦٨.

(٢) أخرجه ابن ماجة في : إقامة الصلاة والسنة فيها ، ٧٣ ـ باب تقصير الصلاة في السفر ، حديث ١٠٦٤.

٣٠١

السفر ركعتان. تمام غير قصر. على لسان نبيّكم. وكانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره ركعتين. وأقام بمكة ثمانية عشر يوما يقصر ويقول : أتموا ، يا أهل مكة! فإنا قوم سفر. وعن الشعبيّ : من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم. وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى. فأنكر عليه عبد الله بن مسعود. وقال : صليت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين. وخلف أبي بكر ركعتين. منفصلتين. فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار. منها أنه قد تأهل. وقيل : أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة. وهو مذهب سعد بن أبي وقاص. فيكون قولنا : قصرت الصلاة ، مجازا ، لأنها تامة إذا نقص من الأربع. ويقولون : هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل. ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات ، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين. فكان واجبا مخيّرا. ومن قال : إنه سنة ، فلأن المشهور عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم القصر في الأسفار ، كذا في تفسير بعض الزيدية.

أقول : حديث عائشة المذكور. رواه النسائيّ والدّارقطنيّ والبيهقيّ. واختلف قول الدّارقطنيّ فيه ، فقال في (السنن) : إسناده حسن. وقال في (العلل) : المرسل أشبه. وقال ابن حزم : هذا حديث لا خير فيه. وطعن فيه. وقال ابن النحويّ (في البدر المنير) : في متن هذا الحديث نكارة. وهو كون عائشة خرجت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمرة رمضان. والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة. وأطال في ذلك.

وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) : وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصر الرباعية. فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة. ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة. وأما حديث عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم فلا يصح. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى.

وقد روي (كان يقصر وتتم) الأول بالياء آخر الحروف. والثاني بالتاء المثناة من فوق. وكذلك (يفطر وتصوم) أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين.

قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل. ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع أصحابه. فتصلي خلاف صلاتهم. كيف؟ والصحيح عنها (١) ؛ أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين. فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة زيدت في

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الصلاة ، ١ ـ كيف فرضت الصلوات في الإسراء ، حديث ٢٣٦.

٣٠٢

صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. فكيف يظن بها ، مع ذلك ، أن تصلي بخلاف صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين معه؟.

ثم قال ابن القيم : قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس وغيره : إنها تأولت كما تأول عثمان. وإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقصر دائما. فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصر وتتم هي. فغلط بعض الرواة فقال : كان يقصر ويتم. أي : هو. والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه. فقيل : ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر. فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر. وهذا التأويل غير صحيح. فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سافر آمنا. وكان يقصر الصلاة. والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره. فسأل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجابه بالشفاء. وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة. وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد. وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف. وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم ، أو رفع له. وقد يقال : إن الآية اقتضت قصرا يتناول الأركان بالتخفيف. وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض والخوف. فإذا وجد الأمران ، أبيح القصر. فيصلون صلاة تامة كاملة. وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده. فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد. وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية. فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان ، وسميت صلاة أمن. وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق. وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة ، باعتبار نقصان العدد. وقد تسمى تامة ، باعتبار إتمام أركانها ، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين. والثاني يدل عليه كلام الصحابة. كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين. فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع. وإنما هي مفروضة كذلك. وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعا. وفي السفر ركعتين. وفي الخوف ركعة. متفق على حديث عائشة. وانفرد مسلم (١) بحديث ابن عباس.

وقال عمر بن الخطاب (٢) : صلاة السفر ركعتان. والجمعة ركعتان. والعيد

__________________

(١) أخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٥.

(٢) أخرجه ابن ماجة في : إقامة الصلاة والسنة فيها ، ٧٣ ـ باب تقصير الصلاة في السفر ، حديث ١٠٦٤.

٣٠٣

ركعتان. تمام غير قصر على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه. وهو الذي سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدقة تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته. ولا تناقض بين حديثيه. فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ، ودينه اليسر السمح ، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد ، كما فهمه كثير من الناس ، فقال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح ، منفيّ عنه الجناح. فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يواظب في سفره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف. كما سنذكره هناك ، ونبيّن ما فيه إن شاء الله تعالى. وقال أنس (١) : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة. وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. متفق عليه.

ولما بلغ (٢) عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون. صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى ركعتين. وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين. فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. متفق عليه. ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما. بلى الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه على ركعتين. وفي صحيح البخاريّ (٣) عن ابن عمر رضي الله عنه قال : صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكان في السفر لا يزيد على ركعتين. وأبا بكر وعمر وعثمان (يعني في صدر خلافة عثمان). وإلا فعثمان قد أتمّ في آخر خلافته. وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه. وقد خرج لفعله تأويلات : أحدها ـ أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة. فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع ، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر. ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكانوا حديثي عهد بالإسلام ، والعهد بالصلاة قريب. ومع هذا فلم يربع بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الثاني ـ أنه كان إماما للناس. والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : تقصير الصلاة ، ١ ـ باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر ، حديث ٥٩٥.

(٢) أخرجه البخاريّ في : تقصير الصلاة ، ٢ ـ باب الصلاة بمنى ، حديث ٥٩٨.

(٣) أخرجه البخاريّ في : تقصير الصلاة ، ١١ ـ باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها ، حديث ٦٠٦.

٣٠٤

فكأنه وطنه ، وردّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان هو أولى بذلك. وكان هو الإمام المطلق ولم يربّع ، التأويل الثالث ـ أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده. ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بل كانت فضاء. ولهذا قيل له : يا رسول الله! ألا تبني لك بمنى بيتا يظلك من الحر؟ فقال : لا. منى مناخ من سبق. فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر. ورد هذا التأويل بأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام بمكة عشرا يقصر الصلاة. التأويل الرابع ـ أنه أقام بها ثلاثا. وقد قال (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثا. فسماه مقيما. والمقيم غير مسافر. ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيّدة في أثناء السفر ، ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر. وقد أقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة. وأقام بمنى بعد نسكه ، أيام الجمار الثلاث ، يقصر الصلاة. التأويل الخامس ـ أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى ، واتخاذها دار الخلافة. فلهذا أتم. ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة. وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى. فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين. وقد منع صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه. ورخص له ثلاثة أيام فقط. فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك. وإنما رخص فيها ثلاثا. وذلك لأنهم تركوها لله. وما ترك الله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع. ولهذا منع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شراء المتصدق لصدقته. وقال لعمر (٢) : لا تشترها ولا تعد في صدقتك. فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن. التأويل السادس ـ أنه كان قد تأهل بمنى. والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة ، أتم. ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فروى عكرمة عن إبراهيم الأزديّ عن أبي ذياب عن أبيه قال : صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال : يا أيها الناس! لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه الإمام أحمد (٣) في (مسنده) وعبد الله بن الزبير الحميديّ في (مسنده) أيضا. وقد أعله البيهقيّ بانقطاعه وتضعيف عكرمة.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الحج ، حديث ٤٤٢ ونصه : عن العلاء بن الحضرميّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ، ثلاثا».

(٢) أخرجه البخاريّ في : الهبة ، ٣٧ ـ باب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمري والصدقة ، حديث ٧٩٧ ونصه : عن زيد بن أسلم قال : سمعت أبي يقول : قال عمر رضي الله عنه : حملت على فرس في سبيل الله. فرأيته يباع. فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا تشتر. ولا تعد في صدقتك».

(٣) أخرجه في المسند ص ٦٢ ج ١ حديث ٤٤٣ ونصه : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ـ

٣٠٥

قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف. فإن البخاريّ ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه. وعادته ذكر الجرح والمجروحين. وقد نص أحمد ، وابن عباس قبله ، أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام. وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما. وهذا أحسن من اعتذر به عن عثمان. وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين. فحيث نزلت فكان وطنها. وهو أيضا اعتذار ضعيف. فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو المؤمنين. وأمومة أزواجه فرع على أبوته. ولم يكن يتم لهذا السبب. وقد روى هشام ابن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا. فقلت لها : لو صليت ركعتين؟ فقالت : يا ابن أختي! لا يشق عليّ.

قال الشافعيّ رحمه‌الله : لو كان فرض المسافر ركعتين ، لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود. ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم. وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أتم وقصر. ثم روي عن إبراهيم عن محمد عن طلحة ابن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت : كل ذلك فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قصر الصلاة في السفر ، وأتم.

قال البيهقيّ : وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء. وأصحّ إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحازميّ عن الدّارقطنيّ عن المحامليّ : حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب. حدثنا أبو عاصم. حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء ، عن عائشة ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم. ويفطر ويصوم. قال الدّارقطنيّ : وهذا إسناد صحيح. ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوريّ عن عباس الدوريّ : أنا أبو نعيم. حدثنا العلاء بن زهير. حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة ، أنها اعتمرت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة. حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! قصرت وأتممت وصمت وأفطرت. قال : أحسنت ، يا عائشة!

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الصحابة. وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين. فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله؟ وتخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه؟

__________________

ـ ذباب عن أبيه : أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات. فأنكره الناس عليه. فقال : يا أيها الناس! إني تأهلت بمكة منذ قدمت. وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من تأهل في بلد. فليصلّ صلاة المقيم».

٣٠٦

قال الزهريّ لعروة ، (لما حدثه عن أبيه عنها بذلك) : فما شأنها؟ كانت تتم الصلاة. فقال : تأولت كما تأول عثمان. فإذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حسن فعلها وأقرها ، فما للتأويل حينئذ وجه. ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير. وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر. أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها أتمت. كما أتم عثمان. وكلاهما تأول تأويلا. والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم. مع مخالفة غيره له. والله أعلم.

وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن. ولا نجد صلاة السفر في القرآن. فقال له ابن عمر : يا أخي! إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نعلم شيئا. فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل. وقد قال أنس (١) : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة. فكان يصلي ركعتين ركعتين. حتى رجعنا إلى المدينة. وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكان لا يزيد في السفر على ركعتين. وأبا بكر وعمر وعثمان رضي عنهم. وهذه كلها أحاديث صحيحة. انتهى كلام ابن القيّم.

قال الإمام الشوكانيّ في (نيل الأوطار) : وقد استدل ، بحديثي عائشة ، القائلون بأن القصر رخصة. ويحاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه. لما تقدم من أن لفظ (تتم وتصوم) بالفوقانية. لأن فعلها ، على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا حجة فيه. فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة؟ وأما الحديث الأول ، فلو كان صحيحا ، لكان حجة. لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجواب عنها : أحسنت. ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة. وهذا بعد تسليم أنه حسن ، كما قال الدّارقطنيّ. فكيف؟ وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة. فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض. انتهى.

المسألة الثالثة ـ استدل بعموم الآية من جوّز القصر في كل سفر طويلا أو قصيرا. ووجهه أن قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يصدق على كل ضرب.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : تقصير الصلاة ، ١ ـ باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر ، حديث ٥٩٥.

٣٠٧

ولكنه خرج الضرب أي : المشي لغير السفر ، لما كان يقع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ، ولا يقصر. ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء. فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا. ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل ، يعد في مسيره إليه مسافرا ، قصر الصلاة. وإن كان ذلك المحل دون البريد. ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك ، بحجة نيرة. وغاية ما جاءوا به حديث (١) : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم. وفي رواية : يوما وليلة. وفي رواية : بريدا. وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه. والاحتجاج به مجرد تخمين. وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائيّ قال : سألت أنسا عن قصر الصلاة؟ فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ، صلى ركعتين. والشك من شعبة. أخرجه مسلم وغيره. فإن قلت : محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم ، هو كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى ذلك سفرا. قلت : تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا. فقد سمى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسافة الثلاث سفرا. كما سمى مسافة البريد سفرا ، في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية. وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا. فإن قلت : أخرج الدّارقطنيّ والبيهقيّ والطبرانيّ من حديث ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد. من مكة إلى عسفان ـ قلت : هو ضعيف لا تقوم به الحجة. فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر. وهو متروك. وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها. والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة. كذا في (الروضة الندية). (وفي المصباح) : سفر الرجل سفرا مثل طلب ، خرج للارتحال. وفي (القاموس) : قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار : ذوو سفر ، لضدّ الحضر.

هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة.

ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملا بيّن كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها ، ويكتفي فيما عداها ببيان السنة ، فقال تعالى :

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الحج ، حديث ٤٢٣ ونصه : عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ، أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا ، إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها».

٣٠٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢)

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) أي : مع أصحابك شهيدا وأنتم تخافون العدوّ (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي : أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي ، لوفور أجرها ، بتحمل مشاقها (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في الصلاة. أي بعد أن جعلتم طائفتين. ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ ليحرسوكم منهم. وإنما لم يصرح به لظهوره (وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة التي قامت معك (أَسْلِحَتَهُمْ) معهم لأنه أقرب للاحتياط (فَإِذا سَجَدُوا) أي : القائمون معك ، سجدتي الركعة الأولى وأتموا الركعة ، فارقوك وأتموا صلاتهم. وتقوم إلى الثانية منتظرا. فإذا فرغوا (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي : فلينصرفوا إلى مقابلة العدوّ للحراسة (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) وهي الطائفة الواقعة تجاه العدوّ (فَلْيُصَلُّوا) ركعتهم الأولى (مَعَكَ) وأنت في الثانية. فإذا جلست منتظرا ، قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك. ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين اكتفاء ببيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم. كما يأتي (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ) أي : تيقظهم. لأن العدوّ يتوهمون في الأولى كون المسلمين قائمين في الحرب. فإذا قاموا إلى الثانية ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم. فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال : وليأخذوا حذرهم وجعله كالآلة ، فأمر بأخذه وعطف عليه (وَأَسْلِحَتَهُمْ) قال الواحديّ : فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. قال أبو السعود : وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر ، لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها ، ومئنّة لهجوم العدوّ. كما ينطق به قوله تعالى (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي تمنوا (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) فتضعونها (وَأَمْتِعَتِكُمْ) أي : حوائجكم التي بها بلاغكم (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي يحملون حملة واحدة فيقتلونكم. فهذا علة الأمر

٣٠٩

بأخذ السلاح. والأمر بذلك للوجوب. لقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا حرج ولا إثم عليكم (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) يثقل معه حمل السلاح (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) يثقل عليكم حمله (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) أخرج البخاريّ (١) عن ابن عباس قال : نزلت : (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) ، في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا. ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط. فقيل (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لئلا يهجم عليكم العدوّ غيلة (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي : يهانون به. ويقال : شديدا. قال أبو السعود : هذا تعليل الأمر بأخذ الحذر. أي : أعدّ لهم عذابا مهينا. بأن يخذلهم وينصركم عليهم. فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب. كي يحل بهم عذابه بأيديكم. وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدوّ موهما لتوقع غلبته واعتزازه ، نفي ذلك الإيهام بأنه الله تعالى ينصرهم ويهين عدوّهم لتقوى قلوبهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣)

(فَإِذا قَضَيْتُمُ) أي : أتممتم (الصَّلاةَ) أي : صلاة الخوف ، على ما فصّل (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي : فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال. فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدوّ جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه. قاله الرازيّ. وقال ابن كثير : أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها. ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى (في الأشهر الحرم) : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦]. وإن كان هذا منهيّا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها. (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) أي : سكنت قلوبكم بالأمن (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : على الحالة التي كنتم تعرفونها. فلا تغيروا شيئا من هيئاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي : فرضا موقتا ، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ٤ ـ سورة النساء ، ٢٢ ـ باب قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) ، حديث ١٩٩٤.

٣١٠

فصل

في أحكام تتعلق بهذه الآية. الأول ـ في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها. وأنه لا يجب قضاؤها. وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر. الثاني ـ تعلّق بظاهر قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) من لم ير صلاة الخوف بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. زاعما أنها خاصة بعهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. لاشتراطه كونه فيهم. ولا يخفى أن الأئمة بعده نوّابه قوّام بما كان يقوم به. فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما في قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣]. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : صلوا كما رأيتموني أصلي.

وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم. وقد روى أبو داود (٢) والنسائيّ والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم ، عن سعيد بن العاص أنه قال (في غزوة ومعه حذيفة) : أيكم شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة : أنا. فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح ثم قال : إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال. فصلى بإحدى الطائفتين ركعة. والأخرى مواجهة العدو ثم انصرف هؤلاء. فقاموا مقام أولئك. وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى. ثم سلم عليهم. وكانت الغزوة بطبرستان. قال بعضهم : وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم. فلم ينكره أحد. فحل محلّ الإجماع. وروى أبو داود (٣) أن عبد الرحمن بن سمرة صلى ، بكابل ، صلاة الخوف. الثالث ـ روى الإمام احمد (٤) وابن أبي شيبة وسعيد بن

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الأذان ، ١٨ ـ باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة ، والإقامة ، حديث ٤٠٢ ونصه : عن مالك بن الحويرث : أتينا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن شببة متقاربون. فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحيما رفيقا. فلما ظن أنّا قد اشتهينا أهلنا ، أو قد اشتقنا ، سألنا عمن تركنا بعدنا. فأخبرناه. قال «ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم» وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها «وصلوا كما رأيتموني أصلي. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكبركم».

(٢) أخرجه أبو داود في : الصلاة ، ١٨ ـ باب من قال يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون ، حديث ١٢٤٦.

والنسائيّ في : صلاة الخوف ، ١ ـ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم.

(٣) أخرجه أبو داود في : الصلاة ، ١٧ ـ باب من قال يصلى بكل طائفة ركعة ، ثم يسلم .. إلخ. حديث ١٢٤٥.

(٤) أخرجه في المسند ٤ / ٥٩.

وأبو داود في : الصلاة ، ١٢ ـ باب صلاة الخوف ، حديث ١٢٣٦.

والنسائي في : صلاة الخوف ، ٢١ ـ باب أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار.

٣١١

منصور وأبو داود والنسائيّ وغيرهم (في نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنه) قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان. فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد. وهم بيننا وبين القبلة. فصلى بنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر. فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم. ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ...) فحضرت الصلاة. فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذوا السلاح. فصفنا خلفه صفين. ثم ركع فركعنا جميعا. ثم رفع فرفعنا جميعا. ثم سجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم. فلما سجدوا وقاموا ، جلس الآخرون. فسجدوا في مكانهم. ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء. ثم ركع فركعوا جميعا. ثم رفع فرفعوا جميعا. ثم سجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم. فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا. ثم سلم عليهم. وروى عبد الرزاق عن الثوريّ عن هشام ، مثل هذا ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إلا أنه قال : نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤسهم من السجود. ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين. وروى عبد الرازق وابن المنذر وابن جرير (١) عن ابن أبي نجيح قال : قال مجاهد في قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : نزلت يوم كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا. فصلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعا. ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعهم ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم ، فأنزل الله عليهم : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ). فصلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعا. فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا. حتى قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصف الأول. ثم كبر بهم وركعوا جميعا. فقدموا الصف الآخر واستأخروا. فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة. وقصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر ركعتين. وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعا. واشتراكهم في الحراسة. ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود. فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى. ثم تسجد وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة. وتأخرت المتقدمة. (فإن قلت) : لا ينطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها. وذلك لأن قيل في الآية : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى

__________________

(١) الأثر رقم ١٠٣٢١.

٣١٢

لَمْ يُصَلُّوا ...) الآية. وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ، وإنما ينطبق ما فيها على ما رواه (١) الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة للعدوّ. ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ. وجاء أولئك. ثم صلى بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة ثم سلم. ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وما روياه عن صالح بن خوّات عمن صلى مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ذات الرقاع ؛ أن الطائفة صف معه وطائفة وجاه العدوّ. فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما. فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدوّ. وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته. فأتموا لأنفسهم فسلم بهم ـ (قلت) : بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ضجنان وعسفان فقال المشركون : لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم. وهي العصر. فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة. وأن جبريل عليه‌السلام أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يقسم أصحابه ، شطرين. فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم. وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. فتكون لهم ركعة وللنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان. أخرجه أصحاب السنن (٢).

ثم رأيت القرطبيّ بحث في (تفسيره) نحو ما سبق لي حيث قال : وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد. لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين. ثم قال (بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور) قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات. فلعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم صلاة أخرى مفترقين. انتهى. الرابع ـ ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة. لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية. وقد روى النسائيّ (٣) عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين : صفا خلفه وصفا موازي العدوّ. فصلى بالذين خلفه ركعة. ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء. وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة. وكذا روى أبو داود والنسائي (٤) أيضا عن حذيفة أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. وروى

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : المغازي ، ٣١ ـ باب غزوة ذات الرقاع ، حديث ١٨٨٩.

ومسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٣٠٥ و ٣٠٦.

(٢) أخرجه النسائي في : صلاة الخوف ، ١٦ ـ باب أخبرنا العباس بن عبد العظيم.

(٣) أخرجه النسائي في : صلاة الخوف ، ٥ ـ باب أخبرنا محمد بن بشار.

(٤) أخرجه النسائيّ في : صلاة الخوف ، ٢ ـ باب أخبرنا عمرو بن عليّ.

٣١٣

أحمد ومسلم (١) وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فرض الله الصلاة على نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الحضر ، أربعا. وفي السفر ركعتين. وفي الخوف ركعة. فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف ، الاقتصار على ركعة لكل طائفة.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف ، يقول الثوريّ وإسحاق ومن تبعهما. وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعريّ وغير واحد من التابعين. ومنهم من قيّد بشدة الخوف. وقال الجمهور : قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد. وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة من الإمام وليس فيها نفي الثانية. ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : (ولم يقضوا ركعة) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني : (وفي الخوف ركعة) وأما تأويلهم قوله (لم يقضوا) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن ـ بعيد جدا. كذا في (نيل الأوطار) نعم. وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه : ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : ثم سلم ، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة. ثم سلموا ثم ذهبوا. ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وبالتحقيق ، كل ما روي هو من صورها الجائزة. ولما ذكر الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدائها ، قال في آخر صورة : وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئا. وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئا. فيكون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان. ولهم ركعة ركعة. وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها.

قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز. انتهى.

وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة. فإن العدوّ تارة يكون تجاه القبلة. وتارة يكون في غير صوبها. ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة. بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. ورجالا وركبانا. ولهم أن يمشوا والحالة هذه ، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد ابن حنبل.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٥.

٣١٤

قال المنذريّ : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد. وإليه ذهب طاوس والضحاك. وقد حكى أبو عاصم العباديّ عن محمد بن نصير المروزيّ أنه يرى ردّ الصبح إلى ركعة في الخوف. وإليه ذهب ابن حزم أيضا. وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء. فإن لم تقدر فسجدة واحدة. لأنها ذكر الله. وقال آخرون : يكفي تكبيرة واحدة. فلعله أراد ركعة واحدة. كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه. وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدّيّ. ورواه ابن جرير. ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة. كما هو مذهب إسحاق بن راهويه : وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكيّ حتى قال : فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه. يعني بالنية. رواه سعيد بن منصور في (سننه) عن إسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه. فالله أعلم. ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة. كما أخر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر ، فصلاهما بعد الغروب. ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء. وكما قال بعدها ، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة. فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق. فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا تعجيل المسير. ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها. فصلّوا الصلاة لوقتها في الطريق. وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب. ولم يعنف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من الفريقين. فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة ، اليهود. وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد. فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك. وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدريّ الذي رواه الشافعيّ رحمه‌الله وأهل السنن. ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاريّ (١) في (صحيحه) حيث قال (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدوّ) وقال الأوزاعيّ : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء. كل امرئ لنفسه. فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين. فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين. فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول. وقال أنس بن مالك : حضرت عند مناهضة

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : صلاة الخوف ، ٤ ـ باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدوّ.

٣١٥

حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة. فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار. فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففتح لنا. وقال أنس : وما يسرني ، بتلك الصلاة ، الدنيا وما فيها. انتهى. ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث (١) أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك. والله أعلم. ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا. وكان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب. ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة. والله أعلم. قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي. وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقديّ ومحمد بن سعد ، كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم. وقال البخاريّ (٢) وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى. وما قدم إلا في خيبر. والله أعلم.

الحكم الخامس ـ استدل بقوله تعالى (طائِفَةٌ) على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد. لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة به في ذلك.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد. فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف. جاز لأحدهم أن يصلي بواحد. ويحرس واحد. ثم يصلي الآخر. وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة.

السادس ـ استدل بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها. لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها. ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك. أفاده الحافظ ابن حجر في (الفتح).

قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة. حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة. فلو لا أنها واجبة ما ساغ ذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : صلاة الخوف ، ٥ ـ باب صلاة الطالب والمطلوب ، حديث ٥٤٩ ونصه : عن ابن عمر قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا ، لما رجع من الأحزاب ، «لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم : بلى نصلي. لم يرد منا ذلك.

فذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يعنف واحدا منهم.

(٢) البخاريّ في : المغازي ، ٣١ ـ باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان. فنزل نخلا. وهي بعد خيبر. لأن أبا موسى جاء بعد خيبر.

٣١٦

السابع ـ قال بعض المفسرين : اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) فقيل : هم الطائفة الذين يواجهون العدوّ. وهذا ظاهر. وقيل : بل هم الطائفة المصلون. وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك. وقيل : للطائفتين. وهو قول القاسم. انتهى.

قال الناصر في (الانتصاف) : والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون. إذ من لم يصل إنما أعد للحرس. فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه. وهم إنما أخروا الصلاة لذلك. أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة. فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة. لضرورة الخوف وخشية الغرة. وأيضا فصنيع الآية يعطي ذلك. لأنه قال (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وعقب ذلك بقوله (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) فالظاهر رجوع الضمير إليهم. وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم ، بدلالة قوة الكلام عليهم ، وإن لم يذكروا. وناقش الناصر أيضا ، الزمخشريّ في جعله المراد بقوله تعالى (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا) غير المصلين. فقال : الظاهر أن معنى السجود هاهنا الصلاة ، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا. والمراد : فإذا صلت الطائفة ، (أي أتمت صلاتها) فليكونوا من ورائكم. انتهى.

الثامن ـ قال أبو علي الجرجانيّ صاحب النظم : قوله تعالى : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) يدل على أنه كان يجوز للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا ، غير غافل من كيد العدوّ. والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر. لأن العدوّ يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة. فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة. ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوّهم. فلا جرم ، أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدوّ ، وطائفة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستقبل القبلة. وأما حين كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان وببطن نخل ، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين. وذلك لأن العدوّ كان مستدبر القبلة. والمسلمون كانوا مستقبلين لها. فكانوا يرون العدوّ حال كونهم في الصلاة. فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود. فلا جرم ، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم. فلما فرغوا من السجود. وقاموا ، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا. وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني. فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) يدل على جواز كل هذه الوجوه. والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه ، أنا لو لم نحملها

٣١٧

على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة. ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن. وإنه غير جائز. نقله الرازيّ.

وقال الخطابيّ : صلاة الخوف أنواع صلاها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة. يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة. فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى. وأنواعها مبينة في شروح السنة. ثم حثهم تعالى على الجهاد بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٠٤)

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي : لا تضعفوا في طلب عدوّكم بالقتال بل جدّوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد. ثم ألزمهم الحجة بقوله سبحانه (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي : ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم. كما قال تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) [آل عمران : ١٤٠]. ثم زاد في تقرير الحجة ، وبيّن أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين بقوله تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) يعني وتأملون من القرب من الله واستحقاق الدرجات من جناته وإظهار دينه ، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما لا يأملونه ، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأجدر بإقامة كلمة الله (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي : فلا يكلفكم إلا بما يعلم أنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم. فجدوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة.

قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة وجوب الجهاد وأنه لا يسقط لما يحصل من المضرة بالجراح ونحوه. وأن التجلد وطلب ما يقوّى لازم ، وما يحصل به الوهن لا يجوز فعله. وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) فجعل هذا سببا باعثا على الجهاد. هذا معنى كلام الحاكم. ونظير هذا : لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب. وقد ذكر في ذلك خلاف. فعن الراضي بالله : يجزي ذلك. وقواه الفقيه يحيى بن أحمد. وعن أبي مضر : لا يجزي. لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له. انتهى.

٣١٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩)

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ، وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً).

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ ، كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً).

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ ، وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً).

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً).

روى الحافظ ابن مردويه في سبب نزولها من طريق العوفيّ عن ابن عباس (١) : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض غزواته. فسرقت درع لأحدهم. فأظنّ (أي : اتهم) بها رجلا من الأنصار. فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء. وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلا فقالوا : يا نبيّ الله! إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان. وقد أحطنا بذلك علما. فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في التفسير ، الأثر رقم ١٠٤١٣.

٣١٩

فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبرّأه وعذره على رؤوس الناس. فأنزل الله : (إِنَّا أَنْزَلْنا ...) الآية. ثم قال تعالى ـ للذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفين بالكذب ـ : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ). يعني الذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين. ثم قال عزوجل : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ...) الآية. يعني الذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفين بالكذب. ثم قال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.

قال ابن كثير : وهذا سياق غريب. وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسّديّ وابن زيد وغيرهم (في هذه الآية) أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم ، وهي متقاربة.

وقد روى هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق مطولة. ورواها عنه ، من طريقه ، أبو عيسى الترمذيّ في (جامعه) في كتاب التفسير ، عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير (قال أبو ذرّ الخشنيّ : بشير بن أبيرق. كذا وقع هنا : بشير بفتح الباء. وقال الدّارقطنيّ : إنما هو بشير بضم الباء) ومبشّر. وكان بشير رجلا منافقا. وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم ينحله إلى بعض العرب. ثم يقول : قال فلان كذا أو قال فلان كذا. فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الشعر قالوا : والله! ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث. فقال :

أو كلما قال الرجال قصيدة

أضموا وقالوا : ابن الأبيرق قالها!

قال : وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام. وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة ، التمر والشعير. وكان الرجل إذا كان له يسار ، فقدمت ضافطة من الشام بالدرمك ، ابتاع الرجل منها فخص به نفسه. فأما العيال ، فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له. وفي المشربة سلاح له : درعان وسيفاهما وما يصلحهما. فعدي عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي! تعلّم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بسلاحنا وطعامنا.

٣٢٠